Amal Wa Yutubiya
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
Genres
لقد قامت فلسفة بلوخ في جانبها الأنثروبولوجي على وصف ظواهر الوعي الذاتي للإنسان وتجاربه الأولى وتتبع أحلامه، بوصفها إحدى مظاهر هذا الوعي. ولفهم نسقه الفلسفي يجب الحديث أولا عن الوعي وطبقاته ومعوقاته التي حالت حتى الآن بين الوعي بال «ليس-بعد» وبين الظهور إلى النور.
أولا: نشأة الوعي
يتتبع بلوخ نشأة الوعي البشري منذ بدايته الأولى عند الطفل. ففي هذه المرحلة المبكرة من العمر تنم الأحلام والأمنيات غير الواضحة عن تمرد الطفل على عالمه الصغير، ويتمثل هذا في تدميره لكل ما يعطى له من ألعاب بدافع حب الاستطلاع واكتشاف حقيقتها، ثم يلقي بها جانبا للبحث عن المزيد. ذلك أن ما يريد الطفل اكتشافه لم يوجد بعد. ويكبر الطفل ويضيق بغرفة الألعاب، ويذهب مبكرا إلى النوم لتأخذه الأحلام إلى ما وراء عالمه الواقعي، متجاوزا بأحلامه المكان والمجتمع معا. ويستشهد بلوخ بالعديد من الحكايات الشعبية
1 - من التراث الألماني والعالمي - التي تتجاوز كل العلاقات الزمانية والمكانية والاجتماعية، كما تلغي قوانين المنطق الأساسية، وتستغني عن الشروط الموضوعية للوقائع والأحداث، بحيث يصبح كل مستحيل ممكنا على مستوى الخيال والحلم. إن لهذه الحكايات أثرا كبيرا على خيال الطفل في المراحل المبكرة من عمره، فالخيال - كملكة إبداعية. له من الإمكانيات الهائلة ما يجعله عاملا فعالا في صعود أو ترقي الجنس البشري.
وفي الثالثة عشرة من عمره يبدأ الطفل في نسج الأساطير والتحدث عن أشياء لم يجربها بعد، كما يبدأ في الحلم بحياة أفضل من تلك التي يوفرها له والداه. وعندما يبلغ السابعة عشرة من عمره، وهي أكثر فترات العمر اضطرابا، يرسم الطفل - الذي صار شابا - صورة ذهنية للمستقبل. ويشبه بلوخ الأحلام الفجة في هذه الفترة القلقة ببدايات الأحلام البرجوازية التي لم تبلغ درجة النضج. ويمضي بلوخ في تتابع آثار الحلم البشري بأبعاده وأنواعه المختلفة، فهناك أحلام حمقاء وأخرى مزدهرة مفعمة بالألوان. وهناك أحلام الرجل العادي - التي لا تتعدى الترقي الوظيفي في مجال العمل أو الحلم بالمغامرات الجنسية - وأحلام الرجل المنعزل الذي ينسج حكايات تدور حول ذاته. وهناك أحلام الطبقة الفقيرة المحرومة التي تظهر فيها الأماني الحقيقية أكثر مما تظهر لدى طبقة الأغنياء، لأن هذه الأخيرة ليس لديها سبب يدعوها للثورة على الواقع السائد، ولأن كل ما تحلم به هو اختراع أشياء تتكبر بها على الطبقات الأدنى منها.
وفي المرحلة المتأخرة من العمر تتراجع الأماني المثيرة، فبينما يكتفي المراهق بالتمرد على المجتمع وعصيان تقاليده، نجد الرجل الناضج يكرس قدرته لمحاربة هذا المجتمع، وأما كبار السن فيضيقون بالعالم من حولهم، وإن كانوا لا يقفون ضده بل يبقون في حالة عويل ونواح عليه. وأما مرحلة الشيخوخة فيسودها الشعور بوداع الفرد للحياة، وتظهر فيها أمنيات العودة إلى الشباب والاستغاثة بذكرياته ومحاولة التأنق والسلوك مسلك الشباب. ويشبه بلوخ هذه المرحلة من العمر بالمجتمعات البرجوازية التي تستميت في التظاهر والتزين لتبدو في أجمل صورة. وتعد هذه في نظره مرحلة مرضية في تطور الفرد والمجتمع على السواء، لأنه ينظر إلى الشيخوخة نظرة أخرى ويضعها في بعد هام من أبعاد التجربة الاجتماعية؛ ذلك أن الشيخوخة هي حصاد ما يسميه بلوخ ب «العقل الجليل». فالمجتمع المزدهر لا يخاف من النظر إلى النهاية كما هو الحال مع المجتمع البرجوازي الذي يخدع نفسه ويتزين هربا من مواجهة النهاية المحدقة به. ويستشهد بلوخ بما يقوله فولتير (1694-1778م) في هذا المعنى إذ يرى أن مرحلة الشيخوخة أشبه بالشتاء، وهي بالنسبة للمثقف مرحلة جمع الأعناب وعصرها، ولا يعني هذا استثناء لمرحلة الشباب وإنما يتضمنها أيضا بعد أن وصل إلى مرحلة النضوج.
2
وهكذا تكون مرحلة الشيخوخة مرحلة اجتماعية جديدة، خالية من غرور الشباب وحدته، مرحلة أكثر حكمة وقدرة على رؤية كل هام وأصيل، ونسيان العارض والزائل.
كيف نشأ هذا الوعي وكيف تطور؟ يقدم بلوخ نظرية في نشأة الوعي، قوامها أن الدوافع وراء نشأته، وأن التجدد المستمر للدوافع وراء تطور الوعي على مستوى الذات البشرية والعالم الخارجي معا. فالدوافع هي التي تحركنا إلى الأمام، وهي تعبر عن نفسها في شكل صراع ورغبة في تحقيق شيء محدد في الخارج، وإذا أشبعت هذه الرغبة، سرعان ما تتجدد وتتولد رغبات أخرى جديدة. وتنشأ الرغبة في البداية نشأة بيولوجية قبل أن تأخذ بعدا تاريخيا، «ففي الطفولة لا يملك الإنسان إلا جسده وثدي أمه (وهو في هذه اللحظات الأولى لا يكاد يميز أحدهما عن الآخر). ثم يبدأ في التوجه إلى العالم من حوله ويشرع في أخذ مكان فيه. وتكون البداية بالرغبة في امتلاك أشياء مختلفة، ملكية الأم، والأب، والأخوات والإخوة، واللعب، وفي أوقات لاحقة يشرع في تحصيل المعلومات، ثم يسعى للحصول على وظيفة، ومكانة اجتماعية، وزوج، وأطفال، وأخيرا يشرع في امتلاك شيء من مقتنيات ما بعد الحياة.»
3
Unknown page