وكان يقبل دعوات الطعام حتى من خصومه من الفريسيين: «ودخل في يوم السبت بيت أحد رؤساء الفريسيين ليتناول الطعام، وكانوا يراقبونه. وإذا إنسان مصاب بالاستسقاء قدامه. فقال يسوع لعلماء الشريعة والفريسيين: أيحل الشفاء في يوم السبت أم لا؟ فلزموا السكوت. فأخذ بيده وشفاه وصرفه، ثم قال لهم: من منكم يقع حماره أو ثوره في بئر ولا ينشله حالا في يوم السبت؟ فلم يجدوا جوابا» (لوقا، 14: 1-6). ولدينا أخبار أخرى عن قبول يسوع لدعوة فريسيين آخرين: «ودعاه أحد الفريسيين إلى الطعام عنده، فدخل بيت الفريسي وجلس إلى المائدة» (لوقا، 7: 39). وأيضا: «وبينما هو يتكلم دعاه أحد الفريسيين إلى الغداء عنده، فدخل إلى بيته وجلس إلى الطعام» (لوقا، 11: 37). وخلال فترة وجوده في أورشليم كان يصعد إلى ضاحية بيت عنيا على جبل الزيتون من أجل المبيت في بيت لعازر وتناول الطعام: «ثم قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الذي أقامه من بين الأموات، فصنعوا له هناك عشاء. وكانت مرتا تخدم، أما لعازر فكان أحد المتكئين معه ...» (يوحنا، 12: 1-2).
وكان خصومه يأخذون عليه ميله للطعام والشراب، ويقارنونه بيوحنا المعمدان «الذي كان لباسه من وبر الإبل وطعامه جرادا وعسلا بريا» (متى، 3: 4). فاشتكى يسوع قائلا: «جاء يوحنا المعمدان لا يأكل ولا يشرب فقالوا إن به مسا من الشيطان، جاء ابن الإنسان (= يسوع) يأكل ويشرب فقالوا هو ذا رجل أكول وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة» (متى، 11: 19).
كما وحبب إلى يسوع من متع الدنيا الطيب والروائح العطرة، على ما تبينه قصة المرأة التي دخلت إلى حيث كان يجلس على المائدة في بيت عنيا وسكبت على رأسه حقة من طيب الناردين الخالص الغالية الثمن، فقبل يسوع هذه البادرة عن طيب خاطر وعنف من وجه إليها اللوم. ولكي نأخذ فكرة عما كلفت المرأة بادرتها هذه، نقول بأن عطر الناردين كان أغلى العطور، وكانت الحقة منه تتسع لما مقداره 300 غرام من الطيب بلغ ثمنها وفق النص 300 دينار. ومع ذلك لم ير يسوع ضيرا فيما فعلت، وقال معليا من شأن المرأة: «الحق أقول لكم: حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكارا لها» (مرقس، 14: 3-9).
وعلى الرغم من أن أحدا لم يصف لنا الثياب التي كان يسوع يرتديها والقماش الذي صنعت منه، إلا أن لباسه لم يكن بالتأكيد من وبر الإبل على طريقة يوحنا المعمدان ، بل من النوع الفاخر الغالي الثمن، وكان يتألف من عدة قطع لا من قطعة بسيطة واحدة. وهذا ما أغرى الجنود القائمين على عملية الصلب باقتسامها فيما بينهم، وأجروا القرعة عليها منعا للاختلاف على ما يأخذه كل واحد: «ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ماذا يأخذ كل واحد» (مرقس، 15: 24). «ثم إن الجنود لما صلبوا يسوع، أخذوا ثيابه وجعلوها أربعة أقسام، لكل جندي نصيب» (يوحنا، 19: 23). ولكنهم بعد ذلك تنازعوا على قميصه النادر الذي كان مصنوعا من قماش غير مخيط منسوجا كله من أعلاه إلى أسفله.
وكانت نفس يسوع تضطرم بالعواطف الإنسانية المعهودة في البشر، فكان يظهر الشفقة والحنو اللذين يدفعانه إلى مد يد العون للمرضى وأصحاب العاهات والممسوسين: «وجاء إليه أبرص وجثا وقال له: إن شئت فأنت قادر على أن تبرئني. فحن عليه يسوع ومد يده فلمسه وقال له: قد شئت فابرأ. فزال عنه المرض من ساعته وبرئ» (مرقس، 1: 40-41). ولم يكن يتصرف تصرف فيلسوف رواقي لا تهزه الأفراح أو الأتراح، بل إن التأثر كان يبلغ به أحيانا حد البكاء، كما حصل عندما وقف أمام قبر صديقه لعازر: «فلما رآها (أي أخت العازر) تبكي ويبكي معها اليهود الذين رافقوها، ارتعشت نفسه واضطرب وقال: أين وضعتموه؟ فقالوا: تعال يا سيدي وانظر. فبكى يسوع» (يوحنا، 11: 33-36).
وتميز سلوكه وردود أفعاله أحيانا بالنزق ونفاد الصبر. فعندما لم يفهم تلاميذه مثله المعروف عن الطاهر والنجس وسألوه أن يفسره لهم بعد انفضاض الجمع: قال لهم: «أحتى الآن أنتم لا تفهمون» (متى، 15: 13-16). وفي مناسبة مماثلة قال لهم: «أما تفهمون هذا المثل؟ فكيف إذن تفهمون غيره من الأمثال» (مرقس، 4: 13). وهناك أمثلة على إظهاره الحنق والغيظ: «وقدموا إليه أولادا لكي يلمسهم، وأما التلاميذ فانتهروا الذين قدموهم. فلما رأى ذلك يسوع اغتاظ وقال لهم: دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعوهم» (مرقس، 10: 13-14). وأيضا: «ثم دخل إلى المجمع وكان هناك رجل يده يابسة، فصاروا يراقبونه هل يشفيه في السبت لكي يشتكوا عليه ... فقال لهم: هل يحل في يوم السبت فعل الخير أم فعل الشر؟ ونظر حوله إليهم بغضب وقال للرجل: مد يدك. فمدها فعادت صحيحة كالأخرى» (مرقس، 3: 1-6). ويظهر نزق يسوع ونفاد صبره في قصة لعنه للتينة العجفاء: «وفي الصبح إذ كان راجعا إلى المدينة جاع. فنظر شجرة تين على الطريق وجاء إليها فلم يجد إلا ورقا فقط. فقال لها: لا يكن منك ثمر بعد. فيبست التينة في الحال» (متى، 21: 18-19).
هذا النزق كان يتحول أحيانا إلى ثورات غضب عارم. ولطالما احتدم غضبا على محاوريه من مثقفي اليهود. فعندما دعاه أحد الفريسيين إلى الغداء عنده: «دخل بيته وجلس إلى الطعام. فعجب الفريسي منه لأنه لم يغسل يديه قبل الغداء. فقال له يسوع: ألا أيها الفريسيون، إنكم تطهرون ظاهر الكوب والصحفة وباطنكم ممتلئ نهبا وفسقا. أيها الجهال، أليس الذي صنع الظاهر قد صنع الباطن أيضا. فتصدقوا بما لديكم يكن كل شيء طاهرا لكم ... الويل لكم أيضا يا علماء الشريعة. تحملون الناس أحمالا ثقيلة وأنتم لا تمسون هذه الأحمال بإحدى أصابعكم. الويل لكم، تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم هم الذين قتلوهم. فأنتم الشهود وأنتم على أعمال آبائكم توافقون» (لوقا ، 11: 37-48)، وفي مناسبة أخرى يقول لهم: «الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون. تقفلون باب ملكوت السماوات في وجوه الناس، فلا أنتم تدخلون ولا تدعون الذين يريدون الدخول يدخلون. الويل لكم، تجوبون البحر والبر لتكسبوا دخيلا واحدا (إلى الدين اليهودي)، فإذا هودتموه جعلتموه يستحق جهنم ضعف ما أنتم تستحقون» (متى، 23: 13-23).
ولم ينج تلاميذه أنفسهم من نوبات غضبه: «ودنا منه رجل فجثا وقال له: سيدي، أشفق على ابني فإنه يصرع (تأتيه نوبات صرع) ويتألم شديدا. وقد جئت به إلى تلاميذك فلم يستطيعوا أن يشفوه. فأجاب يسوع: أيها الجيل غير المؤمن الملتوي إلى متى أكون معكم، إلى متى أحتملكم؟ (والخطاب هنا إلى تلاميذ يسوع). قدموه إلى ها هنا. فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان فشفي من ساعته. ثم تقدم التلاميذ إلى يسوع على انفراد وقالوا: لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه؟ فقال لهم: لعدم إيمانكم» (متى، 17: 14-20). وفي إحدى المرات صعدوا إلى السفينة ونسوا أن يتزودوا بالخبز . وكان ذلك بعد قيام يسوع بمعجزة تكثير الخبز والسمك وإطعام أربعة آلاف شخص من سبعة أرغفة وبضع سمكات صغار: «وكان يسوع يعلمهم قائلا: احذروا من خمير الفريسيين وخمير هيرودوس (يعني بذلك الرياء والخبث). فقال بعضهم لبعض أن لا خبز لديهم. فقال لهم يسوع: لماذا تقولون أن لا خبز لديكم؟ ألم تعقلوا حتى الآن وتفهموا؟ ألكم قلوب عمية أم لكم عيون ولا تبصرون وآذان ولا تسمعون» (مرقس، 8: 11-18). وحتى بطرس الذي كان يتلقى من معلمه معاملة تفضيلية، نال نصيبه الخاص من غضب يسوع عندما قال له: «اذهب عني يا شيطان، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس» (مرقس، 8: 33).
وقال لليهود الذين كانوا يجادلونه في الهيكل عندما تباهوا بأنهم أولاد إبراهيم: «لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم. ولكنكم تريدون قتلي أنا الذي قال لكم الحق الذي سمعه من الله، وهذا ما لم يفعله إبراهيم. أنتم تعملون أعمال أبيكم ... إنكم أولاد إبليس وأنتم تريدون إتمام شهوات أبيكم ... من كان من الله سمع كلام الله، ولكنكم لستم من الله» (يوحنا، 8: 39-47).
وها هو يصب جام غضبه على مدن الجليل التي لم تؤمن به على الرغم مما صنعه فيها من معجزات: «ثم أخذ يعنف المدن التي جرت فيها أكثر معجزاته وما تابت، فقال: الويل لك يا كورزين، الويل لك يا بيت صيدا. فلو جرى في صور وصيدا ما جرى فيكما من معجزات لأظهرتا التوبة بالمسح والرماد من زمن بعيد. على أني أقول لكم إن صور وصيدا سيكون مصيرهما يوم الدين أخف وطأة من مصيركما. وأنت يا كفر ناحوم، أتحسبين أنك ترتفعين إلى السماء؟ ستهبطين إلى الجحيم ... إلخ» (متى، 11: 20-24).
Unknown page