وخرجت دميانة تمشي في البساتين كأنها تتمتع بمناظر الطبيعة، وتنظر في الأغراس وصبيان الفلاحين وبناتهم يقفون احتراما لها أو يفرون خجلا منها. وبعضهم في شاغل عنها بثور يسوقه على مربطه أو حمار يحمل عليه قضبانا أو فاكهة إلى بيت مولاه. •••
مشت دميانة متظاهرة بأنها مهتمة بتلك المناظر، وهي في الحقيقة في شاغل عنها بما يتردد في ذهنها من الأمر الذي تهم بكشفه للأب منقريوس، فلم تكن تسمع غناء الغلمان وهم يحصدون الزرع ولا صياح الأدياك ولا رفرفة الأطيار التي تلتقط الحب. ولما دنت من الساقية الكبرى على ضفة النيل لم تنتبه لأنينها أو طقطقة أخشابها أو خوار ثورها والغلام يستحثه على الدوران.
وكانت دميانة في نحو العشرين من عمرها ربعة القامة سمراء اللون مع صفاء ونضرة، كبيرة العينين سوداء الحدقتين مع ذكاء ووداعة، صغيرة الأنف والفم، ممتلئة الشفتين، لها ميسم ينم عن صدق طويتها ورقة إحساسها وفي أذنيها قرطان من ذهب يمثلان أبا الهول وقد ضفرت شعرها الأسود ضفيرة واحدة أرسلتها على ظهرها وغطت رأسها بنقاب من الحرير - نسج دمشق - أهدته إليها أمها في طفولتها، وقد طرزت لها حواشيه ببعض الدعوات والآيات باللغة القبطية وارتدت ثوبا رقيقا من القاطي واسع الأردان التفت فوقه بمطرف من الخز مما كان يحمله تجار فارس إلى الفسطاط واحتذت نعلا من الجلد والخوص وفي عنقها قلادة من الذهب في وسطها صليب. •••
كانت المسافة بين المنزل والكنيسة نحو ميل، قطعت دميانة معظمه على ضفة النيل وعيناها تنتقلان بين الماء واليبس، فمرت بها قوارب تحمل تبنا أو حبوبا أو غير ذلك من الغلال - وهي لا تعيرها انتباها ولا تكاد تسمع صراخ ملاحيها أو نقر الريح على أشرعتها - ولكنها انتبهت فجأة على سفينة لم تشاهد في النيل مثلها ضخامة وإتقانا، بناء وزخرفة وكبر شراع. وكانت لما احتوت عليه من غرف ونوافذ كأنها بيت سابح فوق الماء يشبه ما يعرف اليوم (بالذهبيات)، فعلمت أن مثل هذه السفينة لا تخلو من أن تنقل بعض السراة، وربما كان فيها بعض أصدقاء أبيها وهي لا تحب أن يراها أحد منهم.
وكانت قد أشرفت على الكنيسة فأسرعت إليها تتوارى بين جذوع الشجر وأغصانها، حتى دنت من باب الكنيسة فاستترت وراء نخلة ضخمة عند الباب القديمة العهد والتفتت إلى النيل لتعيد نظرها في تلك (الذهبية) لعلها تعرف أصحابها، فتفرست في الراية المنصوبة في مقدمها فرأت عليها كتابة بالعربية وهي لا تقرأها؛ لأن أهل القرى كانوا إلى ذلك العهد لا يعرفون العربية؛ لقلة اختلاطهم بالعرب، ولأن المسلمين كانوا منذ الفتح يقيمون بمعزل عن أهل البلاد. إما بالفسطاط مقر رجال الدولة ومن يلحق بهم من الحاشية والأعوان وإما في أطراف البلاد بالمضارب والخيام ولم ينزلوا القرى إلا بعد قدوم المأمون إلى مصر في أوائل القرن الثالث للهجرة لإخماد ثورة نشبت بها، فأمر المسلمين بنزول القرى فابتنوا فيها القصور وحولوا بعض الكنائس إلى مساجد.
فلما رأت دميانة الراية علمت أنها لبعض رجال الدولة، أو بعض الخاصة، أو الجباة من القبط؛ قد خرجوا لجمع الخراج والجزية، ولولا علمها بمنزلة أبيها من صاحب الخراج لخافت أن يمسه ضر من أصحاب تلك السفينة. ولو كانت تقرأ العربية لقرأت على الراية اسم «أحمد المارداني» متولي الخراج وأحد ذوي النفوذ الكبير عند ابن طولون صاحب مصر.
وانتبهت لما جاءت من أجله فتوجهت نحو الكنيسة ودخلت بابها الغربي. •••
كان لتلك الكنيسة في أول أمرها بابان: أحدهما غربي والآخر شمالي. فلما نزل المسلمون القرى بعد قدوم المأمون واحتاجوا إلى أماكن للصلاة ابتنى بعضهم المساجد واغتصب آخرون بعض الكنائس وجعلها مساجد. أما قرية دميانة فنزلها رجل من الشيعة العلوية اسمه «أبو الحسن البغدادي» جاء من بغداد في حملة المأمون، ثم أحب المقام بمصر فاستأذنه في البقاء فيها فأذن له. وظل زمنا يقضي فروض الصلاة في منزله. وكان معتدلا منصفا فلم ير أن يسلب أهل تلك الناحية كنيستهم، فاتفق مع صاحب القرية وهي يومئذ مارية القبطية المشهورة على أن يقتطع من الكنيسة جانبا يتخذه مسجدا يصلي فيه كما فعل المسلمون بالجامع الأموي لما فتحوا دمشق فأذنت له. وقسم الكنيسة شطرين وأصبح الباب الشمالي خاصا بدخول المسلمين وليس منهم هناك إلا أبو الحسن البغدادي وحاشيته، وظل الباب الغربي مدخلا للنصارى.
دخلت دميانة من ذلك الباب ومشت في الدهليز باحترام وخشوع حتى أقبلت على واجهة الهيكل وعليها الأيقونات الملونة والأستار المصورة، فرسمت علامة الصليب وعرجت على أيقونة مريم العذراء في جهة اليمين وهي تمثل العذراء تحمل طفلها في شكل جميل، وقد جلبت هذه الصورة من القسطنطينية، فجثت دميانة أمامها وأخذت تصلي بحرارة وخشوع وتمثل لها الأمر الذي جاءت من أجله، فخفق قلبها تهيبا من الخوض فيه ولكنها تجلدت وأخذت تتضرع إلى العذراء أن تقويها وتسدد خطواتها ولمست وجه الصورة بأناملها ثم مسحت بها وجهها تبركا.
وفيما هي في ذلك سمعت تمتمة القسيس بالصلاة التي اعتاد إقامتها بالهيكل قبل الغروب في كل يوم - ويندر أن يحضرها أحد - وشمت رائحة البخور ورأت ضوء الشموع فازدادت خشوعا وتهيبا وهي وحدية في ذلك المكان المقدس ولم تر القسيس؛ لأن باب الهيكل مغطى بستارة من الديباج المزركش من صنع دار الطراز في تنيس.
Unknown page