بتلر
Butler I .
دميانة
خرجت دميانة من منزل أبيها بقرية «طاء النمل» بمديرية الدقهلية - في أصيل يوم من أيام سنة 264 للهجرة، ومشت تسترق الخطى في البساتين، تلتمس كنيسة هناك بنيت لصلاة أهل تلك الناحية والقرى المجاورة. وكانت دميانة تذهب للصلاة فيها كل صباح - وخاصة أيام الآحاد والأعياد - لكنها أرادت الذهاب في ذلك الأصيل لتخلو بقسيسها وتسر إليه أمرا خالج ضميرها وأقلق راحتها، وهي ترى في الاعتراف راحة أو مشورة أو مؤاساة، ولو كانت أمها على قيد الحياة لاستغنت بالشكوى إليها عن مكاشفة القسيس. وأما أبوها مرقس فلم تكن ترتاح لمصارحته بما يجول في خاطرها؛ لاختلاف ما بين ميولهما وطباعهما؛ إذ كانت هي تقية ورعة تصلي كل صباح وكان لا يعبأ بالصلاة ولا يدخل الكنيسة إلا نادرا وكانت تكره الخمر في حين يتعاطاها هو مسرفا في المجون لا يهمه إلا متاع دنياه والتأنق في الطعام والشراب.
وكانت دميانة طفلة حين توفيت أمها. فلم يتزوج أبوها بعدها لا احتفاظا بعهد الزوجة الوفية ولا مراعاة لوحيدته؛ ولكنه رأى الزواج قيدا شاغلا فعمد إلى التسري واقتناء الجواري اقتداء بسراة المسلمين في ذلك العهد - عهد البذخ والترف والقصف شأن بعض الأقباط من أهل الثروة في ذلك الحين.
كان مرقس من ملاك الضياع وأهل الثروة، لا يشغله طلب الرزق عن شيء من ملاذ الحياة. فيقضى نهاره في الأكل والشرب بين الأصدقاء والخلان الذين هم على شاكلته، وكان العقلاء ينتقدونه ويقبحون عمله، ولا سيما الذين عاشروه منذ الصبا وعرفوا حداثة عهده بالثروة؛ لأنه نشأ متوسط الحال لا يزيد دخله على الكفاف، ثم جاءته الثروة فجأة فصادفت قلبا شرها ونفسا ضعيفة فاتجه وجهة المتاع الجسدي.
أما دميانة فربيت في حجر أمها حتى الثامنة من عمرها وأخذت عنها كثيرا من الفضائل؛ كالتقوى والصراحة في القول وصدق اللهجة والاتكال على الله والمحافظة على الصلاة اليومية، وماتت أمها فجأة وهي غائبة ولو شهدت نزعها لسمعت منها حديثا يهمها ذا شأن في مستقبل حياتها، فأصبحت وحيدة لا أنيس لها في تلك القرية؛ لأن أكثر سكانها من الفلاحين العاملين في أرض أبيها وهم تابعون للأرض ينتقلون معها من مالك إلى مالك، أو من متقبل إلى متقبل؛ على نحو ما كانت عليه الحال يومئذ في أكثر البلاد. ففي المملكة الرومانية بأوروبا كانت الأرض تنتقل من بارون إلى بارون وينتقل فلاحوها معها، ويسمونهم سيرف.
وهو ما يعبر عنه بالعربية بالقن؛ أي العبد المملوك بالوراثة، وجمعه أقنان.
فلم تكن ترتاح إلى معاشرة بنات الفلاحين، ولم تخرج في علاقتها بهن إلى أكثر من الإحسان والبشاشة، وكن يتقربن إليها بالهدايا والخدمة، غير أن ذلك لم يكن ليشبع ما في نفسها من الميل الغريزي إلى المصادفة والمكاشفة على عادة بنات المدن مع الصواحب أو الجارات أو ذوات القربى فكانت إذا طرأ عليها أمر يقتضي الترويح عن النفس انصرفت إلى الصلاة فتتعزى إلى حين.
أما في ذلك اليوم فشعرت بانقباض. وضاقت ذرعا بكتمان ما في نفسها وهي تحسبه مخالفا لشروط التقوى والتدين فقضت معظم النهار في التفكير منفردة في غرفتها، حتى إذا مالت الشمس إلى الأصيل لاح لها أن تبوح بسرها إلى الأب منقريوس قسيس القرية؛ وكانت تأنس به لطول عهده بخدمة الكنيسة ولكبر سنه. هذا إلى أن الاعتراف للقسيس قاعدة متبعة عندهم.
Unknown page