فأحس زكريا كأن سهما اخترق أحشائه، ولكنه أراد تهدئة روعها فقال لها: «لا ينبغي أن يغلب عليك اليأس إلى هذا الحد.»
وفيما هو يهم بفتح الباب للخروج بدميانة سمعا وقع خطوات تقترب فاضطربت دميانة عند سماعها لعلمها أنها خطوات إسطفانوس، وأجفلت وتحولت وهي تود أن تلقي نفسها من نافذة الغرفة حتى لا تراه. ولكنها تجلدت ووقفت جامدة كالصنم وهي تظهر أنها تنظر إلى السماء. وكان زكريا قد فتح الباب فدخل إسطفانوس وعلى وجهه دلائل السرعة والبغتة والبشر يتجلى فوقهما رغم ما حاول إظهاره من الأسف أو الاستغراب. وأحست دميانة عند رؤيته كأنها طعنت في صدرها وقرأت الشماتة والانتقام بوضوح في عينيه وحول شفتيه فحولت وجهها نحو النافذة وأسندت رأسها إلى أحد الأساطين وجعلت تتلقى دموعها بمنديلها وتكتم البكاء.
استقبل زكريا إسطفانوس بالتحية وهو يريد أن يعلم منه شيئا. فتقدم إسطفانوس إلى دميانة متلطفا ودار حتى قابلها وجها لوجه، فلما رآها تبكي استغرب وقال: «ما بال دميانة تبكي؟ خيرا إن شاء الله؟ هل تشعرين بألم؟ هل تشكين من شيء؟ قولي؛ فإني طوع أمرك.»
فلم تزدد إلا بكاء وحرقة؛ لأنها عدت تلطفه نكاية وتشفيا، وظلت ساكتة فتحول إسطفانوس نحو زكريا وقال: «ما بالها؟ قل لي يا زكريا لأن أمرها يهمني - كما تعلم - أين المعلم مرقس؟ ما سبب بكائها؟»
فقال زكريا: «لا أعلم السبب وإنما أعلم أننا ونحن نشاهد الموكب وجماهير الناس رأيتها أطلقت دموعها وسألتها عن السبب فلم تجبني. وكنا عازمين على الذهاب إلى الدير عسانا أن نرتاح من التعب.»
فالتفت إليها وهو يحك عثنونه وقال: «أخشى أن تكوني شاهدت ما أصاب جارك المسكين فتكدرت مراعاة لحق الجوار.»
فلما سمعت كلامه المملوء بالشماتة واللؤم همت بانتهاره وتوبيخه، ولكن رغبتها في الاطلاع على السبب حملها على السكوت فتظاهرت بأنها لم تسمع شيئا. وقال زكريا: «أي مسكين تعني يا سيدي؟»
قال: «أعني جاركم سعيدا المهندس، ألم تشاهدوا ما فعلوه به؟»
قال: «ماذا فعلوا؟»
فضحك وهو يختلس النظر إلى دميانة يراعي ما يبدو منها وهي تتشاغل بمسح دموعها وإصلاح ثوبها، فقال: «بعد أن كان الوالي عازما على مكافأته بالجوائز والهبات أمر بجلده خمسمائة سوط، وساقوه إلى المطبق مقيدا بالأغلال.»
Unknown page