قال: «إني غير غافل عن شيء، فقد لقيت سيدي سعيدا بالأمس، وتواعدنا على أمور سأقصها عليك.»
قالت: «متى يبدأ الاحتفال؟ إني لا أرى أحدا.»
قالت: «لا يلبث أن يبدأ. ستشاهدين عظمة ابن طولون وفخامة ملكه. سترينه في موكبه. انظري إلى هذا البناء الذي هو أقرب سائر الأبنية إلينا في سفح هذا الجبل. إنه قصر ابن طولون، وهو قصر فخم لم ير مثله في هذه الديار إلا ما خلفه الفراعنة من الهياكل. انظري إلى هذا الميدان أمام القصر وتأملي الجماهير المتزاحمة فيه بين راكب وماش رجالا ونساء، إنه الميدان الذي يلعب فيه ورجاله على خيولهم بالصوالجة (الكرة والصولجان). وترين للميدان والقصر سورا فخما له عدة أبواب منها باب الجيش الذي ترين الجند ببابه عليهم الأسلحة، وباب آخر يقال له باب الجبل عدا باب الخاصة وباب الحرم الخاص بدخول نساء القصر أو الخدم. وهذا الباب الذي تشاهدين عليه تمثالي سبعين هو باب السباع، ومنه يخرج ابن طولون ويدخل وأظن الموكب سيخرج منه الآن وهو ذو ثلاث فتحات: يخرج الوالي من الفتحة الوسطى ويخرج رجاله من فتحتي الجانبين. وإن أمر هذا الوالي عجيب لعلو همته. انظري فوق هذا الباب تري مجلسا يشرف على سائر القطائع، وهي الأبنية التي ترينها وراء القصر في جهة الفسطاط. فيجلس ابن طولون في هذا المجلس كل يوم عرض أو احتفال، يراقب حركات رجاله وما يحتاجون إليه.»
فقالت دميانة: «وأين يقيم المهندسون؟»
فضحك زكريا وقال: «لا أعرف مكانا خاصا بهم. ولكني أعرف واحدا منهم فقط، وأعرف أين يقيم ... هل أقول؟»
فقالت: «لا» وبان الخجل في وجهها وغيرت الحديث فقالت: «سمعتك تذكر القطائع، فما المراد بها؟»
قال: «هي يا سيدتي أبنية بناها ابن طولون لسكنى جنده ورجال خاصته، ومتى تم لمولاي سعيد ما يريد وأصبح من خاصته أعطاه قصرا في القطيعة اللائقة بمقامه. وقد سميت هذه الأبنية بالقطائع؛ لأنها مؤلفة من أحياء يعرف كل منها باسم قطيعة. ويسكن كلا منها طائفة من الجند أو الرجال فللنوبة أبناء بلدي قطيعة مفردة تعرف بهم وللروم قطيعة وللفراشين قطيعة تعرف بهم، ولكل صنف من الغلمان قطيعة. أما رجال الدولة كالقواد والخاصة فقد بنى لهم أبنية أرجو أن يكون لسيدي قصر منها. وترين بين هذه القطائع الأسواق والأزقة والطرق بنيت فيها المساجد والطواحين والحمامات والأفران وسميت الأسواق بها فيقال سوق الجزارين وسوق البقالين. ولا أطيل الكلام عليك.»
فقطعت دميانة كلامه وقالت: «إن بناء هذه القطائع يستغرق أموالا طائلة وفي الفسطاط قصور وأسواق كثيرة، فلماذا لم يقم بها؟»
قال: «لأنه يخاف على نفسه من أهلها بعد أن غلبهم على مدينتهم وفيها أحزاب خضعت له كرها، فخطط هذا البلد وبناه أشبه بالحصون منه بالقصور. أما الأموال وإنفاقها فلا تسلي عنها. ألا ترين هذا البناء الشاهق القائم في أطراف هذه القطائع؟ تأمليه.»
قالت: «إني أرى قصرا فخما هل هو من بناء ابن طولون أيضا.»
Unknown page