فلما سمعت ذلك أجفلت، والتفتت فرأت بقرب الضفة الأخرى من النيل سفينة فخمة عرفت أنا هي التي يعنونها، لكنها لم تشاهد عليها الراية، وتذكرت علاقة حبيبها سعيد بابن طولون، فقالت في نفسها: «لعله على ظهر هذه السفينة.» وأطالت النظر إليها؛ ترجو أن ترى ما يدلها على ذلك فلم تستطع تمييز شيء، ولكنها سمعت الناس يستغربون مجيء هذه السفينة وهم بين مصوب ومخطئ، ولم تنتبه دميانة إلا والعم زكريا يناديها لتنزل، فنزلت ووقفت تنظر إلى تلك السفينة فرأتها تقترب من الشاطئ ودهبية المارداني تتقهقر إلى الوراء لتخلي لها مكانا لترسو - فرجح عندها أنها سفينة الوالي، ولكنها لم تشاهد علمه عليها، واستطالت الوقوف فاستحيت ومشت نحو الكنيسة فمشى زكريا أمامها وهو يوسع لها الطريق بين الباعة وأهل الشعوذة والغوغاء، فقطعت مسافة طويلة بين الخيام وقد تصاعد الغبار وعلا الضجيج وهي مطرقة لا تلتفت يمينا ولا شمالا حتى وصلت إلى الكنيسة - وقد تزاحم الناس في صحنها وقل بينهم من جاء للزيارة أو للصلاة - فدخلت الكنيسة وما تنسمت رائحة البخور الممزوج بدخان الشموع حتى انتعشت وخشعت فاستفهمت عن الصلاة متى تكون، فقيل لها إنهم يبدءون بها نحو الغروب، ويتولى رياسة القداس أسقف الفسطاط - وكان من كبار الأساقفة - وقد عهد إليه أن يرأس القداس هناك لقربه من شبرا ففرحت دميانة؛ لأن القداس سيكون فخما.
وأحبت أن تغتنم فرصة الانتظار لمشاهدة التابوت الذي فيه أصبع الشهيد فقيل لها إنه موضوع في حجرة مقفلة بجانب الكنيسة، لا يخرجونه إلا في حينه. فاكتفت بالصلاة تشغل بها نفسها حتى يبدأ الأسقف قداسه. فتحولت إلى أيقونة ولادة السيد المسيح، وأخذت تصلي بحرارة تطلب ما تشعر بأنها في حاجة إليه، وهي لا تحتاج إلى شيء مثل حاجتها إلى التخلص من الشراك التي نصبت لها، فتوسلت إلى الله أن ينقذها من إسطفانوس، فقد كان قلبها دليلها على أنه ليس النصيب الذي تريده. •••
كانت دميانة تصلي وتتضرع، ولا يلتفت أحد إليها لاشتغال كل بنفسه، والعم زكريا منتح مكانا في الكنيسة يرى منه دميانة ويشاركها إحساسها، وفيما هي غارقة في تضرعاتها سمعت سعالا أجفلها؛ لأنه وقع في أذنها وقوعا نبه عواطفها ولفت قلبها، فالتفتت بغير قصد إلى جهة السعال فرأت سعيدا مقبلا نحوها فتسارعت دقات قلبها وتولتها الدهشة وتوهمت أنها في حلم؛ لأنها لم تكن تتوقع قدوم سعيد في تلك الساعة. فلما وقع نظرها عليه ابتسمت ووقفت لا تدري ماذا تفعل.
أما هو فمشى نحوها يبتسم ويقول: «أظنني أزعجتك يا دميانة سامحيني.»
قالت: «لم تزعجني يا سعيد، ولكنك أدهشتني بهذا اللقاء على غير انتظار لعلك أتيت لتحضر قداس الأسقف؟»
قال: «أي أسقف؟ كلا إنما جئت لأراك.»
قالت: «جئت لتراني؟ ومن أنبأك أني هنا؟»
فتنهد وقال: «علمته من وقوف سفينة المارداني بقريتكم، ومن دعوة ذلك الشاب إياك لتحضروا الاحتفال بعيد الشهيد.»
فأدركت أن أبا الحسن أخبره بما حدث وعلمت أن سعيدا لم يوافها إلى شبرا إلا غيرة عليها فانبسطت أسرة وجهها، وازداد ميلها إليه فقالت: «وكيف أنت؟ هل تنوي البقاء هنا إلى صباح الغد؟ وأين تقيم وكيف؟» وتلعثم لسانها من شدة الفرح.
فقال: «أتيت في سفينة الوالي أحمد بن طولون.»
Unknown page