قال: «حسنا.» ومضى.
وصعد سمعان ودميانة للمبيت تحت المظلة وهي لا ترى بأسا من الانفراد بسمعان؛ لأنها كانت تعده مثل خادمها زكريا، وقد آنست فيه إخلاصا، ولا سيما أنها عرفته وهي في أشد الضيق، وتوسمت فيه طيب العنصر وأنه نصراني مثلها، والدين من أهم أسباب التقارب .
حمل سمعان معه بعض الزاد، وجلسا تحت المظلة، فتناولا شيئا من الطعام، ثم غلب عليهما النعاس، فنامت دميانة على بساط فرشه لها سمعان تحت المظلة، وتوسد هو أرضا رملية - على بضع أذرع منها - وجعل رأسه على ذراعيه، وفيما هو يوشك أن ينام سمع دويا، فألصق أذنه بالأرض وأنصت، فسمع وقع خطوات، فرفع رأسه وقد خيم الظلام وأصاخ بسمعه فسمع لغطا بعيدا فنهض ومشى حافيا نحو الصوت وهو يتلمس طريقه حتى أطل من وراء الجبل على خيام منصوبة ونار مشبوبة، فحدق نظره فإذا هي خيام نوبية، فلم يشك في أنها مضارب الملك، فحدثته نفسه بأن يسير إليها؛ لعله يلقى فيها إكراما وحفاوة ويبلغ رسالته، ولكنه خاف أن يترك دميانة وحدها، فعاد إلى متوسده ولم يكد ينام حتى سمع دويا قريبا، فنهض، فرأى ثلاثة فرسان يسوقون أفراسهم في طريق يؤدي إلى المضرب، وتفرس فيهم فلم يعرفهم؛ لأنهم متنكرون، فعاد إلى منامه. وقبيل الفجر جاءه الخادم فسأله: «هل شاهدت أحدا مارا في الليل؟» فقال: «شاهدت ثلاثة رجال ومر بي خادمهم فسألته هل هم ممن يخشى منهم؟ فقال: كلا لا خوف منهم؛ لأنهم أسقف المدينة واثنان من رجاله، وقد رجعوا في آخر الليل ولم نشعر بهم.»
فلما سمع سمعان قوله أطرق هنيهة يفكر، ثم ابتسم وأشار إشارة معناها «عرفت السر.» ثم التفت وقال له: «امكث هنا حتى نعود إليك.» وقال لدميانة: «هل تأتين معي إلى هذه الخيام وراء هذا الجبل؛ فإنها مضارب ملك النوبة، لنقابله ونستأذنه في السفر ثم نعود.»
قالت: «إذا كنت ترى فائدة من ذهابي أذهب.»
قال: «الأجدر أن تأتي معي وأظنك تحبين مشاهدة ملك النوبة؛ فإن الناس يتمنون رؤيته.» وأشار أن تتبعه، فمشيا حتى تجاوزا الجبل إلى بقعة منخفضة، فيها بضع خيام إحداها كبيرة، فتقدما حتى اقتربا منها، فتصدى لهم رجل نوبي غليظ البدن قوي العضل حافي القدمين التحف شملة لف بعضها حول حقويه وأرسل باقيها من جهة صدره إلى كتفيه فظهره، وقد علق سكينا في كوعه وشك سهاما في شعره المتلبد وعلق قوسا في كتفه. ولما رأى القادمين تصدى لهما، فتقدم سمعان إليه وكلمه بلسانه، فبغت الرجل عند رؤيته وتولته الدهشة، وصاح: «سمعان» وهم به فضمه إلى صدره وصافحه مثنى وثلاث - وبين كل مصافحة والتي تليها يقبل الواحد منهما يده على عادة النوبة في التسليم - فأخذ سمعان يكلمه بالنوبية وهما متصافحان كلاما لم تفهمه دميانة، وكلم سمعان الرجل وهو يشير إلى دميانة، فأسرع إليها ودعاها أن تتبعه فأومأ إليها سمعان أن تفعل، فذهب إلى خيمة فيها نساء استقبلنها أحسن استقبال. •••
مضى سمعان إلى الخيمة الكبرى، فاستأذن في الدخول، فأذن له، فوجد هناك «فيرقي» ملك النوبة، وكان بدينا كبير الهامة، عليه لباس مزخرف، وعند رأسه زنجيان يحملان مراوح من ريش النعام، يروحان له وهو جالس على جلد أسد لا يزال رأسه معلقا فيها وقد عولج حتى يظهر للرائي كأنه أسد رابض. ولم يكن «فيرقي» في لباس الملك؛ لأنه جاء متنكرا، ولكنه وضع على رأسه قبعة على هيئة التاج وعلق على صدره صليبا من الذهب المرصع، واتشح بمطرف من الخز، عليه صور ملونة أكثرها صور القديسين وأهمها سورة القديس جاورجيوس لابس الظفر، وكان الملك قد جلس الأربعاء ووضع السيف في حجره، وأصلح من شأنه، فاكتحل وتطيب ونزع النعال من رجله. وكان في أواخر الكهولة وقد شاب شعره وخف ولكنه كان صحيح البدن مشرق الوجه. وقد أحاط خصره بمنطقة من الخز لم يعهد مثلها في تلك البلاد، فلما رأى سمعان داخلا رحب به وقال: «مرحبا بخادمنا الأمين سمعان.»
فأكب سمعان وهو جاث حتى قبل ركبة الملك، فأشار هذا إليه أن ينهض، ودعاه للجلوس، فجلس بين يديه حتى حصير جميل من سعف النخل، فقال الملك: «من أين أنت قادم؟»
قال: «من المهمة التي أنفذني سيدي الملك فيها.»
قال: «من بلاد البجة؟ من هو صاحبها الآن؟ وكيف وجدته؟»
Unknown page