وكان كلام سمعان عن الخلاص، فإنه لم يكن يدرك ما في خاطر دميانة وما الذي يثقل على طبعها. فقد كان يجهل أنها حريصة على عفافها، تأنف أن تبتذل وأنها عالقة بسعيد، وكلا الأمرين ما يضحي لأجله بالحياة. فلما يئست من نصرة سمعان وتحققت من وقوعها في الفخ علمت أنها لم يبق لها ملجأ إلا الإيمان، وأخذت تراجع في ذهنها مواعيد الكتاب للمؤمنين في أيام الشدة بقوة الله، وهي ماشية ساكتة وسمعان لا يتكلم، فتجاوزا فساطيط الرجال حتى أشرفا على الأخبية وقد دنت الشمس من الغروب، وكانت الأخبية عديدة، بينها خباء فخم اتجه إليه سمعان، وأشار إلى دميانة أن تتبعه، فتبعته حتى أطل على باب الخباء ونادى، فخرجت له عجوز طويلة القامة شديدة العضل ملامحها أقرب إلى الرجال منها إلى النساء وعليها الدمالج والأساور والعقود، وقد فاحت منها رائحة الطيب وأبرقت عيناها واحمرتا. فأثر منظرها في دميانة أكثر من تأثير منظر أبي حرملة ووقفت مبهوتة، فابتدرها سمعان قائلا: «نحن الآن عند خباء الأمير، وهذه قهرمانة بيته قامت على تربيته منذ صغره، وتعد نفسها أمه وقد عهد إليها في أمر نسائه، وكأني بك قد أخافك منظرها، فلا تخافي وأنا أوصيها بك خيرا.»
ثم التفت إلى القهرمانة وكلمها بلسان البجة كلاما بهذا المعنى، فنظرت إلى دميانة وابتسمت ابتسامة تطمئنها بها ولكن دميانة لم تجد بدا من السكوت، وأشارت إليها القهرمانة أن تدخل، فدخلت وهي تنظر إلى سمعان والدمع ملء عينيها كأنها تستغيث به، وقد أثر منظرها فيه، لكنه كان يعتقد أنها لا تلبث أن تمكث بضعة أيام مع الأمير حتى تعتاده وتألف البقاء معه.
ودخلت دميانة الخباء، ومرت بعدة غرف من الجلد، رأت في كل منها امرأة أو نساء وبينهن النوبية والبجاوية والحبشية والقبطية. بين سرية وخادمة وجارية. فوقفن جميعا احتراما للقهرمانة حتى وصلت بها إلى غرفة ليس فيها أحد وفي بعض جوانبها بساط ووسادة من جلد محشوة بالقش، وبجانب البساط وعاء كالجراب مفتوح وفيه آنية «التواليت»: السواك والمشط وحق الطيب وقد علقت بجدار الغرفة ركوة من جلد وبجانبها قربة ماء فلما توسطت دميانة الغرفة شعرت بانقباض شديد لم تعد تملك معه نفسها، فجعلت دموعها تنحدر على خديها ونفسها تطلب البكاء وهي تحاول أن تمسكها. وإذا بالقهرمانة تقول لها بلغة قبطية ركيكة: «اجلسي يا بنية على هذه الوسادة.» وربتت كتفها تحببا، فلم تعد دميانة تتمالك فألقت نفسها على الوسادة وأخذت في البكاء بصوت عال كالأطفال ونسيت موقفها.
فاستغربت القهرمانة بكاءها بغتة، فقالت لها: «هل تحتاجين إلى شيء؟»
ولما لم تجبها قالت: «هل أنت خائفة؟ لا تخافي يا بنية؛ إن الأمير يحبك كثيرا وبعد قليل يأتي إليك. قومي أصلحي شأنك. وهذه هي الأطياب والسواك والمشط وأنا أساعدك.» قالت ذلك ومدت يدها إلى الجراب وهي تنظر إلى دميانة فإذا بها تجهش بالبكاء ولا تعيرها التفاتا. فعادت إلى تطييب خاطرها وملاطفتها وما زالت بها تارة تلاعبها وطورا تمازحها وآونة تهددها أو تمنيها أو تطمئنها حتى سكن روعها، ولم يطمئن بالها ولكنها تجلدت وودت لو بقيت وحدها، فتركتها القهرمانة ومضت وقد خيم الظلام، فازدادت دميانة انقباضا ووحشة. ثم ركعت على البساط ركعة مؤمن صادق الإيمان، وبسطت يديها إلى السماء ورفعت بصرها وأخذت تصلي كأنها تخاطب شخصا تراه بعينيها وتثق بأنه يجيب طلبها، وجعلت تتضرع إلى الله وتستجير بالمسيح وبالعذراء وسائر القديسين؛ تطلب الخلاص من هذه التجربة التي أوشكت أن تقع فيها. وكانت تصلي بحرارة ودموعها تتساقط على خديها بصوت خافت تتخلله نبرات التوسل والإلحاح في الرجاء. وقد حلت شعرها وكشفت عن صدرها واستغرقت في تضرعاتها ومناجاتها حتى نسيت موقفها فصارت تطلب وتتضرع بصوت عال تعترضه غصة أو بحة وتقرع صدرها وتعيد الطلب والدعاء كأنها تجردت عما يحيط بها.
وكانت القهرمانة قد تركتها ولم تبتعد عن غرفتها، فسمعت صلاتها، فاسترقت الخطى إليها حتى وقفت بجانب الباب بحيث ترى موقف دميانة وتسمع تضرعاتها، ومع غلظ قلبها لم تتمالك عند رؤية دموعها تتساقط وسماع صوتها المخنوق من الانعطاف إليها انعطافا مقرونا بالاستغراب، وكانت على موعد من قدوم أبي حرملة تلك الساعة وعليها أن تهيئ العروس وتصلح من شأنها قبل قدومه، فهمت أنها تدخل وتوقفها عن الصلاة وإذا بها تسمع وقع خطوات عرفت أنها خطوات الأمير، فتحولت نحوه وأشارت إليه بإصبعها أن يمشي الهوينى ليرى دميانة بعينيه.
فمشى حتى أطل على الفتاة بحيث يراها ولا تراه؛ فرآها جاثية وشعرها محلول وقد استرسل حتى غطى كتفيها وأعلى صدرها. ووقع نظره على جانب وجهها فرأى الاحمرار قد جلله والدمع بلله. وهي تبسط يديها نحو السماء تارة وترقع بهما صدرها أخرى، فنظر أبو حرملة إلى القهرمانة مستغربا، فبادلته مثل نظره، وحمل ذلك من دميانة محمل الوحشة لبعدها عن أهلها، وأراد أن يجاملها حتى تستأنس به وقد زاده منظرها رغبة فيها، فتراجع وأوصى القهرمانة بتطييبها وبإعدادها له على أن يعود بعد قليل.
وطالت صلاة دميانة دون أن تمل، ثم شعرت بعد حين بتعب يديها فانتبهت وقد سري عنها وذهب ما كان أحدق بها من الهموم والمخاوف، وشعرت بشجاعة واطمئنان، وتحققت ألا خوف عليها من حبائل الشيطان.
وفيما هي تتحفز للوقوف دخلت القهرمانة ضاحكة وهمت بدميانة فقبلتها، فاشتمت منها رائحة كانت تشتمها في المعسكر على الجمال ولكنها أحست بها قوية في وجه القهرمانة، فأمسكت دميانة بيدها وأجلستها على الوسادة بجانبها وقالت لها: «قد آن لك أن تتطيبي للقاء عريسك، وهذه شمعة قد اختصك بنورها وكان قد حفظها لأعز أوقاته وأمرني أن أضيئها في هذه الغرفة ليرى وجهك الجميل عليها، وهذا إكرام اختصك به؛ فإنه لم يفعل مثله مع سواك من نسائه.» قالت ذلك وأخرجت قضيبا غليظا من الشمع مغروسا في شبه قاعدة، وقدحت بالزناد وأضاءت الشمعة، وأخرجت منه المشط والسواك والأطياب، وأخذت تصلح لها شعرها وتمشطها وتطيبها، ودميانة ساكتة لا تتكلم ولا تمانع وقلبها مطمئن هادئ. •••
انتهت القهرمانة من تمشيط دميانة وتطييبها، ثم أتتها بثوب من الحرير الملون كان أبو حرملة قد بعث به إليها مبالغة في إكرامها، فلبسته، فظنتها القهرمانة راضية مسرورة، فخرجت إلى أبي حرملة وجاءت به وكان قد خفف ملابسه واتشح بثوب من الحرير يشبه ثوبها وتطيب. ولما دخل الغرفة أشار إلى القهرمانة فخرجت وعادت وبيدها ركوة من جلد وقدح من خشب وضعتها بين يديه وخرجت، وبقي هو ودميانة ليس في الغرفة سواهما. فاختلج قلبها في صدرها خوفا برغم اتكالها على الله بعد الصلاة واستأنفت الاستغاثة بالعذراء في سرها.
Unknown page