قال ذلك وأسرع وقلبه يخفق فرحا بهذه الصدفة. فلما دنا من الأكمة سمع جعجعة الجمل فضحك فرحا، ووثب حتى قبض على زمامه وحل عقاله وساقه إلى الرجل، فوجده في انتظاره، فقال له: «إن الله أرسلك لإنقاذي من العذاب في هذه الصحراء.»
فقاطعه الرجل وقال: «بل أنت الذي أرسلك الله لإنقاذي؛ إذ لولاك لمت في قيودي، فأنا مدين لك بحياتي ولا أقدر أن أكافئك إلا بأن تركب الجمل وأنا أقوده.»
فقال زكريا: «حاش لله أن أقبل ذلك. بل أردفك والجمل يحمل ثلاثة أو أربعة كما تعلم.»
قال: «كما تشاء.» وأخذا في معالجة الجمل حتى يتسع لهما، وغلق زكريا كيس زاده عليه. وركبا وسارا على حذر إلى المساء، فباتا ليلتهما وزكريا لا يرى من الرجل إلا الأنس والمجاملة، فشكر الله على أن هيأ له معرفته وشعر بتأنيب ضميره لكتمانه أمره عنه وهم بأن يبوح له بحقيقة أمره لكنه توقف خجلا من الاعتراف بالكذب وأجل ذلك حتى آخر الطريق وكانا يخافان أن يدهمها اللصوص، ولكنهما لم يلتقيا بأحد.
ويعد يومين وصلا إلى ضفة النيل، فقال التاجر: «هل لك أن تسافر إلى الفسطاط على النيل.»
قال: «ما لنا وركوب الماء؟ دعنا نواصل السير على هذا الجمل؛ فقد استحسنت خطواته.»
قال: «كما تشاء، وما دام جملي قد وقع عندك موقع الاستحسان فهو لك عندما نصل إلى الفسطاط.»
فسر زكريا لهذه الهدية؛ لشدة احتياجه إليها، وتوهم أن الرجل يبالغ في إكرامه طمعا في مساعدته عند ابن طولون، وكان يتألم من ذلك، فقد كان طيب السريرة حي الضمير يأنف أن يرى الناس فيه ما ليس على حقيقته. وما زالا راكبين يسير بهما الجمل على ضفة النيل الغربية يقتربان من النيل ساعة ويبتعدان أخرى وزكريا يزداد استئناسا بالرجل وامتنانا له حتى أطلا على الأهرام فلم يبق لزكريا عذر في السكوت وقد بلغ الجمل محاذاة الهرم الكبير ولم يبق إلا أن يتحولا نحو الجيزة ويعبرا الجسر إلى جزيرة الروضة ومنها بجسر آخر إلى الفسطاط.
وصلا إلى الهرم عند الأصيل والرجل يحث الجمل حتى يدرك الفسطاط قبل الظلام فقال زكريا: «ما أفخم هذه الأهرام، وما أجمل الجلوس عندها والإشراف على البساتين تتخللها المياه.» ففهم رفيقه أنه يريد النزول فقال: «ننزل هنا.» وأناخ الجمل وزكريا يعمل فكره ويكد قريحته؛ ليستنبط حيلة يستبقي بها الجمل معه هناك وفيما هو في ذلك قال رفيقه: «حقا إن المبيت هنا جميل فإذا وافقتني قضينا هذا المساء هنا وفي الصباح نمضي إلى الفسطاط.»
فاستحسن رأيه وقال: «لا أخفي عليك أني لا أستطيع الذهاب معك إلى الفسطاط فإن علي أن أقضي أمرا فيما وراء الجيزة.»
Unknown page