95

Ahlam Min Abi

أحلام من أبي: قصة عرق وإرث

Genres

عاد تعبير الحيرة والخوف نفسه يرتسم على وجه أوما. وقالت: «إنني لا أحب السياسة كثيرا.» «لماذا؟» «لا أعرف. الناس دوما ينتهي بهم الأمر وهم محبطون.»

عندما رجعنا إلى المنزل كان هناك خطاب في انتظارها في صندوق البريد، من طالب ألماني يدرس بكلية الحقوق، كانت - طبقا لما قالت - على علاقة به. كان الخطاب طويلا، مكونا على الأقل من سبع صفحات، وحين كنت أعد العشاء جلست هي على طاولة المطبخ تقرأ الخطاب وهي تضحك تارة وتتنهد تارة أخرى، وفجأة بدت على وجهها ملامح رقيقة تواقة.

قلت: «اعتقدت أنك لم تحبي الألمان.»

مسحت عينيها وضحكت. قالت: «نعم ... لكن أوتو مختلف. إنه لطيف للغاية! في بعض الأحيان كنت أعامله بأسلوب غير لائق! لا أعرف يا باراك. إنني في بعض الأحيان أفكر في أنه من المستحيل أن أثق بأي شخص ثقة عمياء. وأفكر فيما فعله الرجل العجوز في حياته، وأضحت فكرة الزواج تصيبني ... كيف أقولها ... بالخوف. الأمر نفسه ينطبق على أوتو وحياته المهنية لأننا كنا سنضطر إلى العيش في ألمانيا. فبدأت أتخيل نفسي في هذه الحياة وأنا أعيشها كاملة أجنبية، ولا أعتقد أنني سأتحمل ذلك.»

طوت الخطاب ووضعته في مظروفه مرة أخرى. وسألتني: «ماذا عنك يا باراك؟» وتابعت: «هل تعاني المشكلات نفسها، أم أنني بمفردي أعاني هذا الارتباك؟» «أعتقد أنني أعرف شعورك.» «هيا يا باراك فلتخبرني.»

ذهبت إلى الثلاجة وأخذت منها ثمرتين من الفلفل الأخضر ووضعتهما على لوح التقطيع. وقلت لها: «حسنا ... أحببت سيدة في نيويورك. هي بيضاء. وسوداء الشعر، وتميل عيناها إلى الخضرة. وكان صوتها عذبا. تقابلنا لقرابة عام. غالبا في أيام العطلات. أحيانا في شقتي وأحيانا أخرى في شقتها. أتعرفين شعور من ينغمس في عالمه الخاص؟ لم يكن في هذا العالم سوى شخصين - أنا وهي - مختفيين عن الأنظار ويغمرنا الدفء. كنا منغمسين في لغتنا. كنا منغمسين في عاداتنا. هكذا كانت حياتنا.

دعتني هذه السيدة في أحد أيام العطلات في منزل عائلتها الريفي. كان والداها هناك، وكانا لطيفين وكريمين إلى حد بعيد. كنا في الخريف الرائع ومن حولنا الغابات، وركبنا الزوارق الطويلة، وجدفنا بمجاديفها في بحيرة ثلجية مستديرة وكانت أوراق الشجر الذهبية الصغيرة تتجمع على ضفتيها. كانت العائلة تعرف كل شبر في هذه الأرض. وكيف تكونت تلالها وكيف كونت تيارات النهر الجليدية البحيرة، وأسماء المستعمرين البيض الأوائل وأسلافهم ومن قبلهم أسماء الهنود الذين كانوا فيما مضى يجولون في المنطقة متعقبين حيوانات الصيد. كان المنزل الذي يعيشون فيه قديما جدا ، كان منزل جدها لأبيها. وكان جدها هذا قد ورثه من جده لأبيه. وكانت لديهم مكتبة مليئة بالكتب القديمة وصور الجد بصحبة أفراد مشهورين كان يعرفهم، من رؤساء ودبلوماسيين وصحفيين ورجال صناعة. وكانت الغرفة تتمتع بقدرة جاذبة هائلة. وأدركت، وأنا أقف وسطها، أن عالمينا - أنا وصديقتي - تفصل بينهما مسافة شاسعة كالمسافة نفسها التي تفصل بين كينيا وألمانيا. وعلمت أيضا أننا لو بقينا معا لعشت في عالمها في النهاية. مع ذلك فهذا هو ما كنت أفعله معظم أوقات حياتي. وبيني وبينها كنت شخصا عرف كيف يعيش غريبا.» «وماذا حدث؟»

هززت كتفي. قلت: «أبعدتها عني.» وتابعت: «بدأت الخلافات تنشب بيننا. وبدأنا نفكر في المستقبل الذي بدأ يضغط على عالمنا الدافئ الصغير. وذات مساء دعوتها لمشاهدة مسرحية جديدة من تأليف كاتب أسود. وكانت المسرحية تعبر عن الغضب الشديد للسود إلا أنها مضحكة للغاية. كانت تعبر تعبيرا صادقا عن مسرح السود الهزلي الأمريكي. وكان معظم الجمهور من السود، ضحك الجمهور وصفق وهللوا جميعا كما لو كانوا يسبحون في الكنيسة. وبعد انتهاء العرض المسرحي بدأت صديقتي تسألني عن السبب الدائم لغضب السود. وقلت لها إن الأمر متعلق بذكرياتهم - كما قلت إن أحدا لا يسأل اليهود عن سبب تذكرهم الهولوكوست - لكنها أخبرتني أن الأمر مختلف وعارضتها في ذلك، فقالت لي إن الغضب ليس إلا طريق مسدود. وبذلك تشاجرنا أمام المسرح. وعندما عدنا إلى السيارة بدأت تبكي. وقالت إنها لا تستطيع أن تكون سوداء. وإنها كانت ستفعل إذا كان ذلك بيدها. وإنها لا تستطيع أن تكون أحدا غير نفسها.» «يا لها من قصة محزنة يا باراك.» «نعم أعتقد ذلك. وربما حتى إن كانت سوداء لم تكن ستستمر العلاقة. أقصد أن هناك بعض السيدات السوداوات اللاتي جعلن قلبي ينفطر مثلها.» ارتسمت ابتسامة على شفتي ووضعت الفلفل المقطع في الإناء، ثم استدرت إلى أوما مرة أخرى. وقلت لها دون أية ابتسامة: «المشكلة أنني كلما عدت بذاكرتي إلى ما قالته صديقتي هذه الليلة أمام المسرح أشعر بالخجل من نفسي إلى حد ما.» «هل تعرف أي شيء عنها الآن؟» «أرسلت لي بطاقة بريدية في الكريسماس. إنها سعيدة الآن حيث أقامت علاقة مع شخص ما. أما أنا فلدي عمل أهتم به.» «وهل هذا كاف؟» «في بعض الأحيان.» •••

لم أذهب إلى العمل اليوم التالي، وقضينا هذا اليوم معا وزرنا معهد الفنون (أردت أن أرى الرأسين الصغيرين في متحف فيلد، لكن أوما رفضت)، إلى جانب أننا بحثنا عن الصور الفوتوغرافية القديمة التي كانت في خزانتي لمشاهدتها، وذهبنا إلى السوبر ماركت، حيث أقرت أوما أن الشعب الأمريكي ودود ووزنه زائد. في بعض الأحيان كنت أجد أوما صعبة المراس وفي أحيان أخرى متهورة، وفي أوقات كثيرة مشغولة بهموم العالم، ودائما ما كانت تؤكد قدرتها على الاعتماد على نفسها، وهو الأمر الذي كنت أراه رد فعل مكتسب، وكان هذا رد فعلي تجاه شعوري بالشك.

لم نتحدث كثيرا عن أبينا وكأن حديثنا كان يتوقف كلما أوشكنا على الاقتراب من ذكراه. وبعد ليلة تناولنا فيها العشاء ومشينا مسافة طويلة بمحاذاة حاجز الأمواج المنهار للبحيرة، شعر كلانا أننا لن نتقدم خطوة واحدة إلا إذا طرحنا هذا الموضوع للمناقشة. أعدت لنا كوبين من الشاي وبدأت أوما تخبرني عن الرجل العجوز، قدر ما أسعفتها ذاكرتها.

Unknown page