بعد ذلك أخبرتهن بأنني سأتركهن بمفردهن على الأقل لمدة يومين، وذهبت إلى سيارتي وأنا أشعر بعض الشيء بدوار في رأسي. وقلت لنفسي إن باستطاعتي القيام بهذه الوظيفة وتنظيم هذه المدينة بأكملها عند انتهائي من هذا العمل. أشعلت سيجارة بعدها وتصورت، وأنا أهنئ نفسي على هذا الإنجاز، الانتقال بالقيادة إلى وسط المدينة للجلوس مع هارولد ومناقشة مصير المدينة. وبعد بضعة أقدام وأسفل عمود نور رأيت الرجل الثمل الذي كان في الاجتماع، وهو يمشي في خطوات دائرية بطيئة وينظر إلى ظله المتطاول على الأرض. فخرجت من سيارتي وسألته إن كان في حاجة إلى المساعدة للذهاب إلى منزله.
صاح الرجل وهو يحاول الوقوف بثبات قائلا: «إنني لا أحتاج إلى مساعدة من أحد!» واستكمل كلامه: «أتفهمني! يا لك من أحمق بغيض ... يقول لي أشياء مزعجة ...»
خبا صوته. وقبل أن أقول شيئا آخر استدار وبدأ يسير مترنحا في عرض الشارع ثم اختفى في الظلام.
الفصل العاشر
جاء فصل الشتاء وصبغت المدينة بمزيج من الألوان؛ حيث الأشجار السوداء تحت السماء الرمادية فوق الأرض البيضاء. وأصبح الليل يسدل ستائره مبكرا وقت الأصيل خاصة عندما تهب العواصف الثلجية؛ تلك العواصف الهائلة اللانهائية التي تقرب المسافة بين السماء والأرض، فتنعكس أضواء المدينة على السحب.
كان العمل أشد قسوة في مثل هذا الطقس. كانت أكوام الثلوج البيضاء تدخل عبر فتحات سيارتي إلى أسفل ياقتي وخلال فتحات معطفي. وفي جولاتي لإجراء المقابلات الشخصية لم أقض إطلاقا وقتا كافيا في مكان واحد حتى أستطيع الاستمتاع بالدفء كما ينبغي، بالإضافة إلى أن أماكن انتظار السيارات أصبحت نادرة في الشوارع التي ضيقتها الثلوج، وأصبح لكل شخص فيما يبدو قصة يسدي من خلالها النصائح بشأن المشاجرات التي تنشب بسبب أماكن انتظار السيارات بعد هبوب العواصف الثلجية الكثيفة، وما ينتج عن هذه المشاجرات من معارك عنيفة أو حوادث إطلاق النيران. أصبح حضور الاجتماعات في المساء غير منتظم بصورة أكبر؛ حيث كان الناس يتصلون بالهاتف في اللحظات الأخيرة ليقولوا إنهم أصيبوا بالأنفلونزا أو إن سياراتهم لا تعمل، أما من كانوا يحضرون الاجتماعات فيحضرون والبلل على ملابسهم ويبدو عليهم الامتعاض. وفي بعض الأحيان - وأنا أقود سيارتي في طريقي للعودة إلى المنزل بعد هذه الاجتماعات المسائية بينما عواصف الرياح الشمالية تهز سيارتي عبر حواجز الطرق الضيقة - كنت أنسى للحظة أين كنت وكانت أفكاري وقتئذ انعكاسا للصمت.
اقترح مارتي أن أستقطع لنفسي وقتا أطول بعيدا عن أعباء الوظيفة. وكانت اهتماماته عملية وأوضح أنه:
دون الحصول على بعض الدعم الشخصي خارج نطاق العمل يفقد المنظم رؤيته، وسرعان ما يتوقف عن العمل كما ينبغي. في الواقع كان هناك منطق صحيح فيما قاله؛ فالناس الذين قابلتهم وأنا في هذه الوظيفة كانوا بصفة عامة أكبر مني سنا بكثير، وكانت لهم اهتمامات ومطالب أقامت سدودا منيعة بيني وبين صداقتهم. وعندما لم يكن لدي عمل في إجازات نهاية الأسبوع كنت في العادة أقضي هذه الإجازات وحيدا في شقة لا يقطنها غيري، وما من أنيس يجالسني إلا الكتب فحسب.
لم ألتفت إلى نصيحة مارتي، وربما كان ذلك بسبب أنه كلما كانت الروابط بيني وبين القيادة تزداد قوة أجدهم يقدمون لي أكثر من مجرد الصداقة. فبعد الاجتماعات كان من الممكن أن أخرج مع أحد الرجال إلى إحدى الحانات المحلية لمشاهدة الأخبار أو الاستماع إلى الأغاني القديمة مثل أغاني فرقة «تيمبتيشن» وفرقة «أو جايز» التي كانت تذاع من خلال جهاز فونغراف آلي يعمل بالعملة موضوع في أحد الأركان ويصدر صوتا رنانا. وفي أيام الآحاد كنت أزور الكنائس لأداء الطقوس الدينية المختلفة، والسماح للسيدات بالاستهزاء بي بسبب خلطي بين العشاء الرباني والصلاة. وفي إحدى حفلات الكريسماس في الجاردنز رقصت مع أنجيلا ومنى وشيرلي أسفل كرة عكست أضواء دائرية متلألئة في الغرفة، وتبادلت الحديث عن الأخبار الرياضية مع أزواج اشتركوا في الحديث على مضض ونحن نتناول فطائر جبن رديئة المذاق وشرائح اللحم، وتشاورت مع أبناء وبنات بخصوص طلبات التقديم إلى الجامعة، ولعبت مع أحفاد كانوا يجلسون على ركبتي.
بدأت خلال هذه الفترات - التي أذابت فيها الألفة والإعياء الشديد الحواجز بين المنظم والقائد - فهم ما كان يعنيه مارتي عندما أصر على أن أنتقل إلى مراكز حياة الناس. إنني أتذكر على سبيل المثال الجلوس في مطبخ السيدة كرينشو بعد ظهر أحد الأيام وأنا أتناول الكعك المحروق الذي كانت تضغط علي لتناوله في كل مرة أزورها. كان الوقت قد تأخر، وبدأ سبب زيارتي يصبح غامضا، فطرأت على بالي فكرة أن أسألها عن سبب استمرارها في الاشتراك في جمعية الآباء والمعلمين مع أن أطفالها قد كبروا منذ فترة طويلة. بدأت هذه السيدة تخبرني بعد أن دفعت كرسيها بالقرب من كرسيي سريعا عن نشأتها في ولاية تينيسي، وكيف أجبرت على أن تترك التعليم لأن عائلتها لم تستطع تحمل تكاليف سوى ابن واحد فقط في الجامعة، وهو أخوها الذي مات بعد ذلك في الحرب العالمية الثانية. أما هي فقضت هي وزوجها سنوات من العمل في أحد المصانع - كما قالت - للتأكد من أن ابنهما لن يضطر إلى أن يترك تعليمه على الإطلاق ؛ ولذا استمر في التعليم إلى أن حصل على شهادة التخرج في كلية الحقوق من جامعة ييل.
Unknown page