قبل أن نرحل سألته أنجيلا عن احتمالية قيامه بتوفير فرص عمل بدوام جزئي للشباب في ألتجيلد. فرفع فوستر بصره إليها كما لو كانت مجنونة.
قال: «إن كل تاجر هنا يرفض 30 طلبا من طلبات العمل يوميا.» وأضاف: «البالغون المواطنون الكبار. العاملون ذوو الخبرة لديهم استعداد لقبول أي شيء يحصلون عليه. أنا آسف.»
في أثناء عودتنا إلى السيارة مررنا على متجر صغير مليء بالملابس الرخيصة الثمن والسترات ذات الألوان الزاهية، ويطل من نافذته دميتان بيضاويتان قديمتان مدهونتان باللون الأسود. كانت إضاءة هذا المتجر ضعيفة، لكن في مؤخرته استطعت بصعوبة رؤية شابة كورية تخيط يدويا وبجانبها طفل نائم. وفي الواقع جعلني هذا المنظر أعود بذاكرتي إلى أيام طفولتي، وإلى أسواق إندونيسيا حيث البائعون المتجولون، والعاملون المشتغلون في صناعة الجلود، والسيدات المتقدمات في العمر اللاتي كن يمضغن التنبول ويبعدن الذباب بالمقشات عن الفاكهة التي يبعنها.
لقد اعتدت دوما على مثل هذه الأسواق واعتبرتها جزءا من الطبيعة. هذا مع أنني - الآن - عندما فكرت في ألتجيلد وروزلاند ورفيق والسيد فوستر أدركت أسواق جاكرتا على حقيقتها، حيث كانت أسواقا جميلة ونفيسة. إن الناس الذين كانوا يبيعون بضائعهم هناك ربما كانوا فقراء، بل أكثر فقرا من سكان ألتجيلد أنفسهم. حيث كانوا يحملون 50 رطلا يوميا على ظهورهم، ويأكلون القليل، وتدركهم المنية وهم شباب. وعلى الرغم من كل هذا الفقر فقد بقي في حياتهم نظام يمكن إدراكه وتمييزه؛ هو مزيج الأساليب التجارية، والوسطاء، والرشاوى التي ينبغي دفعها، والأعراف التي ينبغي احترامها، وعادات جيل تحدث يوميا تحت ستار المفاوضات والمساومات والضوضاء والإرهاق.
كان غياب مثل هذا الترابط هو الذي جعل مكانا مثل ألتجيلد يعمه اليأس هكذا، وبيني وبين نفسي فكرت أن غياب النظام هو الذي جعل كلا من رفيق والسيد فوستر - كل بأسلوبه الخاص - يشعران بالمرارة البالغة. إذن كيف يمكننا حياكة الثقافة بعد أن تمزقت؟ وكم من الوقت سيستغرق هذا الأمر في الولايات المتحدة؟
ظننت أننا سنستغرق وقتا أطول من الوقت الذي استغرقته أية ثقافة لتنحل. وحاولت أن أتصور العمال الإندونيسيين الذين كانوا يشقون طريقهم في الحياة بمجهوداتهم الخاصة من خلال العمل في العديد من المصانع التي كان مقرها فيما سبق على ضفتي نهر كالوميت، والعمل بالأجرة في مجال تجميع أجهزة الراديو وصنع الأحذية التي تباع في شارع ميشيجان. تصورت هؤلاء العمال الإندونيسيين بعد 10 أو 20 سنة من الآن، عندما تغلق مصانعهم نتيجة تطبيق التكنولوجيا الحديثة أو وجود عمال في أماكن أخرى من العالم يؤدون عملهم بأجر أقل. ويكتشفون بمرارة أن أسواقهم اختفت، وأنهم لم يعودوا يتذكرون كيف يصنعون سلالهم بأيديهم أو ينحتون أثاثهم، أو يزرعون غذاءهم، وحتى إن تذكروا كيفية تنفيذ كل هذا فإن الغابات التي كانت تمدهم بالخشب أصبحت تملكها الآن شركات الأخشاب، بالإضافة إلى أن سلالهم التي كانوا يصنعونها من قبل حلت محلها أكياس بلاستيك أكثر متانة. وبذلك اختفت ثقافتهم بسبب وجود المصانع وشركات الأخشاب ومصانع البلاستيك. واتضح أن قيم العمل الشاق والمبادرات الفردية معتمدة على منظومة من المعتقدات التي تأثرت بفعل الهجرة والتحضر وتكرار عرض البرامج التليفزيونية الأجنبية. وقد تحسن حال بعض هؤلاء في ظل هذا النظام الجديد. في حين انتقل البعض الآخر إلى أمريكا. أما الباقون - وهم الملايين الذين ظلوا في جاكرتا أو لاجوس أو الضفة الغربية - فقد استقروا في أحيائهم الشبيهة بألتجيلد جاردنز في حالة من اليأس والإحباط.
سادت حالة من الصمت في أثناء اتجاهنا بالسيارة إلى مكان الاجتماع الأخير مع مديرة الفرع المحلي لمكتب العمدة للتوظيف والتدريب، الذي ساعد في توجيه العاطلين عن العمل إلى برامج التدريب في جميع أنحاء المدينة. كنا قد واجهنا صعوبة في العثور على المكان - الذي كان يبعد 45 دقيقة بالسيارة عن ألتجيلد وكان يقع في شارع خلفي في حي فردولياك - ووقت وصولنا كانت المديرة قد غادرت. ولم يكن مساعدها يعرف متى ستعود لكنه سلمنا مجموعة من النشرات الدعائية المطبوعة على ورق مصقول.
قالت شيرلي وهي تتجه نحو الباب: «لن يساعدنا ذلك على الإطلاق.» واستكملت كلامها: «ربما كان من الأفضل بقاؤنا في المنزل.»
لاحظت منى أنني تلكأت في المكتب. وسألت أنجيلا: «إلام ينظر أوباما؟»
أظهرت لهما ظهر إحدى النشرات. وكان يشتمل على قائمة بجميع برامج مكتب التوظيف والتدريب في المدينة. وفي الواقع لم يكن أي منها جنوب شارع خمسة وتسعين.
Unknown page