إن من دلائل النهضة المعاصرة في الشرق العربي هذه الحركة القوية في الترجمة التي تستهدف نقل كل ما وصل إليه الإنسان في أي ركن من أركان الأرض إلى لغتنا العربية، من أدب، وعلم، وفن، وفلسفة، وتاريخ، وغير ذلك من المعارف الإنسانية؛ لكي تنشر هذه الأفكار بين الناس وتختلط بتراث غني خلفه لنا أسلافنا الأمجاد، فتنبت نباتا طيبا جديدا، نرجو أن يكون دعامة التقدم في هذه البلاد ذات الحضارات القديمة، كما نرجو أن يكون هذا المزيج الثقافي الجديد، الذي يجمع بين ما يكشفه الإنسان بعقله وما يكشفه بقلبه وبصيرته، هاديا للبشرية ومنقذا لها من الضلال الذي تتردى فيه، ومن حالة القلق التي تساوره.
وبالرغم من أننا كنا نود أن تتلفت هذه الحركة إلى الشرق فتنقل إلينا تراث الهند والصين والفرس، وإلى الجنوب فتعرفنا بتفكير الإنسان الأفريقي، كما تلفتت إلى الشمال والغرب، إلا أنها اتجهت في الواقع بأكثر جهدها نحو الغرب وحده فأعطتنا صورة واضحة عن حكمة الإغريق، وسياسة الرومان، ومعالم النهضة الأوروبية ، واتجاهات الفلسفة والعلوم الحديثة.
وقد انتقلت إلينا هذه المعارف في أغلب الأحيان في صور شتيتة لا يكاد يربط بينها رابط؛ فهذا علم، وهذا فن، وهذه فلسفة، إلى غير ذلك دون أن ندري إن كان بالعقل الذي أنتج كل ذلك ميزة معينة، أو خصيصة ذاتية يتفرد بها بين عقول الأمم الأخرى ولا ندرك مقدار تغلغل هذه الأفكار في أذهان عامة الشعب وتأثرهم بها.
ثم وقع بين يدي هذا الكتاب، الذي كان أول صدوره في عام 1950م، لمؤلفه كرين برنتن، أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد بأمريكا، وتصفحته فوجدت أنه يسد هذه الثغرة، ويحاول أن يميز الفكر الغربي بصفة خاصة اتصف بها منذ أقدم العصور حتى اليوم، فرأيت أن أقوم بنقله إلى اللغة العربية، وشجعتني على ذلك مؤسسة فرانكلين بالقاهرة، التي سوف تتولى نشره في البلاد العربية كافة.
وأبادر إلى القول بأن أهم ما يتميز به الفكر الغربي هو توتر شديد في عقول المفكرين الذين يبغون الموازنة بين المثل الرفيعة العليا التي عرفها الإنسان من قديم، ونادت بها الأديان، وواقع الحياة الذي لا يتفق وهذه المثل؛ فهي تحاول أن ترفعنا إلى السماء، ويشدنا الواقع إلى الأرض بقوة لا نستطيع أن نقاومها أو أن نتصدى لها.
والنهج الذي سار عليه المؤلف في بحثه هو سرد التطورات التي حدثت في الفكر الغربي في هذا الاتجاه سردا تاريخيا مسلسلا. وقد حاول في ختام الكتاب أن يسلط ضوء الماضي على تفكير الإنسان الغربي الحديث لعله يستطيع أن يفسر هذه التيارات الجديدة التي ظهرت، والتي لا تؤمن بمنطق العقل كل الإيمان، وإنما ترى أن الإنسان كما يتأثر بالمعقول يتأثر كذلك باللامعقول الذي يرجع إلى رواسب عميقة في النفس البشرية لا يمكن أن تقتلع من جذورها، وهي رواسب من الخرافة والوحي والخيال لا سند لها البتة من العقل.
ولعل أهم ما يتعرض له المؤلف في كتابه هذا هو رواية قصة الحلول المختلفة التي كان يتخذها الإنسان في الغرب للإجابة عما يسميه الكاتب ب «المشكلات الكبرى»؛ مشكلات الوجود الإنساني ومصيره : ما فائدة الحياة؟ وكيف يستطيع الناس أن يحيوا حياة طيبة؟ وما هو الأمل في بلوغ مثل هذه الحياة الطيبة؟ أين نحن من هذا الكون؟ إلى أين المسير؟ ثم ما هو المصير؟ ماذا نعني بالحق والباطل؟ والخير والشر؟ والجميل والقبيح؟
هذه كلها أمور لا بد للإنسان في كل زمان ومكان من الإجابة عنها، وقد حاول المؤلف أن يقص علينا تاريخ هذه المشكلات في الغرب، وما رآه المفكرون فيها، وما آمن الناس به في مختلف العصور؛ فكان مؤرخا للفكر في الغرب، بأوسع معاني هذا التعبير، ولم يكن مجرد مؤرخ للفلسفة في حدودها الضيقة التي لا تشتمل على أكثر نواحي التفكير البشري، من دين أو فن أو علم أو أدب، والتي لا تعبأ بأي الأفكار في حياة الناس.
وفي هذا الصدد يقسم الكاتب المعرفة الإنسانية إلى نوعين مختلفين: المعرفة التي يمكن تراكمها، والمعرفة التي لا يمكن أن تتراكم.
وخير مثال للمعرفة التراكمية هو المعرفة التي نسميها عادة بالعلوم الطبيعية، ومجرد العلوم؛ فقد أخذت أفكارنا في علوم الفلك والطبيعة - مثلا - تتراكم منذ بدأ الإنسان يدرس هذه العلوم في شرق البحر المتوسط، وفي غضون آلاف السنين التي مرت بعد ذلك، حتى أخذت تتكون تدريجا في صورة علوم الفلك والطبيعة كما ندرسها اليوم في المعاهد والكليات. ولم تكن عملية التكوين هذه منتظمة مطردة، غير أنها كانت ثابتة بوجه عام. ولا تزال بعض النظريات التي ظهرت منذ البداية صادقة حتى اليوم، نظرية أرشميدس في الكثافة النوعية. كما أن كثيرا جدا من النظريات قد أضيفت إلى الرصيد القديم، وكذلك نبذنا الكثير من هذا القديم لما ثبت فيه من أخطاء. وكانت النتيجة نظاما، أو علما، له أساس متين مقبول في كل مكان من المعرفة المتراكمة، وله حدود من المعارف الجديدة المضافة آخذة في الاتساع. ولا يختلف العلماء في الأسس، وإنما يدور بينهم الجدل - والعلماء يتجادلون كما يتجادل الفلاسفة وعامة الناس - في هذه الحدود النامية دون القاعدة المستقرة. أما هذه القاعدة أو هذا الأساس فإن جميع العلماء يسلمون بصدقه.
Unknown page