فنحن نعرف من يختلف إلى السوربون في مواظبة، ومن يزورها لماما، ومن ينفق يومه في البيت وليله في القهوة، ونحن نعرف من يعبث مع هذه الفتاة من بنات الغي، ومن يدور حول هذه الفتاة من طالبات العلم، ونحن نعرف من تفسد عليه الغواية حياته كلها، ونعرف من يلهيه تتبع الطالبات في غير نفع عن الدرس والتحصيل، ونحن نعرف من يكتب إلى أهله بالأكاذيب ويخدعهم بالأماني، ويستخلص منهم المال بالحق والباطل، وينفق حياته كلها في اللهو واللعب، ونحن إذا لقي بعضنا بعضا لم نتحدث إلا في هذا، ولم نستعن بأنفسنا إلا بهذا. وأظنك تعلم أن ليس لي في شيء من هذا أرب ولا لذة، فأنا وحيد بين المصريين في باريس وإن لم أكن وحيدا بين الفرنسيين، فقد اتخذت لي منهم أصدقاء أحبهم ويحبونني وآمن لهم ويأمنون لي، ولكني ألاحظ أن لي نفسين: نفسا تأنس إلى الفرنسيين، وتجد اللذة في عشرتهم وأحاديثهم ومشاركتهم فيما يأخذون فيه من الجد واللهو، ونفسا أخرى مشوقة أبدا، ملتاعة أبدا، تحب أن تسمع صوتا مصريا صادقا، وأن تأمن إلى قلب مصري صادق، على أني قد حرمت لقاء المصريين والفرنسيين جميعا.
فأما أولئك فقد فروا بأنفسهم من الموت الذي يقال إنه يغزو باريس، وأما هؤلاء فقد دفعوا أنفسهم دفعا إلى لقاء الموت ليردوه عن باريس، وقد أنفت أن أفر مع أولئك، وضعفت أن أنفر مع هؤلاء، وآثرت موقفا لا أحمده لنفسي ولا ألومها عليه وهو موقف الانتظار. وما أرى إلا أني سأخرج من هذا الموقف كارها إن استطاع الموت أن يقتحم ما أعد له الفرنسيون ليردوه عن هذه المدينة الخالدة، فما أملك حياتي حين يقدم الموت على باريس، على أني أجد في هذه المدينة الخالية التي فر الناس منها ذعرا أو نفر الناس منها حفاظا ونجدة، شيئا من الشعر الرائع لا أستطيع تصويره، وإنما أستطيع أن أقول إنه يملك علي نفسي ويفعم قلبي إفعاما، ويحبب إلي هذه الأرض كما لم أحب أرضا قط.
نعم، وأجد في مقامي في هذه المدينة الخالية لذة لا أدري كيف أصورها، وفخرا لا أعرف كيف أصفه، ومع أني لم أنفر مع الناس فقد يخيل إلي أني شجاع، فليس جبانا ولا ضعيف القلب هذا الذي لم يفر مع من فر، ولم يعد إلى مصر فيمن عاد من الطلاب ، ولم يغير من أمره شيئا مع أن كل شيء من حوله قد تغير، وما زال يتغير، وإنما ظل في مكانه هادئ النفس مطمئن القلب ينتظر الأحداث والخطوب لا خائفا ولا وجلا ولا مذعورا.
ولقد أخذت على نفسي عهدا ألا أبرح باريس مهما تكن الظروف، وستعلم أني سأفي بهذا العهد مهما يكلفني ذلك وإن انتهى بي إلى الموت، وأي شيء يكون الموت في سبيل باريس! لقد أبيت أن أكتب إليك في وصفها وفي وصف الحياة فيها؛ لأن ذلك لم يكن ميسورا، ولأني كنت أرجو أن تقدم على باريس فأظهرك على ما تستطيع أن تظهر عليه من أمرها. وقد تأخر قدومك، وكنت أحب أن أعلك بالحديث عن باريس، ولكني عاجز حتى عن هذا، مشغول بالحديث إلى نفسي عن الحديث إليك، فكم لي من ساعات أخلو فيها إلى نفسي حتى تنقطع الأسباب بيني وبين كل شيء، وبيني وبين كل إنسان، والناس مع ذلك حولي يذهبون ويجيئون ويموج بعضهم في بعض، وأنا لا أخلو إلى نفسي هذه الخلوة في بيتي وإنما أخلو إلى نفسي في الحدائق والمتاحف والقهوات حيث يجتمع الناس ويزدحمون، أخلو إلى نفسي أمام تمثال من هذه التماثيل، أو عمارة من هذه العمارات، أو معهد من هذه المعاهد التي يستقر فيها الجد خصبا حافلا بالنفع والأمل، لا لأهل باريس، ولا لأهل فرنسا، بل للناس جميعا، ومنهم هؤلاء العدو الذين يقدمون على باريس ومعهم الموت يريدون أن يصبوه عليها صبا.
نعم، وأخلو إلى نفسي أمام معهد من معاهد اللهو، هذه التي تستنفر فيها الدعابة فتبعث الفرح في القلوب جميعا، وتبعث الابتسام على الثغور جميعا، وتجدد النشاط للعمل وتحبب الحياة إلى الذين زهدوا في الحياة.
أخلو إلى نفسي أمام هذه الأشياء التي أراها كنوزا للإنسانية قد حوت خير ما عند الإنسانية من فن وأدب، ومن فلسفة وعلم، ومن عمل وأمل، ومن تفكير وتدبر، وروية ونشاط.
أخلو إلى نفسي أمام هذه الأشياء، وأفكر في أن قوما يزحفون عليها يريدون بها السوء، ولا يكرهون، ولعلهم يحبون أن يمحقوها محقا، ويسحقوها سحقا، ليغضوا من أمر باريس، وليغضوا من أمر فرنسا، دون أن يحفلوا بأنهم إن فعلوا فسيغضون من أمر الحضارة كلها، وسيعلنون في القرن المتم العشرين كما أعلن آباؤهم في أول التاريخ المسيحي أن عهد الحضارة والعلم والفلسفة والتفكير والفن قد آذن بزوال، وأن الإنسانية قد آن لها أن تستريح من جهدها الخصب العنيف، وأن تعود إلى هذه الراحة المجدبة التي يملؤها الذل والعقم والهوان.
أخلو إلى نفسي أمام هذه الأشياء، وأراها قائمة باسمة نضرة يملؤها الفخر والتيه ويزدهيها الأمن، فأراها وقد مستها لفحة من لفحات العدو فاستحال ابتسامها عبوسا ونضرتها ذبولا وكبرياؤها ذلا وخنوعا، وإذا أنا مدفوع إليها متصل بها، فأنا فيها أنعم لأنها ناعمة، وأبسم لأنها باسمة، وأبتئس لأنها مبتئسة، ويدركني الموت لأنه أدركها.
حرام علي فراق باريس حتى أصير إلى مثل ما تصير إليه، وأخرج معها من الأهوال بما تخرج به منها، ولتغضب الجامعة إن شاءت أن تغضب، ولترض الجامعة إن أحبت أن ترضى؛ فقد دعت طلابها إلى مصر فعادوا سراعا. وأكبر الظن أنها ستردهم إلى فرنسا بعد أن تستقر الأمور شيئا، ولكنها ستحول بينهم وبين باريس؛ لأن باريس قريبة من الخطر معرضة له دائما، وسيعود هؤلاء الطلاب وقد تقدم أنت معهم، وسيتفرقون من أرض فرنسا في حيث يستقر الأمن والسلم، وفي حيث لا تصل إليكم يد العدو ولا تبلغكم قذائفه. أما أنا فمقيم هنا لا أريم، منتظر هنا مع المنتظرين، ومن يدري! لعلي أخرج من هذا الانتظار إلى العمل، فما ينبغي للرجل الكريم ذي المروءة أن يعيش مع الناس ضيفا عليهم مستمتعا بما يمنحونه من الأمن آخذا بأوفر حظه مما يبيحون له من لذة العقل والقلب والجسم، حتى إذا ألمت بهم الخطوب أو هجمت عليهم الأحداث، فر عنهم مسرعا لا يلوي على شيء، أو أقام فيهم جبانا أثرا خانعا لا يبتغي إلا أن يعيش.
نعم، ما ينبغي للرجل الكريم ذي المروءة والنجدة أن يسير هذه السيرة، وما كنت أحب للجامعة أن تلقي على طلابها هذا الدرس أو تدعوهم إلى هذه السيرة، وإنما كنت أحب منها شيئا آخر. وأنا أعلم أن الجامعة أمينة على حياة طلابها مسئولة إلى حد ما أمام أهل هؤلاء الطلاب، ولكني أعلم أيضا أن الجامعة لا تجير من الموت، وأن أهل الطلاب لن يستطيعوا أن يرجعوا إليها إن ألمت بطالب من طلابها علة مهلكة أو عدت عليه عادية لا مرد لها، وهل الحرب إلا بعض هذه العلل والعوادي! وماذا تقدم الجامعة إلى الناس حين تقدم إليهم هؤلاء الطلاب أساتذة قد فروا حين أقبل الخطر، وآثروا الحياة على الموت حين كان الكرم والشهامة والنجدة وعرفان الجميل، حين كان هذا كله يريدهم على أن يسعوا إلى رد الخطر كما سعى الفرنسيون، أو يثبتوا لانتظار الخطر كما ثبت أنا! إنما تقدم إليهم أساتذة قد فروا من الخير إلى الشر، ومن الإيثار إلى الأثرة ومن الكرم والنبل إلى الذلة والهوان.
Unknown page