فاختلج قلب جلنار لهذا التصريح، وتذكرت شأنها في ذلك فامتقع لونها، فبالغت بالالتفاف بالشال، وتشاغلت بإصلاح المطرف حول منكبيها، وتنحنحت وهي تتظاهر بسعال داهمها، فأدرك أبو مسلم أنها تخاطبه، فتبسم وتشاغل بحك ذقنه، ثم قال وهو يوجه خطابه إلى الدهقان: «إذا أصبحت مرو فريسة بيننا وبين الكرماني، أو بيننا وبين شيبان، فهي للفائز منا بعد التنازع عليها.»
وكان الدهقان منذ سمع قول أبي مسلم الأول بشأن عرب اليمن يفكر في مصير ابنته إذا تزوجها ابن الكرماني، وهو يعتقد أن الكرماني أقوى وأمنع من أبي مسلم؛ لكثرة جنده واستعداده - وأبو مسلم لم يجتمع عنده من الجند أحد بعد - فعول على أن يمسك الحبل من الطرفين، فإذا انتصر الكرماني كانت ابنته عنده، ونال بالمصاهرة غرضه، وإذا غلب أبو مسلم اطمأن على حياته وأمواله بما أبداه من مسايرته. ولم يكن عازما على نصرته حقيقة، وإنما وعده بالمساعدة خداعا، فقال: «نعم، إن الكرماني مثلنا من حيث مقاومته لبني أمية، ورجاله من القبائل اليمنية، وهم أعداء عرب مضر؛ أنصار بني أمية، ولكن الكرماني عربي الأصل، وإن كان اسمه يوهم غير ذلك، فنخشى إذا فاز ألا يكون لنا في دولته مصلحة. وأما أنتم، فإنكم منا ونحن منكم، ودولتكم دولتنا. نعم ، إن الدعوة باسم خليفة عربي، ولكنه سيكون نصيرنا؛ لأننا نصرناه في دعوته. وزد على ذلك أنه أوصى بإبادة العرب من خراسان على ما سمعناه من وصيته التي بعث بها إليك.»
فلما سمعت جلنار كلام والدها استبشرت، وخيل لها أنه غير رأيه في الكرماني، واختلج قلبها فرحا، وظهر ذلك في وجهها. ولو دخلت في الحديث معهم لما خفي حالها على أبي مسلم، ولكنها كانت صامتة منزوية لا تجرؤ على الكلام؛ لئلا يبدو شيء من عواطفها فيفتضح أمرها عند والدها، فيفسد عليها تدبيرها.
وأما أبو مسلم فلم ينخدع بأقوال الدهقان كل الانخداع؛ لأنه كان أكثر دهاء منه، وهو يسيء الظن بأقرب الناس إليه، ولا يأمن أحدا على أمره، ولا يسلم سره إلى أحد، بل كان يضمر السوء لكل إنسان إذا لم ينفعه أو يؤيده، فكان يقيس الناس على ما يعلمه في نفسه. والناس مفطورون على حب الذات قلما يعملون عملا إلا وينظرون من ورائه إلى مصلحتهم الخاصة، وإن تظاهروا بغير ذلك، فلا يتحمس أحد لنصرة الوطنية إلا إذا توقع منها نفعا لنفسه، ولا ينصر الحكومة الملكية المطلقة إلا لمصلحته، ولا يسعى في قيام الجمهورية إلا لما يرجوه من المصلحة فيها.
فالإنسان لا يعمل عملا كبيرا ولا صغيرا إلا إذا توقع الانتفاع به عاجلا أو آجلا، حتى الصلاة والعبادة وكل عمل أدبي أو مادي، وإذا أنكر أحد ذلك فإنه يخدع نفسه أو أهله، أو أنه من العامة الذين يساقون سوق الأغنام في آرائهم ومذاهبهم، وإنما كلامنا عن خاصة الناس؛ قادة الفكر؛ لأن الناس من هذا القبيل فئتان: فئة قائدة، وفئة تابعة؛ والفئة الأولى هم خيرة الأنام، وأهل العقل، وأصحاب المطامع، فهؤلاء لا يقدمون على عمل إلا وهم يرجون منه النفع لأنفسهم، ولكنهم يختلفون في حدود مطامعهم؛ ففيهم من يريد النفع لنفسه ويأبى الضرر لسواه؛ وهم أهل الخير، وفئة لا يهمهم إلا الوصول إلى غرضهم ولو تخطوا إليها على جثث الناس، وفيهم من لا يبالي أن يتخطى إلى غرضه على جثث أقرب الناس إليه ، وقد يضحي بأصدقائه، وخاصة أهله في هذا السبيل.
وأمثال هؤلاء كثيرون في تلك العصور، وأكثرهم يعدون من عظماء الرجال، ومنهم أبو مسلم الخراساني هذا؛ فقد كان واسع المطامع، كبير النفس، متصلب القلب، لا يهمه إلا بلوغ غايته؛ وهي الفوز في دعوته، فإذا اعترضه ظل أخيه قتل أخاه، ولو توهم الخوف من أصدق أصدقائه بادر إلى قتله؛ عملا بنص الوصية التي أوصاه بها الإمام: «من شككت فيه فاقتله.» فمن كان هذا شأنه لا يحسن الظن بأحد.
فلما سمع مواعيد الدهقان تظاهر بأنه يصدقه تشجيعا له على الثبات فى قوله، وهو في الواقع لا يؤمن بصدقه، ولا سيما بعد أن علم بخطبة ابن الكرماني لجلنار؛ فكيف يزوج ابنته من رجل يثق في قرب هزيمته؟ ولم يكن أبو مسلم يجهل حقيقة حاله يومئذ، وليس عنده من الرجال إلا القليل. فلما تصور ذلك هب من مقعده كأنه انتبه لشيء نسيه، ووقف فوقف الجميع، فقال أبو مسلم للدهقان: «أستودعك الله؛ فإننا نبيت الليلة على أن نرحل في فجر الغد وأنتم نيام. فلا تنس وعودك؛ فإننا نحارب في سبيل إخواننا الخراسانيين وسائر رجال فارس.»
فقال: «كن مطمئنا. إنني سأبذلك أقصى الجهد في جمع كلمة الدهاقين على نصرتكم.»
فقال خالد: «إذا فعلت ذلك فإنك فاعله لخيرك وخير أهلك.» وقبل أن يتحول أبو مسلم من القاعة التفت إلى جلنار - وكانت ترقب كل حركة من حركاته، وتصغي لكل كلمة من أقواله - فلما وقع نظرها على نظره توهمت أنه ابتسم لها، وأنه وعدها باللقاء القريب؛ اعتمادا على رسالته إليها عن طريق الضحاك، فزاد هيامها به، وأحست وهو خارج كأنه انخلع قلبها، ولكنها عللت نفسها بما سمعته من والدها من تحقير أمر الكرماني، وإعظام أمر أبي مسلم، وحدثتها نفسها أن والدها قد غير رأيه في خطيبها.
الفصل الرابع والعشرون
Unknown page