فلما بلغ بهما الحديث إلى هذا الحد، أشار أبو سلمة إلى صالح أن ينزل للاستراحة في دار الضيوف على أن يعود إلى الكلام في هذا الموضوع، فمضى ليقضي بقية يومه في الراحة وتدبير بعض الشئون، وسار إلى ريحانة فاجتمع بها وأطلعها على ما دار بينه وبين أبي سلمة، وأفهمها أمورا تقولها لجلنار، وأوصاها بالبقاء هناك ريثما يعود من مهمته إلى الشام، وأنه سيصطحب معه سليمان الحلبي؛ لأنه يعرف تلك البلاد، ثم دعا سعيدا وأبا العينين فأوصاهما بكتمان كل شيء عن أهل الدار فوق وصيته لأبي سلمة بذلك. وفي اليوم التالي استأذن أبا سلمة في الذهاب، فعرض عليه مالا، فأبى وقال: «إني أقوم بهذا الأمر خدمة لمصلحة المسلمين لا أطلب عليها أجرا.»
الفصل الثاني والستون
الرحيل إلى الحميمة
فركب صالح جملا سريعا، وكذلك سليمان، وحملا ما يحتاجان إليه من الطعام والماء، وأسرعا نحو الشام. وكان صالح في أثناء تلك المدة يبحث عن أحوال شيبان ورجال الخوارج سرا بالاستفهام وغيره. وقد تقدم أن شيبان نزح عن مرو بعد أن أيقن بوقوعها في يدي أبي مسلم. فلما استتب الأمر لأبي مسلم هناك بعث إلى شيبان يدعوه إلى البيعة، فأجابه شيبان: «أنا أدعوك إلى بيعتي.» فكتب إليه أبو مسلم: «إن لم تدخل في أمرنا؛ فارحل عن منزلك الذي أنت فيه.» فسار شيبان إلى سرخس واجتمع إليه جمع كثير من بكر بن وائل، فخشي بأسه أبو مسلم، فبعث إليه رسلا لمخابرته فسجن الرسل، فبعث إليه جندا حاربوه وغلبوه، فهرب إلى بلد آخر وآخر حتى دخل المدينة فقتل فيها وذهب أمر الخوارج.
1
وقد وصل خبر مقتل شيبان إلى صالح وهو سائر في طريقه إلى الشام، فشق ذلك عليه وكاد يذهب بنشاطه وسعيه، ولكنه تذكر إساءة أبي مسلم إليه، ورأى أنه مطالب أيضا بالانتقام لشيبان وسائر الخوارج؛ وهم يرون السلطة لا تجوز لأحد، فإذا تمكن من إفساد أمر بني العباس فقد خدم المبدأ الأصلي عندهم، وعلى هذا يحل له قتل كل ذي سلطان يدعي الخلافة، ومهما أكثر من قتل هؤلاء، فذلك معدود عنده من الحسنات! ووجد نفسه بين جماعات، كل منهم يدعي الخلافة لنفسه: الأمويون والعباسيون والعلويون، وكلهم في اعتبار الخوارج لا يليقون للخلافة؛ فأيهم استطاع قتله أو أفسد أمره فقد خدم به مصلحة أصحابه. «وما زال صالح يواصل السير هو وسليمان حتى وصلا إلى دمشق، فنزلا خارجها ... وقضى صالح أياما وهو يدرس أحوالها.»
وما زالا سائرين مسرعين حتى وصلا إلى دمشق فنزلا خارجها، وقضى صالح أياما وهو يدرس أحوالها، وترك سليمان هناك وسار إلى الحميمة، فتحقق من وجود بني العباس وفيهم إبراهيم الإمام، ثم عاد واحتال الحيلة التي ذكرناها لتنطلي حيلته على مروان بغير أن يعرفه، أو يبحث عن قبيلته أو اسمه أو غير ذلك، فلما خرج من عند مروان في تلك الليلة سار توا إلى خارج المدينة؛ حيث التقى بسليمان الحلبي، وبدل ثيابه فلبس العمامة والجبة مثل سائر أهل الشام وتظاهر بالتقوى، وأمر سليمان أن يسير في أثره كأنه خادم له، وأوصاه وصايا تنفعه في المهمة التي يهمان بالقيام بها. وذلك أنه قصد البلقاء مسرعا حتى وصل إلى الحميمة على جمله، وسليمان على جمل آخر في أثره، فلما وصل إلى الحميمة نزل في خان وتظاهر بالتقوى والولاية، وأشاع خادمه سليمان أنهما قادمان من الحجاز في مهمة لرجل سيكون له شأن عظيم اسمه إبراهيم، فلما سمع أهل الحميمة ذلك خشي الذين يعرفون صاحب الدعوة من صالح؛ لئلا يكون قادما بدسيسة، فأنكروا وجود هذا الاسم. وكان بعضهم يجتمعون إليه في الخان يتجسسون ما في نفسه بغير أن يخبروه عن منزل الإمام، فكان صالح يتظاهر بالبله ويقول: «تكبدت مشقة السفر من الحجاز إلى الشام لأرى الإمام وتمنعونني عنه، وأنا إنما جئت لأنبئه بهاتف أخبرني أن حياته في خطر قريب حتى يحترس.» ولم يقل صالح ذلك إلا حينما تحقق قرب وصول رجال مروان بحيث لم يعد في إمكانهم الفرار من أيديهم، فلما بلغ الإمام قوله أرسل إليه أخاه أبا العباس متنكرا كأنه أحد أهل المحلة، فقدم إلى الخان وسمع أقوال صالح من فمه، فلم يهتم بها؛ إذ لم يثبت عندهم أنه من أهل الكرامة.
ولم يمض على ذلك يومان حتى جاءت جنود مروان بغتة، فأحاطوا بالمحلة حتى دلهم بعض أهلها على دار بني العباس، وهم كثيرون، فقاوموا الجند حتى كادت تكون مذبحة، فقال رئيس تلك الشرذمة: «إن أمير المؤمنين يطلب أحدكم الذى يسمى إبراهيم، ولا خوف عليه ولا بأس عليكم جميعا، فسلموه إلينا بلا قتال. أما إذا اضطررتمونا للقتال، حل لنا أخذكم جميعا.»
فتذكر أبو العباس كلام صالح وتبين له صدقه، ولكن لم يعد عندهم حيلة للنجاة، فتشاوروا فيما بينهم سرا، فاستقر رأيهم على تسليم الإمام إبراهيم فسلموه. وكان إخوته ثلاثة: أبا العباس، وأبا جعفر المنصور، وعبد الوهاب، فتحقق إبراهيم أنه مقتول، فأوصى بالخلافة بعده إلى أبي العباس، وأمرهم أن ينتقلوا إلى الكوفة وفيها شيعتهم.
الفصل الثالث والستون
Unknown page