فحمل مروان قوله هذا أيضا على البله؛ لاعتزال أولئك الزهاد عن الناس، وانقطاعهم للعبادة آناء الليل وأطراف النهار في مغارة لا يرون فيها أنيسا ولا يعاشرون غير الدواب، فقال له: «اذهب في حراسة الله، واعلم أن بابنا لا يغلق عنك ليلا ولا نهارا، فإذا رأيت رؤيا فتقدم بها إلينا.» وأمر الحاجب أن يطلق سبيله، وأوصاه ألا يذكر خبره لأحد. فخرج مهرولا وخطواته واسعة وهو ينظر إلى السماء، وعاد مروان إلى مجلسه وقد اشتغل خاطره بما سمعه من قول ذلك الناسك، ولم يتمالك أن بعث إلى أحد الخاصة من أهل ثقته، وزعم أنه رأى رؤيا دلته على محل الإمام إبراهيم، وروى له ما قال الشيخ، فقال الرجل: «لا ريب إنها رؤيا صحيحة؛ لأن الحميمة في البلقاء، وفيها أناس من الشيعة، فابعث إليها من يقبض على الرجل الذي اسمه إبراهيم، فإنه الإمام المطلوب.»
فكتب مروان إلى عامله على البلقاء أن يذهب إلى الحميمة، فيقبض على رجل من العباسيين اسمه إبراهيم، وذكر له صفته.
الفصل الستون
معسكر أبي سلمة
وأما الناسك، وهو صالح أو الضحاك، فكان قد رافق جلنار ورفاقها إلى الكوفة وسأل عن منزل أبي سلمة الخلال، فأخبروه أن له معسكرا خاصا في محلة حمام أعين خارج الكوفة، وهو هناك بحاشيته ورجال بطانته كأنه دولة قائمة بنفسها، وأهل الكوفة يراعون خاطره ويخشون نفوذه، وبخاصة بعد قيامه بالدعوة العلوية، فإنه كان يبذل الأموال الطائلة في سبيلها، فلما تحولت إلى العباسيين وقام بها أبو مسلم لم ير بدا من مسايرته، فظل على البذل والعطاء وفي خاطره شيء لم يبح به لأحد؛ خوفا على نفسه من غائلة القتل، ولا سيما بعد أن بلغته وصية الإمام : «من اتهمته فاقتله.» وكأنه كان يتوقع فشل أبي مسلم في دعوة إبراهيم، فيعود هو إلى الدعوة العلوية؛ إذ تكون السبل قد مهدت لها على أهون سبيل. على أن تظاهره بدعوة بني العباس لم يكن ليخفي ما في نفسه على دهاة القواد والشيعة من أهل الكوفة، ولكنهم كانوا يسايرونه أيضا ليستدروا أمواله في سبيل نصرتهم.
فلما وصل صالح بمن معه إلى الكوفة وعلم أن أبا سلمة معسكر في حمام أعين جاء بهم إليه، وحطوا رحالهم ونصبوا خيامهم خارج المحلة يظهرون الإقامة مؤقتا للاستراحة، وذهب صالح وريحانة حتى أتيا المعسكر فطلبا مقابلة أبي سلمة، فأدخلوهما إلى فسطاط كبير مبطن بالحرير الأحمر ببابه الحراس، ومظاهر الثروة بادية على رياشه وأساطينه. وكان صالح بملابس أهل خراسان فدخل وحيا، ولم يكن في مجلس أبي سلمة وقتئذ أحد سواه، فرحب به وسأله عن غرضه، فاغتنم تلك الخلوة وقال: «هل يعيرني مولاي إصغاء قليلا؟»
فال: «نعم.»
قال صالح: «برفقتي جارية، فهل تأذن بدخولها؟»
قال أبو سلمة: «تدخل.» وصفق، فجاء غلام فأمره أن يدخل الجارية الواقفة بالباب، فدخلت ريحانة وقد غطت وجهها بالخمار على عادة النساء عندهم، ووقفت متأدبة فدعاها للجلوس فأبت، ولكنها قالت: «أيذكر مولاي أنه رأى هذا الوجه؟» وكشفت عن وجهها.
فلما وقع نظره عليها تذكرها وقال: «ريحانة؟»
Unknown page