فوصل الضحاك إلى قصر الإمارة والناس قد تزاحموا عند بابه، وفيهم الدهاقين والتجار والمشائخ والعلماء والصناع وغيرهم، وقد تزاحمت الأفراس وعلت الضوضاء. فلما رأوا فرسان أبي مسلم عرفوهم من قيافتهم فوسعوا لهم، فترجلوا ودخل اثنان ومعهما الضحاك حتى قطعوا صحن الدار إلى الباب الداخلي الكبير، فرأوا الناس يتسابقون إليه والحرس يوقفونهم، وبالباب حرسي من رجال أبي مسلم، فحالما رأى الرجلين وسع لهما وأدخلهما ومعهما الضحاك.
فلما وقف الضحاك بالباب إذا هو في قاعة واسعة جلس في صدرها أبو مسلم وفوق رأسه راية سوداء، وعليه عمامة سوداء، وثياب سود، وإلى جانبه خالد بن برمك في مثل لباسه وبين يديه اثنا عشر أميرا باللباس الأسود، عرف منهم سليمان بن كثير وطلحة بن رزيق، وعلم أنهم النقباء الاثنا عشر الذين اختارهم الإمام من السبعين نقيبا الذين قاموا بالدعوة العباسية في أوائلها. فلما دخل الضحاك وقع نظر أبي مسلم عليه، فابتسم له وأشار إليه أن يدخل ويجلس على كرسي في بعض جوانب القاعة، فدخل وحده وانصرف الحرسيان، فشاهد في بعض جوانب القاعة وهو داخل ركاما من البرابط والعيدان وآنية الخمر والمزامير؛ تركها الأمويون في ذلك القصر عند فرارهم، فقال الضحاك في نفسه: «تلك آثار الترف الذي يذهب بأهله إلى الدمار.»
وكان أبو مسلم في مفاوضة مع نقبائه، ثم أشار إليهم فتنحوا وجلسوا إلى جانب إلا واحدا هو طلحة بن رزيق النقيب، فظل واقفا بين يدي أبي مسلم وعليه قباء أسود وعمامة سوداء، وأشار إلى صاحب الباب أن يدخل الناس لأخذ البيعة أزواجا، فدخل أولا الفقهاء والعلماء، ثم القواد والكتاب والأعيان والدهاقين وغيرهم، فرآهم الضحاك يدخل أحدهم حتى يقف بين يدي أبي مسلم فيسلم عليه بالإمارة قائلا: «السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته.» ثم ينادي بأعلى صوته ويقول وطلحة يقول معه - وهو نص البيعة: «أبايعكم على كتاب الله، وسنة رسوله محمد
صلى الله عليه وسلم ، والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله، وعليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت الله الحرام، وعلى ألا تسألوا رزقا ولا طعما حتى يبتدئكم به ولاتكم.»
1
فإذا فرغ من نص البيعة وقالها معه طلحة رجع وتقدم سواه. وكانوا يتسابقون إلى ذلك وأمارات البشر على وجوههم، فتعجب الضحاك من ذلك وتنغص في سره لما رآه من ترحاب أهل مرو بالخراسانيين، وأصبح على يقين أن صاحبه شيبان لا يستطيع دخولها بعد ذلك إلا باتحاده مع أبي مسلم، وهذا لا يكون إلا بقتل ابن الكرماني.
مضى معظم النهار في أخذ البيعة ثم وقف أبو مسلم وأشار إلى طلحة أن يأخذ البيعة عنه بين يدي خالد بن برمك، وتنحى إلى بعض الغرف وأومأ إلى الضحاك فتبعه. فلما خلوا قال أبو مسلم: «لقد ساءني ما أصابك من التأخير بسبب جهل أحد رجالي، وقد كنت عازما على الانتقام منه بين يديك لو لم يتفق لنا ما يسرنا في هذا النهار على غير انتظار ... ولعلك تستغرب فتح هذه المدينة بمثل هذه السرعة على حين أنني كنت عازما على التأجيل بضعة أيام؛ ريثما نتم اتفاقنا مع الأمير شيبان كما افترقنا بالأمس، ولكن سنحت لي في هذا الصباح فرصة خفت ضياعها فاغتنمتها، وقد نجحت فيها.» قال ذلك وتنحنح وتشاغل بقبض ذقنه.
وكان الضحاك جالسا على ركبتيه احتراما لأبي مسلم، ومع ما آنسه من انعطافه وإقباله نحوه في أثناء الحديث، فإن هيبته ما زالت غالبة عليه، ولكنه كان يظهر إصغاءه واهتمامه بمراعاة حركة فمه؛ لأنه لم يكن يستطيع التفرس في عينيه لحدتهما، ولما ينبعث من نورهما الباهر وقوتهما الغالبة على الأبصار والعقول. فلما تشاغل أبو مسلم بالنحنحة أظهر الضحاك رغبته في استتمام الحديث، فقال أبو مسلم: «أما سبب هذه العجلة، فإن ابن الكرماني بعث إلي في صباح هذا اليوم بعد ذهابك مع رسول مستعجل يقول لي: «لقد آن فتح مرو فادخل أنت ورجالك من ناحية، وأدخل أنا ورجالي من ناحية أخرى، فنستلم المدينة على أهون سبيل.» فظننته يقول ذلك مخادعة، فبعثت إليه: «لست آمن أن تجتمع يدك ويد نصر بن سيار على محاربتي، ولكن ادخل أنت فانشب الحرب مع أصحاب نصر، ثم أدخل أنا.» وقلت في نفسي: «إذا كان قد فعل ذلك حيلة فلا يطيعني، وإلا فليكن الخطر عليه.» فنهض برجاله وأنشب الحرب، فأرسلت أنا بعض رجالي دخلوا المدينة من ناحية أخرى، ففتح علينا، فدخلت هذا القصر وأمرت ابن الكرماني ورجاله بالخروج منها إلى معسكرهم؛ لكي نتمكن من مشروعنا الذي تعلمه.»
فذهل الضحاك لشدة ذلك الرجل ودهائه، ونسي ما كان يتكلفه من الضحك في أثناء تماجنه، ثم انتبه لذلك وخاف أن يشك أبو مسلم في شأنه فتضاحك وقال: «إن المشروع - يا مولاي - عظيم الأهمية، فهل أنت مصر عليه؟»
قال: «أين كتابي إلى شيبان؟»
Unknown page