تمهيد‏

1 - غربة في الوطن‏

2 - عناق خطوط الطول‏

3 - وطن في الغربة‏

4 - هكذا تكلم عبد الله‏

5 - هكذا يريدوننا‏

6 - حوار مع عادل قرشولي‏

7 - هكذا تكلم عبد الله‏

8 - قصائد مختارة‏

قائمة بأهم مؤلفات الشاعر ومترجماته‏

تمهيد‏

1 - غربة في الوطن‏

2 - عناق خطوط الطول‏

3 - وطن في الغربة‏

4 - هكذا تكلم عبد الله‏

5 - هكذا يريدوننا‏

6 - حوار مع عادل قرشولي‏

7 - هكذا تكلم عبد الله‏

8 - قصائد مختارة‏

قائمة بأهم مؤلفات الشاعر ومترجماته‏

الزيتونة والسنديانة

الزيتونة والسنديانة

مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا

تكلم عبد الله

تأليف

عبد الغفار مكاوي

تمهيد

(أ) زيتونة وسنديانة.

ربما كانت هذه الاستعارة هي أصدق وصف لحياة «عادل سليمان قرشولي»، وإنجازه الأدبي والثقافي، ورسالته التي كرس لها جهوده ووهبها وجوده، هذا الشاعر السوري الأصل الذي يعيش ويوجد نفسه يعامل ممنعمل ويعلم ويبدع، ويشارك مشاركة فعالة في الحياة الشعرية والثقافية في مدينة «ليبزيج» الألمانية منذ ما يقرب من أربعين عاما متصلة.

إنه شجرة زيتون في دمشق، وشجرة سنديان تضرب جذورها في ليبزيج، والشجرتان اللتان تتعانق أغصانهما وتتشابك في الضلوع، تلقيان ظلالهما الندية فوق مدينتين، وأدبين، ولغتين، وتراثين، وحضارتين، وتقيمان جسور المودة والحوار والتفاهم والتقارب بين شاطئين يبدو للنظرة الضيقة وحدها، كأنما لا يمكن أن يلتقيا أبدا، أو كأن لعنة «كولريدج» المشهورة: «الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا» ستظل تلاحقهما بغير أمل في لقاء أو عناق. (ب) شجرة زيتون في أرض الطفولة، وشجرة سنديان في المهجر.

الأولى تمد جذورها في دمشق، في أعماق الطفولة، والحلم، والذكريات، والشوق.

والثانية تنشر ظلالها في «ليبزيج»، مدينة الكتب، والعلم والفكر، والموسيقى، والهواء الموبوء بدخان المصانع وغبار الفحم.

زوج مختلف مؤتلف معا في وجدان الشاعر الذي ما فتئ - على مدى أربعة عقود من الزمان - يزاوج بين القطبين الأخضرين، ويتسلق الجذعين الراسخين في صميم كيانه، ويبذل كل ما يستطيع لإتمام الزفاف بين الثلج ودفء الشمس، في محاولة دائبة لتحسس الطريق إلى «الآخر»، ورأب الصدع أو الشرخ الذي يباعد بينهما ويعذبه ويمزقه ليل نهار: «آه أيها الشوق، لا تخنق البراعم في الضلوع المتشعبة الغصون.»

والشوق يحمله لشجرة الزيتون العجفاء التي تسخو بالزيتون، وتختزن الشمس في عروقها وتحط على مرساتها الخضراء حمامة نوح، والشوق يحركه أيضا نحو شجرة السنديان التي يتقطر منها المطر المتواصل، وتصنع من أوراقها المتكاثفة سقفا لحبه الكبير.

1

ويبقى البلد البعيد - الذي تستقر فيه وفي أحلامه وذكريات طفولته عنه شجرة الزيتون - وشما على الجبين، تميمة حول الرقبة، نبيذا معتقا في الذاكرة، بل نفسا يتردد في الصدر، وصورة تمسك بها يداه عندما يتوه في أدغال المدن الغريبة، كما يمسك الطفل برداء أمه في زحام البازار.

2

وتناديه أصوات اللهفة والحنين من ذلك البلد البعيد، فيلهث داخل الشبكة الواسعة التي أحكم خيوطها البلد الآخر، وهو يتحسس الطريق إلى حضن الأم. ويظل البلد البعيد هو الوطن الذي تتشبث أشواقه وذكرياته بجذورها الضاربة في حواريه الضيقة، وأزقته المتعرجة وملاعب طفولته وصباه، وأيام شبابه الباكر بأحزانه وأفراحه وكفاحه في سبيل لقيمات خبز تملأ الجوف، ولقيمات من خبز الشعير الذي بدأ ينضج تحت شمسها. ويبقى البلد الأجنبي، الذي جاء إليه بإرادته الحرة وفوق جبينه أحلام خضراء، هو الوطن الذي استطاع - بعد الكد والمرارة، والتحدي والمعاناة في تخطي أسواره الشائكة - أن يرسخ فيه جذوره، ويستظل فيه بنعناعة حبه الذهبية الخضراء، وينتزع الإعجاب والاحترام والاعتراف والتكريم أيضا من الآخر العنيد المتصلب، الذي لم ينجح كل النجاح في تخطي أحكامه وتحيزاته المسبقة ضد الشرقي والعربي بوجه خاص.

مع ذلك يبقى الشرخ داخل الجذور، ويظل الجرح يصرخ من ألم الفصام بين الطرفين المتباعدين. ولا يجد الغريب في بلدين، والمواطن في وطنين في نهاية المطاف من سبيل أمامه إلا أن يسلك طريق «الإنسان الكلي» أو «الأديب الكوني» - إذا صح هذان التعبيران - الذي يثبت جذوره في مركز العالم وقلبه النابض، ويأخذ هذا العالم والإنسانية كلها بين جفونه في الصحو والمنام، ويعلو فوق الشروخ والصدوع والجروح ليطل على «الكل» من فوق شجرته الشعرية، أو على الأقل ليستظل بظلها الوارف وهو قرير العين مرتاح الضمير، بينما لسان حاله يقول: بلداي ووطناي الاثنان، نحن اقترنا بالزواج إلى أن يفصل الموت وحده بيننا، وها أنا ذا الآن هنا، بينكم ومعكم، ولن أتخلى عن نفسي أو عنكم، أو عن بلد جئتها وعلى جبيني أحلام خضراء.

3

وليس معنى هذا الكلام عن «الكل» و«العالم» أن شاعرنا قد أصبح - وبخاصة في إنتاجه المتأخر - كوزموبوليتانيا (مواطنا عالميا) فاقد الجذور، أو إنسانا معلقا في الفراغ كما افترض ابن سينا. إنه يحب «الشجرة التي تسكنها العصافير» - أي السنديانة - في شتاء ليبزيج، مثلما يحب النسمة المنعشة في أمسيات دمشق تحت ظل شجرة الزيتون. ودمشق لا تغيب أبدا عن باله، فهو يحمل على لسانه وفي مسام جسده وروحه طعم طفولته في شوارعها وحاراتها و«غوطتها»، كما يحمل غبار أزقتها الضيقة، المتمسكة بجدائل الجبل الهرم، على نعل حذائه، وهو حين يزورها زيارة قصيرة للمشاركة في ندوة ثقافية أو مهرجان مسرحي يؤرقه ويهتف به الحنين إلى سنديانة ليبزيج التي تقاوم الشتاء، أو إلى النعناعة الخضراء الذهبية التي تنتظر أن تظله بظلها الحنون. وأي غرابة في هذا وهو الذي يتمسك بجذور هويته لا يفرط فيها لحظة، كما يتشبث بالجذور التي مدها في تربة الحضارة المكتسبة واللغة والأدب اللذين وجد فيهما السكن والوطن؟ أليس «الجسر» أيضا - إلى جانب الزيتونة والسنديانة - استعارة معبرة عن معنى حياته، ومغزى إبداعه المتواصل إلى اليوم؟! (ج) أجل، لقد استقر في وعي الشاعر - منذ وطئت قدماه أرض «ليبزيج» في أوائل الستينيات للدراسة بها - استقر فيه أنه وسيط بين ثقافتين، وجسر ممدود بين مدينتين ولغتين وأدبين وعالمين. ربما عذبه هذا الوعي، وما يزال يعذبه، لكنه يتحمل قدره وعبئه بجدارة وكبرياء، كما يتذوق في نفس الوقت بهجته ومتعته الممزوجة في كثير من الأحيان بالألم والعناء. ومنذ أن كتب أول قصيدة «عربية» في حياته وهو في الخامسة عشرة من عمره، حتى كتابته لقصائد «هكذا تكلم عبد الله» (1995م)، ومنذ أن كان أصغر الأعضاء سنا في اتحاد الكتاب العرب بدمشق في منتصف الخمسينيات، إلى أن انتخب رئيسا لفرع اتحاد الكتاب الألمان في محافظة ليبزيج بعد إعلان الوحدة الألمانية بين الشطرين السابقين، ومنذ أن هرب من بلده بعد إغلاق اتحاد الكتاب، وصدور أمر باعتقاله حتى استقراره في ليبزيج سنة 1961م، ثم حصوله على جائزة الفن التي قدمتها له سنة 1985م، وعلى جائزة «أدالبير فون شاميسو» - التي تمنح لأفضل كاتب بالألمانية من أصل أجنبي - من الأكاديمية البافارية للفنون الجميلة (1992م)، منذ هذه المحطات الفاصلة بين عهدين ومفرقي طرق حاسمين، وحياة الشاعر - الذي دخل العقد السابع من عمره قبل خمس سنوات - تسير على إيقاعها المألوف الغني بالصدق والإخلاص والرضا بالإنجاز المتحقق، والأمل في المزيد من الجهد لاستكمال بناء الجسور، التي يكافح منذ الستينيات لمدها بين الشاطئين. صحيح أن هذه الحياة لم تخل أبدا من التوتر الذي يعانيه كل من يعيش على الحدود الفاصلة بين عالمين، بل يعيش في الصدع أو الجرح الفاصل بين حدودهما، لكن هذه التجربة الأساسية هي مصدر وحيه، ومنبع عذابه وسعادته أيضا، وهي التي جعلته يصف نفسه أحيانا بأنه زيتونة وسنديانة متعانقتان في ضلوعه، وأحيانا أخرى بأنه جسر «يتحرك تحت نور الحب، ويمتد من خط طول إلى خط طول»،

4

وأحيانا ثالثة بأنه كالراقص على الحبل بين هنا وهناك، بين هذا وذاك ولا هذا ولا ذاك، بين وطن عانى فيه الغربة، وغربة وجد فيها وطنا، أو بالأحرى موطنا للغريب. (د) من الشعراء من يكتب الشعر، ومنهم من يكتبهم الشعر. وإذا كان عبقري الشعر الفرنسي رامبو يقول: «أنا لا أكتب، وإنما أكتب (بصيغة المبني للمجهول).» وكان عبقري الشعر الإيطالي «أنجاريتي» قد نشر أعماله الشعرية والنثرية الكاملة، تحت هذا العنوان الدال: «حياة إنسان». فإلى أي حد يمكن أن نلتمس سيرة حياة الشعراء بين سطور قصائدهم؟ هل يمكن ببساطة أن نتتبع حياة الشاعر من تتبعنا لمراحل تطور شعره بالعربية والألمانية؟

5

الأمر بطبيعة الحال أعقد مما نقول ونتصور، والفن - والشعر بوجه خاص - من الرهافة والدقة والصعوبة والخفاء، بحيث يتعذر أن يكون مجرد مرآة عاكسة لحياة صاحبها بصورة مباشرة، ومع ذلك فقد اعتمدت في هذا الكتاب، الذي أعتبره مجرد مدخل متواضع إلى حياة عادل قرشولي وشعره، اعتمدت في المقام الأول على شعره المكتوب بالألمانية، واستقرأت من نصوصه مراحل تطور فكره واتساع آفاق رؤيته وشمول نظرته - لا سيما في آخر دواوينه - إلى ماهية الشعر والعالم والإنسان، وكذلك ماهية «الرسالة أو المهمة» التي حمل عبئها، كما سبق أن قلت، بجدارة وكبرياء، ولذة ومتعة لم تنج من التوتر والقلق والعذاب، لتصل في النهاية - وهذا هو حدسي ورجائي - إلى الطمأنينة والرضا بالتحقق والنضوج.

لقد بدأ في كتابة شعره بالألمانية في مطلع الستينيات، بعد رحلة مضنية وشاقة في بحور اللغة الألمانية، وتعمق لا نظير له في دروب أدبها السفلية والعلوية، وفي نصوص أدبائها وشعرائها القدامى والمحدثين والمعاصرين. أحس منذ أن بدأ دراسته في ليبزيج أنه دخل معركة تحد وإثبات للذات الفردية والجماعية، وأن عليه أن يكسبها وينتصر فيها مهما كان الثمن، كما شعر، منذ ذلك الحين، بأنه قد فقد ظله الذي لازمه منذ مولده عندما فقد المخاطب العربي الذي كان يتوجه إليه بشعره، واكتشف أن فقدان اللغة معناه أن يعيش بغير ظل ولا هوية. ولكيلا تصل أزمة الهوية إلى أقصى حدودها، وجد نفسه مضطرا للكتابة باللغة التي يتكلم بها الناس، وتنطق بها الأحداث الجارية من حوله، أي وجد نفسه أمام أحد اختيارين لا بديل عنهما:

إما أن يغرس جذرا في اللغة والثقافة المكتسبة والجديدة عليه، وإما أن يدفن نفسه في قبر الصمت. واختار الأول بطبيعة الحال حتى يؤكد لنفسه أنه لم يفقد ظله ولا هويته؛ أي إنه حي وفعال ومشارك. وبعد أن خاطب الآخر بلغته، وانتزع منه الاعتراف والإعجاب، بل والانبهار بشعره الذي قدمه وقرأه عليه في البداية (وتمثله قصائد مجموعته الأولى «كحرير من دمشق» التي ترجمت في معظمها عن قصائد عربية أو بمعنى أدق أعيد إبداعها في الألمانية بمساعدة بعض أصدقائه من الشعراء المقربين إليه)، بعد ذلك لم يشعر بالارتياح لذلك الإعجاب والانبهار، وتأكد له أنه يرجع بالدرجة الأولى إلى الصور والأخيلة المنسوجة بخيوط عربية أو شرقية؛ أي إنه يختزل إلى ما هو عجيب وغريب ومثير وطريف . وكان أن تحول بعد ذلك إلى التعبير بنفسه عن نفسه، والتخلص من تأثير من تأثر بهم في تلك المرحلة من شعراء كلاسيكيين أو معاصرين، وبالأخص بريشت، أو من خاصة أصدقائه الذين جذبوه معهم إلى موجة الشعر الجديد، أو الموجة السكسونية في مطالع الستينيات، وكانوا من روادها وفرسانها الجسورين.

6

والكتاب يتابع هذه التحولات بقدر الطاقة من خلال النصوص الشعرية نفسها، ويرصد اتجاه القصيدة إلى مخاطبة الذات ومناجاتها، بعد استبعاد المخاطب القديم، وتجاوز التحدي والصراع المرير مع الآخر، ومع ظروف الحياة اليومية المحبطة، وذلك في إطار رؤية يمكن - إذا صح التعبير - أن توصف بأنها رؤية صوفية أرضية، وربما استطعنا أن نقول باختصار: إن القصيدة في مرحلتها الأخيرة قد تخلت عن طابع الدعوة والنداء والتبشير الذي ميز عددا كبيرا منها في البداية (مع الإيمان الراسخ للشاعر ولجيله، سواء في عالمنا العربي أو في قسم كبير من العالم الغربي في الستينيات بأن الكلمة فعل، وأن كلمة الشاعر يمكن وينبغي أن تغير العالم) كما تخلت عن جدليتها المعرفية إلى جدلية الصورة التي أضافت الجمالية إلى العقلانية. ونستطيع أن نقول على الإجمال إن هذا الشعر في تحولاته المختلفة قد حافظ على طابعه الجدلي، بل إن صورة المثلث الجدلي المشهور تكاد تغريني بتطبيقها على تطوره المتصل؛ فالضلع الأول من هذا المثلث الشعري يقدم الموضوع الممتلئ بالحنين للوطن وبتجارب الغربة المؤلمة (كحرير من دمشق)، والضلع الثاني يقدم الموضوع ونقيضه في صراعهما وتوترهما بين ضدين أو نقيضين يمثلان عالمين وثقافتين، كما يصور عذاب الذات الشاعرة ومحاولاتها الدائبة لنصب الجسور بينهما (عناق خطوط الطول، وطن في الغربة)، أما في المرحلة الثالثة والأخيرة فيتخلق مركب جديد يصالح بين الضدين من خلال الروح الفلسفية والرؤية التأملية والصوفية، التي لا نبالغ إذا قلنا إنها وصلت إلى جوهر الشعر أو الشعر الخالص، أو روح الشعر التي لا تخضع للمقاييس التقليدية، ولا تندرج تحت الأطر الفنية المعتادة؛ لأن الشاعر هنا لا يصدر إلا عن ذاته، ولا يتجه إلا إلى ذاته، ولأنه يتدفق من نبع داخلي خاص وكلي في الوقت نفسه، فيلتقي بالإنسان في كل مكان وزمان

7 (راجع قصائد «هكذا تكلم عبد الله» التي تجدها بين يديك في هذا الكتاب). (ه) لم يقتصر إبداع عادل قرشولي على الشعر الذي عاش له، واحتل نقطة المركز من دائرة حياته وعطائه. فهو كاتب مقال سياسي، وناقد أدبي، وباحث مسرحي معروف بدراساته عن مسرح بريشت بخاصة وآفاق تلقيه في العالم العربي، ومحاور قدير تتسم محاوراته التي يزخر بها العديد من الصحف والمجلات الألمانية والعربية بالموضوعية والدقة والعمق، ومترجم أمين، من اللغتين وإليهما، لعدد كبير من المسرحيات والقصائد لكتاب وشعراء معاصرين ومرموقين، فضلا عن همه واهتمامه الدائم بالأحداث والقضايا العربية، ومبادرته لتعرية الخداع والتزييف الإعلامي الذي أحاط وما يزال يحيط ب «سيناريو» حرب الخليج والعدوان المتجدد لدولة الإرهاب الإسرائيلية على الفلسطينيين والعرب، وموجات العداء للأجانب في ألمانيا، ودفاعه عن الحق والحقيقة في مواجهة الأحكام المغرضة والتحيزات المسبقة التي تروجها أجهزة إعلامية كاسحة ومتآمرة وموجهة ضد العرب والمسلمين بوجه عام (راجع الفصل الأخير من هذا الكتاب). ولما كانت القائمة المختصرة بأهم مؤلفاته ودراساته الواردة في ختام الكتاب ستلقي بعض الضوء على هذه الجهود المتميزة والمشرفة، فلا بأس من ذكر طرف منها في هذا التمهيد السريع.

نشر الشاعر حتى الآن ديوانين بالعربية (موال في الغربة 1967م، والخروج من الذات الأحادية 1985م)، وخمسة دواوين بالألمانية (كحرير من دمشق 1968م، وعناق خطوط الطول 1978م، وموطن في الغربة 1984م، ولو لم تكن دمشق - ويضم مختارات من دواوينه السابقة - 1992-1993م، وهكذا تكلم عبد الله 1995م). والجدير بالذكر أن بعض قصائده المختارة قد نشرت مع قصائد لكبار الشعراء من ألمانيا الشرقية السابقة، في أكثر من خمس عشرة مجموعة منتخبة (أو أنثولوجيا)، أصدرتها دور نشر ألمانية مختلفة قبل الوحدة وبعدها، بجانب مجموعة أخرى منتخبة من الشعر الألماني المعاصر ظهرت بالإنجليزية في عددي شهري أكتوبر ونوفمبر سنة 1998م، من مجلة شعر الأمريكية.

8

أما عن ترجمة الشعر، فقد نقل إلى الألمانية عددا كبيرا من القصائد - التي لم يبلغ إلى علمي أنها نشرت في كتاب - لمجموعة من الشعراء العرب المتميزين؛ من أهمهم: أدونيس، ومحمود درويش، وسميح القاسم وغيرهم، كما ترجم إلى العربية قصائد رائعة لأستاذه وراعيه جورج ماورر، نشرها مع مقدمة طويلة عن شخص «ماورر» وشعره، تحت عنوان إحدى القصائد الملحمية المطولة للشاعر «ما هو خاص بنا» (1981م)، كما نقل إلى العربية أيضا مجموعة من قصائد بعض أصدقائه وزملائه في الدراسة - ولم يبلغ إلى علمي أيضا أنها نشرت في كتاب - ومن أهمهم: صديقه الشاعر «فولكر براون»، الذي نقل له كذلك إلى العربية مسرحيته الشعرية «تشي جيفارا أو مدينة الشمس» 1986م.

ونأتي إلى حقل المسرح ودراساته وترجماته فيه، فنذكر في البداية أن أطروحته الجامعية للدكتوراه - التي حصل عليها في سنة 1970م - كانت عن مسرحية «بريشت» التعليمية «الاستثناء والقاعدة» وصور استقبالها أو تلقيها في العالم العربي، مع مناقشة للجوانب المختلفة من سوء الفهم، وسوء التفسير لمنهج «بريشت» ونظريته عن المسرح الملحمي (أو بالأحرى السردي)، وقد شاءت الصدفة التاريخية وحدها أن يكون كاتب هذه السطور هو أول من ترجم إلى العربية نصا مسرحيا لبريشت (وإن كان قد سبقه غيره إلى الكتابة عن بريشت، راجع مقدمة الطبعة الثانية لكتابي «قصائد من بريشت»، القاهرة، دار شرقيات، 1999م). وأن يكون هذا النص الأول هو تلك المسرحية نفسها التي نقلتها - قبل أن يتاح لي التعمق في الألمانية - عن الفرنسية، ونشرت في مجلة «الهدف» سنة 1957م، قبل أن تصدر مع مسرحيته الأخرى التعليمية «محاكمة لوكوللوس» سنة 1966م عن سلسلة المسرح العالمي التي كانت تصدر في القاهرة. ومع أنه لم يقدر لي الاطلاع على هذه الأطروحة، فقد عرفت لأول مرة من فم الشاعر نفسه - عندما تشرفت بلقائه وصحبته في القاهرة في شهري يناير وفبراير من هذا العام - أن ترجمتي المتواضعة لم تكن هي الترجمة العربية الوحيدة، ولا كانت كذلك ترجماتي التالية لعدد كبير من قصائد «بريشت» ومسرحياته الطويلة والقصيرة. والأهم من كل هذا أن الشاعر قد توفر بعد ذلك على دراسة الموضوع نفسه، وتوسع فيه، حتى أصدر بحثه الهام بالألمانية عن «بريشت» في المنظور العربي، وهو الذي نشره له مركز دراسات بريشت في برلين سنة 1982م، كما ترجم إلى العربية في نفس الوقت على وجه التقريب أربع مسرحيات للكاتب والشاعر الشهير، وهي: «أوبرا، ازدهار، وانهيار مدينة مهاجوني» (التي شاءت الصدفة - مرة أخرى ودون علم مني بسبق ترجمتها - أن ترجمتها ترجمة شعرية في سنة 1990م، وأن تصدر قبل عامين ضمن مطبوعات المشروع القومي للترجمة عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة)، و«قائل نعم وقائل لا»،

9

و«دانزين»، و«ثمن الحديد».

وقد أجرى الشاعر مجموعة من الحوارات الهامة والشاملة عن بريشت، والبريشتية، والمسرح الملحمي وبريشت في المرآة العربية في عدد من المجلات العربية المخصصة للثقافة المسرحية مثل: مجلة الحياة المسرحية (السورية، 1980-1981م)، ومجلة فضاءات مسرحية (التونسية، 1986م)، والعالم الثقافي (المغربية، 1994م)، وذلك مع السيد مصطفى عبود، والسيدة خيرة الشيباني، والدكتور عبد الرحمن بن زيدان.

ويطيب لي أخيرا أن أذكر أن الشاعر قد ترجم إلى الألمانية - بالاشتراك مع زوجته المستعربة الفاضلة السيدة ريجينا قرشولي - مجموعة من المسرحيات العربية، لنخبة من الكتاب والشعراء العرب، وهي مجموعة نتمنى أن تظهر في أقرب وقت في سوق الكتاب الألماني، وفوق خشبة المسارح في المدن الأوروبية المختلفة، وهذه هي المسرحيات مع تواريخ ترجمتها: رأس المملوك جابر، لسعد الله ونوس (1973م)، وعلي جناح التبريزي وتابعه قفة، لألفريد فرج (1976م)، والمفتاح ليوسف العاني، والعصافير تبني أعشاشها بين الأصابع، لمعين بسيسو (1979م)، ومؤسسة الجنون، لسميح القاسم (1979م)، وديوان الزنج، لعز الدين المدني، والرفيق سمعان، لجلال خوري، وأهل الكهف 74، لمحمود دياب، وعلى رصيف المقاومة، لحمدة خميس (1979م).

ولا بد من القول في الختام: إن محاوراته ومساهماته بالخطب والمقالات والدراسات، في الصحف والمجلات والحوليات والمؤتمرات والكتب والإصدارات التذكارية - لا سيما عن بريشت وجورج ماورر - أكثر من أن تحصى، ومن شاء أن يطلع على البيبليوجرافيا الوافية، حتى سنة 1999م، عن مؤلفاته وترجماته ومقالاته وحواراته، فليرجع إلى الأطروحة الجامعية التي كتبتها عن حياته وأعماله السيدة «فريدريكه هيندلر»، وقدمتها إلى جامعة دريسدن (من ص89-105). ويشرفني أن أشيد بفضلها ، وأن أقول إنني قد أفدت منها فائدة لا تقدر، وذلك بصرف النظر عن اهتمامها الأساسي بالظروف الاجتماعية والسياسية التي عاش الشاعر في ظلها وبعدها - إلا فيما ندر - عن تحليل النصوص وتفسيرها.

10 (و) رأينا كيف كافح عادل قرشولي طوال العقود الثلاثة التي سبقت قيام الوحدة الألمانية في سبيل أن يغرس جذوره، ويمد جسوره في اللغة والأدب والثقافة الجديدة عليه، بحيث أصبحت وطنه وسكنه، وشعر وهو يشارك فيها ويبدع بها أنه يعيش في بيته. لم يخطر على باله أبدا أن ينسب إبداعه إلى الأدب الذي يسمى بأدب المهاجرين أو اللاجئين أو أدب العمال الأجانب. فلما تحققت الوحدة بين الشطرين، وبدأ البحث العلمي في الاهتمام الجاد بأدب المهاجرين، نشب الخلاف حول إنتاجه: هل ينتمي إلى هذا الأدب الأخير كما رأى معظم النقاد والباحثين من ألمانيا الغربية، أم هو جزء لا يتجزأ من الأدب الألماني الذي نشأ في ظل الحكم الاشتراكي في ألمانيا الديمقراطية السابقة؟ وأثار موقف أولئك الباحثين غضب الشاعر وسخطه، إذ وجد أنهم لم يهتموا إلا بجانب واحد من إنتاجه الشديد التنوع، وأنهم أغفلوا الاعتراف به، والحفاوة التي لقيها في ألمانيا الشرقية السابقة كشاعر وعضو فعال في اتحاد الكتاب بها، منذ الثمانينيات، إغفالا تاما، مع أنه لم يصنف نفسه ولا صنفه أي ناقد في تلك الفترة الطويلة داخل دائرة أدب المهاجرين أو أدب الأجانب، كما أنه اعتبر نفسه واعتبره الجميع عضوا بارزا في جسد الحركة الشعرية والنقدية في ذلك البلد الذي سمى نفسه «البلد الأفضل». ولا يقلل من هذه الأهمية أن أصله الأجنبي قد لعب دورا لا يستهان به في إنتاجه الشعري الذي يدور حول الغربة في الوطن أو حول الوطن في الغربة، وأن اسمه لم يذكر مرة واحدة - كما تقول الباحثة السابقة الذكر في أطروحتها (ص121) - في أي معجم أدبي أو تاريخي للأدب القومي نشر في ذلك البلد الأفضل.

والواقع أن تصنيف الأديب و«إدراجه» في خانة محددة لا يخرج عنها لا يمكن أن يجلب معه إلا الظلم له ولأدبه. وأحسب أن الحقيقة التاريخية والموضوعية تقول بأفصح لسان وأوضح بيان: إن المعول في كل الأحوال على قيمة الأدب نفسه بما هو أدب؛ فالأدب هو الأدب. والأدب الجيد هو الذي يبقى، ولا ضير عليه أن يوصف بأنه أدب أجانب أو بأنه جزء من الأدب القومي. وأعتقد أن هذا يصدق على كتابات عدد لا حصر له من المهاجرين الأجانب، بلغات أخرى ليست هي لغتهم الأم، لا سيما باللغتين الفرنسية والإنجليزية. وأعتقد أيضا أن إعجاب القراء بالشعر الذي نشر له، وأعيد طبعه أكثر من مرة في مدينة ميونيخ بعد إتمام الوحدة الألمانية «مثل ديوانيه: لو لم تكن دمشق (1992م)، وهكذا تكلم عبد الله (1995م)، اللذين أصدرتهما دار نشر أكسيون آيس» هو الدليل الواضح على الاهتمام بالشعر الصادق في ذاته، بغض النظر عن اسم صاحبه، أو اسم البلد، أو خط الطول الذي جاء منه. •••

لقد ظل زملاؤه وأصدقاؤه في فرع اتحاد الكتاب بمنطقة ليبزيج - طوال العقود الثلاثة السابقة لقيام الوحدة الألمانية - يعتبرونه واحدا منهم. ولم يكن تعبيره الشعري - بصوره الشرقية والعربية المذهلة - هو وحده مصدر إعجابهم به، بل إيمانه القوي الصادق بالتكامل الإنساني والوحدة الجوهرية التي تجمع شتى الثقافات والحضارات والبشر، إلى جانب اعتزازه بأنه مواطن في ثقافتين وحضارتين، وتمسكه الدائم بهويته السورية والعربية. وعندي أن إنتاجه الشعري والنثري بالألمانية هو جزء لا يتجزأ من مجموع الإنتاج الأدبي في ألمانيا الشرقية السابقة، بشرط أن نفهم من هذا أنه ينتمي لأدب الناقدين والمحتجين، لا أدب المجارين والممالئين الذين يؤثرون السلامة، فيصمتون أو يقولون آمين (راجع الفصل الثاني من هذا الكتاب). (ز) تنوعت ألوان التكريم وصور الثناء على إبداع شاعرنا، ودوره الأدبي والثقافي بوصفه «وسيطا» وبناء للجسور. ويكفي أن نتذكر التقرير الذي كتبه راعيه الطيب «ماورر» في مطالع الستينيات عن شعره المبكر، وقال فيه: «إن لغته غنية بالصور المذهلة التي تشبه باقة زهور طازجة، قطفت من فورها.»

ويمكننا أن نذكر عشرات التعليقات النقدية على دواوينه وبحوثه، والإشكالات المرتبطة بحياته وإنتاجه (كالكتابة بلغتين والانتماء لثقافتين وتراثين)، بالإضافة إلى «الوثائق» المتعلقة بحصوله على جائزة الفن التي قدمتها له مدينة ليبزيج في سنة 1985م، وجائزة «أدالبير فون شاميسو» التي منحتها له الأكاديمية البافارية للفنون (1992م)، وإلى «الشهادات» التي أدلى بها بعض أصدقائه - الذين يعدون اليوم من كبار الشعراء - سواء في تقييمهم لأحد كتبه، أو غداة ترشيحه لعضوية فرع اتحاد الكتاب الألمان في محافظة ليبزيج «قبل انتخابه منذ سنتين بالإجماع رئيسا له»، أو لإحدى الجوائز السابقة.

لنقرأ معا هذه السطور من «الوثيقة» التي تليت أمام جمع حاشد من المثقفين، قبل تسليمه الجائزة البافارية في مدينة ميونيخ: «إن شعر - المحتفى به - يجمع بطريقة موفقة وبارعة بين الشرق والغرب في صور مألوفة وغير مألوفة، ومقالاته رؤى نقدية نافذة لعالم يزداد على الدوام اضطرابا، ويهدد فيه الفرد بالضياع. وأعماله تنطق بالكمال الشكلي والغنى الفكري الذي يميز الشاعر الحقيقي، كما تعبر أيضا عن حكمة مواطن عالمي.»

ولعل أروع شهادة قدمت عنه في معرض الحديث عن ديوانه الأخير «هكذا تكلم عبد الله» وبمناسبة عيد ميلاده الستين، هي التي عبر عنها بحب وصدق نادر صديقه الشاعر الشاب توماس بيمه: «إن قرشولي يقول لنا بغير ادعاء، ولكن بإصرار: انظروا كم هي جميلة لغتكم التي أصبحت لغتي، وهو يخجل كل الذين فقدوا ثقتهم بألمانيتهم، ولم يعودوا يستخرجون منها ما تحتوي عليه من غنى وجمال. إن هذا العمل (أي الديوان السابق الذكر) هو صدفة سعيدة للأدب، وهبة من ربات الفن التي لا تمنح رجلا تخطى نصف عمره كل هذه الطاقة الإبداعية، إلا فيما ندر.»

وربما كانت الشهادة التالية التي تهز الوجدان بحق، وتملأ قلب العربي بالغبطة والرضا والفخار، هي تلك التي قدمها له صديقه الصدوق ورفيق رحلته الشعرية منذ أن تزاملا في معهد الأدب الذي سبقت الإشارة إليه، وهو الشاعر فولكر براون في اللؤلؤة الصافية التي تشع أضواؤها وظلالها في هذه الأبيات:

11

شجرة زيتون ودود، ناصعة،

بجانب شجرة السنديان العجفاء

الجذور من مكان بعيد بعيد،

لكن الغصون الكثيفة تتعانق في الريح. •••

أنت، أيها الشاعر، بين الألمان

مواطن في الغربة،

ونحن الألمان نشعر معك

بأننا لم نعد غرباء في الوطن. (ح) ويبقى عادل قرشولي - مع نخبة من أدبائنا العرب الذين يعيشون في لندن وباريس، ويكتبون بالإنجليزية أو الفرنسية - ظاهرة فريدة في المشهر الأدبي والثقافي العام في ألمانيا وأوروبا والعالم العربي. وقد عرضنا في الصفحات السابقة لمشكلة انتماء إنتاجه للأدب الألماني المحلي أو القومي، أو أدب المهاجرين والأجانب، وأجبنا على هذه المشكلة، أو بالأحرى شبه المشكلة؛ بإيماننا الحاسم بأدبية الأدب وإنسانيته وشموله وعالميته. ويبدو أن المسألة لم تحسم بمثل هذه السهولة عند شاعرنا العربي-الألماني؛ إذ جعلته يخوض صراعا طويلا، ويدخل في تحد قاس ومرير ل «الآخر» وثقافته حتى استطاع أن يحقق في ذاته الشعرية والإنسانية ذلك «العناق» الذي عنون به واحدة من أهم دواوينه: «عناق خطوط الطول 1978م»، وأن يجعل من شخصه وشعره جسرا عربيا حيا ممدودا نحو «الآخر العربي» بالمحبة والسلام والمروءة والحقيقة، على الرغم من كل شيء، على الرغم من الحملات الدعائية الضارية، والحصار الإعلامي الغربي الزائف والمزيف ليل نهار، وتسليط ربيبته دولة الإرهاب إسرائيل على إخوتنا وأبنائنا في الأرض السليبة، وعلى وجودنا ومستقبلنا كله.

يقول شاعرنا في أحد الحوارات التي أجريت معه: «كانت الألمانية بالنسبة لي لغة مصطنعة أو مكتسبة، وأنا أميل أحيانا لوصف قراري بكتابة القصائد بالألمانية بأنه كان قرارا طائشا، ومع ذلك فقد كان قرارا قدريا لا مفر منه. لقد عرفت من سيرة حياتي أن دوري هو دور الوسيط. وإذا كان للأدب أن يؤدي دور الوسيط، فلن يمكنه أن يفعل ذلك إلا بالاتجاه من الداخل للخارج، وبالنظر إليه في كليته لا من جهة كونه دعوة أو نداء، أو تحريضا على تبني قضية معينة.» ثم يطل على رحلة حياته وكفاحه ويقلب بين يديه حصادها الناضج، فيقول في حديثه الهام مع السيدة ليلى حوراني (بجريدة السفير، في يوم الجمعة الرابع عشر من شهر يوليو عام 2000م): «أنا شخصيا لم أعد أخاف الآخر؛ لأنني رأيت أنني قبلت بتحديه، وتمكنت على صعيد شخصي من أن أواجهه، بل وأن أكسب هذا التحدي في مجالات كثيرة. إذا عممت تجربتي في هذه المساحة، أقول: ليس علينا أن نخاف الآخر؛ لأنني على ثقة بأن لدينا من التراكمات الإبداعية ما يمكن أن يصمد لعملية التنافس مع الآخر. نعم لو لم يكن إبداعنا محاصرا على كل الأصعدة، لكنا استطعنا أن ندخل بدون خجل ساحة المنافسة العالمية.»

والكلام - كما يقال - لا يحتاج لتعليق. إنه يجسد ويؤكد وجود ذلك «الحاضر/الغائب» الذي لم نكن في يوم من الأيام أشد حاجة إليه منا في هذا الوقت الذي تسحقنا فيه طاحونة تواطؤ الآخر مع ربيبته العدوانية، وتجاهله وصمته المريب، ذلك هو الثقة بأنفسنا. (ط) من طبع الشعراء، والممسوسين بإلهام من ربات الفن ألا يرضوا عن أنفسهم. أحيانا ينظر الواحد منهم وراءه «بغير غضب»، وربما بشيء من الرضا أو الغبطة بنجاح حققه أو إنجاز أتمه. لكن الصوت لا يلبث أن يناديه ويؤرق سكون لياليه حتى آخر نفس في صدره «لا لم تحقق حتى الآن ما كنت تحلم به وتتمناه» هذا شيء طبيعي ومألوف يجربه كل من أصابته لعنة الفن والإبداع، أو بالأحرى نعمته. ومع أن ذلك الصوت لا يتوقف أبدا عن فتح الجروح وكي الجلد والروح، فإنني أعتقد أن من حق شاعرنا - ومن حقنا أيضا معه - أن ينظر إلى الوراء وإلى الإمام - بعد طول المشقة والعناء، وبالرغم من كل العقبات والمرارات - بقدر غير قليل من الطمأنينة والرضا، ومن الامتنان والحمد والعرفان بعد كل شيء. وها هو ذا اليوم يتحسس بيده - أو بيد حكيمه العاقل الملهم عبد الله - نبض الكون الذي يخربه الظلم، ويفترسه التعصب، يصرخ مع المعذبين والمضطهدين، ويهمس مع العشاق والمحبين، وينشر سجادة كلماته على طريق الأمل، ويدق بإصرار على أبواب الحقيقة، منتظرا في صبر وبلا يأس أن يرد عليه صوت واحد، يقول له: ادخل! لو تردد يوما هذا الصوت في سمعه، لو أحس بنبضه يسري في دمه وجلده وعظمه، هل سيكون في الوجود من هو أسعد منه؟ أليست هذه الدعوة إلى رحاب الحقيقة هي الجزاء الأوفى عن ليالي الأرق ، والقبلة الدافئة فوق الجبين المرهق والعيون المتعبة، والبلسم الشافي للجروح التي لا تنفك تفتحها سكين البحث عن مقطع له رنين الإيقاع الحلو، أو عن كلمة يفوح منها عطر الحقيقة والصدق؟ (راجع قصيدة عزاء للذات، من ديوانه «عناق خطوط الطول»، 1978م، ص20.) (ي) وأخيرا يكفيه أن يهتف به نداء الحقيقة قائلا: طوبى لك ولشعرك! أديت وظيفة الفن والفكر والشعر الجوهرية، فكنت خير وسيط عدل ونعم الجسر المشرف. واستطعت - كما يقول صديقك الروائي هيدوتشيك

12 - أن تحمي نفسك من الشرين الخطرين: من التكيف مع ثقافة الآخر إلى حد الذوبان والتشوه وضياع الهوية، ومن التصلب على تراثك الخاص إلى حد التقوقع والتمزق واليأس. إنك استطعت أن تتحدى وتواجه وتصمد، ثم تحلق بجناحي طائرك الشعري، وتشدو بغناء العالم والأرض والإنسان. وبذلك استحقت شجرتك الشعرية أن تكون - كما جاء في فاوست - هي شجرة الحياة الذهبية الخضراء قبل أن تكون شجرة زيتون أو شجرة سنديان. واستحق شخصك وشعرك أن يقفا في نفس الصف الذي تقف فيه «جسور» أخرى مباركة، وسفراء مشرفون لحضارتنا وثقافتنا وكرامتنا وعدالة قضايانا؛ مثل: نجيب محفوظ، وأحمد زويل، ومجدي يعقوب، وفاروق الباز، ومحمد غنيم، ورمزي يسى، وغيرهم من عشرات، وربما مئات، النابغين العرب المنتشرين بأدبهم وعلمهم وفنهم في مدن الآخر وجامعاته ومكتباته، ينتزعون منه الاحترام والتقدير والإعجاب، ويخترقون حواجز التحيز والتعالي والتجاهل التي يتمترس وراءها، في مناطق مهمة، ويفرضون عليه - في غابة عالمنا الذي تدوي فيه طبول القوة ووحوشها - أن يعيد النظر في مواقفه المتجنية علينا، كما اضطر أن يفعل مع بلاد أخرى في الشرق الأقصى، والبعيد استطاعت أن تفرض عليه احترامها. (ك) وأكرر في النهاية أن هذا الكتاب لا يعدو أن يكون مجرد مدخل أولي إلى حياة شاعرنا وإنتاجه الزاخر، ودوره المرموق في مد الجسور والجذور، ومواجهة جدران الجهل والتجاهل والصلف والغرور بما فطرنا عليه من الصبر والتسامح، والشجاعة والحكمة، والثقة التي تشتد حاجتنا إليها اليوم أكثر من أي وقت آخر في تاريخنا القديم والوسيط والحديث. والكتاب في النهاية تحية حب وتقدير وعرفان بقلم واحد من أحباب الشاعر وأصدقائه وعارفي فضله الذين يعيشون في العالم العربي وعلى ضفاف النيل.

القاهرة في أبريل 2001م

عبد الغفار مكاوي

الفصل الأول

غربة في الوطن

(أ) لم يبدأ كتابة الشعر في المهجر أو المنفى أو الموطن الجديد الذي راح يبحث فيه عن وطن؛ فقد عرف في وطنه السوري كشاعر واعد، وصحفي مناضل، وأصغر الأعضاء سنا في اتحاد الكتاب، الذي اتسم في أواخر الخمسينيات بالتوجه الاشتراكي والتقدمي.

رأت عيناه النور في دمشق في اليوم الرابع عشر من شهر أكتوبر، سنة 1936م لأسرة كردية ميسورة الحال، تتألف من الأم والأب صاحب الضيعة - سليمان قره شولي - وسبعة إخوة وأخوات. كان في الخامسة عشرة من عمره، عندما بدأ كتابة الشعر، وكانت أول قصيدة بطبيعة الحال قصيدة حب. وتوالت بالفصحى والعامية السورية قصائده التي نلمس في بعض ما ترجمه منها إلى الألمانية، في أول دواوينه بهذه اللغة، وهو «كحرير من دمشق» 1968م، تأثره الشديد بالتراث الشعبي العربي، وارتباطه القوي بالطبيعة، وموهبته الفطرية في التفكير بالصورة الفنية الموحية، وتشخيص الجمادات والمعنويات: «تحت الصفصاف وفوق الأحجار، يمشي سالم السلمان، جبهته سمراء كالسنبلة الناضجة، يلمع في عينيه فرح الشموس، وصفاء الأقمار يطوف على شفتيه.»

1 (ب) تأكدت له فطرته الشعرية، وتملك الأدب حياته ووجدانه، وبدأ يزوغ من المدرسة ويتردد على المكتبات العامة. وفي كتيب بديع عن رامبو، ربما يكون هو الذي صدر في الخمسينيات في سلسلة «اقرأ»، التي كانت تنشرها دار المعارف عن هذا الصعلوك الفرنسي العبقري، لفت نظره عبارة تقول: «من العبث أن نبلي سراويلنا على مقاعد المدرسة.» وكان أن ترك بالفعل المدرسة الثانوية، وهو ما يزال في الصف السابع، وباع كتب المدرسة؛ ليشتري بثمنها كتبا من روائع الأدب العالمي. بل لقد أسس وهو في السادسة عشرة من عمره مع بعض زملائه التقدميين صحيفة صودرت على الفور بعد ظهور أول أعدادها؛ بسبب هجومها الناري على الحكومة، ثم أخذ يعمل من سنة 1952م حتى سنة 1958م، في صحف سورية مختلفة، ويشرف على برنامج الطلبة في إذاعة دمشق، ويتصل بعدد كبير من أدباء بلاده ومثقفيها اليساريين، ويواصل كتابة قصائده التي نشر بعضها في بيروت والقاهرة، مثل قصيدته عن المجاهدة الجزائرية «جميلة بوحريد»، التي ظهرت في كتاب ضم قصائد أخرى لعدد من كبار الشعراء، مثل عبد الرحمن الشرقاوي، وصلاح عبد الصبور، وفؤاد حداد، وصلاح جاهين ... حتى جاءت أزمة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر (1956م)، فانخرط بشعره في أتون العمل السياسي والوطني الملتهب بالثورة والغضب، والآمال العريضة التي راحت تحلق وسط الدخان والنيران كالحمامات المحترقة.

ولا بد أن والده الذي كان له بمثابة الصديق الأكبر قد حذره في هذه الفترة من حياته من الأمرين معا: من التوجه التقدمي والماركسي، ومن الشعر الذي يحكم منذ الأزل على من يكتبونه بالحياة والموت جوعا. (ج) وتمت الوحدة السيئة الحظ بين مصر وسوريا. وأمر عبد الناصر في سنة 1959م بمصادرة ووقف جميع الأحزاب والتنظيمات الجماهيرية، ومنها اتحاد الكتاب الذي كان الشاعر قد انضم إليه في سنة 1958م. ولم تلبث موجة الاعتقالات أن اتسعت حلقاتها الجهنمية، لتشمل عددا كبيرا من الكتاب والشعراء والمثقفين. ولم يكد الشاعر يسمع عن صدور الأمر باعتقاله، حتى اتخذ أول قرار مهم في حياته، وهو الهرب إلى المنفى:

تكلموا عن الطغاة،

رددت كلامهم،

قالوا: الجوع فظيع،

رددت كلامهم،

كورت قبضتي كالآخرين،

رمقتني عيون الحراس من حارة إلى حارة،

لا، لم تقف أمي في الشرفة،

لم تلوح لي كما تلوح الأمهات في الأفلام،

كانت تغطي شعرها بالطرحة البيضاء الشفافة،

توجهت نحو القبلة وأخذت تصلي،

لم يعانقني أبي كما يعانق الرجال الرجال،

بل أشعل سيجارته في صمت،

نفث غضبه في الدخان في صمت،

وعندما ذهبت لم أكن أعرف أن القبلة التي وشمت بها يديهما،

كانت قبلة موت غريب.

2

بهذه النغمة القاتمة - التي تستحضرها القصيدة المكتوبة مع قصائد أخرى في الثمانينيات - ودع الشاعر وطنه. وربما تلفت قلبه، مذ بعدت عنه طلول دمشق، وبدأ الترحال والتجوال من بيروت إلى ميونيخ إلى برلين الغربية لمدة عامين ثقيلين، طاردته فيهما خناجر الجوع والإهانة، ربما تلفت قلبه إلى شجرة الزيتون الشعرية التي كان قد غرسها في تربة وطنه، وتحتم عليه أن يتركها وراءه. (د) ابحث عن وطن في جنة العمال والفلاحين.

هكذا قال الشاعر الواعد لنفسه، وهو يجرب في بيروت حياة اللاجئ الشريد، ويعاني مرارة القلق والشك والجري وراء لقمة العيش، ويرضى بأي عمل مقابل وجبة الغداء أو العشاء. كان عليه أن يقضي سنتين ما بين بيروت وميونيخ وبرلين الغربية، قبل أن يصل إلى ألمانيا الشرقية السابقة للدراسة والإقامة فيها. رفض الحزب الشيوعي اللبناني أن يسانده في منفاه؛ لأنه لم يكن عضوا فيه (ولن يكون عضوا في أي حزب سياسي علني أو سري)، وساعدته الصدفة وحدها على الحصول على تذكرة سفر مخفضة السعر؛ لحضور معرض الكتاب الشهير في مدينة ليبزيج سنة 1959م، والاتصال بصديق أردني يعمل في إذاعة برلين الشرقية، ووضع قدمه في النهاية على أرض أوروبية.

واستقبل الشاعر استقبالا طيبا من اتحاد الكتاب ببرلين، مما شجعه على طلب اللجوء، وحول إلى معسكر لتجميع اللاجئين في «فورستين فالد»؛ للإقامة به عدة أسابيع، ريثما يبحث طلبه الذي لم يلبث أن فوجئ برفضه بعد أن ثبت للسلطات، أنه لم يكن عضوا في الحزب الشيوعي السوري، وبعد رفض ممثل هذا الحزب في برلين الموافقة على أن يضمنه لديها. وقرروا ترحيله إلى سوريا فأصر على الرفض، وهدد بالانتحار، ثم وافقوا على لجوئه إلى برلين الغربية التي يستطيع منها - قبل إقامة السور الشهير وإغلاق الحدود - أن يتصل بصديقه الوحيد الذي سبق ذكره.

كانت أيامه في المنفى مرة وقاسية، وضاعف من مرارتها وقسوتها أنه يجهل اللغة التي يتكلم بها الناس، وإذا نطق ببعض كلماتها المبتورة عرض نفسه للسخرية، فضلا عن رفضه للقيم والأهداف التي يتصارع عليها الناس في غابة المجتمع الرأسمالي الذي وجد نفسه فيه. وانتقل إلى ميونيخ للعمل على «السير» تسع ساعات كل يوم مقابل أجر لا يقيم الأود. وعانى فظاعة الاغتراب والوحشة والبرد في الغرف والأنفاق غير المكيفة، والبرودة والمهانة التي يتجرعها العمال الغرباء كل يوم، لكنه لم يتوقف عن كتابة قصائده التي سجل فيها تجاربه ونشر بعضها، بعد أن أعاد إبداعها وصياغتها الشعرية بعض أصدقائه كما سنرى بعد قليل، في أول ديوان نشره بالألمانية وهو: «مثل حرير من دمشق». ويكفي أن نطالع هذه السطور من قصيدة جدران، التي لم أتوصل أيضا إلى أصلها العربي:

وحيد أنا،

لا عزاء لي هنا في العيون الزرقاء.

لا عزاء،

ظلال النجوم لا تجلب لي النسيان،

لا تجلب النسيان.

أمام النافذة يتساقط الثلج على الطرق الخالية،

بلا هدف،

على الحقول الجرداء، وعلى حواجز الحدود يتساقط الثلج أبيض.

وجد نفسه يعامل ممن حوله كعامل أجنبي معوق أو طفل متخلف العقل. لم تشفع له قراءاته لرامبو وبودلير، وتولستوي، وماياكوفسكي، وناظم حكمت، ونيرودا، وجوته، وهيني، ولم يمكنه الفتات الذي حصله من اللغة الغريبة من تخطي الحواجز والأسلاك الشائكة إلى «الآخر» الذي لم يضن عليه بالتهكم، ولم يرحمه من الشراسة والصلف والغرور. وحاول في ميونيخ وبرلين أن يمد جسر اللغة بينه وبين الآخرين، فخذله الحصاد البائس الذي كان يلتقطه من الأعمال المهينة التي يزاولها، ولا يساعده على تحمل نفقات التعلم. كانت قوة الصدمة أكبر من قوة الاحتمال والصبر. وكاد المغترب - المفعم بحكم طبيعته بالإصرار والثقة والأمل - أن يفقد كل أمل أو ثقة في نفسه وفيمن حوله.

لقد كان أقسى ما يلقاه كشاعر أن يفقد اللغة والمخاطب الذي اعتاد أن يتوجه إليه، وهو ما يساوي فقدان الظل والهوية. فهل ستساعده المنحة، التي حصل عليها بمحض الصدفة أو المعجزة للدراسة في بلد الاشتراكية والديمقراطية والأخوة والتضامن الإنساني، على أن يجد في اللغة الجديدة وطنه الجديد؟ وهل سيستطيع الشعر الذي سينظمه بها أن يجذب إليه أذن المخاطب الجديد وعينه ووجدانه؟ (ه) وحصل على المنحة المأمولة في سنة 1961م للدراسة بمدرسة المسرح في ليبزيج. لم يتردد لحظة واحدة عن مغادرة ألمانيا الغربية التي قاسى فيها الأمرين، والرجوع إلى بلد اليوتوبيا (المدينة الفاضلة)، التي طالما طافت بها أحلامه وأحلام جيله. وبدا كل شيء في الأيام والأسابيع الأولى، وكأنه يعيش بحق في الجنة: «في اليوم الأول الذي قضيته في بيت الصداقة أعطوني غرفة مدفأة، وأخذتني معلمتي إلى المجمع الاستهلاكي، فاشترت لي معطفا وبذلة وسلمتني ثلاثمائة مارك اشتريت منها جهازا لتشغيل الأسطوانات (جراموفون)، مع السيمفونية السادسة لتشايكوفسكي. ما زلت أذكر هذا إلى اليوم. لقد شعرت بأنني إنسان، وأصبحت جمهورية ألمانيا الديمقراطية في نظري هي الفردوس .»

3

ولازمه الشعور في تلك الأيام والشهور الأولى، بل حتى اليوم الحاضر، بالامتنان نحو البلد الذي آواه، وما يزال يؤويه إلى الآن، حتى نسي أو كاد ينسى أن سلطاته البيروقراطية قد رحلته قبل ذلك بسنتين إلى برلين الغربية، ليشقى فيها وفي غيرها من المدن المتوحشة، ولكنه الإحساس بالوفاء والعرفان الذي لم تخمد جذوته أبدا في صدره، وإن كانت نارها قد ضعفت خلال عقد الثمانينيات الذي تعرض فيه للضغوط النفسية الثقيلة، والذي سبق انهيار التطبيق الاشتراكي وتوحيد الشطرين: «إني أكسر هذا السور العالي، سور الشكر الذي يفصل بيننا، أكسره حجرا حجرا.»

4

وساعدته موهبته اللغوية الفائقة، مع الظروف النفسية والاجتماعية والسياسية الطيبة التي أحاطت به، إلى الحد الذي جعله يقدم أول قراءة لقصائده بالعربية، مع ترجمتها الألمانية، أثناء الفترة التي قضاها في معهد «هيردر»، الذي التحق به لتعلم اللغة. (و) وأشرق في أفق حياته ربيع آخر عندما تمت الموافقة في سنة 1963م على التحاقه ب «معهد الأدب في ليبزيج»، وهو المعهد الذي كان يحمل اسم الشاعر التعبيري والثوري المعروف، وأول وزير للثقافة في «ذلك البلد الأفضل» وهو يوهانيس ي. بيشر. كان قرشولي هو الشاعر الأجنبي الوحيد في هذا المعهد بين زملائه من الشعراء والكتاب الشبان. وتفرد المعهد يرجع إلى اقتصاره على قبول شباب الشعراء والكتاب الذين سبق أن أثبتوا مواهبهم الإبداعية في الكتابة الأدبية، شعرية كانت أو قصصية أو مسرحية أو نقدية ... إلخ، بحيث يتولى أساتذة المعهد من كبار الشعراء أو النقاد صقل هذه المواهب، وتفجير الطاقات الإبداعية، ومدها بالوقود المعرفي والجمالي والحرفي والفني المتجدد.

وينظر الشاعر - الذي جاوز الستين من عمره - إلى الوراء بكل الحب والعرفان بفضل هذا المعهد عليه؛ ففيه تعرف على عدد كبير من أعز أصدقائه من الشعراء الأحرار رواد

5

ما سمي في أوائل الستينيات بالموجة السكسونية الجديدة، وفيه انهمر عليه الحنان والرعاية من شاعر اشتراكي كبير، كان يقوم بتدريس فن الشعر والإبداع الشعري لطلابه الذين أصبح عدد كبير منهم من الأعلام المرموقين في ساحة الشعر الألماني المعاصر، ذلك هو معلمه وراعيه الطيب الودود «جورج ماورر» الذي يستحق اللقاء القدري الفريد الذي جمعه بتلميذه العربي وقفة قصيرة نتحدث فيها عنه باختصار. (ز) شاءت الصدفة السعيدة، كما قلت، أن يلتقي شاعرنا بعد التحاقه بمعهد الأدب بشاعر كبير ومعلم عظيم يملك علم الأستاذ وحنو الأب وطيبة ونقاء قلب الطفل. كان ذلك المعلم والشاعر والأب الحنون «الفارع الطول ذو العينين العميقتي الزرقة، والجبهة العريضة» كان هو جورج ماورر (1907-1971م) أحد أعظم شعراء العصر، كما قال عنه الشاعر الفرنسي الكبير أراجون.

6

كان الرجل يقوم بتدريس «مادة» الشعر. وكان تلاميذه - كما سبق القول - مجموعة من الشعراء والكتاب الشبان الذين «يبحثون عن المعرفة وعن كيفية تملك ناصية الحرف، وذلك بفضل خبرة معلم يملك ناصية الحرف، ويحمل في جعبته ألف معرفة ومعرفة.»

7

راح المعلم والشاعر الاشتراكي الكبير يبحث مع تلاميذه عن أصواتهم الخاصة، ويهديهم في الوقت نفسه إليها، يكشف لهم عن الطاقات الكامنة فيهم من جهة، وفي الواقع من جهة أخرى. وكان منهجه في التعليم يتلخص في هذه العبارة الذهبية: «ليس هناك بلسم شاف وحيد، فلكل كائن طريقته الخاصة في الوصول للهدف، ولكل شاعر قصيدته الخاصة به دون سواه، ولكل قصيدة روحها وعالمها الإيقاعي والشعوري والفكري المستقل بها». وكان المعلم واقعيا بالمعنى الشعري الشامل لهذه الكلمة، ولذلك أخذ بأيديهم ليبحثوا ويتحركوا في اتجاه «مشتل الواقع» وانطلاقا منه، ويكتشفوا بأنفسهم الطاقات الكامنة في «واقعهم» الباطن، وفي الواقع التاريخي الراهن والماضي والمستقبل بكل ما يختزنه قلبه الجياش بالتجربة البشرية الشاملة من صور وصراعات وأساطير ورموز عند كل الشعوب، وفي كل الحضارات. وباختصار: علمهم من خلال دروسه المفعمة بالحب، ومن خلال أشعاره الغنية بالتعاطف والشجاعة والأمل، علمهم الرؤية الكلية للواقع الحسي والتواصل الودي بين البشر كافة.

والقارئ الذي يطلع على كتاب عادل قرشولي عن هذا الشاعر والمعلم الكبير، ويعايش القصائد البديعة التي ترجمها إلى العربية، سيدرك، في تقديري، مدى تأثيره المباشر وغير المباشر عليه في كثير من الدوائر التي يتحرك فيها شعره، والإشكاليات الفكرية والفلسفية والإنسانية التي تشغل عقله وقلبه: علاقة الأنا مع الآخر، وحدة الذات مع الكون، تواصل الإنسان مع الإنسان والطبيعة، وتراث الأجيال البشرية كلها بغير تفرقة بينها. وسوف يرى القارئ أيضا أن التلميذ السابق قد تأثر بأستاذه تأثرا ملحوظا في نظرته المتفائلة، بل الطوباوية، إلى الواقع والمستقبل، والثقة العميقة بالأدب والفن، وقدرتهما على تغيير العالم والعلاقات الإنسانية، من خلال التواصل الحي الفعال بين الذات والآخر (الذي يمكن أن يكون هو الإنسان أو الطبيعة، أو الحضارة البشرية، أو الماضي أو المستقبل ...) ومن خلال التوحد مع الآخرين، مع الأرض ومع الكون كله.

يقول شاعرنا في قصيدة طويلة وجميلة أهداها إلى ذكرى معلمه وراعيه، وجعل عنوانها: «خضرة النعناعة» (من ديوانه: لو لم تكن دمشق، 1999م، الطبعة الثالثة، ص13-14)، وذلك بعد أن يعرف ببلاد الخرافات والحكايات التي جاء منها «بلاد الألف شمس وشمس، والألف بؤس وبؤس» إلى المدن الكبرى المزدهرة التي دارت فيها عجلة التقدم وسبقت بلادنا التعيسة بمائة عام في أقل تقدير، وانتشرت عليها ظلال اللامبالاة والعقلانية الباردة التي لا قلب لها، بحيث تجمدت الفراشات الذهبية - التي كانت ترفرف في صدر الشاعر قبل مجيئه إليها - فوق غاباتها الثلجية، ونثرت الرياح الجليدية الشك في أغانيه، وبعثرت الألوان من ريشته، ومزقت أوراق عقد الياسمين الذي كان يطوق رقبته ... حتى جاء المعلم الحنون «فألقى بالأصداف النبوية على الثلج، ودل الشاعر الشاب على الطريق إلى قاع النبع، وإلى الكنز الكامن في الغابات الثلجية الأخرى»، أعطاه الكلمة «الخاصة بنا» (إشارة إلى القصيدة المطولة التي ترجمها الشاعر إلى العربية، وجعلها عنوانا لكتابه السابق الذكر عنه)؛ لكي نتحكم في السحاب، ونحتفل بعرس الطبيعة، ونخزن الماء وراء السد، ونواجه خط الموت الفاصل بلا خوف؛ لأن الأولى بالخوف هو قناع الأحياء الجامد. وتستمر القصيدة، في القسم الرابع منها بوجه خاص، في تضمين سطور دالة من قصائد ماورر، هذا الشاعر الذي رصد حركات التقدم في الواقع الاشتراكي الذي عاصره على مهاد رحب من معرفته الواسعة بنضال الإنسان وتضحيات الأجيال، عبر ألوف السنين من تاريخ البشرية.

نعم لقد أعطاه سر الكلمة الشعرية، وأعاد إلى قلمه «خضرة النعناع»، وأكد له صدق البيتين الشهيرين اللذين كتبهما أمير الشعر الألماني «جوته» في ديوانه الشرقي الشهير:

8

من لم يستطع أن يقدم لنفسه الحساب، «عما تم من تطور» خلال ثلاثة آلاف عام؛

فليبق معدوم الخبرة يتخبط في الظلام،

وليعش من يوم ليوم «ويتنقل من باب لباب». (ح) والتحق الشاعر الشاب في سنة 1966م بالمعهد التابع لجامعة ليبزيج لدراسة المسرح واللغة والأدب الألماني، حيث تفرغ بعد ذلك بسنوات لإعداد أطروحته للدكتوراه عن «التلقي العربي لمسرحية بريشت التعليمية «الاستثناء والقاعدة»»، ومناقشة ما شاب هذا التلقي - سواء في ترجماتها العربية المختلفة أو في التعليقات، والدراسات النقدية عنها وعن مسرح بريشت - من خلط وسوء فهم لمنهجه في المسرح الملحمي (راجع ما سبق أن ذكرته في التمهيد عن هذا الموضوع). (ط) كان الشاعر - كما سبق القول - قد فقد المخاطب العربي وفقد معه، أو صور له القلق أنه فقد معه، الظل والهوية.

بدأت محاولاته لمد جذوره في اللغة الجديدة وفي الوطن الجديد. لكن محاولاته لكتابة الشعر بالألمانية بقيت متعثرة طوال عقد الستينيات، إذ اقتصر شعره الذي يسجل تجارب هذه المرحلة (وقد جمعه في أول ديوان صدر له بالألمانية، وهو كحرير من دمشق، 1968م) على بعض القصائد التي كتبها بالعربية، ثم ترجمت، بفضل بعض أصدقائه الذين ذكرناهم، ترجمة شعرية إلى الألمانية. وجاءت معجزة الحب ل «النعناعة الشقراء» التي تعرف عليها في الجامعة، فشدت على يده وقلبه أثناء كفاحه لمد الجذور في الأرض واللغة والأدب والثقافة والحضارة الغريبة عليه، واستطاعت أن تمسح العرق عن جبينه، وتخلصه من تردده في تلك المرحلة عن البقاء في تلك الأرض.

صمم الحبيبان على عقد الرباط المقدس، بالرغم من نصائح بعض مواطني الشقراء بالابتعاد عن الأجنبي الأسمر الشعر والجبين، وتم الزواج في سنة 1964م، ووضع أساس الأسرة السعيدة التي يلتئم شملها اليوم مع الابن والابنة والحفيدتين. صحيح أن الحبيبين قد لقيا ما لقيا من متاعب البيروقراطيين هنا وهناك، ولكن الصحيح أيضا أن الظروف المواتية وقفت في صفهما لإتمام المعجزة: انفرجت الأحوال في سوريا بعد إنهاء الوحدة السيئة الحظ، ورفع أمر القبض على الشاعر، فتمكن بعد الزواج بعام واحد (1965م) من زيارة وطنه في صحبة زوجته، بل شاءت معجزة الحب أن تغير الزوجة تخصصها الأصلي في الأدبين الروسي والألماني، وتتفرغ لدراسة اللغة والأدب العربي الحديث، حتى أصبحت اليوم من ألمع وأقدر مترجميه إلى الألمانية، بجانب قيامها بتدريسهما منذ سنوات طويلة في قسم اللغات الشرقية بجامعة ليبزيج.

9

ولم يمض وقت طويل حتى توج الزواج بحصول الزوجين على الدكتوراه، وعلى وظيفة للتدريس بنفس الجامعة التي التقيا فيها وتخرجا منها.

لم تخل الحياة في الواقع اليومي بطبيعة الحال من المتاعب والضغوط النفسية، ولم ينج إحساس الشاعر بنفسه كشاعر من الألم والضيق؛ بسبب النظر إليه في تلك الفترة، وإلى شعره كشيء خرافي غريب أو عجيب أو جذاب،

10

مع اختزال الشعر إلى هذه الغرابة وغض النظر عن قيمته الفنية والجمالية في ذاتها ولذاتها. لكن المعجزة استطاعت أن تكتسح المتاعب والمنغصات الصغيرة، وترفع الحواجز الفاصلة بين بلدين وحضارتين، وتؤكد للزوجين أنهما يعيشان «في بيتهما»، وتعين الأيدي الطيبة المتعانقة على تعميق الجذور في وطن الغربة، بل استطاعت المعجزة أن تنقله من مرحلة تقديم قصائده العربية الأصل في ترجمتها الشعرية، إلى مرحلة كتابة الشعر مباشرة بالألمانية؛ لكي يتسنى له أن يشارك مشاركة فعالة في الحياة الأدبية والاجتماعية، ويخاطب قارئه الجديد بلغته، فيزداد تقديره له جماليا وإنسانيا، بدلا من النظر إليه، كما حدث في عقد الستينيات، كشاعر خرافي وغرائبي، أو زهرة عجيبة في زهرية معزولة، أو تحفة شرقية نادرة ومثيرة.

حقا ما أعجب وما أطيب المعجزة التي أعانته على مواجهة هذه المخاطرة الضرورية، دون أن يضطر في نفس الوقت للتخلي عن هويته أو التنكر لذاتيته الأصيلة.

الفصل الثاني

عناق خطوط الطول

(أ) عرف منذ البداية أن الحياة حوار، وأن الشعر حوار، ولأنه بفطرته ومعتقده الفكري جدلي أصيل، فقد عرف أيضا أن الحوار يفترض الخلاف والتعارض والتضاد، وأنه يقوم على الدوام على الصراع بين قطبين أو طرفين متناقضين يحرص المفكر، مثل كيركجارد ونيتشه، على استمراره؛ تعبيرا عن صيرورة الوجود وتناقض العالم والوجدان، أو يسعى بكل جهده، مثل هيجل وماركس، إلى التأليف بينهما في مركب جديد، يتحقق معه التجانس والوئام بعد الحرب والصراع والخصام. ثم لا يلبث هذا المركب أن يواجه نقيضا جديدا يدخل معه في الحوار أو الصراع، وتدور العجلة الجدلية وتدور حتى تصل، أو لا تصل للتأليف بينهما في مركب آخر.

هل ينتمي عادل قرشولي إلى الفريق الأول، أم إلى الفريق الثاني؟

الإجابة حاضرة، ناصعة كضياء الشمس: لقد شاء لنفسه، وشاء له قدره أن يكون بحياته وشعره وسيطا جدليا، أو جسرا ممدودا بالمحبة والتفاهم والمودة والاحترام المتبادل بين لغتين وأدبين، وحضارتين أو عالمين مختلفين، لم يكن ذلك أبدا، ولن يكون أمرا سهلا؛ لأنه، كالحياة والشعر، عملية متصلة تجري كنهر الصيرورة الجياش بالحركة والتدفق، وسط النتوء والصخور، وتتعرض للأنواء والأعاصير، وتفرض عليها الضرورة أن تخترق الحواجز والقيود والسدود. (ب) كان على الشاعر - بعد صدور ديوانه الأول بالألمانية الذي عرفنا قصته، وخلال ما يقرب من عشر سنوات - أن يخوض معارك مختلفة، ويمر بأزمات قاسية: تعمق اللغة الأخرى والأدب الآخر إلى حد التمكن من التوجه للمخاطب الجديد بلغته، ومشاركته في هموم حياته ومجتمعه وثقافته؛ المرور بأزمة خلق شعري من نوع فريد نتيجة التصميم على الكتابة بلغة جديدة، والتوجه لمخاطب جديد؛ التخلص من أوهام كثيرة وعزيزة عن «جنة العمال والفلاحين»، وازدياد الوعي بحقيقة الواقع الذي يخنقه الملل واللامبالاة، وتهيمن عليه الأوامر والتعليمات والشعارات. يوارب الباب أحيانا لنسمات من الحرية، ثم لا يلبث أن ينفد صبره عندما تهب تيارات النقد والتمرد والغضب، فيعيد فتح أبواب العقوبات والمحظورات والمعتقلات على مصاريعها. ثم المعاناة من طغيان تأثير الآخر الذي عايش شعره وفكره عدة سنوات، حتى لمس جذوره واستظل بفروعه؛ لا سيما بريشت ومجموعة الشعراء المقربين منه، الذين سبحوا مع الموجة الجديدة، وجذبوه للسباحة معهم إلى الحد الذي أحس معه بخطر تهديد ذاتيته الفنية وهويته الشخصية والقومية. مع ذلك لم تتوقف الجهود المبذولة لعبور الأزمات ومد الجسور، وتحسس الطريق للعثور على «الوطن» الشعري الحقيقي داخل الذات، في أعمق طبقاتها الواعية واللاواعية. (ج) و«عناق خطوط الطول» (1978م) هي المجموعة الشعرية، التي تسجل مشاهدها وصورها ذبذبات تلك الزلازل التي هزت كيانه، ومزقته بين عالمين ووطنين ولغتين وثقافتين، وذلك قبل أن يطمئن لنجاحه في مد الجسور وغرس الجذور، ولمس الحقيقة الباطنة في عالمه الباطن:

هناك وهناك،

هنا وهناك.

أين أكون أنا في بيتي؟ •••

في لغتين تصاغ الجملة.

في عالمين تمسك اليدان بالأشياء.

في الحلم تكلمني أمي بالألمانية،

وتكلمني بالعربية زوجتي السكسونية. •••

من خط طول إلى خط طول

تقفز أحلامي خفيفة الأقدام،

تمتد فروع شجرتي،

وكل زهرة تحمل

وشم قوافل الشمس القديمة العهد،

التي تنبض خلال عروق شجرتي. •••

آه

يا خطوط الطول!

أنت يا غصون شجرة السنديان،

وشجرة الزيتون،

تعانقي بقوة،

بقوة أشد

داخل ذاتي.

والجزء الأول من أجزاء القصيدة الأربعة يؤكد تمزق الأنا الشاعرة بين ال «هنا» وال «هناك»، وتوترها بين القطبين المتنابذين اللذين تمثلهما هاتان الكلمتان، وتعبران بهما عن اتجاهين مختلفين تنتفي عن كل منهما الراحة والاستقرار والأمان، ولا بد من البحث عنهما في شيء يوحد بينهما، أو يصل بين شاطئيهما.

ويأتي السؤال المحدد عن الوطن: أين أكون في بيتي؟ في هذا الشاطئ أم ذاك؟ على هذا القطب أم القطب الآخر؟ يتبين من الأبيات التالية استحالة التمسك بأحدهما دون الآخر، سواء بالنسبة للإنسان «في عالمين تمسك اليدان بالأشياء»، أو بالنسبة للشاعر والشعر ف «الجملة تصاغ في لغتين». وتتكاثف الأمور، ويتعقد الموقف، وتتشابك خيوطه بعد ذلك، فالسؤال عن الوطن الذي يبدو بسيطا وواضحا لا تظهر له إجابة واضحة وبسيطة مثله. إن العالمين يختلطان أو يمتزجان، ولكن هذا يحدث في الحلم ، وفي الحلم وحده يبدو عثور الشاعر على الوطن أمرا ممكنا؛ ففروع شجرته تنتشر، وتمتد فوق خطوط الطول. والشجرة نفسها رمز للجذور الثابتة في الأرض، وللنفس الكبيرة التي لا تستريح؛ حتى توحد في ذاتها بين العالمين.

غير أن ينابيع الطفولة لا تجف أبدا، بل تسري نابضة في عروق الشجرة التي تحمل أزهارها وأثمارها وشم قوافل الشمس القديمة قدم طفولة الشاعر وصباه وأجيال سبقته، وأخرى ستجيء بعده.

ونسمع التنهيدة فنشعر بأن صحوة الواقع قد جاءت في أعقاب نشوة الحلم باللقاء، أو العناق الذي لم يتحقق بعد. وتتخذ خطوط الطول مضمونا محددا ومعنى مجسدا؛ فالسنديانة الألمانية والغربية، وشجرة الزيتون السورية والعربية يمثلان الحضارتين المختلفتين اللتين يتحرك بين شاطئيهما شراع «الأنا» الشاعرة التي تحاول - ولو في الحلم - أن تقرب بينهما إلى حد التوحد في عمق الذات، الذات التي ضربت الشجرتان جذورهما في صميمها، وبقيت متشبثة بجوهرها وسرها.

وإذا كانت قصائد الشاعر تزخر بالتعارضات والصراعات بين طرفين أو قطبين يحاول أن يجمع بينهما: بين شجرة زيتون وشجرة سنديان، بين الصراخ والصمت، والحب والموت، بين النقد إلى حد الغضب والتمرد والرضا، إلى حد الاعتكاف والعكوف على الذات، فإن «عين الشاعر الثالثة»، أو حدسه الكاشف الذي لا يخطئ، يدله دائما على أن العالم لا يرى على الحقيقة إلا في كليته، وأنه إذا كان يتمزق بين تناقضاته وأطرافه المتصارعة، فإنه لن يجد العالم - كما يقول بيت مشهور للشاعر رلكه - إلا في الباطن وحده. ولا غرابة بعد هذا في أن تنتهي القصيدة بأمر ملح ومعبر عن القلق، ونفاد الصبر: «تعانقي بقوة، بقوة أشد، داخل ذاتي ...» (د) لم يكن الطريق إلى كتابة الشعر بلغة أخرى غير لغة الأم بالطريق السهل؛ فقد شعر في مطلع الستينيات - كما سبق القول - بأنه قد فقد ظله الذي لازمه منذ مولده في نفس اللحظة التي ترك فيها وطنه. ولم يقتصر الأمر على فقدان المخاطب العربي الذي كان يتوجه إليه بشعره المبكر ويتأثر به، كما يؤثر عليه خلال عملية إبداعه، وإنما بلغ حد الإحساس المهول بفقدان الهوية، وجد نفسه في حالة عجز مطلق عن التعبير للآخرين عما يجيش في كيانه، كما وجد الآخرين يعاملونه كأنه طفل متخلف، أو معوق. وبعد أن تحرر من الظروف المهينة التي أحاطت بالفترة الأولى من وجوده في المهجر، واستقرت قدماه في مدينة ليبزيج؛ وجد نفسه في مواجهة اللغة التي يتكلم بها الناس، وتنطق بها الأحداث الجارية من حوله، أمام أحد اختيارين لا بديل له عن أحدهما: فإما أن يغرس جذرا في اللغة والثقافة الجديدة عليه، وإما أن يدفن نفسه بنفسه في قبر الصمت. وكان عليه بطبيعة الحال أن يختار الأولى؛ حتى يؤكد لنفسه أنه حي وفعال ومشارك، وحتى يتمكن من وضع قدمه في صميم الساحة الثقافية الجديدة التي وجد نفسه فجأة على هامشها.

1

وبقي الطريق إلى كتابة قصائده الأولى بالألمانية طريقا شاقا مضنيا؛ فقد سبقته جهود طويلة في دراسة اللغة والأدب الألماني، وتاريخه (إلى حد تكليفه بعد ذلك بالقيام بتدريسه في نفس الجامعة)، وفي الاطلاع على نماذجه الكبرى في شتى عصوره، والتعمق في تذوق بعض قممه الحديثة والمعاصرة، وبالأخص شعر بريشت والأجيال التالية المتأثرة به سلبا أو إيجابا، بالإضافة إلى الإنتاج الشعري لطائفة من أصدقائه وزملائه في معهد الأدب الذين سبق الحديث عن موجتهم الجديدة. (ه) ومرت القصيدة الألمانية، التي بدأ في كتابتها منذ منتصف الستينيات، بعدة تحولات. كانت في الأصل - كما يؤثر أن يسميها - قصائد ظرفية عبرت عن لحظة آنية عاشها، ثم رفعها التشكيل الشعري من حدث جزئي وهامشي إلى حدث كلي وعام. ولست أدري على وجه التحديد؛ هل كتبت القصائد الأولى في الأصل بالعربية قبل أن يترجمها بنفسه، ويضيف إليها أصدقاؤه الألمان لمساتهم الإبداعية، أم أنها ترجمت مباشرة عن قصائد عربية سابقة، وبقيت من حيث الموضوع والشكل متأثرة بالتراث الشعري العربي، واحتفظت بلغة غنية بالصور المذهلة، ونهلت مضامينها من ينابيع الحب والحنين للوطن، والنضال في سبيل الحرية والكرامة والسلام والأخوة البشرية، وسائر المثل، والأحلام التقدمية التي جعلت من الخطاب الشعري دعوة ونداء ورسالة تبشيرية وتحريضية؟ لست أدري هل كان الأمر على هذه الصورة أو تلك؟ فالذي أدريه - من كلام الشاعر نفسه في حوارات ومناسبات عديدة - أن هذه القصائد الأولى قد لفتت إليها أنظار القراء، وبهرت المستمعين الذين تحمسوا لها حماسا جارفا في الندوات التي كانت تلقى فيها؛ بسبب السحر الشرقي الذي يسري فيها، والمناخ العربي الذي كان يظللها، والصور والأخيلة والاستعارات والتشكيلات الجمالية التي عمل الموروث الشعري العربي، مع ذكريات الطفولة والصبا في أزقة دمشق وأمسياتها الحلوة، عملهما في غزل نسيجها؛ أي إنها قد جذبت إليها العيون والآذان بسبب «غرائبيتها»، أو ما فيها من عناصر عجيبة وغير مألوفة. وقد كان هذا على وجه الدقة هو الذي دفع الشاعر على الثورة والغضب؛ فقد رفض أن يكون تحفة شرقية، أو زهرة مجلوبة من بلد بعيد، وهكذا تحولت القصيدة الألمانية من وسيلة ضرورية واضطرارية للتواصل مع الآخر، إلى بنية جمالية متفردة تنتزع الإعجاب بقيمتها الفنية في ذاتها، لا بسبب ما تحتويه بالضرورة من توابل شرقية وعربية، إلى أن أصبحت في النهاية - وبالأخص في ذروة تجلياتها الشعرية على لسان عبد الله في الديوان الذي سنجده في هذا الكتاب - أصبحت مناجاة ذاتية أو صوتا ثانيا يعبر عن حوار الذات مع ذاتها. مر الشاعر بأزمة إبداع استمرت معه قرابة العشر سنوات، قبل أن يصدر ديوانه الذي يضم القصائد التي كتبها بالألمانية مباشرة، ودون الحاجة إلى وسيط من الأصدقاء لإعادة إبداعها وصياغتها صياغة شعرية. ولا شك أن قراءه «الآخرين» قد أحسوا، وهم يطالعون أبيات «عناق خطوط الطول» (1978م)، أو يستمعون إليها من فم صاحبها، أنهم أمام شعر حقيقي لا شعر «غرائبي»، يستثير إحساسهم الموروث بالشرق، أو يرضي أحكامهم وتحيزاتهم المسبقة عن العرب وحضارة العرب. ولعل أول صدى لهذا الاستقبال الجديد هو الذي دعا أحد النقاد لأن يمنحه «المواطنة الشعرية لجمهورية ألمانيا الديمقراطية».

2

ويضم الديوان - الذي اقتبسنا منه قصيدة العنوان، التي وقفنا معها في بداية هذا الفصل وقفة قصيرة - قصائد متنوعة الموضوعات ما بين السياسة والنقد الاجتماعي، وحياة اللاجئين أو المهاجرين، فضلا عن موضوع الحب الذي كان ، ولا يزال هو سند وجوده. (و) كان هدفه من هذا الديوان هو أن يوحد في شخصه بين خطوط الطول؛ غير أن العقبات التي تحول دون هذا التوحيد كادت أن تصل إلى حد الارتطام بجدران المستحيل. وأول هذه العقبات هي مشكلة الحياة والكتابة بلغتين، وبخاصة بعد أن اتخذ قراره الحاسم بأن ينطق لسانه الشعري مباشرة بالألمانية، وأن يخاطب المتلقي الجديد بلغته، ويعبر عن همومه التي يعيشها معه، ويشاركه فيها بالعاطفة والفعل، ولا يقف موقف المتفرج الذي يتخفى وراء قناع الأجنبي، أو المنفي أو اللاجئ والمستبعد. وجد نفسه كمن يبدأ من جديد، وأحس أنه يحيا وينطق ويكتب بلسانين، وأن ذلك يضاعف وجوده في شخصين، أو يشقه نصفين، ولكنه ظل إلى اليوم، كما يقول صديقه الناقد والشاعر هاينز تشيخوفسكي، في تعقيبه على ديوانه «لو لم تكن دمشق» (1992م): ظل يحمل العبء الثقيل بجدارة وكبرياء، وبقدر غير قليل من الحكمة والالتزام والبهجة والمتعة أيضا.

كان على يقين من أنه منفي في اللغة الجديدة، وأن اللغة التي يكتب بها ستبقى مختلفة عن لغة أهلها الذين نشئوا عليها وفيها؛ إذ يتحتم عليه أن يجدد خلقها في كل قول أو فعل تواصلي، وأن يجعلها متطابقة مع حالة المنفي أو اللاجئ التي لا ينكرها، وإن حاول جهده أن يتجاوزها، بحيث تصبح في حقيقتها ووظيفتها لغة للتواصل والأمل، تصبح بيته وملاذه، ومحط رجائه وثقته في المستقبل. صحيح أنها لم تكن لتصبح بالنسبة إليه «لغة الأم»، إذ يستحيل على الإنسان أن يستبدل بأمه أما أخرى، ولكنها استطاعت أن تحتل مكان «الحبيبة» التي تستند إليه كما يستند إليها، وتلجأ إليه كما يلجأ إليها كلما أعوزه التعبير عن هواجسه وشكوكه، وأحزانه وأفراحه، وذكرياته وأشواقه، وكلما أراد أن يشعر بأنه مشارك في الأحداث والتغيرات التي تتم في وطن الغربة الذي اختاره بإرادته الحرة وطنا ثانيا، وآمن بقيمه العليا وتوجهاته الأخيرة، وإن تزايدت شكوكه مع الزمن في صحة تطبيقها وممارستها على أرض الواقع. (ه) هكذا تغيرت اللغة التي جعلها وطنه وسكنه، وبدأ ينظم بها شعره. وتغير المخاطب الذي قصده بهذا الشعر المعبر عن تعاطفه معه، ومشاركته له بالرأي والفعل، والقادر، تبعا لإيمانه الراسخ مع معظم أبناء جيله ب «الكلمة - الفعل»، على تغيير العالم. وكان من الطبيعي أن تتغير أغراض هذا الشعر وموضوعاته عما كانت عليه من قبل، تستوي في ذلك قصائده السابقة بالألمانية، أو بالعربية التي غلبت عليها النغمة العاطفية والحنين للماضي، ولم تكترث باتخاذ موقف نقدي من مشكلات الحاضر وأزماته، حتى إذا شغله الشعر الحديث بعمق، وبالأخص شعر بريشت، حاول أن يصل إلى الوحدة الجدلية التي تؤلف في قصائده بين العقل والعاطفة، بحيث لا يطغى أحدهما عليه؛ ذلك لأن لغة الشاعر، على حد تعبيره في مقال نشره في عام 1965م، بجريدة الشعب التي تصدر في مدينة ليبزيج: «ينبغي أن تكون حوارا بين عقله وقلب القارئ، أو بين قلبه وعقل القارئ، فاللغة التي تتجه من العقل إلى العقل هي لغة العلم، أما اللغة التي تتجه من القلب إلى القلب فهي لغة المحبين.»

كانت عقلانية بريشت الجدلية قد سيطرت عليه فترة من الزمن، حتى أيقن بأنه لن يصل إليه إلا إذا تخلص من تأثيره عليه، وكسا عقلانيته بثوب الصورة والاستعارة النابعة من فطرته، ومن موروثه العربي المغروس في دمه. وهكذا «أخذت الاستعارة، لا الفكرة الواضحة كالبلور، هي التي تقود قلمي، وبدا لي وكأنني لست أنا الذي يشكل شعري، بل إن الشعر هو الذي يشكلني ويؤثر على الرؤية وزاوية النظر، بل وأحيانا على أسلوب الأداء.»

3 (ح) وكما تخلص من العناصر «الغرائبية» التي جذبت المتلقين إليه في البداية، استطاع كذلك أن يتخلص من تأثير بريشت، وتأثير أستاذه «ماورر» وسائر الشعراء - وبالأخص أصحاب الموجة السكسونية الجديدة - الذين تأثر بهم إلى درجة المحاكاة في بعض الأحيان أو المعارضة في أحيان أخرى.

4

كان عليه أن يجد نفسه أولا قبل أن يجد طريقه للخلاص من أزمته الطويلة، وقد وجدها عندما وجد كذلك مكانه بين التيارات الأدبية المتلاطمة من حوله، وعرف أن دوره الحقيقي هو الجمع بين تراثه الأدبي الموروث، وبين التراث الألماني والعالمي في وحدة واحدة، أي عندما تأكد لديه الوعي بمهمته وواجبه في الحياة والشعر؛ مد الجسور بين أدبين وتراثين وعالمين، وترك جذور السنديان والزيتون تتعانق بقوة في داخله، كما تتعانق خطوط الطول.

الفصل الثالث

وطن في الغربة

(أ) يستحيل على أي قول أو فعل - بل يستحيل على الصمت نفسه - أن يخلو من السياسة. ومن رابع المستحيلات أن يخلو قول أو فعل أدبي من موقف أو وجهة نظر، مباشرة أو غير مباشرة، عما يحدث في بلد الأديب، أو في العالم من أحداث تتصل بقضايا وأسئلة ومشكلات كبرى في حياة البشر، كالحرب والسلام، والحرية والاستعباد، والعدل والظلم والاضطهاد، والفقر والجوع ... إلخ.

وقد آمن عادل قرشولي منذ البداية بأنه شاعر سياسي ملتزم، وإن كان قد حرص منذ البداية أيضا على أن ينأى بنفسه عن الأحداث السياسية التي تجري كل يوم، وعن الدخول في أي حزب سياسي علني أو سري. شعر منذ الستينيات شعورا عميقا بأنه سياسي، كما أحس إحساسا جارفا بأن أي حدث سياسي هام، ومن ثم أي حدث إنساني يقع في بلده أو خارجها، يهز وجدانه إلى الحد الذي يجبره على تشكيل تجربته له في شكل فني.

ويتجلى هذا الموقف السياسي والإنساني العام - الذي لم يزل الشاعر ملتزما به التزاما أساسيا - منذ بداية محاولاته لكتابة القصيدة الألمانية في أوائل الستينيات. يكفي أن نستشهد على هذا بإحدى قصائده المبكرة التي استجاب لها جمهور الشباب الذين استمعوا إليها في إحدى الندوات، التي كان وما يزال حريصا على قراءة مختارات من شعره فيها، وهي قصيدته «نداء من أجل فيتنام»:

أريد أن أهز الحالمين في الشوارع،

أن أنتزع فنجان القهوة من اليد الهادئة المطمئنة،

أن أقف في القاعة حيث يسبحون في سماوات «باخ» الإلهية، وأصرخ فيهم،

أصرخ بملء حنجرتي:

في فيتنام يتصاعد الدخان من الأدغال،

في فيتنام تحترق غصون الأشجار،

والجلد الناعم والشفاه.

ومن الواضح أن هذه القصيدة تحرض غير المكترثين على أن يكترثوا بما يدور حولهم، وتدعو البرجوازي الصغير - الذي اعتاد في كل مكان ألا يبالي بشيء يخرج عن حدود جسده ومصالحه - تدعوه لأن يهتم بما يرتكب في العالم من مظالم، لن ينجيه الجمود واللامبالاة من الاحتراق بنارها بعد أجل قريب أو بعيد. والعجيب والجدير أيضا بالذكر أن هذه القصيدة تحولت في ذلك الحين إلى شعار رفعه المحتجون على حرب فيتنام في مظاهراتهم الحاشدة، بل برزت أبياتها على لافتة علقت داخل المحطة الرئيسية للسكة الحديدية في مدينة ليبزيج، كما قام بتلحينها أحد كبار الموسيقيين (يواخيم فير تسلاو)، وظهرت نوتتها الموسيقية في كتاب صدر في نفس المدينة سنة 1968م. ومع أن الاتجاه لإدماج الأحداث السياسية الهامة وتضمينها في نسيج الشعر كان اتجاها شبه عام بين الشعراء عندنا وعندهم في تلك الفترة، فلا بد من القول بأن ذلك كان أمرا طبيعيا بالنسبة للشاعر الذي اشتعل كيانه بالمبادئ الاشتراكية، والذي ذاق مرارة تجربة المنفى والجوع والاضطهاد، ولم يقف أبدا لا في شعره، ولا في نثره، موقف المتفرج من القضايا والأحداث والمحن التي ألمت ببلاده العربية، مثل: مجزرة صابرا وشاتيلا، وحرب الخليج، وانتفاضة أطفال الحجارة. (ب) مع ذلك، فبالرغم من كل الدعايات والمزاعم العالية الصوت باسم التضامن الإنساني والأخوة البشرية، ومساندة الشعوب النامية في مساعيها للتحرر والاستقلال، كانت تتحرك تحت هذا السطح الرسمي البراق - كالدود في العسل - ألوان مختلفة من اضطهاد الأجانب في ألمانيا الديمقراطية السابقة. يروي لنا الشاعر كيف شارك في مظاهرة كبرى باسم الشعب وصرخ مع الجموع: «نحن الشعب»، ومع ذلك اضطر أن يقول لنفسه أو أن يجد من يقول له: نحن؟ كيف تقول نحن؟ أنت بالذات مستبعد. فالأجنبي يبقى أجنبيا، حتى لو حاول بكل كيانه أن يحيا حياة المواطن في البلد الغريب، وما قيمة أن أقول للشاب الذي يصيح حتى يشق حنجرته: «اخرجوا أيها الأجانب»؟! ما قيمة أن أقول له: لقد عشت يا بني في هذه المدينة عمرا أطول من عمرك، وربما كنت أعرف أجدادك الألمان، مثل جوته، وهيني وكلايست، وهيجل، وباخ وغيرهم، خيرا من معرفتك بهم؟! سوف يظل يصرخ مصوبا نحوي رصاص كلماته: «اخرجوا أيها الأجانب!» وأحاول من جانبي أن ألتمس له الأعذار والمعاذير حتى لا أجن؛ لجهله، وصغر سنه، وقلة خبرته، ونزعته الإقليمية، ومعاناته من البطالة، وتعرضه للبث الإعلامي الذي ينفث سوء الظن بالآخرين. آه! وكم وصفوني، ونادوا علي بأسماء مختلفة: أنت يا حادي الجمال، يا تركي، يا ياباني، أو أنت أيها الأسود!

وكم تعرض أيضا لضغوط نفسية حادة كالتهديد بسحب إقامته، أو منعه من الدراسة والحصول على عمل، بحيث لم يشعر أبدا قبل إتمام الوحدة بين الشطرين السابقين، لا بالأمان ولا بضمان إقامته بصورة دائمة. أضف إلى ذلك أن الأجانب لم يكن يسمح لهم بتكوين تنظيمات أو اتحادات خاصة بهم، وأن البحث العلمي في الأدب المكتوب بأقلام الأجانب لم يكن قد بدأ بصورة جدية، ولا خصصت له جوائز معينة. وإذا كان قد حصل في فترة متأخرة نسبيا (في سنة 1986م) على جائزة الفن التي تمنحها مدينة ليبزيج لأديب أجنبي يكتب بالألمانية؛ فإن ذلك دليل ناصع على تفرد إنتاجه وتميزه، واستحالة تجاهله إلى الأبد.

1 (ج) «كابية يا صاحبي، هي كل النظريات،

لكن شجرة الحياة الذهبية خضراء.»

ربما لم يشعر أحد بصدق هذه العبارة، التي جاءت على لسان الشيطان في فاوست الأولى، مثلما شعر بها شاعرنا المغترب الشاب، ولكي تخضر شجرة حياته وشعره الذهبية الخضراء في الأرض الغريبة، ويدخل في حوار مع الوجوه الثلجية العابسة، ويتعايش مع ملل الحياة اليومية وكآبتها، ويكظم في نفسه ذكريات طفولته الحلوة في الوطن البعيد الذي اضطهده واضطره للهرب منه، ويدخل متاهة اللغة والأدب والثقافة الجديدة عليه، ويتعرف على سراديبها المعتمة وأنفاقها العميقة، ويصمد في صراعه مع وحوشها الضارية، ويداري السلطة الغبية الغاشمة التي تنهمر من عليائها الأوامر والتعليمات، ولا ترضى بغير الخضوع والخنوع والطاعة العمياء، كان عليه أن يصبر ويصبر، ويقاوم ويتعلم، ويخطو كل يوم خطوة إلى الأمام، ثم ينتظر وينتظر؛ حتى تخضر شجرته الذهبية، وتمد ظلال الجسور بينه وبين الآخرين.

وحدثت معجزة الحب، فتحققت معها معجزة الشعر، وبدأت الشجرة تخضر، وما زالت تزدهر وتثمر. (د) لنصحب الشاعر الشاب خطوات على درب حياته اليومية الجديدة ونستمع - من خلال بعض قصائده - إلى نبض لحظاتها الأولى كما يسجلها في مناجاته لذاته. إنه يحس في هذه المرحلة بأنه بلا جذور ولا بيت. هو أنى ذهب غريب لا بيت له، وحيثما سار لا يجد الأرض التي يغرس فيها جذوره. سيقول بعد ذلك بوقت طويل في آخر دواوينه (هكذا تكلم عبد الله): «إن من لا يغرس جذرا لا يؤسس لنفسه وطنا، ومن لا وطن له في وطن ما لا جذر له، ومن فقد الجذر فقد الثمرة، ومن فقد الثمرة فقد الجذر.» لكنه الآن وحيد، من خلفه البحر ومن أمامه الهاوية، لا عجب إذن أن يقول لنفسه: أرقص على حبل بين جحيم وجحيم. والجحيم تصنعه لحظات حياته اليومية ومفرداتها المتكررة؛ الريح الثلجية للبسمات التي تستقر كالسكاكين في عظامه، عريه المعروض على الأنظار في الواجهات الزجاجية لأولئك الذين يطعمونه، عواصف القلق التي تنفذ في مسامه، فيرتجف ويتجمد حتى الموت، ويصرخ في طلب الدفء وفي انتظار مطر الحوار الذي يدق نوافذ الآمال الذابلة ويمد - بقوته الناعمة - الجسور التي تصل بين الشفاه والآذان.

2

بيد أن الوقت لم يحن بعد للشعور بالدفء، والدخول في الحوار وإقامة الجسور. إنهم - في ظل الحياة اليومية الكابية الكئيبة - يفرضون عليه ألا يقترب منهم بصورة حميمة، أن يتقبل صدقاتهم بالحمد والشكر، أن يحفر لنفسه قبرا داخل نفسه، أن يتطوع بالإبلاغ عن نفسه في «اللجنة المركزية للخنوع والخانعين»، أن يحني رقبته كالأعمى لبلطة التعليمات العمياء.

3

هل يمكن أن تكون هذه حياة؟ أليس في هذا إنكار للذات وإلغاء للوجود؟ دع عنك أن تبقى ثمة فرصة للحوار، أو للحب، أو للشعر والفكر، مع انقطاع كل فرصة للتعبير.

وتحتم عليه أن يتمرد ويثور، ولكي يتمرد ويثور تحتم عليه أن يتعلم ويتعلم. وأول ما كان عليه أن يتعلمه هو أن يستوطن اللغة الجديدة، أن يجد فيها وطنه وبيته ويمد فيها جذوره؛ حتى لا يجد نفسه - كما يقول بيتر فايس - بلا لغة، ولا يسقط في العي والخرس.

واستمرت الثورة مع المضي قدما في التعلم. وتفتحت زهور الشجاعة والثقة بالنفس والاعتداد بالهوية من قلب دوامة الخطر؛ خطر أن تسقط القنبلة، أو تنهار السماء، اليوم أو غدا، فوق الرأس.

لم يكن بد من الرفض وعدم القبول؛ رفض التسليم بالعجز، و«انتظار سقوط الموت فوق الجمجمة الهشة للعالم».

4

لقد بلغ الآن من التعمق في جذور اللغة وفروعها، وتشرب عصارتها، وتذوق ثمراتها، ذلك الحد الذي يمكنه من تحدي الموت تحت بلطة التعليمات المفروضة من أعلى، ورفض قبول الصدقات التي تقدم له، والتمرد على قول «آمين» لكل معتقد يلزمونه به. رفض أن يبلغ عن نفسه، أو يتطوع بإرادته في طوابير الواقفين أمام بوابة «اللجنة المركزية للخانعين»، رفض الرقص على الحبل الممدود بين جحيم وجحيم. باختصار: اختار أن يكون نفسه، أن يمد في الأرض الجديدة جذره، ويرعى شجرته.

5 (ه) بعد غرس الجذر يأتي حوار المطر الهامس مع آذان الأشجار. يأتي مد الجسر بين الأنا والآخر المحبوب في صبر وهدوء، بعدما نضجت اللغة، واختمرت عصارة الكلمة الشعرية في الجذر والجذع والبراعم، وتألقت الخضرة في الأغصان والأوراق، عندما لمسها شعاع الحب الذهبي:

أخضر زيتوني كالزيتونة،

أخضر ذهبي كالورقة في فرع الشجرة،

أخضر عشبي يشبه ظل الواحة في الصحراء،

أخضر زيتوني ذهبي عشبي باللون الفاتح، أو باللون الغامق،

لكن هو أخضر دوما حبك.

6

وانهمرت القصائد تقيم الجسور بين ذاته وذاته، وبينها وبين الآخر المحبوب، كأنها همسات المطر في سمع الشجرة، أو لمسات لمسام العالم في الظلمة أو غبش الفجر. وعندما دعا حبيبته - التي أصبحت زوجته - في قصيدة بعنوان «قلق» (وهي القصيدة التي يستهل بها ديوانه: وطن في الغربة) أن تدثره بجلدها الدافئ؛ كانت هذه الدعوة في حقيقتها تحديا لكل رياح الغربة والقلق، واعترافا بأنه قد وجد ذاته في هذا الآخر المحبوب، كما وجد الآخر ذاته فيه، وأنه لن يعرض عاريا في الواجهات الزجاجية للذين يطعمونه، ولن يخشى بلطة تعليمات السلطة، ولن يشكو من اقتلاع الجذور بعد أن وجد الحب، فوجد معه الوطن وربيع الحياة، والشعر الأخضر الذهبي. (و ) هكذا كانت السنوات العشر لعقد الثمانينيات هي سنوات المنفى الداخلي. وعلى الرغم من النجاح الذي تحقق لشاعرنا فيها - ضمه إلى اتحاد الكتاب في جمهورية ألمانيا الديموقراطية، وحصوله على جائزة مدينة ليبزيج - فقد عكف على مناجاته لذاته، وبحثه عن وطن أو «موطن» في الغربة. هل يا ترى سيهتدي إليه ويسكن فيه؟

تقدم كاتبان مرموقان - هما فولكر براون وهلموت ريشتر - باقتراح ضمه إلى اتحاد الكتاب بوصفه رفيق الطريق الذي يشرف الاتحاد بعضويته، وصاحب صوت فريد، واسم معروف في الشعر الألماني، والشعر العربي على السواء. ومع ذلك استمرت النظرة إليه كشاعر سوري مهاجر يكتب بلغتين، لا كأديب منتم للأدب الألماني نفسه. وبقيت مسافة البعد بين «الهو» و«النحن» قائمة؛ بالرغم من الثناء الذي انهال على شعره وشخصه، والتقدير لمشاركته الفعالة في الحياة الثقافية وفي مشكلات البلد الآخر، وتعاطفه مع شعبه، وتبنيه للكفاح في سبيل تحقيق المدينة الاشتراكية الفاضلة في الواقع. ظل هو الأجنبي، المهاجر، الناطق بلسانين، والكاتب بلغتين. ولم يعدم في بعض المواقف المتأزمة التي حاول فيها أن يرفع صوته، ويمارس حقه الطبيعي في النقد والاحتجاج على الفساد والاستبداد والكذب والظلم، لم يعدم من يصرخ في وجهه: «أنت أجنبي، ولا داعي لأن تتدخل في شئوننا.» أو من يقول له في غضب: «إذا كان هذا البلد لا يعجبك، فلماذا لا ترجع إلى بلدك؟»

لكن كيف يفعل هذا أو يفكر فيه بعد أن أصبح له وطن في ليبزيج، وضربت شجرة شعره وحبه بجذورها في تربة هذه المدينة؟!

إن ديوانه «وطن في الغربة» يضم مجموعة من القصائد التي تحمل هذا العنوان: «مرثيات ليبزيج»، وفي أبياتها ينطق أمله وخيبة أمله في وقت واحد، معاناته من الاغتراب، وإصراره على المواطنة في البلد الذي جاء إليه بإرادته واختياره، وما يزال يعيش فيه ويشارك ويكتب ويعلم ويبدع، دون أن يخطر على باله لحظة واحدة أن يتخلى عنه، حتى لا يتخلى عن نفسه، مهما لقي من جفاء وجحود، ومهما طارده القلق طوال السنوات العشر خوفا من سحب التصريح بإقامته الذي كان عليه أن يجدده سنويا، كما كان عليه ليضمن تجديده: أن يوقع على عقد شديد الإجحاف مع الجامعة.

هكذا امتزج الرجاء باليأس بالغضب في قصائد هذه المرثيات. كم حاولت الأنا الشاعرة أن تواجه صمت الآخر، وتباعده، وتعاليه في بعض الأحيان بأن تمد له يد الأخوة والتعاطف، وتبدي استعدادها لمشاركته في حمل همومه:

أنا أيضا أحمل العبء معكم عن طيب خاطر.

لو شاء أحد أن يقول:

كم هو ثقيل على الظهر المحني لهذا البلد!

7

لكن هذا المسلك الأصيل لم يكن ليمنع الأنا من إعلان غضبها على الكسل، والجمود، واللامبالاة التي تظهر أحيانا على الوجوه الحجرية في المطاعم والمتاجر والمكاتب، تلك الوجوه المتبرمة الساخطة على كل محاولة للخروج «من إسفنج الجدران الأربعة المقدسة».

8

ومع ذلك، فإن كل مظاهر الجفاء أو العداء لا يمكنها أن تقتلع جذر انتمائه للتربة الجديدة. فهناك الزوجة والأطفال والأصدقاء والأماكن، والذكريات التي تجعل من هذه المدينة - ذات الهواء الفاسد الملبد بغبار الفحم - وطنا يعتز به، دائم الشوق إليه، حتى في أحلام نومه ويقظته. فهو في أحد هذه الأحلام يتخيل أنه يدق باب أي بيت، ثم يدخل ويتسلق التماثيل النصفية المتصلبة لسكانه؛ حتى يصل إلى الصدر، وتخرج التماثيل من جلدها السميك، وتستقبل الزائر كما يجب أن يستقبل الضيف قائلة له: اجلس يا أخي على مائدتنا، قل لنا ما الذي أضناك طول النهار، وأنت تجوب وحيدا هذه الشوارع الخالية؟ ثم يرى - في الحلم بطبيعة الحال - أنه يسند جلده المشبع بأحلام يقظته الرطبة على جلدهم الدافئ.

9

ومع الأحلام يطير به بساط الآمال متجها نحو إنسان يناديه في الليل، أو صدر أو جلد دافئ، أو عين طفل ينظر إليه كما يتمنى هو أن ينظر للعالم، أو شارع مشمس في اللحظة التي يتجمد فيها من البرد، وربما يحمله إلى «سيزيف» يدحرج الصخرة أسفل الجبل، أو إلى «بروميثيوس» يقبض على النار، ولا يتركها تسقط من يده، أو صديق يفكر فيه، ويشعر أن القلق يعذبه في هذه الليلة، فيطوقه بدرع الصداقة والمحبة والثقة؛ لأنه مختلف عن ذلك «الآخر» الذي انطلق - وليس في سلة رأسه سوى أرقام - ليقطع عليه تحليقه في الطريق اللبني.

10 (ح) نعم، لقد صمم على الحياة في هذه المدينة التي جعلها وطنا له؛ رغم إحساسه أحيانا بالاغتراب، ورغم تأزمه وتمزقه بما يراه، ويلمسه من تناقضات الواقع الذي يعايشه ويشارك فيه. وهو في سبيل هذه المحاولات الدائبة لغرس الجذور في الوطن الآخر لا يتردد، حتى عن أن يزجر أشواقه لوطن الطفولة، وأن يكبت «نداءات» الوطن المتكررة في الصحو والمنام بالعودة إليه، هذه العودة التي ستبدو بغير شك - وسط المعارك التي يخوضها لتثبيت وجوده في الوطن الآخر - أشبه بالفرار أو الهروب. من أجمل ما يصور ذلك: قصيدته التي جعل عنوانها «أورفيوس»:

هذا النداء المغري للجبل الأجرد، وللحارات الكابية للطفولة.

هذا النداء من خلفك،

لا تتبعه،

لا تتلفت وراءك،

ولا تدر كل يوم،

صندوق الغناء بهذا الحنين

إلى غير مكان.

11

إن محاولاته للتعايش مع الوطن الجديد والحضارة الجديدة قد كلفته الثمن الغالي. وأغلى ثمن هو أن يمر بأزمة هوية يطحنه فيها الشعور بأنه «لا هو هنا ولا هناك»، أو يعذبه الوعي بأنه وقع في الشرخ أو الصدع أو الجرح الفاصل بين العالمين، وأخيرا الإحساس في عمق ليل الأزمة أو فوق ذروتها، بأنه قد تخلى عن نفسه كما تتخلى الشجرة الخضراء عن أوراقها، وأنه بذل كل ما في طاقته؛ ليمد جسرا بينه وبين الآخر فلم يزده هذا - في بعض تجاربه على الأقل - إلا بعدا عنه أو نفيا له. «كي أصل إليكم، أسقط عن نفسي، حتى قبل الخريف، ورقة ورقة.»

12

وإذا كانت شجرته قد ذبلت قبل حلول الخريف، وتساقطت أوراقها، بل إن «كلمة الطفولة» قد سقطت عنها أيضا، ولم تعد ورقتها تتدلى منها، فإنه يشعر مع ذلك شعورا واثقا بأن الثمرة من كفاحه وعنائه في الوطن الآخر قد أوشكت على النضوج، وأن عصارتها بدأت بالفعل تفجر القشرة؛ من فرط سعادتها وفرحتها بالنضوج.

13

وعندما تدلهم عليه أزمته الباطنة طوال الثمانينيات، لا يجد أمامه إلا الملاذ الأخير الذي يلجأ إليه بعد أن يئس من عبث الأحلام والأشواق المستحيلة، وبعد أن تعذب عذاب الشخصيتين الإغريقيتين الممزقتين، وانفض عنه بعض الأصدقاء، وتنكر له بعض الزملاء، وهل سيكون هذا الملاذ غير الزوجة الحبيبة التي يأوي إليها وهو يقول: «لم يبق سواك، بحثت يدي في الليل عن حرير شعرك الدمشقي، كلمتك التي تنتشلني من ليلي الثقيل، تحملني فوق جناحين أبيضين إلى قلب النهار، أنت أيها الصيف الذي يسكنني في عز الشتاء، كلما لمس جلدك جلدي.»

14 (ز) في هذا الملاذ وجد وطنه في الغربة، عرف صدق الكلمة التي قالها له أبوه العجوز الحكيم قبل موته: «سيكون الحب وحده هو وطنك.»

في هذا الوطن، الذي يتشبث فيه «بكتفي امرأة شقراء يحبها»، سيجد كل ما يجعل للإنسان وطنا: الأصدقاء، والأماكن، والذكريات. لقد سقط سقطة «إيكاروس» على الأرض التي أحبها، ولم يشأ أبدا - برغم الإحباط والأوهام الخادعة والآمال الخائبة - أن يغادرها أو يموت على أرض سواها: «أبدا لم أرد أن أحيا أو أموت إلا هنا.»

15

وهنا هو المكان الوحيد الذي أكدت له الذاكرة - كما يعبر فرويد عن معنى كلمة الوطن - أنه لا يشعر فيه بالغربة، وأنه يستطيع فيه أن يعمل وأن يحب.

16

وهنا هي ليبزيج التي يشتاق إليها حين يكون في دمشق، ويشتاق إلى دمشق حين يكون فيها: «بلداي الاثنان وأنا، مرتبطان برابطة الزواج، حتى يفرق الموت بيننا.»

وهنا يمكنه أن يقول للآخرين الذين يعيشون معه ويعيش معهم: «أنا لا أتخلى عن نفسي أو عنكم.»

17

وهنا - برغم الوحدة والزهد - يريد أن يتواصل ويشارك ويعمل، ولا يغيب عن المشهد، يريد ألا يعامل كزهرة في بيت زجاجي.

18

وهنا تتعانق خطوط الطول، ويزف دفء الشمس إلى برد الثلج، ويزدهر عالم يوتوبي، ولكنه واقعي فريد؛ لأنه عالم إنساني يحيا فيه الغريب ويشعر بإنسانيته، برغم الصدع أو الجرح الذي يدميه، وبرغم العذاب الذي يقاسيه لكي يمد الجسور بين شاطئين، ويغرس الجذور في بلدين ولغتين وتراثين وحضارتين. (ط) لكن الاهتداء إلى الوطن والسكن فيه وإليه، لا يعني بأي حال من الأحوال أن ينكفئ الشاعر على نفسه داخل جدرانه الأربعة الخرساء، ولا أن يقنع بحياة البرجوازي الصغير الذي ختم على جبينه بخاتم اللامبالاة، ووقف عاجز الحيلة في طوابير الخانعين أو اليائسين. وهو لا يعني أيضا أن يرضى بالسكوت على الكذب والظلم والصمت المنتشر حوله كالوباء. لقد صمم على أن يرفع صوته النقدي، حتى لو اصطدم بسوء الفهم من بعض أقرانه والمستمعين إليه، بل حتى لو جاهره أحدهم بالعبارة الوقحة : «إن كانت الأحوال عندنا لا تعجبك، فلماذا لا ترجع إلى وطنك؟» ولقد آثر ألا يتحول إلى شيطان أخرس، وصمم على أن يستجيب لنداء تراثه الساري في دمه، ولا يسكت عن الحق. وها هو ذا يقول في قصيدة معبرة عن أزمته في السنوات العصيبة التي سبقت قيام الوحدة الألمانية ضمن مجموعة قصائده «مرثيات ليبزيج»، التي سبقت الإشارة إليها تحت عنوان «واحد لم يسكت»:

كثيرون هم الذين يفهمونني،

وكثيرون لا يفهمونني،

مع أن الذين لا يفهمونني يصرخون،

فإن الذين يفهمونني يسكتون،

أنا أفهم الذين لا يفهمونني عندما يصرخون،

ولا أفهم الذين يفهمونني عندما يسكتون،

ولأن الذين يفهمونني يسكتون،

فلا بد لي أن أصرخ،

ولأنني أصرخ لا يفهمني أولئك الذين يفهمونني،

أحد الذين يفهمونني،

سمع صرخة قلقي ولم يسكت،

فتم السكوت عنه.

19 (ي) مضى الشاعر يدافع عن مبادئه ومثله، ويرفع صوته احتجاجا على الأحوال السيئة في ظل التطبيق الفاشل للاشتراكية، ويواصل مشاركة الناس العاديين آلامهم وهمومهم، كما يواصل في الوقت نفسه الدفاع عن وجوده وبقائه في مجتمع «اليوتوبيا»، الذي لجأ إليه باختياره، ثم جرب بعد ذلك قسوة خيبة الأمل فيه، وضرورة التحرر من كثير من أوهامه السابقة، وإن بقي على انتمائه إليه، والتزامه بروح مبادئه ومثله بالرغم من سوء الحظ الذي أصابها على أيدي الموظفين البيروقراطيين، والمنظرين والدعاة الدجالين أو الجلادين.

واضطر الشاعر أن يدخل باختياره في سجن الصمت، وفي منفاه الداخلي، بعد تجاهل صوته، والسكوت عن صراخه إلى حد الاستنكار، في بعض الأحيان، لتعاطفه ومشاعر حبه، وأخوته للآخر الذي يشاركه العيش في مجتمع واحد ومدينة واحدة. ومن الطبيعي أن يجنح في بعض ما كتبه خلال الأزمة من شعر إلى التأمل الفلسفي، والنظر من أعلى لعله يتجاوز أزمة الذات، ولا يختنق في سجنها أو منفاها الاختياري، ولكنه ظل على وعيه وإيمانه بأن الشعر هو الذي يبقى، وبأن الكتابة هي الضمان الوحيد لإثبات الوجود، وظل إرسال حمامات كلماته فوق سطوح المدن النائمة هي الرسالة التي لا يكف عن إبلاغها، ما بقي على قيد الحياة :

الموت يرقد على بيضته المعدنية،

بلا انقطاع في رحم الأرض،

أرسل حمامات كلماتي؛ لتطير فوق أسطح المدن النائمة،

وألقي في بحار اللامبالاة زجاجات بريدي،

بلا انقطاع.

20 (ك) اسمعه وهو يقول في أحد أحاديثه التي ترجع إلى عام 1986م: «إن الشعر عندي هو أسلوب وجودي، والتوقف عن الكتابة يعني في نظري أن أتوقف عن الحياة. إنني لا أستطيع أن أعيش بدون تواصل مع الغير. هذه خاصية إنسانية. والكتابة هي الطريقة التي أتواصل بها مع الآخرين. وحل المتناقضات، أو تقديم إمكانيات حلها هي إحدى وظائف الشعر، أي نوع من العلاج. فإذا تناول المخاطب إنتاجي الأدبي في يده، فربما جرب هذا الأسلوب في العلاج، وربما استطاعت القصيدة أن تؤثر عليه كما أثرت على الشاعر، أي ربما عالجت بعض أزماته وتناقضاته، وجعلته أقدر على التعايش مع عالمه.»

21

والواضح من العبارات السابقة أن وظيفة الشعر هنا قد انسحبت إلى الباطن، وربما تكون قد كفكفت من طموحها القديم لتغيير العالم أو الواقع، الذي لا تغيره الكلمة بسهولة كما يأمل الكتاب والشعراء منذ القدم. وهذا الاتجاه إلى الذات أو عالم الباطن لا يعني التقوقع أو الانكفاء، أو الكف عن الفعل والتواصل، ولا يتنافى على الإطلاق مع الحفاظ على علاقته الأمينة الخالية من الكذب أو المداراة أو المداهنة، بالمجتمع الذي اختار الحياة فيه، ولم يصده سقوط أقنعته عن مواصلة المشاركة الفعالة في بنائه. وهو كذلك لا يتنافى مع الحفاظ على «الرسالة» الأبدية للكلمة في الإبلاغ والتنبيه والتنبؤ، والتحذير والتبشير أيضا بالمستقبل الأفضل والأعدل والأكمل، مع الحرص على الدوام - ورغم انتقاله من مخاطبة الآخر إلى مناجاة الذات - على دوره الجوهري في إقامة الجسور بين الشاطئين البعيدين.

ذلك - في تقديري المتواضع - هو الطابع الذي ما يزال غالبا على شعره، على الرغم من غلبة الاتجاه للمناجاة الذاتية على إنتاجه خلال السنوات العشر الأخيرة، وبالأخص في آخر دواوينه الذي تجده في هذا الكتاب، وهو: «هكذا تكلم عبد الله».

الفصل الرابع

هكذا تكلم عبد الله

(أ) لجأ الشاعر إلى منفاه الداخلي، ورجع الشعر إلى جوهره الحقيقي من الذات إلى الذات.

واستمر البحث - خلال عقد الثمانينيات - عن الهوية، وعن دور الشاعر والكاتب الذي يرى نفسه كالراقص على حبل بين عالمين - أو جحيمين كما سيقول في إحدى قصائده المتأخرة - بين وطن أصلي يشعر مع الزمن بالاغتراب عنه، ووطن يرى بعينيه كيف تتحطم فيه «يوتوبيا» أحلامه الاشتراكية، وينظر إليه أهله بعد العمر الطويل الذي قضاه معهم نظرتهم إلى غريب أو أجنبي. ومع أنه قد حصل في منتصف الثمانينيات - كما عرفنا من قبل - على جائزة الفن من مدينة ليبزيج، مما أكد الاعتراف بقيمة إنتاجه وتميزه، فقد راح شعر المناجاة الأسيان يتدفق منه بالألمانية والعربية، وبالأخص في مجموعة قصائد سماها «الموت الغريب»، وضمت إلى قصائد أخرى مختارة من دواوينه السابقة في منتخب، سماه «لو لم تكن دمشق» (1992م، من ص72 إلى ص83).

لم تكن هذه القصائد مجرد تعبير عن الواقع السياسي والاجتماعي واليومي الخانق (كما في قصائد عميقة الدلالة على ذلك الواقع مثل رابسودية قاتمة، وتعلم المشي والقفص) التي تجدها مع قصيدتي «غربة» و«موت غريب» مع المختارات المنشورة في الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب، بل كانت في صميمها مخاطبات ومناجيات للآخر الوحيد الذي بقي له، وهو ذاته، غلب عليها طابع التأمل الفلسفي في حكمة الوجود والمعنى والمصير، والحب والموت والغربة والرحيل والوصول، والذات والآخر، والشوق للاتحاد بالكل دون الضياع والذوبان فيه ... إلى آخر ذلك من الموضوعات والأسئلة الكبرى، التي اتجهت إليها رؤية جديدة وحكمة نضجت على نار التجربة والزمن. والذي يهمنا الآن هو أن هذه القصائد الأخيرة - التي كتبت بين سنتي 1981م و1991م - تضم عددا من القصائد التي جاءت على لسان عبد الله، وكانت أشبه بالطلائع المعلنة عن أحاديثه وتأملاته، ونصائحه الحكيمة التي سيضمها بعد ذلك ديوانه الأخير «هكذا تكلم عبد الله» (من هذه القصائد: الجذر، الحبل، الإنسان الجديد، الجنون، الجسر).

لفت الديوان الأخير (1995م) أنظار القراء والنقاد فور ظهوره، لا بسبب الغلاف الأزرق البديع الذي نثرت على أرضيته الألف باء العربية بحروف ذهبية ذات بريق لامع كبريق النجوم في سماء صيف صافية، ولا بسبب العنوان الذي يذكرنا لأول وهلة بعنوان كتاب نيتشه الشهير «هكذا تكلم زرادشت»، قبل أن نكتشف أنه لا تربطه أية صلة من قريب أو بعيد، لا بزرادشت الإيراني القديم ولا بنيتشه فيلسوف الإنسان الأعلى، وإرادة القوة والعود الأبدي للشبيه (ربما باستثناء نوع من الصوفية الدنيوية، أو الأرضية التي يشتركان فيها من بعيد، وبصور مختلفة مع روح التصوف الطبيعي والدنيوي الذي نجده في عصور ومذاهب مختلفة في الشرق والغرب)، بل لا تربطه صلة موضوعية حميمة بمخاطبات ومواقف المتصوف الإسلامي الشهير، من القرن الخامس الهجري والعاشر الميلادي، وهو «النفري» الذي تأثر به عدد كبير من شعرائنا وأدبائنا العرب المعاصرين، ولم يأخذ شاعرنا منه سوى شكل الخطاب وصيغته، التي يبدأ بها قصائده «هكذا تكلم عبد الله أو وقال عبد الله»، كما يبدأ بها النفري مخاطباته. وإذا كان عبد الله لا يتوقف عن قوله ولا عن خطابه لآخر يحاوره باستمرار، فإننا سرعان ما نكتشف أن الأمر من البداية إلى النهاية لا يخرج عن كونه «مونولوجا»، أو مناجاة تهمس بها ذات الشاعر لذاته، وتصبح فيها - على الرغم من الجدل الدائر بين قطبين أو طرفين - هي الأنا والآخر في وقت واحد. (ب) فقدت هذه الذات - التي انقسمت كالخلية الواحدة إلى ذاتين، وراحت تتأمل نفسها الأخرى في مرآتها - فقدت كل أمل في قدرة الكلمة على تغيير الواقع، وفي قدرة الواقع نفسه على إحداث أي تغيير فيه. وأخذت الذات تراجع كل المفاهيم التي عاشت عليها وآمنت بها. حتى مفهوم الوطن فقد اسمه المحدد، وتحول إلى رغبة دائمة، وبحث لا ينتهي عن مكان يمكن أن تصل إليه الذات وتستريح فيه: «أن أصل مرة أخرى لأي مكان، أن أخلد للراحة مرة أخرى، أن أكون مرة أخرى هناك، حيث تعلم الذاكرة علم اليقين.»

ومن الصعب تحديد هذا المكان الذي يريد الشاعر أن يصل إليه، بعد أن عانى الكثير وقاسى الكثير من الغربة في الوطن، ومن البحث عن وطن في الغربة. كان الفرق واضحا بين الوطنين خلال تطور حياته وشعره، ابتداء من «كحرير من دمشق»، الذي تفصل قصائده بينهما فصلا واضحا، إلى «عناق خطوط الطول» الذي حاول أن يوحد بينهما داخل ذاته، إلى «وطن في الغربة» اهتدى إليه ومد - بفضل معجزة الحب - جذوره فيه. لكنه الآن - في مخاطبات عبد الله لذاته - يتبين استحالة الفصل بين الوطن الأصلي ووطن الغربة، كما يكف عن محاولة التوصل إلى مركب ثقافي أو حضاري يؤلف بينهما، إذ يمكن أن تتجاور الاختلافات والتناقضات والمقومات الخاصة بجانب بعضها، وتلقي الأضواء بعضها على بعض، وتلغي الحواجز الغليظة التي تفرق بينهما.

أين إذن سيكون مكانه ومستقره؟

لا بد أنه سيكون بينهما، في النقطة التي يقيم فيها الجسر الواصل بينهما بالتفاهم والاحترام المتبادل، والأخوة والتجانس والسلام، في حضن حضارة بشرية واحدة تضم مختلف الثقافات الفردية التي تتحاور مع بعضها حوارا حيا لا ينقطع «ولا يكترث بالصيحات المشبوهة عن صدام الحضارات، واللغو الفارغ المريب عن عولمة تروج لها، وتفصلها على مقاسها قوة أو قوى جشعة مهيمنة»: «إن هويتي ليست عربية ولا ألمانية، ولكنها عربية وألمانية معا، لا يوجد في داخلي صراع أو خلاف بينهما فحسب، وإنما يتم كذلك العناق.»

1

وقد جاءت كلمة التقدير والثناء التي ألقيت عنه، بمناسبة حصوله على جائزة «أدالبير فون شاميسو»،

2

واقتبسنا فقرة هامة منها في سياق التمهيد لهذا الكتاب، جاءت تأكيدا للمعنى الأصيل من حوار الحضارات، وأقصد به المعنى الشعري والإنساني المحض لهذا الحوار، بعيدا عن كل ثرثرة سياسية أو علمية، أو إعلامية لم تتوقف طوال السنوات الأخيرة عن الخوض في بحار الزيف والكذب والخبث والخداع. (ج) وبنية قصائد «هكذا تكلم عبد الله» تقوم على الجدلية التي يتلاقى فيها - كما يتصادم ويتصارع - السؤال والجواب، والفعل ورد الفعل، والإيجاب مع السلب، أو السلب مع الإيجاب. ومع أن ترتيب القصائد قد روعي فيه أن توضع القصيدة في مواجهة قصيدة أخرى نتوقع منها أن تمثل الطرف الآخر، في سياق الحوار الجدلي بين وجهتي نظر متقابلتين، فإننا لا نلمس الجدلية والتقابل الضدي بصفة دائمة، إذ يحل الاستطراد والتكامل أحيانا محل التضاد والتعارض، كما يمكن أن تطوف بنا القصائد في عوالم وتجارب، ومناطق شديدة التنوع، وأن تضعنا في مواضع الحيرة والشك، وعدم الفهم حيال الغموض الذي يلف بعضها في ضبابه، ويحيطها بما يسميه «جوته» ب «السر المكشوف» الذي ربما تستطيع البصيرة وحدها أن تنفذ إليه وتتعاطف معه.

ومع ذلك يمكن القول بوجه عام: إن عبد الله يمثل الذات الحكمية التي تعلم وتوجه وتراجع وتقيم، وتشجع وتعزي وتلوم وتعاتب، وتقوم أيضا بتعرية جميع الأقنعة. كل ذلك من خلال الصدق المطلق، ومن منظور الدليل المحنك الذي رأى وعرف، وراح يهدي نفسه بنفسه إلى طريق الوصول للعالم، والآخر، والحياة، والنور، والحب، كما يساعد الآخر - الذي هو هو ذاته - على العلو والارتفاع فوق الصغائر والإساءات، وفوق مرارة الواقع الذي سقطت أقنعته، وخاب الأمل فيه، وغادره كل وهم تعلق به، بل فوق الموت نفسه الذي ينصحنا وينصح نفسه بأن نرحب به ونعيش. وإذا كنا نلتقي في كثير من القصائد بذات أخرى ترد على عبد الله، فتشرح أو تبرر وتوافق أو تعترض، وتذكر بقسوة الزمن والواقع والظروف التي حالت بينها - كما تقول عبارة نيتشه الشهيرة - وبين أن تصير ذاتها، فينبغي ألا ننسى أن هذه الذات الأخرى لا تجد نفسها إلا في ذات عبد الله، كما لا يجد عبد الله نفسه إلا فيها. وتلك هي الحكمة الأساسية التي تقوم على وحدة الذات والآخر وعناقهما وتداخل نسيجهما، مثل تداخل قوس قزح مع قوس قزح.

وتبدأ مناجاة الذات لذاتها - على لسان عبد الله - بالهموم والعذابات الكبرى التي شغلتها في حياتها وعبرت عنها في شعرها. وأول هذه الهموم وأفدحها هو هم الوطن الذي يحق لكل إنسان ويتحتم عليه أن يمد فيه جذره. لهذا يتكلم عبد الله بصيغة الأمر الجازمة الحاسمة: اغرس جذرا تؤسس وطنا؛ لأن من لا وطن له في وطن ما، لا جذر له، ومن لا جذر له لا يحمل ثمرة، ومن لا يحمل ثمرة فهو وحيد مهجور مثل الفرع اليابس.

ويرد عبد الله بلسان عبد الله، أو ترد الذات الأخرى على الذات التي تجد نفسها فيها، فتقول: مكان يحويك، زمن يحملك، قوس قزح يغزل في داخلك ويتعانق مع قوس قزح، هناك فحسب تكون حياة.

ولا تلبث المناجاة أن تقلب جمرات الهواجس والشكوك في أعماق الذات التي ما فتئت ترقص على حبل، عن يمينها الغربة وعن شمالها الغربة، لا الشرق فيها شرق، ولا الغرب فيها غرب، وهي تواصل الرقص، وتنتظر كالقارب الذي نكس شراعه، أو الشاطئ الذي ما زال ينتظر في صمت. الغربة ليست عنها بغريبة؛ لأنها تعشش في الجذر، وهي لا تملك إلا الشوق إلى المطلق يدعوها في ليلات الوحدة خلف تخوم جبال سبعة. ويذكرها عبد الله أو تذكر نفسها بأن الوطن الأصلي هناك، وأنه أقرب إليها - على الرغم من مسافة البعد - من قرب اليد لليد، والحدقة للعين، والطفل لصدر الأم.

وأول الطريق لقهر الغربة هو الحفاظ على الهوية، والصمود في وجه الذل والإهانة ممن قدموا له الطعام والشراب بيد لا تعرف الحب، ثم صرخوا فيه لينصرف خارجا إلى العمل: «دع الحبة التي يلقونها عند قدميك، وحلق جائعا مع الطيور الصغيرة» «كن كالشجرة المشتاقة لمقدم الربيع، تلتف عارية بالريح الثلجية، وتقاوم الموت.»

إن الوطن هناك، مهما اضطهده ذات يوم، شمسه الأليفة مختبئة في العيون العطشى التي تتابعه وترعاه، وفي جرحه القديم المر الذي يطلب منه عبد الله أن ينثر عليه البلسم ليندمل ويطيب. والوطن تحت قدميه في البلد الغريب الذي آوى إليه بإرادته واختياره الحر. وما عليه إلا أن يمد يده للآخر، أن يأخذ يده المرتعشة من البرد في يده، أن يعطيه كرسيا، ويمد له مائدة ويعيره أذنيه عندما يتكلم.

لا خلاص من الغربة إلا من خلال هذا الآخر الكامن فيه - عليه أن يبحث عنه في داخله، وعلى ذلك الآخر أن يبحث عن نفسه فيه، الآخر هو أنت وأنت هو، والجسر الواصل بينكما هو وحده الحياة - وأنت الذي تبحث فيه عنه، وهو الذي يبحث عنه فيك، عليك أن تبقى أنت أنت، وعليه أن يبقى هو هو، وعليكما معا أن تحافظا على الجسر الذي يربط بينكما؛ إذ ما قيمة الحياة وأي ثمن تساويه لو تحطم هذا الجسر؟!

نعم، كيف تصبح حياتك لو تعمد الآخر أن يحطم هذا الجسر؟ ألم تجرب كيف عاملك بجفاء، وكيف اختزل وجودك الإنساني والشعري في صيغ وكليشيهات باردة جوفاء، سماك الأجنبي والمهاجر واللاجئ، وأبى عليك أن تجد نفسك فيه، كما رفض أن يبحث عن نفسه فيك؟

لا بأس في هذا ولا ضير. إن عبد الله يتشبث بالجسر ويدعوك للتشبث به، يوصيك أن تصير كما كنت، حين لم يكن لك وجود إلا في الآخر، يعلمك أن تصبح ذاتا بحق، لا قوام لها ولا بقاء إلا بالذات الأخرى، وفيها ومنها إليها. (د) هذه الذات الأخرى التي وجدت نفسك فيها كما وجدت نفسها فيك، التي أغنتك بثرائها عن فقر القلوب الأخرى، وظللتك بشعرها الناعم كالحرير الدمشقي عندما افتقدت الظل في الهجير، ومنحتك الدفء في الثلج والصقيع، وطرقت بابها بلا خوف حين قرع غراب الوحشة والفراق نافذتك، واحتوتك ببسمتها ومدت لك شفتيها بالندى الأخضر، حين عبست الوجوه الثلجية، وعاهدت نفسك أن تأخذ وجهها معك وبين جفونك، في صحوك ومنامك طول العمر، وحتى آخر لحظة. هذه النعناعة الذهبية الشقراء - كما سميتها - هي جسرك الذهبي إلى العالم والأرض والحياة والإنسان. بفضلها ستنسى غربتك، ولن تحفرها في جلدك، ستقاوم وتسترد الثقة فيما تقول وتفعل، وتنسى اليد التي امتدت إليك بالإساءة، وتعنون الألم بالفرح والفرح بالألم، وستنتظر المطر فترقص على حبلك بين مطر ومطر، لا بين جحيم وجحيم، كزهرة عباد الشمس متحديا الهواء الخانق. وسوف تشد النعناعة على يدك بحنان الزوجة والأم والأخت وابنة العم والحبيبة، فتكسر بنفسك شرنقتك العمياء وتخرج منها؛ بحثا عن الظلال الرطيبة في وهج الشمس، وتمد جسورك من خط طول إلى خط طول، ويجد قاربك الوحيد مرساه على شواطئ العالم، وفي قلب المخلوقات.

عندئذ تدخل في «الماوراء الأرضي»، الذي دخل فيه اسبينوزا وجوته ونيتشه والنفري، والمتصوفون الطبيعيون، أو الأرضيون، كأنك ديونيزيوس أو تموز جديد يهبط في الهاوية الأعمق للحقيقة، في النبع الأعمق للحياة ليبعث من وسط اللجة كالنجم الطاهر في وهج الفجر. ستكون نهرا يذوب فيك المطر، وشجرة تنضج فيك العصارة، وتطرح الثمر، وسوف تتوحد بالكائنات، وتتوحد الكائنات فيك، تنفذ إلى مسامها وتنفذ في مسامك، تكون الماء والسمكة والموجة والزيتونة، وتغني مع البلبل للأشجار وتطرق بالأحلام الخضراء نوافذ هذا العالم، ثم تسكن هذا العالم فلا تهجره ولا يهجرك، تتنشق روائحه بكل حواسك، وتستقر في لحظته الأبدية التي تتنفسها بكل مسامك، تدخل فيها لتحتضن نفسك ومسبحة صلواتك، ثم تخرج من شرنقتها لترفرف في الحياة كالفراشة الإنسان، أو الإنسان الفراشة، نحو النور الساطع والزهر الندي، بعد أن جربت وتقبلت وتخليت عن التدخل في مجرى الحياة، وتحررت من أوهامك السابقة بتغيير الواقع والناس، لكنك أبدا لم تتخل عن دورك في أن تكون جسرا ممتدا من خط طول إلى خط طول جسرا يصل إلى قلب العالم وإلى قلب الإنسان - بنيته من كلماتك وأشعارك، وما زلت تبنيه - لكن هل وصلك هذا الجسر مع الآخر ووصله بك، أم حالت دون لقائكما أفكار خاطئة وأحكام مسبقة تحصن وراءها وتحجر في قيودها وأغلالها، وعششت في عقله وفي رؤيته لك، منذ العصور القديمة والوسيطة إلى يومنا الحاضر؟

الفصل الخامس

هكذا يريدوننا

(أ) في هذه الأيام التي ترتفع فيها موجات التعصب المقيت بين الأفراد والشعوب، وتتمزق الكرة الأرضية بين شقي رحا التكتل والتوحد من ناحية، والتفرق والتجزؤ من ناحية أخرى، تتأكد الوظيفة الأزلية للفكر والشعر والكتابة في إنقاذ الأرض والبشرية والسلام، ومساندة الحرية والحق والعدل والتسامح والحوار. ويقف كثير من شعراء العالم وكتابه ومفكريه كالسد المنيع في وجه الطوفان الكاسح، يقاومون بفكرهم وشعرهم وكتابتهم، وأحيانا بوجودهم الحي ولحمهم العاري، سيول التزمت والكراهية والاضطهاد، وضيق الأفق والأحكام الجاهزة المغرضة، التي يتقاذفها الجميع ضد الجميع.

لا شك أن الشاعر تعرض، خلال حياته الحافلة في «موطنه» في الغربة، لألوان لا حصر لها من الأحكام المسبقة، الواعية واللاواعية، عن شخصه وثقافته وحضارته العربية التي نما فيها وانتمى إليها، وتخللت كل مسامه وخلايا جسده وروحه. وقد عبر عن ذلك صراحة أو ضمنا في كثير من قصائده، ومن أدلها على تحيز تلك الأحكام المغرضة وفظاظتها وجهلها: هذه القصيدة بعنوانها الذي يشبه أن يكون علامة اتهام: هكذا يريدوننا:

1

جمل وراء جمل،

ورجل يتدثر بالعباءة وهو حافي القدمين.

رمل يصل إلى حافة السماء،

رمل هو المستقبل،

رمل وجمال،

هكذا نقف في واجهات العرض التي يملكها

أولئك الذين يكسبون منها عيشهم. (ب) وقد شارك عادل قرشولي - قبل إتمام الوحدة الألمانية - بمحاضرة هامة

2

عنوانها: «ديموقراطية للألمان وحدهم، أو سطوة الحكم المسبق؟» وذلك ضمن المحاضرات والندوات التي عقدت في أواخر شهر فبراير، سنة 1990م، في قاعة أبوللو بدار الأوبرا الشهيرة في برلين، تلبية لدعوة من وزارة الثقافة في حكومة ألمانيا الديموقراطية السابق، وبعض دور النشر الكبرى في شطري ألمانيا الشرقية والغربية، وعرضت فيها مجموعة مرموقة من الأدباء والشعراء والفلاسفة والعلماء والصحفيين خلاصة أفكارهم وتجاربهم الشخصية، وآمالهم ومخاوفهم، حول حاضر ألمانيا ومستقبلها. ويكفي أن نذكر بعض الأسماء التي اشتركت مع شاعرنا في عرض تأملاتها، التي ظهرت بعد ذلك في كتاب أصدرته دار نشر الأمة: الروائي جنتر جراس، وفيلسوف العلم كارل فريدريش فون فيسيكر، والكاتب المسرحي رولف هوخهوت.

يبدأ الشاعر محاضرته بقراءة قصيدة تتضمن بين سطورها لمحات من سيرة حياته وفكره، على مدى ثلاثة عقود من الزمن في مدينة ليبزيج، كما تحدد مواقفه الثابتة - رغم كل التجارب المريرة أو بسببها - من الحياة في البلد الذي اختار بإرادته الحرة أن يعيش فيه، وصمم على أن يكون الزواج بينهما عهدا من الوفاء، والعرفان لا يفصمه إلا الموت. تلك هي قصيدة «وطن في الغربة» التي عنون بها آخر مجموعة شعرية ظهرت له بالألمانية - سنة 1984م - في ألمانيا الشرقية السابقة.

لنقرأ معا بعض المقاطع التي سيتناولها الشاعر في محاضرته بالتحليل، أثناء تعرضه للحديث عن الأحكام المسبقة، التي انغرست بذورها السامة في مخيلة الكثيرين من الألمان والغربيين عن الشرقيين بوجه عام، والعرب بوجه خاص، فحالت بينهم وبين الرؤية الصحيحة والحكم السليم اللذين يقوم عليهما التسامح، والحوار المبني على الاحترام المتبادل:

ما الذي جئت أبحث عنه في هذا البلد،

الذي جئت إليه بإرادتي الحرة،

وفوق جبيني أحلام خضراء،

هل أعيش هنا لأنزوي بين جدراني الأربعة،

محاطا بالأوراق المزهرة التي فرشت بها،

أم لكي أقلب في الإعلانات بحثا عن التحف القديمة،

أم عن مزرعة ريفية بعيدة عن القبضات المكورة لهذا العالم؟

هل أعيش هنا لأحصل على كل شيء،

خلسة من تحت موائد المحلات؟

لأشتري، بالعملة الصعبة، شيئا من الرفاهية؟

لأتكلم ليل نهار عن ملاءات الأسرة،

بينما تسلبني راحة النوم صرخات الأطفال الفزعة،

قبل سقوط القنابل؟

إن جلدي يحس خنجر الجوع

الذي يلاحقه من خط طول إلى خط طول،

عبر الحارات المخيفة في ضواحي المدن. (ج) جاء الشاعر إلى هذه المدينة بأحلام خضراء فوق جبينه، وصمم منذ البداية على عدم التخلي عن نفسه، ولا عن الناس الذين عاش معهم وما زال يعيش. شارك في حياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية مشاركة فعالة، تبنى قضاياها وآمن زمنا - قبل أن يجرده واقع التطبيق البائس من أوهامه - بمشروعها الاشتراكي اليوتوبي: «إذ أين أستطيع، إن لم يكن هنا، أن أنشر سجادة عملي العريضة أمام التاريخ، وعلى طرق الصداقة التي أطلق عليها اسم السلام الحي؟ أين - إن لم يكن هنا - يمكنني أن أتدرب على المشية المنتصبة للبشرية، لأملأ قدر الكرة الأرضية باللبن والنبيذ لا بالرصاص، ولكي أقول أخيرا: لم تكن المعارك ضربا من العبث، ولا كانت حزمة السهام التي رشقت في صدورها، أليس هذا جديرا بأن يزن كل شيء؟»

لكن الحياة لم تكن سهلة على الإطلاق. وكثيرا ما بلغ اليأس والغضب بالشاعر إلى الحد الذي تصور معه أن يكون: دون كيشوت جديد، أو ميخائيل كولهاز آخر،

3

وأنه لا يكاد يتوقف مثلهما عن شق حنجرته من الصراخ في وجه طواحين الهواء الفارغة المملة، والعيون الخرساء الصماء. صحيح أنه يتمسك في هذا البلد بكتفي المرأة التي يحبها ويستند إليها، لكن ضميره لم يسمح له أبدا بأن يعيش في غيبة عن همومها ومواجع أهلها، ولا بأن ينكفئ على نفسه كالزهرة الصامتة في غرفة نظيفة، أو بيت زجاجي مريح، والسبب في هذا بسيط؛ فقد صمم منذ البداية على أن يكون زواجه من البلدين - سوريا وألمانيا أو دمشق وليبزيج - زواجا أبديا لا يفصم رباطه المقدس إلا الموت: ها أنا ذا أحيا بينكم ومعكم، ولن أتخلى عن نفسي ولا عنكم، هنا في هذا البلد الذي جئت إليه، وفوق جبيني أحلام خضراء.

4

كان زواجه من هذا البلد وثقافته التي انطبع بها زواج عمر ومصير. وقد اقتضت الأمانة والصدق أن يعترف بأن هذا الزواج عهد لا يرد؛ إذ لا يمكن أن يكون المكان الذي عشنا فيه، وعاشت لنا فيه ذكريات، وتعلقنا به وبأهله ومعالمه بعلاقة حميمة، لا يمكن أن يكون قطارا يهبط منه الإنسان في أي محطة يشاء. وكيف يفعل هذا مع بلد أصبح له وطنا في الغربة، تعلم فيه وعلم، وترك بصماته على حياته الثقافية، وأحب وتزوج وصار له فيه أولاد وأحفاد؟

ومع ذلك فإن اعترافه - إذا جاز القول - اعتراف نقدي، ينطلق من الطموح لا من الواقع الذي جربه. أراد - كما فعل كثيرون غيره - أن يغرس بكلماته وأعماله سجادة عريضة على طريق الصداقة، والسلام الحي بين الأفراد والشعوب والثقافات، بحيث يمشي عليها التاريخ بجلال وكبرياء. لكن الواقع القبيح كان يعاقبه كل يوم على حماسه وتفاؤله، فلم يبق أمامه إلا أن يتشبث بمبدأ الأمل ويرفع رايته، وأن يتمسك بكتفي المرأة التي أحبته وأحبها وتزوجها؛ حتى لا يسقط أو يجن. كما رفض في الوقت نفسه أن يغيب عن الساحة، أو يعتزل في برج زجاجي أو غرفة نظيفة مريحة.

وما أكثر ما ووجه في الندوات التي يدعى إليها لقراءة شعره، بهذا السؤال: إذا كانت الأحوال عندنا لا تعجبك، فلماذا لا ترجع إلى وطنك؟ وهو سؤال كان يجيب عليه مؤكدا أنه لا يعتبر أن حياته في ألمانيا الشرقية هي حياة في المنفى، أو أنه يعيش فيها لأسباب سياسية؛ فهو يحمل جواز سفر سوري، ويزور وطنه الأصلي مرة على الأقل كل عام؛ ليشارك في المهرجانات المسرحية والندوات الشعرية التي تقام في دمشق. ومع ذلك؛ فإن رجوعه لم يكن بالبساطة التي يتصورها السائل، ولم يخطر على باله أن ينتقل إلى ألمانيا الغربية التي كان في استطاعته أن يعبر إليها دون حاجة لاختراق الحواجز، أو القفز فوق السور المخيف والأسلاك الشائكة. لم يفعل شيئا من ذلك؛ لأنه ارتبط بهذا البلد بروابط العمل والزواج والأولاد والأحفاد والأصدقاء والذكريات واللحظات التي تعشش تحت الجلد، ولا يستطيع العشب أن يغطيها.

عاش الشاعر في هذا البلد - حتى اليوم الذي ألقى فيه تلك المحاضرة - ما يقرب من ثلاثين سنة، عاش في قلق دائم، مهددا بسحب التصريح بإقامته في أي وقت، إذا لم تجدد له الجامعة عقد العمل (إذ نص القانون الخاص بالأجانب، الذي صدر بألمانيا الشرقية، في الثامن والعشرين من شهر يونيو سنة 1979م، على أن الإقامة يمكن أن تحدد زمانيا ومكانيا، وأن تمنع أو تلغى دون حاجة لإبداء الأسباب)، لكن هذا القلق الذي ظل مسلطا كالسيف فوق رقبته، لم يجعله يسكت على الظلم والكذب الذي كان يراه ويعانيه كل يوم، كما لم يكن على استعداد لأن يشتري بالكذب يوما واحدا، يمد له بعد انتهاء مدة إقامته. (د) ويتطرق الشاعر لظاهرة العداء للأجانب، فيقدم أمثلة مؤلمة تكشف عن أبعاد هذا الخطر الداهم، ثم يطرح هذا السؤال المرعب: كم من الوقت سيمضي قبل أن تعلق على واجهات المحال العامة هذه اللافتة الملعونة: «ممنوع للكلاب والأجانب». منعت ابنة شقيقه، المولودة في برلين، من اللعب في الفترة الأخيرة مع أترابها من الأطفال الذين اعتادت أن تلعب معهم، إذ فوجئت بصوت خشن يقول لها : إن الألعاب مقصورة على الألمان. وتهجم أحدهم على السلة التي كانت تحملها سيدة عربية في السوبر ماركت، وأفرغها من قطع الخبز التي كانت تعتزم شراءها؛ بحجة أنها لا تحمل معها بطاقة هوية، مع أن العاملين في المحل الذي تتسوق منه يعرفونها جيدا، بالإضافة إلى أنها تسكن بجواره وتتردد عليه منذ وقت طويل. وبالقرب من مسكن للطلاب يقيم به بعض الأجانب مع زملائهم، علقت لافتة نقشت عليها هذه الكلمات: «الديموقراطية للألمان وحدهم»، ثم أضيفت إليها بعد ذلك علامة استفهام (ربما أراد بها صاحبها أن يعيد الذين كتبوها التفكير في عبارتهم الاستفزازية، ولا يتصوروا أنها حقيقة جازمة لا تقبل المناقشة). وفي مقهى فندق مشهور بمدينة برلين طلب الشاعر قهوة، فسألته النادلة - ربما بعد أن لاحظت ملامحه الأجنبية - إن كان من نزلاء الفندق؟ ولما أجاب بالسلب؛ رفضت أن تلبي طلبه. وجلس على كرسي في قاعة الاستقبال لينفس قليلا عن غضبه، فشاهد ثلاثة رجال، رجح أن يكونوا من الألمان الغربيين يتجهون إلى المقهى، ويتناولون المشروبات على راحتهم، وتشجع فقام إليهم، وسألهم إن كانوا من نزلاء الفندق، فاكتشف من كلامهم أنهم ليسوا من نزلائه، ولا من الألمان، وإنما هم من الهولنديين.

ويواصل الشاعر كلامه فيقول: إن هذه المشاعر العدائية ليست جديدة، وإنما كانت دائما كامنة تحت السطح، حتى أظهرتها الظروف السياسية الأخيرة، ثم يتذكر ما حدث له قبل عدة سنوات، عندما أطل من نافذة مسكنه في ليلة عيد الميلاد، فرأى كتابة على زجاج سيارته. وعندما نزل من بيته؛ ليتبين حقيقة الأمر وجد هذه الكلمات: «اخرجوا أيها الأجانب»، فكانت هدية عيد ميلاد لم يحسب لها أي حساب.

تلك أمثلة وحالات قدمها كمواطن أجنبي؛ ليبين مدى تأثيرها على سائر الأجانب، ومدى تأكيدها لسلطان الأحكام المسبقة، وخطرها على علاقات التعايش والتسامح بين الأفراد والشعوب والحضارات. فكيف تظهر هذه الأحكام، وكيف تفلت من عقالها بين الحين والحين؟ (ه) يحلل عالم النفس الاجتماعي «ألكزندر ميتشرليش» نشأة الأحكام المسبقة، وأساليب استخدامها في كتابه «على الطريق إلى المجتمع غير الأبوي»، ويقرر بحق أن كل محاولة للتعرف على مدى تأثير الأحكام المسبقة ستظل محاولة قاصرة، وأقل بكثير من الواقع الحقيقي. ويضيف الشاعر بعض أفكاره حول هذا الموضوع، فيبين كيف يتمكن الحكم المسبق من إنسان بالرغم من أن تجربته الشخصية تخالفه تمام المخالفة، وكيف نخدع أنفسنا بهذا الحكم أو ننخدع عن طريقه؛ فالحكم المسبق مرتبط على الدوام بنوع من الاستعداد للقيام برد فعل متطابق مع ذلك الحكم الذي يثيره ويوجهه. وهذا الاستعداد للقيام برد الفعل يتعامل مع موضوعه، وكأنه معروف لصاحبه عن خبرة شخصية، بينما هي مملى من الحكم المسبق ذاته، حتى ولو كانت الخبرة والتجربة الشخصية تتناقض معه (أي مع الحكم)، ويروي الشاعر مثلين بسيطين على ذلك، نكتفي بتقديم واحد منهما.

فقد نظم بعض الطلبة العرب العاملين في أحد المصانع بمدينة ليبزيج، تظاهرة يعلنون بها تضامنهم مع زملائهم. وكان بين هؤلاء الطلبة شاب عربي له شعر أشقر وعينان زرقاوان. وأراد رئيس العمال أن يستدعيه، فسأل أحد زملائه عن اسمه، ولما أجاب الزميل بأن اسمه هو «عبد المجيد» تملكته الدهشة، وصاح مناديا على الشاب: «ها! أنت يا أسود! تعال هنا» كان من الصعب عليه فيما يبدو أن ينطق بالاسم المعقد. وهنا تدخل الحكم المسبق أو استخرجه هو من لاوعيه الباطن؛ ليعفيه من النطق بالاسم. فالطالب عربي، ولهذا يلزم كذلك أن يكون أسود، على الرغم من أن رئيس العمال نفسه طالما داعبه قبل ذلك؛ بسبب شعره الأشقر.

من هذا المثل البسيط يتضح كيف يوجه الحكم المسبق ردود أفعالنا وجهة معينة، تكون في الغالب نحو التخريب والتدمير. وهذا على وجه التحديد هو الذي يعتمد عليه الغوغائيون المحرضون على كراهية الأجانب والخوف منهم، ومن كل ما هو أجنبي أو غريب. ولما كانت الأحكام المسبقة تعبر عن جانب مهم من جوانب الخضوع والطاعة التي تكمن جذورها الخفية في أعماق اللاوعي، فإن أولئك المحرضين يبرعون في تحريك الآليات التي تظهر هذا الجانب اللاواعي، في صورة الواقع الحقيقي.

يقول اسبينوزا في كتابه «الأخلاق»: «إن الإنسان الذي يتصور أن الشيء الذي يكرهه سوف يدمر، سيجد في ذلك شعورا باللذة». والتحليل النفسي والاجتماعي الحديث يعبر عما يقوله اسبينوزا بصورة أخرى؛ فعندما يلصق حكم مسبق بموضوع معين - أو شخص، أو فئة من الناس، أو شعب بأسره - فإن هذا الموضوع يحاط بهالة من الغرابة السحرية الخطيرة التي يصعب التنبؤ بتأثيرها وعواقبها. بذلك يتيح الحكم المسبق للدوافع العدوانية الضاغطة فرصة الإرضاء أو الإشباع. ويسقط الإنسان إحساسه الشخصي بالإحباط، أو بالذنب على غيره، وتنشأ الأحكام المسبقة التي تنشط وتنتشر بصورة جماعية؛ من خلال إحساسات متفق عليها ضد موضوعات متفق عليها. ومن ثم يصبح الموضوع الذي ألصق به الحكم المسبق في متناول قبضات مشاعر الكراهية والعدوان الساعية للتنفيس عن نفسها. وكلنا يعلم كيف استغلت أمثال هذه المشاعر في ظل الأنظمة الفاشية، والشمولية والدكتاتورية، على اختلاف صورها، منذ الحرب العالمية الثانية، حتى الوقت الحاضر، وكيف كلفت ملايين الناس أرواحهم، كما نرى ونسمع كل يوم عن تصاعد الكراهية في أوروبا ضد الأجانب، وعن شحن وسائل الإعلام الموجهة والمغرضة للأوروبيين والغربيين بالعداء نحو العرب والمسلمين، ولصق الكلمة التي تدل على العربي، وعلى الفلسطيني بوجه خاص، بصفة الإرهابي الذي يخبئ الخنجر تحت جلبابه أو عباءته، دون أن يتذكروا لحظة واحدة أن هذا الإرهابي كما يسمونه هو في الحقيقة رافض ومقاوم للاحتلال والإذلال، والاغتصاب اليومي لأرضه وبيته ووجوده ومستقبله. (و) هل نحن حقا عاجزون عن مواجهة سطوة الأحكام المسبقة؟ لو صح هذا لكانت مصيبة مميتة. إن الدساتير الحديثة في كل الدول التي تصف نفسها أو توصف بأنها دول ديموقراطية تنص صراحة على عكس المفهوم السائد من الأحكام المسبقة، كما يشيع اليوم عبر أجهزة الإعلام الجبارة، أعني أنها تنص على الحرية والتسامح نحو الأجانب، ولكن السؤال هو: إلى أي حد يلتزم مواطنو هذه الدول، وممثلو السلطة فيها من الناحية العملية والسلوكية بالواجبات التي تنص عليها دساتيرهم عن الحرية والتسامح والحقوق المدنية ... إلخ؟ إن الحكم المسبق - وهو بطبيعته حكم خاطئ أو مغرض - يقوم دائما على الجهل، كما يمكن في كثير من الأحيان أن يثيره الإحساس بالإحباط والتخوف من الآخر وسوء الظن به، فضلا عن ضيق الأفق، وسيطرة النزعات العصبية أو الإقليمية أو العنصرية أو الطائفية ... إلخ. إنه - أي الحكم المسبق أو المتحيز - يضع الحقائق الفعلية خلف قناع، ويشوهها عن عمد، كما يوجهه ويحفز عليه وينفخ فيه النار منطق زائف مغلوط، يحتاج دائما إلى كشفه وتسليط ضوء الوعي عليه، حتى لا يقع التعايش السلمي. وواقع حياة الناس بعضهم مع بعض ضحية هذا التزييف والتشويه القاتل الذي يمكن، بل يحدث كثيرا، أن تترتب عليه كبرى المصائب.

ما السبيل إذن للتخلص من الأحكام المسبقة والارتفاع فوقها؟ السبيل الوحيد هو قدرة الفرد على الشعور بواقع الآخر والتعاطف معه، واستعداده للخروج من مخابئ سوء الظن وأوهام الدفاع عن النفس التي يتحصن وراءها؛ لكي يلتقي بالآخر ويحاوره ويفهمه، ويضع نفسه داخل ظروفه وأحواله. وهنا يمكن للأدب والثقافة، بوجه عام، أن تؤدي دورا لا يستهان به في هدم الأحكام المسبقة، والتقريب بين الأفراد والشعوب تحت سقف المودة والسلام والاحترام، والاعتراف المتبادل. ولا شك أن ما نطلق عليه اسم «الأدب العالمي» - الذي كان جوته أول من بشر به، وأعلن في أحاديثه الشهيرة مع إكرمان أنه يمثله ويمارسه بالفعل - قد قام وما زال يقوم بدوره في تشييد بناء الإنسانية المتحابة، والأخوة العالمية المستندة إلى تعدد الآداب، وتنوع الثقافات، وتفاعلها في إطار حضارة كونية واحدة. ولا شك أيضا أن الخصوصيات التي يتميز بها كل أدب قومي، بسبب مادته نفسها والمخاطب الذي يتوجه إليه، هي الأقدر من غيرها على اكتشاف الآخر، أو الغريب والأجنبي عنا، بحيث نرى وجهه الإنساني، ونمزق عنه القشرة التي شوهته، أو ما زالت تشوهه بفعل الصراعات المحتدمة على المصالح المتعارضة. إن الأدب هو الذي يقدم لنا وجه الآخر بملامحه الحقيقية، وهو الذي يجعلنا نسمع صوته ونحس نبضات قلبه وآلام جسده ونفسه. والإنسان الذي نقترب منه إلى هذه الدرجة يصعب علينا بعد ذلك أن نلصق عليه لافتة الحكم المسبق، أو نحفر عليه وشم التحيز الأسود. ولما كان الأدباء نوعا من البشر لا يستطيع - بحكم طبيعته، والهدف من عمله وحياته - أن يتخلى بسهولة عن «يوتوبياه»، أو حلمه بالمدينة البشرية الفاضلة والعادلة، وإذا كان هذا الحلم قد فشل حتى الآن في أن يصبح حقيقة، أو يقترب خطوة واحدة من الحقيقة (بعد أن أصبحت كرتنا الأرضية ساحة مخيفة بجوس فيها الاضطراب والتعصب، والعنصرية والإرهاب، والصراع على القوة والسيطرة، بجانب أشباح الجوع والفقر والظلم، والتزمت والأحكام المغرضة ... إلخ)، فليس معنى هذا الفشل أن نلعن الحلم نفسه، أو أن نتخلى عنه. لقد حلمت الإنسانية دائما بالسلام والتواصل. والأدباء الحقيقيون هم الذين علموها على الدوام أن تحلم هذا الحلم، وما زالوا يواصلون السير أمامهم ومعهم على طريق الأمل الصعب. أجل، لا خيار أمام البشر اليوم، ولا بديل عن الحياة والعمل مع بعضهم ولبعضهم إلا ببديل واحد هو: خراب الأرض، وفناء الجنس البشري. صحيح أن الهوة الفاصلة بين الحلم والواقع مظلمة ونازفة الجروح، وعميقة القرار، لكن مهمة الكاتب والكتابة هي أن تعلم الناس كيف يعملون على بناء الجسر الواصل بينهما، ولن يقام هذا الجسر حتى يتعلموا كيف يتواصلون مع بعضهم، كأفراد وشعوب وحضارات، ولن يتواصلوا حتى يتخلصوا من الأحكام المسبقة التي تعشش تحت جلودهم، وتحول بينهم وبين التلاقي والتحاور على أرض مشتركة، هي في النهاية أرضنا وأرض الجميع التي أصبحت اليوم مهددة بالاندثار بأكثر من خطر، وأكثر من سبب، ربما يكون هذا كلاما مكرورا إلى حد الملل، ولا جديد فيه، لكن الحاجة الملحة والمحنة القائمة لا تمنع من تكراره على كل قلم وكل لسان، والصراخ به بأعلى الأصوات ودق كل الطبول والأجراس. (ز) هذا الشاعر الذي ظل طوال حياته - على حد تعبيره في ديوانه الأخير - ينظر للآخر ويتمعن فيه ببطء، بل يتعاطف معه، ويمد له جسور المحبة والتواصل، ويفرد ذراعيه كجناحي طائر وحيد وحزين ليضيئا الشرق والغرب، ويجمعا شتات خطوط الطول؛ لتتعانق في صدره وشعره ونثره. ولم يتردد - كما عرفنا من محاضرته السابقة - عن مواجهة عدوانية الآخر الألماني نحو الأجانب، وحثه على التخلص من أحكامه المسبقة - ماذا يفعل هذا الشاعر، وهو يشهد الآثار الوحشية المدمرة لهذه الأحكام على بلاده وأهله - هذه الأحكام التي يرفع الآخر الغربي - الأوروبي والأمريكي - لافتاتها، ويبثها ليل نهار من وسائل اتصاله الكاسحة، وتمولها وتحركها جهات معروفة تقلب بها نيران أحقادها وأطماعها في أرضنا ومواردنا وحاضرنا ومستقبلنا، بل وفي تاريخنا وتراثنا الماضي نفسه - لا شك أن هذه الأحكام ليست شيئا جديدا ولا مفاجئا - فربما انغرست بذورها السامة في الوعي واللاوعي الغربي منذ العصور الوسطى، بل ربما منذ أن صاغ أرسطو نظريته المتعالية في المقارنة بين شعوب الشمال - ومنهم الإغريق الأذكياء الأحرار - وشعوب الجنوب والشرق الذي يمشون كالقطيع وراء الطاغية والمستبد الأوحد. لكنها اليوم حملات ضارية تقتحم جيوشها الكهرومغناطيسية كل الأبواب، وتنفذ من كل الجدران، وتعمل عملها الخفي والمعلن في أدمغة الأفراد والنظم والدول، والقوى المهيمنة؛ لتدبير العدوان تلو العدوان على وجودنا وثرواتنا وحقوقنا وكرامتنا. وعندما يتم العدوان بالفعل، ينفتح الجرح الذي طالما انبثقت منه أشعاره، وارتفع صوت ندائه وشجوه وشجنه، فيقول شعرا في «الرابسودية الفلسطينية» على أثر الغزو الصهيوني الوحشي للبنان، ومذبحة صابرا وشاتيلا التي لم يقلل مر السنين من بشاعتها وفظاعتها، ثم يقوله نثرا في العديد من المقالات التي تنشرها كبريات الصحف في ليبزيج، وفي الأحاديث التي تجري معه في كثير من الصحف الأجنبية والعربية عن «سيناريو حرب الخليج»، أو تمثيليتها السقيمة اللئيمة التي ألفت وغزلت خيوطها وخطوطها في كل من واشنطون، وتل أبيب. (ح) في مقال شجاع وصريح - نشرته جريدة الشعب في ليبزيج في ملحقها الأدبي والثقافي في اليوم السابع عشر من شهر مارس سنة 1991م - عن تمثيلية حرب الخليج، يسلط الشاعر - بعد انتهاء الهجوم البري بقليل - الأضواء الكاشفة على بعض زواياها الخفية التي لا يعرفها إلا العربي. فقد سكتت الأسلحة أخيرا، وبدأ أدعياء السلام المنتصرون ينادون من كل الجهات داعين لنظام عالمي جديد يفرضون عليه سلامهم هم - ولم لا، وقد تحطم الجيش العراقي الذي صوروا للناس أنه رابع جيوش العالم، وانقشع غبار المعركة - التي وصفها جنود الحلفاء، بأنها عملية صيد للبط - عن عشرات قليلة من الضحايا في صفوف المنتصرين، وعشرات الألوف، التي بلغت الخمسين أو المائة ألف ضحية، من المهزومين. لم يضغط صدام على الزر الذي تنطلق منه أسلحة الدمار الشامل المزعومة لإبادة اليهود - كما تخوف من ذلك أدباء كثيرون في الغرب - ولم ينجح في الظهور بمظهر هتلر ثان، كما صورته الاستعارات الصحفية والمبالغات الإعلامية. لقد كان، وما يزال، كارثة على شعبه، وعلى المنطقة بأكملها - حتى عندما كان الرؤساء الذين حاربوه وهزموه، لا يزالون يجاملونه ويسلحونه - ومع ذلك فليس هو الكارثة الوحيدة، لا في المنطقة ولا في العالم.

واختفاؤه من على سطح الأرض - سواء بفرض الموت السياسي أو الطبيعي عليه - لن يجلب نعمة السلام المنتظر لا على العرب ولا على اليهود (وذلك من وجهة نظر الشعوب لا الحكام). إن الكاتب نفسه قد تمنى اختفاء صدام، وما يزال يتمناه، فقد أمر باغتيال عدد من أعز أصدقائه، وقضى على الآلاف من أهله الأكراد بالغازات السامة، واضطر نحو مليون من أنبغ أبناء العراق - من شعراء ومفكرين وفنانين تشكيليين وكتاب قصة ومسرح - إلى الحياة في المنفى. ولكن الكاتب لم يكن ليوافق بضمير مستريح على أن يكون ثمن اختفائه هو هذا العدد الفلكي من الضحايا، لا سيما أن هذه التمثيلية الدامية لم تستطع أن تحل مشكلة واحدة من المشكلات التي تعاني منها شعوب المنطقة. أجل، لقد كانت الحقيقة هي أول ضحايا هذه الحرب المدبرة والمدمرة.

قيل بعد الهجوم البري لتحرير الكويت: كل شيء قد انتهى، لكن هل انتهى حقا؟ وما الذي انتهى بالضبط؟ وما الجدوى الآن من إثبات أن هذه الحرب كان من الممكن تجنبها، لا سيما أن الهجوم البري قد نفذ، على الرغم من إعلان العراق استعداده للانسحاب بلا قيد ولا شرط، وقبل ساعتين بالتحديد من موعد انعقاد مجلس الأمن، في الساعة الرابعة من اليوم نفسه؛ للنظر في حل المشكلة بالطرق السلمية؟ مع أن العالم كله قد سمع بأن الموضوع برمته يتم تحت إشراف المنظمة الدولية، وبتوجيه منها، ثم ما فائدة القول الآن بأن الأمر في هذه الحرب لم تكن له صلة لا بالقانون الدولي، ولا بالأخلاق، ولا بحقوق الإنسان، ولا بأمن المنطقة، ولا حتى بتحرير الكويت؟!

إن شرطي العالم والقوة رقم واحد فيه قد أعطى نفسه شيكا على بياض، كتب عليه رقم واحد، وأمامه ما شاء من أصفار يحصلها الآن - ومنذ عشر سنوات - من بترول أرض الخليج، ومن قوت أهاليه ومستقبلهم. وهو يقف في كل لحظة على أهبة الاستعداد؛ لشن حربه العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية على كل من يفكر من العالم الثالث أو الرابع أو الخامس، في مقاومته، أو الخروج على طاعته.

هي لعبة، أو تمثيلية، أو سيناريو ألفه - أو بالأحرى ألف له - وقام هو بتنفيذه كما اختار بنفسه أول ممثل يطأ بقدمه خشبة المسرح، وتولى بنفسه إسقاطه من عليها. والمهم في الأمر أن اللعبة ما تزال مستمرة، سواء بذلك الممثل الغبي الذي كان أول من سقط على الخشبة، أو بغيره. والأهم من ذلك أن الشرطي الأول - مع المؤلف الحقيقي لتمثيليته المتكررة - هو الذي يحدد مسار الحدث المسرحي، ويجمع حصيلة شباك التذاكر. والشعوب؟! يمكنها أن تصفق وأن تهتف، أن تضحك وتبكي أيضا. يمكنها كذلك، بل هي مضطرة أن تساهم في نفقات العرض بالتبرعات أو بتحمل أعباء ضرائب جديدة. أما التمثيلية نفسها فلا يجوز لها ولا لحكوماتها أن توقفها أو تغيرها؛ لأنه هو المتحكم الأول والأخير في تحديد توقيتها ومسارها، وأحداثها وشخصياتها.

ليس هناك حرب عادلة وأخرى ظالمة. الحرب هي الحرب. ولا بد في هذا الزمن المجنون - زمن القنابل النووية والأسلحة الكيماوية والبيولوجية - لا بد من إدانتها والحيلولة دون وقوعها أيا كانت دوافعها وأسبابها، إذ يستحيل أن تكون هذه الدوافع والأسباب عادلة أو مقدسة. وعلى الألمان - الذين يتمتعون بسمعة طيبة في العالم العربي، ولا يرزحون تحت عبء تاريخ استعماري - عليهم أن يتحملوا مسئوليتهم، ويقوموا بدورهم في إيجاد حل سلمي دائم وعادل للصراعات المحتدمة في المنطقة العربية، التي اصطلح خطأ على تسميتها بالشرق الأوسط.

لم تنته التمثيلية المكشوفة، ولم يسدل الستار بعد. والشاعر الذي ما فتئ - كما سبق القول - ينظر للآخر ويتعاطف معه، ويتمعن فيه ببطء، هو نفسه الذي ما يزال يحاول مد جسور التواصل والتفاهم والاحترام المتبادل، والحوار العاقل البناء بين البلاد واللغات والحضارات - وهو ما يزال يردد - كما جاء في قصيدة المتجول، من ديوانه الأول «كحرير من دمشق»: «المودة تجلب للربيع ابتسامته، للجائع طحينه، وللعطشان عزاء وماء، تجلب له كنز السعادة، كنز السعادة، وما يزال صوته كشاعر يحمل نبرة الأنبياء ورسالتهم الخالدة. هل سيسمعه البشر الذي ينطق صوته بعذابهم ؟ وهل سيسقط المطر الخير كما يتمنى، أم تستمر اللعبة الدامية - خصوصا على خشبتنا - دون أن ينتبه الجمهور، ويقاوما ويوقف العرض؟» «أعلم تماما أن محاولتي كشاعر لتغيير شيء في هذا العالم محاولة محدودة جدا. ومع ذلك يمكن أن تتسبب في وقت من الأوقات في ارتفاع موجة عالية». هذا ما قاله الشاعر في أحد أحاديثه. وأعتقد أن كل من يشاركه الإيمان بقيمة الكلمة (الفعل) التي يوجهها ضمير فني، وإنساني صادق ونزيه - يمكن أن يشاركه هذا التفاؤل، ويرفع معه راية الأمل. (ط) حاصر الوحش الإسرائيلي بيروت (1982م)، وقفت جيوشه ودباباته ومدافعه - كالهولي الإغريقية المجنحة، والطاهش المخيف في الحكايات الخرافية اليمنية - على أسوار المدينة المنكوبة لتمنع الدخول إليها، أو الخروج منها - لا، بل لتجبر أبناء فلسطين الذين لجئوا إليها - بعد مطاردات لم تهدأ كلابها المسعورة التي لاحقتهم من الناصرة إلى نابلس، ومن نابلس إلى إربد، ومن إربد إلى صور، ومن صور إلى بيروت؛ لتجبرهم على الخروج من آخر معاقلهم، لكن إلى أين؟

تورمت سماء بيروت بدخان الحرائق، وتلبدت فوقها سحب الرعب، ودوت طلقات الرصاص، وانفجارات القنابل، لتصنع الجحيم - في الوقت الذي راحت فيه أيادي الحقد والغدر تنسج خيوط أفظع جريمة، وأبشع مجزرة في النصف الأخير من القرن العشرين - على كثرة الجرائم والمجازر التي ارتكبت فيه أخذت الأيدي القذرة تنسج من بعيد، وتركت التنفيذ - ويا للعار! - لأياد عربية راحت تحفر أبشع قبر جماعي لنفوس وأجساد عربية حية. تلك هي محرقة صبرا وشاتيلا التي دبرها النازيون الجدد، وتهون بالقياس إليها محارق النازيين القدامى. خطط لها الإرهاب الإسرائيلي، ونفذها الإرهاب الكتائبي (راجع تفاصيلها المخيفة في رواية بهاء طاهر الرائعة: الحب في المنفى).

ماذا يفعل الجذر العربي الضارب في أرض الساكسون البعيدة، وقد زلزلته محنة الأهل وشرخته، وجرحته أوجاع أبناء الوطن؟ هل يملك إلا أن يطلق صرخاته الخرساء، وينزف دماءه الشعرية لتصب في الجرح الفلسطيني النازف أبدا في كل قلب عربي؟ وماذا يملك شاعر مغترب أمام سيل الصور المروعة والمرعبة التي تنشر في الصحف، وتبث على الشاشات، وترج حتى ضمائر الذين خرس صوت ضميرهم، ودفن تحت طبقات وطبقات من التبلد والتعالي واللامبالاة والغطرسة؟

ها هو الشاعر يطلق صرخته، أو يسجل صوت الصرخة الخرساء: «أي عيون أطلقت هذه الصرخة الخرساء، أهي زوجة أم أم؟ ومن الذي بقي على قيد الحياة؟ ويختلط عليه الأمر فيتساءل: أم أنني أنا الذي أصرخ؟ ويستمر الحصار. وتمر الأيام بطيئة وثقيلة كخطوات تنين يفح الحريق والخراب.

النار تطلب بيروت لآخر رقصة، وعلى الحد الفاصل بين شظايا القنابل وطلقات الرصاص، صرخة فزع لطفل وعين يقظة لبندقية، وبين موت وموت، تقفون الآن يا أهلي هناك وأحبابي، فيما أرجو أحياء ... نعم، تقفون وقفة جذع الشجرة التي تغني أغنية المهد لورقة الخريف، وتبشر بمقدم الربيع وهي شامخة القامة ما تزال.»

ويرد الشاعر - على لسان أحد الناجين القليلين من المجزرة - على المتشدقين في أجهزة الإعلام بمحارق اليهود، والمتسولين بها الشفقة والعملات الصعبة، أولئك الذين يحشون بنادق كلماتهم العدوانية بحروف «آوشفيتس»، أو غيره من معسكرات الاعتقال النازية، فيقول لهم:

لا تصوبوا فوهات هذه البنادق نحوي،

لا تصوبوها نحوي أنا،

فأنا أيضا نجوت من جحيم.

5

ويتذكر قصيدة كتبها شاعر نمسوي شريف وشجاع، لم يمنعه أصله اليهودي من أن يقول كلمة حق نطق بها ضميره المأزوم، بعد أن رأى وسمع وشاهد أخبار مذبحة سابقة في أيام النكسة الستة، وذلك هو إريش فريد الذي كتب يقول:

عندما كنتم مضطهدين،

كنت واحدا منكم،

كيف أبقى معكم بعدما اضطهدتم غيركم؟

6

يتذكر شاعرنا هذه الأبيات - أو هذه الماسات الناصعة بنور الحقيقة والنابضة بغضبة الضمير الحي - فيصل خيوطه الشعرية بخيوطها، ويرد على مزاعم الضحايا المضطهدين المحاصرين بالأعداء، الذين هم في الواقع جلادون أقسى وأكثر وحشية من أقسى الوحوش فيقول:

لكن من الذي أعطى الحق،

لمن أصبحوا اليوم مضطهدين،

أن يتكلم أحد منهم،

باسم من اضطهدوا بالأمس؟

وأي إله،

منح القدسية،

هبة لأحفاد المقدسين،

إلى الأبد؟

وينتهي الحصار، ويخرج الفدائيون إلى منافي أخرى مؤقتة، لكن ليل بيروت، الذي بدده صباح التحرير، يظل يفرخ الكوابيس في مخيلة الأطفال الناجين من محرقة النازيين الجدد:

الأطفال الذين نجوا،

يحلمون طول النهار،

باللحم الممزق والرقاب المذبوحة.

والأطفال الذين نجوا لم تعد لهم أمهات،

وربما لم يعد لهم آباء،

ولا حديقة يلعبون فيها كما يلعب الأطفال.

الأطفال الذين نجوا،

سيحملون البنادق ذات يوم في أيديهم؛ ليستردوا الأرض التي أخذت منهم. (ي) وكبر الأطفال الذين يحملون البنادق والحجارة، استردوا جزءا ضئيلا من الأرض التي ما تزال مهددة من قبل الغاصب، وما يزال القسم الأكبر منها محتلا بجيوشه وآلاته الحربية الضخمة، التي يهديها له الشرطي الأكبر والأوحد في العالم. وجنود الغاصب يضطهدون الطفل الفلسطيني، ويلاحقونه من بلد إلى بلد، ومن قبر جماعي إلى قبر جماعي. وينظر الشاعر إلى أحد هؤلاء الجنود، فيتذكر الحقل والبيت المسلوب:

ربما كان هذا الجندي يجلس الآن،

تحت شجرة برتقال،

فوق عشب قطع أخيرا،

في مستوطنة بنيت في حقل،

كان أبي يفلحه لما أردته رصاصة،

ربما كان هذا الجندي يشرب الآن قهوته،

بيد لا تزال تشعر بالطمأنينة،

في الوقت الذي لا يلعب فيه أطفاله مع أطفالي.

7

وكيف لأطفال لا تملك من أسباب المقاومة والدفاع عن النفس سوى لحمها العاري، وقطع حجارتها التي تواجه بها دبابات الأعداء وصواريخهم، كيف لهم أن يلعبوا مع أطفال وضع آباؤهم في أيديهم السكاكين؟ (ك) وتمر الأيام والشهور والسنين. وتشتعل نار انتفاضة الأقصى بوقود الغضب من استمرار الاحتلال والعدوان الوحشي، والسخط على الوعود الكاذبة والتصفيات الغادرة والمفاوضات المهينة، وطول انتظار السلام «العادل والدائم» داخل سجن كبير يحاصر بالجوع سكانه، وتهدم بيوتهم وتسرق أرضهم، وتقتلع جذورهم، ويتحول الوطن إلى ذكرى بعيدة، وحلم يبدو كالمستحيل. وبعد أن يتآمر صمت العالم على عذابهم وتعذيب أعدائهم لهم، ينطق الأطفال والصبية والشباب اليائسون بالكلمة الوحيدة، التي سمحت لهم بها لغة العالم الأخرس، يلجئون إلى كلمة الحجر:

قل لهم: إنك تقف تحت مطر الرصاص المنهمر عليك،

على طرف إصبع واحد،

وسوف يصدقونك،

قل لهم:

إنك ترى كل يوم شمس الموت في الظهيرة،

وهي تدور حول الأرض، وسوف يصدقونك،

قل لهم: أنت أيضا تريد السلام الدائم والعادل،

لتشارك فيه الآخرين،

لكن الآخرين لا يريدون إلا سلامهم هم،

ويلوون كلمتك في أفواههم،

وها أنت الآن تراهم،

بأطراف أصابعك،

وتقول بصوت دام:

إن لغة هذا العالم لا تسمح لك

إلا بكلمة واحدة،

هي الحجر.

ولا يملك القارئ في النهاية إلا أن يسأل: كيف تتحول الكلمة الشعرية والأدبية بدورها إلى فعل يغضب ويقاوم ويغير؟ متى تتعلم من أطفال الحجارة، وتعيد النظر في شكلها ومضمونها والهدف منها، وتستعيد قدرتها على الإنقاذ والإيقاظ من كهوف الركود والتبلد والهوان؟ ومتى تتخلص من تجاربها العبثية والنرجسية المتهافتة، وتجرب أن تساعد متلقيها على الإجابة الضرورية على السؤال الكبير الوحيد، في مواجهة الذين يقتلعون جذورها، ويدمرون بيوتنا، ويحطمون جسورنا، ويشوهون تاريخنا، ويسرقون حاضرنا ومستقبلنا: هل نوجد أو لا نوجد؟

سوف نوجد حتما ونزدهر، وننتزع الاحترام من الآخرين يوم نتعلم ونتكلم لغة الفعل، لغة الجذر والجسر والحجر، لغة الشعر الذي يبقى ويعمر؛ لأنه يؤثر ويغير.

الفصل السادس

حوار مع عادل قرشولي

- يشرفنا ويسعدنا في هذه الأيام بزيارته لمصر الشاعر المرموق في اللغتين الألمانية والعربية، والعالم الكبير في الأدب الألماني الحديث، الدكتور عادل قرشولي الذي ينحدر من أصل سوري، ويعيش ويعمل ويبدع منذ مطلع الستينيات إلى اليوم الحاضر في مدينة ليبزيج. التحق في ذلك الحين بمعهد الأدب في هذه المدينة العريقة؛ ليدرس الأدب الألماني، ويتخصص في علوم المسرح وفنونه، ثم حصل على الدكتوراه برسالة عن تلقي مسرح بريشت في العالم العربي في سنة 1970م. والجدير بالذكر، والفخر أيضا، أنه تولى في هذا المعهد نفسه - بعد تخرجه عام 1964م - تدريس الأدب الألماني الحديث في جامعة ليبزيج، قبل أن يعمل في معهد الاستشراق من عام 1969م، حتى تفرغه للكتابة الحرة منذ سنة 1993م. وقد صدرت له حتى الآن خمس مجموعات شعرية باللغة الألمانية، هي على الترتيب: كحرير من دمشق (1968م)، وعناق خطوط الطول (1978م)، ووطن في الغربة (1984م)، ولو لم تكن دمشق (1992م)، وهكذا تكلم عبد الله (1995م)، بالإضافة إلى ديوانين بالعربية؛ «الخروج من الذات الأحادية»، نشره اتحاد الكتاب العرب في دمشق سنة (1985م)، و«موال في الغربة» الذي صدر في ألمانيا، عام (1967م).

حصل الشاعر عن إنتاجه الأدبي والعلمي على جائزتين رفيعتين هما؛ «جائزة الفن» التي تعتبر الجائزة الأدبية الكبرى لمدينة ليبزيج سنة 1985م، وجائزة «أدالبير فون شاميسو» التي قدمتها له أكاديمية الفنون في مدينة ميونيخ سنة 1992م، وهي أهم جائزة تقدم لكاتب من أصول أجنبية؛ تقديرا لإنتاجه الذي يمثل إغناء للأدب الألماني.

وعادل قرشولي شخصية فريدة ذات جوانب متعددة، هي أشبه بشجرة شعرية وارفة، حاولت - ونجحت في محاولتها المضنية نجاحا مذهلا - أن تمد جذورها في تربة وطنين، وترتوي من ينابيع تراثين، وتنشر ظلالها الندية فوق أدبين وعالمين وحضارتين ولغتين. وإذا كانت الغربة هي الموضوع الأساسي والإشكالية الكبرى، التي طبعت جهوده الإبداعية والنقدية بطابعها وحركتها في دوائرها، فإنه بشعره وفكره وحياته - وسط الصراعات والتناقضات، والمصادمات التي لم تتوقف سيطرتها على العالم وتعذيبها للبشرية - يمثل في تقديري جسرا عظيما ممدودا بالمودة والتواصل والمشاركة الإنسانية العميقة بين شاطئين يبدوان متباعدين أشد التباعد، وإن كان الشعر والحب يقرب بينهما كل القرب. ولا شك أن مثل هذه الحياة الخصبة التي أغناها صاحبها بإنتاجه الغزير في الشعر والدراسة والترجمة من وإلى اللغتين - أو قل الوجودين الحميمين في وقت واحد - لا شك أنه يثير تساؤلات لا آخر لها عن مواجهة الغريب لغربته وتحديه لها، ثم تجاوزها، لا سيما في ديوانه الأخير الذي سبقت الإشارة إليه، إلى آفاق إنسانية تتسم بالشمول والعمق معا. ومن هذه التساؤلات كان حواري معه عن قليل من كثير، يوحي به فكره وإنتاجه ونجاحه في انتزاع الاعتراف، والإعجاب به من الآخر؛ من ذلك إشكالية الكتابة بلغتين، والعلاقة بين الذات والآخر، وانعكاس الفكر الجدلي على صوره الشعرية التي ظلت محتفظة بسحرها الشرقي والغربي، بجانب السؤال عن تأثير بريشت عليه، فضلا عن بعض الشعراء والنقاد الألمان الذين احتفوا به، وكتبوا عنه، وأصبحوا من أعز أصدقائه، دون أن أنسى، قبل ذلك كله وبعده، مواقفه الشجاعة من بعض القضايا القومية التي لم يتردد لحظة عن التعبير عن آرائه الجريئة فيها، دفاعا عن الحق، وتصديا للتحيز المسبق والإعلام المغرض .

بعد السلام والترحيب به في وطنه الثاني، والعودة بالذاكرة إلى اللحظات النادرة، من اليوم العشرين من شهر مارس الماضي، التي قضيناها - زوجتي وأنا - في ضيافته ببيته العامر بالدفء في ليبزيج، ونحن في طريقنا إلى مدينة فيمار، بدأت بسؤاله عن إشكالية الكتابة بلغتين، وكيف توصل - بعد كفاح طويل - إلى استيعاب اللغة الأجنبية إلى حد التفكير والشعور من خلالها، وكتابة الشعر بها، وترجمة بعض روائع الشعر والمسرح العربي الحديث إليها، فضلا عن ترجمة بعض روائعها المسرحية والشعرية - لبريشت وغيره - إلى لغته العربية، فتفضل بقوله: لا شك أن هذه إشكالية معقدة ومتشابكة جدا، وهي تختلف في حقيقة الأمر من تجربة إلى أخرى، كما أنها ليست ظاهرة جديدة في الأدب العالمي، وإنما ترجع إلى العصور القديمة؛ فهناك كثيرون كتبوا باليونانية واللاتينية مع، وفي العصور الحديثة كتب بيكيت مثلا بالإنجليزية والفرنسية، كما كتب بيتر فايس بالسويدية والألمانية، حتى إن الشاعر راينر ماريا رلكه كتب قصائد بالفرنسية.

أنا شخصيا لم أكتب القصيدة الألمانية إلا بحكم الضرورة، بل أكاد أقول بحكم الصدفة؛ فقد أتيت إلى ألمانيا في مطلع الستينيات، وكانت لي تجربة شعرية غضة باللغة العربية انشرخت قبل أن تكتمل وتتكون لها ملامح متفردة. وقد اعتبر بعض الأصدقاء الذين يكبرونني في السن أنها كانت تجارب متميزة بالنسبة لجيلي آنذاك، ولذلك ضممت إلى رابطة الكتاب العرب في تلك الفترة في الخمسينيات. وأنت تعرف أن هذه الرابطة كانت تضم أصواتا أدبية هامة معبرة عن تلك المرحلة؛ نذكر منها: البياتي، وحنا مينا، وشوقي بغدادي، وعبد الرحمن الشرقاوي، على سبيل المثال لا الحصر. لم تكن قصائدي الأولى في الحقيقة ذات نبرة مرتفعة، بل كانت على العكس تماما تتميز نتيجة قراءاتي الأولى للشعراء الرومانسيين العرب أمثال جبران، وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، والأخطل الصغير، وأمين نخلة، وأحمد زكي أبي شادي، وشعراء المهجر اللبنانيين بصفة خاصة، أقول تتميز بإيقاعات هامسة. وقد بدأ توجهي للقصيدة السياسية في حقيقة الأمر بعد العدوان الثلاثي على مصر، وكنت آنذاك في العشرين من العمر، ومن يقرأ قصائدي في تلك المرحلة يرى أنها كانت تحاول المزاوجة بين الرومانسي والسياسي، ولي مثلا قصيدة عن جميلة بوحريد، نشرت مع قصائد مماثلة عن هذه المجاهدة الجزائرية في القاهرة، سنة 1957م أو 1958م، على ما أذكر، إلى جانب قصائد للشرقاوي، وحجازي، وصلاح عبد الصبور، وفؤاد حداد، وفي هذه القصيدة كنت أحاول أيضا هذه المزاوجة. - هل تذكرون نص هذه القصيدة أو غيرها مما يمثل تلك المرحلة؟ - هذه أولا هي قصيدة «يد الفارس»، التي ترجع إلى عام 1958م، وكنت قد أهديتها إلى المجاهدة الجزائرية العظيمة:

يا يدا تطرق أبواب السجون!

يا يدا تزرع في الصدر الشجون!

يا يدا تقطف من كل العيون

دمعة الحب الحنون!

اقطفي من قلب عيني ابتسامة،

وارشقيها في فم ما زال طفلا،

لم يدغدغه الزمان.

لم يلملم ضحكة الجيران،

لم يكد يولد حتى انطفأت في قلبه الألحان.

آه يا ضحكتنا!

يا ويله من يطفئ الألحان

في فم كالكرز الراحل يذوي،

ويله

من غضبة الإنسان.

وهاتان قصيدتان تسري فيهما أنفاس الرومانسية الناعمة الحالمة، بما فيها من همس وعذوبة وحنان، والقصيدة الأولى بعنوان «وشوشة»، وترجع على ما أذكر إلى سنة 1955م:

كالحفيف،

كالعيون الناعسات

حين تحكي.

كعناق الأمسيات الحالمات

للنخيل،

كرفيف الآه في ثغر حزين،

وشوشتني،

وسكرت

أنا من دون نبيذ.

وبلا تمر وتفاح لذيذ،

أو عنب،

أنا بالبحة أسكر

وأغيب،

وأنا أشهى حبيب،

يوم أسكر.

لا تخافي؛

قلت لليل الظليل

أن يطول،

أن ينادينا إذا اهتز السحر،

أو أفاق،

ليس في الليل سوى ذاك العزول.

أنا لا أخشى الرفاق،

ورفيقي ذلك الحلو القمر،

لا تحدق!

تغضب الهمسة إن قلت الحكاية،

وكفاية

أن أقول وشوشتني.

أما القصيدة الثانية، وهي تحت عنوان «القمر الصغير»، فيرجع تأليفها إلى سنة 1956م:

القمر الصغير

حلو كبرتقالة، كعاشق صغير،

خيوطه تحيك للرفاق

ستائر الحرير؛

ليستريحوا في المساء تحتها،

من تعب الكفاح والإصرار والمسير، ... فراشة ألوانها مواسم الربيع،

برقة تضمنا،

برفة تضيع

فراشة لا تستريح، دائما تطير.

والقمر الصغير

في صدرها، يغفو كبرتقالة، كعاشق صغير.

وأنت يا حبيبتي،

عيناك نجمتان حلوتان،

ملؤهما تدور أضواء من الحنان.

عيناك تنسجان لي ستائر الحرير؛

كي أستريح تحتها

من تعب الكفاح والمسير،

وكي أصوغ للرفاق

مواسم الحرير.

والقمر الصغير،

قلبي أنا، أضحى كبرتقالة، كعاشق صغير.

وقد كتبت في تلك الفترة بعض القصائد بالعامية السورية. ومن الطريف أن أذكر أن الشاعر عبد الرحمن الخميسي، رحمه الله، كان في دمشق، وحضر لي أمسية شعرية في منتصف الخمسينيات. واستغربت إعجابه آنذاك بإحدى القصائد، التي ألقيتها بالعامية الدمشقية بعنوان «خيطان من مخمل». وعندما عاد إلى القاهرة نشر هذه القصيدة في إحدى الصحف المصرية - لعلها الجمهورية - مع مقدمة تحدث فيها بود ومحبة عن هذا الشاعر الشاب، ولدي حتى اليوم صورة تجمعنا في اتحاد الكتاب.

بعنيكي غنيى،

ورد وعسل ونجوم سحريى،

بتقول بدها تروح،

بتقول ما بتروح،

محيرا،

يمكن غزلها قلب شو مغزل،

بخيطان من مخمل،

ومسهرا،

مثل أنا مرات شو بسأل،

مدري عيونا سود،

مدري شهل فيه لوان ورود،

مدري مثل فيى،

بنهار صيف وشوب،

مدري عسل بيدوب،

مدري سماويى،

لكن بعود بقول،

شو همني لونا،

هالبنت وعيونا،

شو همني ما دمت عم بغزل،

للناس وبحمل،

كل قلب كل عطشان للفي والميى،

من عنيكي غنيى،

ورد وعسل ونجوم سحريى. - أظن أن هذه النغمة الهامسة كانت مبشرة بتطوركم الجدلي اللاحق، الذي بلغ ذروته في شعر الحكمة الذي تفيض به قصائد مجموعتكم الشعرية الأخيرة بالألمانية، وهي «هكذا تكلم عبد الله»، كما تبين أن عالم الباطن هو العالم الذي تمتحون من ينابيعه، كما تستكن فيه نواتكم الشعرية والإنسانية والصوفية، المحبة للعالم والمتعاطفة مع الوجود في كل تجلياته والمرتبطة بآلام البشر وعذاباتهم. - أنا في الحقيقة شاكر لهذا السؤال الجوهري. هناك كثيرون كتبوا عن الجدلية في قصائد «هكذا تكلم عبد الله»، واعتبروا أنها ناجمة عن تأثري ببرتولت بريشت، لكنني لدى مراجعتي لقصائد يرجع عهدها إلى مطالع العمر، لاحظت أن هذه النبرة الجدلية موجودة في تلك القصائد، وأن مصدرها الأساسي لم يكن هو بريشت، وإنما ساعد هذا الشاعر والكاتب المسرحي الكبير على نمو تلك البذرة بعض الشيء، ثم ازدادت نموا بعد اطلاعي بشكل أساسي على التراث الصوفي، واكتسبت بعدا آخر ونضجا، جعلها تؤلف بين الجدل والمناجاة. - ولعلها تختلف أيضا عن جدلية بريشت في أنها لم تقتصر على العقلاني والمعرفي، وإنما نجحت في التوفيق بين المعرفي والجمالي، أو في أن تكسو العقلاني بغلالة الصورة الشعرية الساحرة المغروسة الجذور في بستان الشرق، والغنية بعصارة تراثه التخيلي. - في بداية كتابتي للقصيدة الألمانية في مطلع الستينيات، كانت الجدلية في بعدها المعرفي تتغلب على البعد الجمالي، أذكر من ذلك قصيدة كانت بعنوان «دياليكتيك» (جدل)، أقول فيها على ما أذكر:

لأنني أحبك،

أحب العالم.

لأنني أحبك،

أجده جميلا.

لو كان في مقدوري أن أكرهك

لكرهت العالم،

وكرهت نفسي.

ولأن العالم في ذاتي

لكرهت نفسي،

ولأنني لا أريد أن أكره نفسي،

فأنا أحبك.

إن الجدل هنا يقتصر على المقولة، دون تصوير هذه المقولة، في صورة شعرية لها استقلاليتها الجمالية. أعتقد أن بعض قصائد «هكذا تكلم عبد الله» تمكنت من التركيز على البعد الجمالي، الذي من خلاله يتجلى المعرفي في جدليته. - ربما يؤكد هذا حقيقة الجدل الذي طالما «رفع» نفسه - بتعبير هيجل - وتجلى في صيغ وأشكال مختلفة، بدليل أنك استطعت في هذه المجموعة الأخيرة أن تصل إلى مركب النقيضين، وأن يتمثل هذا المركب في رؤيتك الشاملة وتعاطفك الكلي مع العالم والأرض والإنسان. لكنني أحب أن أنتقل من الجدلية في ذاتها إلى جدلية أخرى مهمة تتعلق بصراع الذات مع الآخر. كيف استطعتم تجاوز مرحلة الصراع مع الذات الأخرى الألمانية، وتمكنتم من تحديها وتخطيها نحو ذات شخصية تناجونها وتخاطبونها، وإن كانت في تقديري قد أصبحت ذاتا شعرية شاملة، لا مجرد ذات فردية أو شخصية؟ - ليكن مصطلح «الصوفية» مدخلا للإجابة على هذا التساؤل؛ فقد قربني بعض النقاد في هذه المجموعة بالذات من الصوفية، غير أن الصوفية في اعتقادي، إن نظرنا إليها من منظور فلسفي، تعني بدرجة رئيسية بمفهوم وحدة الوجود، وبالحلول في الذات الإلهية. لقد أخذت من الصوفية - فلسفيا - موضوعة وحدة الوجود، وبدأت أفكر من خلالها في علاقتي مع الآخر. ولكن الآخر بالنسبة لي آخر أرضي. من هنا، ولرفضي فكرة الذوبان في الآخر، أردت أن أسبر ماهية العلاقة بيني وبين هذا الآخر، في إطار وحدة الوجود التي تضمنا نحن الاثنين. لذلك فأنا لا أريد فلسفيا التوحد المطلق مع الآخر؛ لأن في هذا التوحد نفيا للذات. ونفي الذات يعني أن تتخلى عن الذاكرة، ومن ثم عن الهوية فالإنسان بدون ذاكرة لن يعود إنسانا، ولن يستطيع التحاور مع الآخر. والآخر بالنسبة لي ليس فردا ما، فقد يكون حبيبة أو صديقا أو وطنا أو طبيعة أو كونا. ومن هنا ينبغي أن أكون مع هذا الآخر علاقة تواصلية يحكمها الود؛ لكي يحل الوئام. - يمكنني أن أضرب مثلا شعريا لما تقوله، من مجموعتك الشعرية الأخيرة «هكذا تكلم عبد الله». سآخذ أولا القصيدة التي لا تفارقني الصورة المائلة فيها بكثافة وقوة:

وقال لي:

هو يبحث فيك عنه،

وأنت تبحث عنك فيه.

هو يبقى هو،

وأنت تبقى أنت،

على النوافذ المغلقة.

يقرع، بجانحين مضمومتين كقبضتين،

غراب البين.

وفي قصيدة أخرى من المجموعة نفسها تقول:

كن مرة أنا،

وكن مرة أنت؛

لأنك لو اقتصرت على أن تكون أنا؛

لأصبحت أنا وحيدا مع نفسي.

ولو اكتفيت بأن تبقى أنت وحسب؛

صرت حبة رمل في الريح.

أما هذه الأبيات فتلقي الضوء على إشكالية «الأنا والآخر»، بعبارة بسيطة خالية من أي تجريد فلسفي:

وقال لي:

الآخر هو أنت وأنت هو.

الجسر الواصل بينكما هو الحياة.

وماذا تساوي الحياة

لو تحطم الجسر؟

ومع ذلك كله، فهل يحق لي أن أحدس بنوع من التأثر بنيتشه، فيما تسمونه «التصوف الأرضي، أو الدنيوي» أو ربما برؤية جوته المتجهة دائما إلى الأرض والعالم، والمشبعة في شعره ونثره بوحدة الوجود؟ وهل يكمن وراء قصائدك في هذا الموضوع بعض التأثر بالأبعاد الواسعة، التي اتخذتها إشكالية الذات والآخر في الفلسفة المعاصرة، لا سيما فلسفة الوجود؟ أم أن الأمر بعيد عن ذلك كله، وربما يرجع - وهذا مجرد فرض أو تخمين توحي به قراءاتي قبل سنوات في الفلسفة الشرقية - إلى البوذية التي تقول بعض نصوصها ببساطة: أنت هو الآخرون، والآخرون هم أنت؟ - قرأت مثل الكثيرين من جيلي «هكذا تكلم زرادشت» في ترجمتها العربية، لفيلكس فارس. والحقيقة أنني لم أعد قراءة هذا الكتاب بالذات لنيتشه ثانية، إلا بعد نشر مجموعتي الأخيرة «هكذا تكلم عبد الله». لا أعتقد بوجود تأثر جوهري في هذا الكتاب بنيتشه، وحتى بالمفهوم الذي سميته الصوفية الأرضية؛ إلا بالتوجه إلى الأرضي، إلى الملموس والمحسوس. لكنني أختلف معه في موقفه من علاقة الأنا بالآخر؛ لأنه في نهاية المطاف - وخاصة إذا بسطنا نظرياته كما فعل الكثيرون في زمن النازية - يفسح في المجال لمفهوم تسلطي بين الأنا والآخر، وهذه النظرة الاستعلائية ليست بالتأكيد هي نظرتي. إنني بالفعل أكثر قربا من جوته، الذي تأثر كما تعرف بسبينوزا، وكذلك من هيردر وليسينج؛ لأنهم كانوا ينطلقون في مواقفهم من المنطلقات الإنسانية لفكر عصر التنوير. أما بالنسبة لفلسفة الوجود وما تبعها من فلسفات معاصرة كالوجودية مثلا، فلا شك أن المرء يقرأ في حياته، إن لم يكن باحثا متفرغا، ما يتناسب واهتماماته. ولا يكون التأثر عادة مطلقا، بل مضادا في أحيان كثيرة. لا شك أن مفهوم الوجوديين مثلا عن الإنسان كمشروع يمتلك الإنسان صياغته، وتكوين عناصره بنفسه، وما يستتبع ذلك من الشعور بالمسئولية، والالتزام تجاه الذات مفهوم جدير بالنظر فيه، وهو هام بالنسبة للعلاقة مع الآخر كما أفهمها، لكن تعميم مصطلح الوجود ورفض التفريق المعرفي بين المادة والوعي، أي بين الذات والموضوع، ونفي ضرورة وجود العلم، أو القدرة على التوصل إلى أية معرفة علمية، كما نرى عند هيدجر، لا يتفق مع مفهومي عن العالم. كما أنني لا أعتبر الآخر جحيما، بل صنوا وشرطا لوجودي، ليس لوجودي دونه قيمة حقيقية. ومن هنا يكون علي عندئذ أن أبحث عن صيغ للتواصل الودي معه. - أعطيتم بريشت قدرا كبيرا من جهدكم ووقتكم. وأشهد أنني قرأت في بعض حواراتكم ما صحح بعض مفاهيمي عنه، على الرغم من أن طول انشغالي بشعره ومسرحه قد أوهمني في مرحلة من حياتي بأنني صرت حجة فيه. هل يمكن أن تحدثنا عن صلتكم بهذا الشاعر والكاتب المسرحي المناضل والمحير معا، وعن بعض ذكريات عملكم في الأرشيف الخاص به في برلين، وعكوفكم على نصوصه الكثيرة التي لم تنشر في حياته؟ - عظمة بريشت تكمن بالضبط في أنه بالفعل محير، شأنه في هذا شأن كل كاتب وفنان عظيم، غير أن كثيرين ممن كتبوا عنه من النقاد والدارسين العرب، خاصة أولئك الذين اعتمدوا فيما كتبوه على مصادر غير ألمانية، حولوا هذه الحيرة المتمردة المبدعة إلى ألغاز لا حل لها. هذا على وجه الدقة هو ما دعاني لكتابة أطروحة الدكتوراه عن بريشت، ومستويات التلقي العربي له في الستينيات. وحين تواكب كاتبا بعظمة هذا المسرحي والشاعر والمنظر، وأنت في ريعان شبابك، لا يمكنك أن تتخلص بسهولة من سطوة تأثيره. وفي الاحتفال بالمئوية البريشتية أقام بعض من عملوا مع بريشت وعرفوه شخصيا عن قرب، ندوة تحدثوا خلالها عن تجاربهم معه. وقد فوجئت حين تلقيت دعوة لإلقاء مداخلة في هذه الندوة؛ لأني للأسف الشديد لم أتعرف عليه شخصيا رغم عملي لفترة طويلة في أرشيفه، وفي مسرحه، وتعرفي على زوجته هيلينه فيجل وحبيباته، إلا أنهم طلبوا مني - لمعرفتهم بتأثري به وترجمتي لبعض مسرحياته وأشعاره - أن أقدم هذه المداخلة. وقد ألقيتها بعنوان «طريقي الطويل إلى بريشت». والأطروحة الأساسية في هذه المداخلة هي أنني وصلت إلى بريشت حين تمكنت من الانفصال عنه. في بدايات تأثري به حاولت كتابة القصيدة الجدلية، وقصصت الأجنحة التخييلية للصورة الشعرية. كانت الجدلية عندي تقدم نفسها في إطارها المعرفي، وفي أدق الكلمات، أي إن التكثيف الشديد للقصيدة، والاستجلاء المعرفي في الصورة الشعرية كانا، في حقيقة الأمر، أهم ما تعلمت من بريشت، ووجدته بشكل مختلف في النصوص الصوفية. - ولكن صلتك ببريشت لم تقتصر على تأثرك الشعري به، بل قدمت بعض الدراسات عنه، كما ترجمت بعض نصوصه إلى العربية. هل يمكن أن تحدثونا عن ذلك؟ - إضافة إلى اهتمامي الشخصي بالتعرف على أعمال بريشت، بحثت في هذه الأعمال، وخاصة كما أسلفت في أساليب التلقي العربي له . وكتبت بعض الدراسات بهذا الشأن في محاولة مني لتصحيح بعض المفاهيم التي اعتقدت أنها خاطئة، أو حدث بشأنها سوء فهم ما. ونشرت كتابا باللغة الألمانية صدر عن مركز بريشت للدراسات في برلين، بعنوان «بريشت في المنظور العربي»، كما كتبت مجموعة من الدراسات في مجلة الحياة المسرحية السورية تختلف عن الكتاب السابق الذكر، وأفكر في الوقت الحاضر في إصدارها في كتاب، إلى جانب دراسات وحوارات هنا وهناك، إضافة إلى أربعة نصوص مسرحية، وبعض قصائده التي ترجمتها إلى العربية. - مع أنكم تصالحتم - في شعركم وحياتكم - مع الوطن الجديد في ليبزيج، ومددتم جذوركم فيه، فإنكم لم تنسوا الوطن السوري الأصلي ولا الوطن العربي في مجموعه، وتصديتم في شعركم، وفي كثير من مقالاتكم للدفاع بشجاعة وحكمة عن بعض القضايا العربية، وقلتم كلمتكم بكل جرأة، في كثير من المحن التي ألمت بالعرب، أو ما زالت تلم بهم، مثل محنة فلسطين وحرب الخليج والعداء للعرب والإسلام، ومشكلة التحيز والتعصب بوجه عام في الإعلام الغربي والألماني. هل تحدثوننا عن هذه القضية الشائكة بشيء من التفصيل؟ - لست أدري إن كانت قد حدثت بالفعل مصالحة بيني وبين الحضارة التي أعيش فيها الآن، كل ما هنالك أن الصراع الذي دار بين الداخل والخارج في هذا الواقع تحول في فترة ما إلى صراع داخل الذات بين حضارتين وعالمين ولغتين، ولكن لم يعد هناك صراع فقط بين هاتين الحضارتين ، بل أصبح يحدث بين الحين والحين بينهما عناق أيضا في داخل الذات. وبحكم وجودي هناك كنت أجدني مضطرا للرد أحيانا على ما يصدر من مغالطات أو مواقف عدائية تجاه تاريخنا وحضارتنا. لقد ذكرت بعض القضايا العربية التي كتبت فيها، ومن ذلك مثلا: الرابسوديا الفلسطينية، التي تضم إحدى عشرة قصيدة، كتبتها خلال الحصار الإسرائيلي لبيروت، وقدمت لها باستشهادين لكاتب ألماني ولشاعر نمساوي من أصل يهودي، هما: أرنولد تسفايج، وإريش فريد. قرأت للأول ذات مرة في رسالة وجهها لصديق له عام 1942م، يقول فيها حرفيا: إننا لم نهرب من فاشية لنقع في براثن فاشية جديدة. قال هذا بعد أن هاجر إلى فلسطين هربا من النازية، ولكنه غادرها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعاد إلى ألمانيا. أما إريش فريد؛ فكتب عام 1967م، بعد حرب حزيران قصيدة بعنوان: «اسمعي يا إسرائيل»، استشهدت بمطلعها الذي يقول فيه:

عندما كنتم مضطهدين،

كنت واحدا منكم.

كيف لي أن أبقى كذلك،

وقد تحولتم إلى مضطهدين؟ - أنتم من جيلي الذي آمن بأن الكلمة فعل، أو ينبغي أن تكون فعلا مؤثرا؛ لتغيير الواقع الداخلي والخارجي، وبأن الشعر يمكنه - على حد تعبير بريشت - أن يغير العالم والسلوك الفردي والجماعي، وإلا كان عبثا أو زخرفة أو تجارب لغوية لا طائل وراءها. ما رأيكم الآن في مدى قدرة تأثير الشعر بعد أن انفصل أو كاد - لا سيما في بلادنا العربية - عن جمهوره، وخصوصا بفضل قصيدة النثر وشعرائها، وبعد أن أصبح مصيرنا يدبر ويصنع بأيدي غيرنا، وتستلب إرادتنا الحرة وعدالة قضايانا كل يوم على مرأى ومسمع من العالم المتفرج الأخرس؟ - أعتقد أننا، كجيل آمن بضرورة مساهمة الفرد في عملية التغيير، أسأنا إلى حد ما فهم ميكانيكيات (آليات) دور الأدب في عملية التغيير هذه، بل وما زلنا نفعل ذلك أحيانا. لا شك أن حيوية الحياة تكمن في التغير والتحرك، وأن الجمود هو الموت. تقول وبحق: إن الكلمة ينبغي أن تكون فعلا مؤثرا لتغيير الواقع الداخلي والخارجي، ليست المشكلة في هذه الحقيقة. المسألة هي كيفية تحول الكلمة، والكلمة الأدبية في خصوصيتها تحديدا، إلى فعل. نحن لم ندرك الجدلية بين الداخل والخارج بشكل كاف. عممنا الواقع الخارجي، وأهملنا الواقع الداخلي إلى حد بعيد. واستعرنا تقييماتنا للخاصية الفنية الجمالية، وتلك هي المعضلة الحقيقية، من مدى تطابق النص أو اللوحة، أو العرض المسرحي مع الخارجي ذاك. وكان فهمنا لبريشت ينطوي في هذا الإطار. لم نفهم البعد الفلسفي لما كان يتطلع إليه من خلال محاولة كشف الآليات التي تحرك بنية هذا الخارج؛ من خلال بنية الذات نفسها لدفع هذه الآليات إلى حيز وعي الفرد. والحس بالمناسبة جزء لا يستهان به من تكوين الوعي؛ لأنه من محركات السلوك.

أنا لا أرى أن الشعر انفصل عن جمهوره بفضل قصيدة النثر وشعرائها، بل أعتقد أنه لاتساع المساحة التي اغتصبتها قصيدة النثر لنفسها مسببات موضوعية علينا بحثها؛ لفهم هذه القصيدة دون إجحاف أو تعميم. الانفجار الهائل الذي طرأ على دور وسائل الإعلام في الاستيلاء على الحيز الأكبر من عملية تكوين الوعي، وخاصة على مساربه اللاواعية والحسية هو أحد هذه الأسباب. وقد جعل هذا الأمر الشاعر يدرك أن دور قصيدته في عملية التنوير السياسي والاجتماعي الذي يمكن أن يحولها إلى فعل حقيقي انحسر إلى حدوده الدنيا. ولا شك أن اكتشاف الوهم في إمكانية تحقيق الحلم القومي بفركة خاتم، والرغبة في الموازنة بين تطلعات الفرد، وتطلعات الأمة، وإعطاء تطلعات الفرد ما تستحق من اهتمام، لعب دورا كبيرا في عملية ما نسميه انحسارا، ولكن هل هو حقا انحسار؟ أم أنه ليس سوى تغير في عمليتي الإبداع والتلقي، وبالتالي في آليات التأثير؟ هذا تساؤل لا بد من التفكير فيه. أنا أرى على كل حال أن هذا التغير جعل القصيدة العربية تتخلص من سطوة الخارجي المطلقة، ومن استعارة المعايير الجمالية باعتبارها حكما قيمة من هذا الخارجي، وتخصيصا من السياسي والاجتماعي وحدهما، وهذا بحد ذاته إنجاز. في هذا الإطار يمكن في اعتقادي أن تندرج قصيدة النثر. ما يمكن أن نضع حوله، ربما، علامة استفهام هنا هو عدم الالتفات في أحيان كثيرة إلى المعرفي؛ باعتباره عنصرا من عناصر الجمال بما فيه الكفاية. ثمة خشية من الإشارة إلى المعرفي؛ لأنه حدث فيما مضى خلط بين المعرفي من جهة، والسياسي أو الاجتماعي في إطاره الظرفي المباشر من جهة أخرى. لعل هذا هو الذي قد يولد أحيانا الانطباع بالعبثية والزخرفية. ولكن ما حققته قصيدة النثر في تراكماتها، وفي تجلياتها المبدعة هو مع كل ما يمكن أن يقال فيها قفزة نوعية نحو العصر. - هل يمكنكم أن تحدثونا عن بعض الشعراء الذين تأثرتم بهم على المستوى الشعري والإنساني، مثل معلمكم وصديقكم جورج ماورر الذي وضعتم كتابا عنه، وبعض أصدقائكم المقربين، مثل الشاعر فولكر براون، والشاعرة سارة كيرش، والشاعر المسرحي هينر موللر، والروائي فيرنر هايدوتشيك، وتوماس بومه، وغيرهم؟ - جورج ماورر كان يعتبر من أهم الشعراء والمنظرين للشعر في ألمانيا الشرقية، وكان أستاذا لمادة الشعر في معهد الأدب الذي درست فيه. كما كان يعتبر من جهة أخرى أبا روحيا لكثيرين من الشعراء الشبان آنذاك؛ أمثال فولكر براون، وسارة، وراينر كيرش، وهاينس تشيخوفسكي، وغيرهم. وكان هؤلاء يختلفون معه في تطلعاتهم ومواقفهم الجمالية، وحين كان أحدنا يعطيه مثلا قصيدة حب لبحثها في الدرس، كان يأتينا في الأسبوع التالي حاملا معه أمثلة من قصائد الحب كما كتبها المصريون القدماء والإغريق والصينيون؛ ليصل بنا بعدئذ إلى الشعر المعاصر، لا ليقارن بين ما كتب وبين قصائدنا، بل ليقول لنا بدءا: إن لكل شاعر نبرة صوت خاصة به، ولكل مرحلة توجهات مشتركة وتباينات، وأن علينا أن نبحث عن نبرتنا الخاصة، عن تفردنا، ولكن دون أن ننسى أننا نعيش في عصر له سماته. كان يبحث عن التفرد في إطار الوحدة الكلية؛ فقد كان يرى العالم بمجمله في كل عشبة. ولم يكن يريد أن يجعل من كل منا جورج ماورر صغيرا. كان يحاول اكتشاف مواطن الضعف ومواطن القوة في النص نفسه ليشير إليها، حتى لقد كتبت سارة كيرش بعد وفاته: إننا أصبحنا نخشى أن نعطيه حين مرض قصيدة من قصائدنا؛ لأننا كنا ندرك أنه سيقضي أياما طويلة في البحث والتنقيب، قبل أن يحدثنا بشأنها. وقد جمعتني به بعد تخرجي صداقة دامت حتى وفاته. أما فولكر براون الذي حاز هذه السنة على جائزة بوشنر، وهي أهم جائزة أدبية ألمانية، والذي تم تكريمه بالمناسبة بناء على اقتراح مني في مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة، فتعود صداقتي معه إلى مطالع الستينيات، حين كان يدرس الفلسفة في ليبزيج. وقد كان من أهم المساهمين في الموجة الشعرية في الستينيات، وهو يعتبر إلى جانب هاينر موللر من أهم المسرحيين في شرق ألمانيا.

لقاءاتي بهاينر موللر كانت في الحقيقة عابرة. زارني في ليبزيج وزرته في برلين، وكنا نتعانق حين نلتقي، لكن معرفتي به لم ترق إلى مستوى الصداقة، لا أريد الاسترسال، فلو فعلت لما انتهينا. أنا لم أعش على كل حال، كما تعرف، طيلة أربعين سنة من وجودي في مدينة ليبزيج، على هامش المشهد الثقافي. أول أمسية شعرية أقيمت لي كانت في المعهد العالي للفنون المسرحية بعد وصولي إلى المدينة بأشهر. درست في معهد الأدب، ساهمت في معظم أمسيات الموجة الشعرية الشهيرة. حضرت جل المؤتمرات الأدبية، وإلى ما هنالك. ولا شك أنني تعرفت خلال ذلك بالضرورة على عدد كبير من الكتاب، كما ربطتني بكثير منهم صداقات ما زال بعضها قائما منذ سنوات طويلة. والتقيت بكتاب عالميين كثيرين، مثل ناظم حكمت، وبابلو نيرودا، وياشار كمال، وعزيز نيسين، وأستورياس، الذي أجريت معه بالمناسبة في منتصف الستينيات حوارا نشر في مجلة عربية. ورغم أن هذه اللقاءات كانت عابرة، إلا أنها تترك بلا شك أثرها البالغ على شاب قادم من حي شعبي في الشرق. لم يستطع أن ينفض غبار أزقته عن أهدابه. - أعرف عنكم الثقة الوطيدة بقيمة الإبداع العربي قديمه وحديثه، ماضيه وحاضره. وقد أكدتم أكثر من مرة، في حوارات أجريت معكم، إيمانكم الراسخ بمستقبل زاهر للأدب العربي، وإمكان استقباله، والترحيب بعطائه على المستوى العالمي، على الرغم من كل العقبات التي توضع في طريقه، والأحقاد التي تؤلب عليه وعلى الحضارة التي نما وازدهر في ظلها من قبل الجهات الإعلامية المعروفة بتحيزها وعدائها لنا، هل يمكن أن تحدثونا في هذا الموضوع بشيء من التفصيل، وعن مواقف تلك الجهات الإعلامية منكم؟ - حين تبتعد عن الشيء تراه في كليته. وأنا بحكم وجودي بعيدا عن جزئيات المشهد الثقافي العربي، بكل ما فيه من تطلعات ورغبات ومهاترات أنظر إلى المنتوج بتراكماته. وحين أستعرض ما تراكم من إبداعات خلال العقود الأخيرة من حياتي الواعية، أرى أن العرب قدموا على كل الأصعدة الإبداعية منجزات يمكن أن تصمد بالفعل لكل منافسة مع الآخر، كما أكرر دائما، وليس في مقدور المرء تجنب التكرار في حوارات كهذه. هذه قناعة مبنية ليس على رغبة ذاتية أو إيمان طوباوي، بل على أسس حقيقية راسخة. كل ما هنالك أن ثقافتنا كانت محاصرة حصارا جائرا، وكان من الصعب اختراقه لفترة طويلة. ألاحظ أن هذا الحصار بدأ يتهاوى في السنوات الأخيرة. ازداد الاهتمام بترجمة هذا الأدب إلى الألمانية في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، خاصة بالنسبة للأعمال الروائية. ورغم كل ما يمكن أن نبديه من ملاحظات حول عملية اختيار الأعمال المترجمة، ونوعية بعض الترجمات، إلا أن هذا الاهتمام بحد ذاته مبشر. لم يعد الحصار في هذا الإطار محكما كما كان من قبل. أصبحت تحدث هنا وهناك اختراقات هامة، رغم أن هذا الاختراق لا يحدث في الغالب إلا من قبل أفراد مغامرين، أو من قبل دور نشر صغيرة، ورغم حدوثه أحيانا من منطق الحصار نفسه. الأمر الذي لم يحدث فيه اختراق هو عملية تسويف وترويج ما يترجم عن العربية والتعمية، والتحيز الواضح في وسائل الإعلام. - وأخيرا: هل يمكن أن توجهوا كلمة للأدباء والمبدعين العرب من جيل الشباب، تضمنونها بعض ملاحظاتكم على الإنتاج الحاضر - وبالأخص على قصيدة النثر التي تتابعونها باهتمام - من منظور شامل يؤهلكم له كفاحكم الطويل لاستيعاب أدب الآخر، ونجاحكم في كتابة شعركم وبحوثكم بلغته، وفي انتزاع الاعتراف بإنتاجكم من عديد من نقاده وشعرائه، وهيئاته الثقافية التي منحتكم جوائزها المرموقة، ورشحتكم بجدارة لرئاسة اتحاد الكتاب في ولاية ليبزيج، التي تعيشون فيها منذ ما يزيد على الأربعين سنة؟ - ليس لدي في الحقيقة ما أضيفه على ما سبق وذكرته؛ إلا التأكيد على ثقتي ثانية بأننا مؤهلون بالفعل لأن ندخل معركة المنافسة مع الآخر، دون أي خجل. وربما كان علينا ألا نجعل الآخر يطل برأسه كثيرا على لحظتنا الإبداعية، وألا نسمح له بأن يملي علينا قصيدتنا، لكن كل تأثر مع ذلك مشروع. وكل تجريب ضروري. ومن يمتلك التراث الذي تمتلكه العربية لا بد له من أن يكون فخورا من ناحية، وحذرا من ناحية أخرى؛ لأن سطوة هذا التراث العظيم قد تتحول أحيانا إلى قيد. وأرجو أن تسمح لي هنا أن أعبر عن امتناني لك وسعادتي الحقيقية بهذا الحوار الذي يجريه معي إنسان أجله، وأحترم ما قدمه للمكتبة العربية، خاصة وأنه من الزملاء العرب القلائل الذين تمكنوا من الاطلاع على كتاباتي الألمانية باللغة التي كتبت بها، وليس عن طريق الترجمة. وهو ما لم يحدث إلا في حالات نادرة، فأنت تعرف أن ما يكتب بالألمانية لا يلقى نفس الاهتمام الذي يلقاه ما يكتب بالفرنسية، أو بالإنجليزية.

الفصل السابع

هكذا تكلم عبد الله

النص الكامل للديوان

وقال لي:

كل كاتب يقرأ كتابته، وكل قارئ يحب قراءته.

النفري، متصوف من القرن الخامس الهجري

ج

وقال لي:

انظر للآخر وتمعن فيه ببطء.

الجذر

هكذا تكلم عبد الله وقال لي:

لم تعد أنت أنت؛

لأنك لو كنت أنت نفسك؛

لما رضيت بما ترضى به.

وقال:

من يفقد الجذر يفقد الثمرة،

ومن يفقد الثمرة يفقد الجذر.

اعلم مع ذلك أن الجذر بغير الثمر عقيم،

والعقم كالحجر جاف.

وقال:

اغرس جذرا تؤسس وطنا؛

لأن من لا وطن له في وطن ما

لا جذر له.

ومن لا جذر له، لا يحمل ثمرة.

أما من لا يحمل ثمرة؛

فهو وحيد مهجور،

مثل الفرع اليابس.

لم تنبس شفتاي إلا بدمعة

فرت من العين. •••

وقال لي:

مكان يحويك،

زمن يحملك،

قوس قزح مغزول في داخلك بقوس قزح.

هناك فحسب تكون حياة،

ويكون زمانك لا زمنيا،

ومكانك غير مكاني . •••

وقال:

القوارب نسيت الريح،

ونكست رءوس الأشرعة.

الشاطئ ما يزال ينتظر،

وينتظر.

الرقص على الحبل

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

الغربة عن يمينك،

وعن شمالك الغربة؛

لأنك ترقص على حبل.

وقال:

السؤال يقف في طريق السؤال،

وكذلك الجواب في طريق الجواب؛

لأنك ترقص على حبل.

وقال:

لا الشرق فيك شرق،

ولا الغرب غرب؛

لأنك ترقص على حبل.

وقال:

أغمض عينيك،

وأسرع في جريك، ما وسعتك القدرة؛

لأنك ترقص على حبل. •••

وقال لي:

أقرب من قرب اليد للبدن،

ومن قرب الحدقة للعين.

أقرب من قرب الذكرى للذاكرة،

ومن قرب الطفل لصدر الأم،

يبقى البلد النائي

بالنسبة لك. •••

لكني قلت:

الغربة ما هي عني بغريبة.

في الجذر تعشش «هذي» الغربة،

ودواما

يتوجه شوق للمطلق.

يدعوني

في ليلات الوحدة،

خلف تخوم جبال سبعة.

اخرج من هنا

هكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

قدموا لك كرسيا لتجلس عليه،

لكنك لم تجلس.

أعدوا لك المائدة لتأكل،

لكنك لم تمد يدك.

كأسا ناولوك،

لكن شفتيك لم تلمساه.

قال:

أسأت إلى واجب الضيافة،

وإلى حق المضيف.

غير أني قلت:

أولا تسمع

كيف يصرخون في صائحين:

الطعام على المائدة ينبغي عليك أن تتذوقه؟

إذا فكل!

الخمر في الكأس يجب أن يلذ طعمها في فمك.

إذا فاشرب!

انهض وانصرف للعمل،

هنالك في الخارج. •••

وقال لي:

دع الحبة التي يلقونها عند قدميك،

بيد لا تعرف الحب.

وحلق جائعا

مع الطيور الصغيرة.

وقال:

نحو الوطن الذي اضطهده

يتوجه الغريب على الدوام،

وهو يستشعر الغربة.

سندباد

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

انثر البلسم على الجرح القديم المر،

وارجع إلى بلدك،

قضيت يوما كاملا في رحلاتك،

وربما قضيت ألف عام.

فتحت كل صدفة

في بحار الغربة الغريبة،

عاما بعد عام بعد عام.

ارجع إلى بلدك

فتش عن الشمس الأليفة

المختبئة في العيون العطشى.

انشر لآلئك؛

إذ ما جدوى الكلمة

المختنقة فوق شفاه مضمومة.

ما قيمة لؤلؤة بالنسبة للجيد الأبيض،

إن بقيت كامنة في الصدفة؟! •••

وقال لي:

لا توجد ينابيع

كأنهار العسل ،

ولا سنابل تتدلى

كعناقيد العنب

في جنة الغربة.

الجنون

وهكذا تكلم عبد الله قائلا لي:

لو تركت عينيك للجنون؛

لما رأيا إلا ما تودان رؤيته.

لو تركت يديك للجنون؛

لقبضتا على الجمر،

وصفعتا الطاغية.

لو تركت شفتيك للجنون؛

لحطمتا القفل الذي يغلقهما.

لو تركت قدميك للجنون؛

لنبذتا الحبل

الذي ترقص عليه.

لو تركت ذاكرتك للجنون؛

لأجاب السؤال على السؤال،

واقترنت النظرة بالرؤيا.

حكاية الشوق

وهكذا تكلم عبد الله قائلا لي:

انتسب لابتسامة أحفادك الطازجة.

اضرب بقدميك في أغوار صخور

جديدة على الدوام.

دمعة منسابة،

تلك الشامة الأبية على وجنتيك.

وقال لي:

وحدها ذاكرة السماوات الواسعة ،

ما زالت تنسج الزرقة الصافية الرائعة.

وفي الذاكرة وحدها ما زالت تتهامس

النوافذ العجوز،

في الحارات الضيقة المتعرجة

وتروي حكاياتها لبعضها البعض. •••

وقال لي:

لا تدع الغربة تصطادك

في شبكتها.

انظر للآخر وتمعن فيه ببطء.

عندئذ لن تقوى لحظات الغربة

أن تنفذ في داخلك،

وتتخبط حائرة فيه.

رياح مسرعة

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

أعط الغريب كرسيا،

مد للغريب مائدة،

زود الغريب بطعام وشراب.

وقال:

أعر أذنك للغريب عندما يتكلم،

خذ في يديك يديه؛

فهما ترتجفان من البرد.

وقال:

ربما اضطررت مثله أيضا ذات يوم

أن تضع قدميك

في حذاء الريح المسرعة. •••

وقال:

بشوقها لمقدم الربيع،

تلتف الشجرة العارية،

بالريح الثلجية،

وتقاوم الموت.

المتردد

وهكذا تكلم عبد الله وقال لي:

الريح تلوي أنفك،

أكثر من شتاء يزحف عليك.

لقد طال بك التردد.

وقال:

ها أنت ذا الوحيد بلا شبكة ولا صيف،

بين فكي البحر ومخالب الصحراء.

العمق ما هو بعميق.

من يتجاسر يكسب الكنوز.

ومع بدء الرحلة تنفتح الصدفة،

وتكشف لك عن اللؤلؤة.

والضاحك هو الذي سبق له البكاء.

وقال:

هذه سفينة جديدة لمن لا يخافون؛

ربما تكون آخر سفينة لك.

اركب قبل أن تخنقك الغربة،

ويجوفك الشك.

اركب،

اغزل شبكتك،

اطرحها،

أبد شجاعة الملاحين،

تجلد الريح وجوههم،

لكنهم ينشرون أشرعتهم

عاما بعد عام.

الشوق

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

معلق أنت على هذا الصليب،

لكن الصليب نفسه صار محببا إليك.

دمك جرى في شقوقه،

توحدت به كما توحد بك.

لن يمكنه أن يفلت منك،

ولن يسعك أن تفلت منه.

وقال لي:

المجدلية تضمخ قدميك بالعنبر،

المجدلية تنعشك بقطرة ماء منعش.

وقال لي:

اخنق الوهج في صدرك،

أسكت الشوق في ضلوعك.

أما أنا فقلت: آه!

المسافر

هكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

طويل هو السفر، وأنت وحيد في القطار.

لا شيء إلا الجبال في البعيد.

لا شيء إلا اليباب والأزقة الضيقة.

قال لي:

لا أحد يتبعك،

لا أحد يضطهدك،

لا أحد يوقف سيرك.

الناس يختفون، وهم يتراجعون للوراء ،

وجوههم لا تلمس الذاكرة،

نظراتهم عابرة،

أصواتهم غير مسموعة،

أما أنا، فقلت:

ليتني أستطيع أن أصل مرة أخرى إلى مكان،

أن أستريح مرة أخرى،

أن أعيش حيث تعلم الذاكرة علم اليقين! •••

وقال لي:

أنت ترى الأفق يترامى أمامك،

ولا تقوى على الوقوف على قدميك،

يدك وحدها هي التي تمتد

من حين إلى حين،

بغير إرادتها.

س

وقال لي:

أنت هو ذلك الذي تبحث عنك فيه،

وهو ذلك الذي يبحث عنه فيك.

الآخر

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

لا يكون أحد خارجك،

إلا وهو كائن فيك.

وقال لي:

الآخر هو أنت وأنت هو.

الجسر الواصل بينكما هو وحده الحياة.

ماذا تساوي الحياة

لو تحطم الجسر؟

وقال لي:

أنت تبتعد بنفسك عن نفسك،

عندما يبتعد الآخر عنك.

وقال لي:

لا تطلق الرصاصة

على صدر أخيك؛

وإلا سقطت في قبره. •••

أما أنا فقلت:

الآخر يقتلني

يوما بعد يوم.

لم لا يسقط

هو في قبري؟ •••

وقال لي:

أنت الذي تبحث فيه عنك،

وهو الذي يبحث عنه فيك.

أنت تبقى أنت،

وهو يبقى هو،

بجناحين مضمومين كقبضتين،

يقرع النوافذ المغلقة

غراب البين. •••

وقال لي:

صر كما كنت،

حين لم تكن،

إلا في الآخر

ذاتا. •••

وقال لي:

كالراقص على الحبل،

يقف المهاجر

على حد السكين،

ظمآن

بين مطر

ومطر. •••

وقال:

حتى فوق العشب الناضر

يتيبس

الفرع المبتور. •••

وقال لي:

إن من تحتقره في صمت

يصرخ في وجهك

باحتقار. •••

وقال لي:

لم يبق شيء يمكنه أن يوقف الرحيل

نحو شمس تضيء كل شيء.

الوهج المعتم للجوع

يخفر بميسم النار، فوق جبهة الجائع العالية،

وشم نفاد الصبر.

الضوء الساطع

وهكذا تكلم عبد الله قائلا لي:

في السنبلة أسكنتك الشمس ذات يوم،

فطلعت كحبة حنطة،

كجسر ممدود بالمودة.

وقال:

لكن في يوم من الأيام،

ناداك الضوء الساطع،

بصوت مرتفع،

فخلعت قميص الحنطة،

ولبست قميص الختم.

وتحت زحف حذائك العسكري،

تهدم الجسر

صار ترابا. •••

وقال لي:

أشرق في سنبلة،

وستشرق فيك

الشمس. •••

أما أنا فقلت:

كيف لي أن أشرق في سنبلة

دفنتها بنفسي

في صدري؟ •••

وقال لي:

لا،

ليست الشمس.

إن الصورة الأولى لكل عالم

واكتمال،

كل جمال مرئي

هو أنت.

الإنسان الفراشة

1 ⋆

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

لا تدق بقبضتك على جدران مقدسة.

لا تصرخ!

أنت الدودة داخل شرنقة.

وقال لي:

فراشة تريد أن تكون،

والفراشات تحب النور.

وفي النور يتربص الموت؛

لكنك هنا في أمان،

ما دمت مستقرا في شرنقتك. •••

لكني قلت:

في الشرنقة ظلام،

ومظلم هو الموت.

دعني أرفرف في الحياة،

ولو مرة واحدة،

نحو النور الساطع،

والزهر الندي. •••

وقال لي:

أو لم تبق فينا نخلة؟

أو لم تبق عاصفة تهزنا

بالشفقة أو بالحب،

بحيث تسقط بلحة

حلوة الطعم؟

كرم الأرض

2

وهكذا تكلم عبد الله قائلا لي:

كالثور في الحلبة،

هذه البشرية

التي تتقدم دائما

نحو الموت.

وقال:

المدن المقدسة تتدنس بالعمى،

بخناجر بشعة.

يلاحق البشر على الدوام

حبال أوردتهم،

وسوف يصرخ الجرح في ذهول

ذات يوم أعمى.

وقال لي:

ثم تزحف البرودة الثلجية على العالم،

ولن تبقى شجرة،

لا رفة جناح ولا صيحة فرح أو ألم.

وقال:

لكن الكرم قد تم حرثه،

أزيلت منه الحجارة وبني فيه برج،

وحفرت معصرة.

لم إذن هذه الأعناب الفاسدة؟

ومن ذا الذي لا يزال يجدل تاج الشوك؟

أما أنا فقلت:

أنا عطشان،

آه يا شجرة الزيتون!

خذيني تحت ظلك الرطب.

ر

وقال لي :

لكنك لا تعرف الشيء؛

لأنه لديك مجرد اسم.

المخالب

وهكذا تكلم عبد الله قائلا لي:

أنت عطشان وينابيعك جافة؛

لأن عالمك مر كالعلقم،

وصوتك واهن كالتنهيدة.

وقال:

لا ينبثق النبع من الصخر.

رملا يبقي الأفق المترامي وقيظا.

وفي القيظ يكمن العطش،

وفي العطش يكمن السراب،

وفي السراب يكمن الموت.

وقال:

لتنزع من عالمك السراب.

تحتاج مخالب؛

لتشق الصخر،

تحتاج مخالب.

ولتروي في الرمل البذر بماء النبع،

تحتاج مخالب.

لكنك لا تملك من المخالب إلا صوتك،

وصوتك واهن كالتنهيدة،

وكالعلقم مر عالمك. •••

وقال:

كأمواج البحر،

ومن لا نهاية إلى لا نهاية، (تتردد) صيحات العشاق بالنشوة،

حين تتمايل الجدران الشاحبة،

في غبش الضوء

على الإيقاع وترتج.

السؤال

هكذا تكلم عبد الله قائلا لي:

العالم يضيق على مقاس نظرتك،

لكنه لا يضيق إلا في عينيك.

وقال:

إذا انغلقت على نفسك دون العالم؛

فلن تجد أي مفتاح

لأي قفل.

غير أن من يفقد السؤال

يفقد الجواب.

ومن يفقد الجواب

يفقد نفسه،

وتنسى عيناه السير،

وتلتحم شفتاه

بالعدم. •••

لكنني قلت:

أريد أن أجد الراحة

في جلدي النحيل،

وأجد مخدة بالليل في سريري.

بيد أن كل إجابة تحاول

أن تداعب شعري بيد ناعمة

تبادرني على الفور بسؤال. •••

وقال لي:

لا تسلم كلمتك للكذب،

ولا تعتبر كل ما تفكر فيه،

وكل ما تقوله

عبثا وهراء. •••

وقال لي:

اليد التي تضربك على الخد الأيمن

لا تعطها الخد الأيسر.

كما نسيت المطر الذي سقط

في الخريف الماضي،

انس التي تستحق النسيان. •••

وقال لي:

العشب تنامى

فوق قبور مهجورة،

على مدى حاضر بأكمله.

الأفعى تخلع جلدها

وتوهمك بالهروب،

محتمية بتضخم الذكرى.

العناق

3

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

تحت قباء القهر،

يمكن في بعض الأحيان لتنهيدة

أن تمحو القهر دون عنف.

لكن من حملوا للشارع التنهيدة،

سرعان ما يرقدون كالحصى،

فوق الشوارع المسفلتة حديثا.

وقال لي:

من محطات الأحلام المفروضة بقرار،

ينطلق القطار نصف فارغ

إلى المستقبل الوردي.

الأذرع الممدودة للعناق تسد كل أفق.

قضمة واحدة في التفاحة الحلوة

تطرد الفردوس.

حتى الخطوة نفسها تتقهقر في الخطوة. •••

وقال:

حتى الطغاة

بعد أن يطهرهم التاريخ،

ويغسلهم غسلا

يصنعون تراثا

من حين إلى حين. •••

وقال لي:

خطواتك تسبقك بسرعتها،

نفاد الصبر يطاردك

من لحظة إلى لحظة.

الفخ ينتظر

بصبر شديد. •••

وقال لي:

الأحجار (البشرية) الصلعاء،

العاشقة لروعتها

تتعامل مع أحلامك الخضراء،

كما تتعامل كل الأحجار العارية

مع الأحلام الخضراء.

الإنسان الجديد

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

في وجدانك تنمو لك أسنان.

الحيوان الوحشي يمسكك من كتفيك،

ويهزك؛

ليوقظك من نوم عميق.

لكنك بعيد عن الأسرار

التي يثقلونك بها،

مستغرق في إيقاع رقصك،

الذي يهبط بك إلى الجحيم.

أنت لا تشدو بالأغاني

التي يضعونها في فمك.

أنت نفسك الحيوان الوحشي

الذي يمسكك من كتفيك،

ويهزك ويهزك ويهزك.

الإشاعة

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

غير مرئية كالهواء،

تنساب الإشاعة في كل المسام.

وكالظلمة العصية على الفهم،

تلف قبل طلوع الفجر

كل الأضواء بحجاب مخيف.

النظرات العابرة

تخترق الجرح كرصاصات الكلمات.

وقال لي:

ابتر ذراعك بنفسك؛

فالوشم الأسود للإشاعة

لا تمحوه دمعة. •••

وقال لي:

الحجر قاس.

الفولاذ صلب.

القطرة الهاربة من الصنبور

حكيمة.

4

الأشياء وأسماؤها

وهكذا تكلم عبد الله فقال لي:

لكل شيء اسم، ولكل اسم شيء،

لكنك لا تعرف الشيء؛

لأنه لديك مجرد اسم.

وقال:

ليس الشيء هو اسمه،

وليس الاسم هو الشيء؛

فأنت إذ تسمي الشيء باسم

يتغير الشيء،

ويثبت الاسم.

وقال لي:

سم الاسم بالشيء،

لا الشيء بالاسم؛

إذ لو قلت ما قاله الآخرون من قبلك،

لما قلت غير القشرة.

5

وإن قلت القشرة

قلت الخدعة،

وإن قلت الخدعة

قتلت الشيء باسمها. •••

لكنني قلت:

الماضي يحمل الأبدية

إلى لحظتي.

وبغير الأبدية

تكون اللحظة

شاطئا بلا بحر. •••

وقال لي،

وهو يغادر المحطة الأخيرة:

للصمت

يحتضن الغريب نفسه

ومسبحة صلواته.

كلمة شحيحة

بجوار كلمة شحيحة،

6 •••

وقال لي:

تنفس بكل مسامك

هذه اللحظة بالذات.

لا تمسك بالهواء

أزفره للتو،

وعد بعالم

في الطيش المقدس

لكلماتك.

7

ح

وقال:

الموت

كالحب،

كمال.

الشمس والثلج

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

المطر يذوب في النهر،

وفي العصارة المثمرة للشجرة.

كن نهرا أو شجرة.

وقال لي:

لن يعود المطر مطرا،

ولن تصبح العصارة ثمرة

بغير شمس أو وهج.

لكني قلت:

من أين الشمس؟

ومن أين الوهج،

وما زال الثلج يحاصرني؟ •••

وقال لي:

استحم في النبع الأقدم لوهجها.

اجمع الأصداف من الشواطئ اللانهائية.

انشر اللآلئ في القرار الأعمق للبحر.

ادخل أنت وصرخة لذاتك الخرساء،

شاهقا نفسا بعد نفس،

8

في الماوراء الأرضي.

9 •••

وقال لي:

في الغابة الأزلية

تجتث أشجار الحياة،

شجرة بعد شجرة.

وعشبة بعد عشبة،

تنمو الطحالب البرية

وتنمو. •••

أما أنا فقلت:

اصمدي يا أمنا الأرض،

يا امرأة من أنفاسي،

يا جزيرة

لقوارب متوحدة

في الكون.

قسمة

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

دع العالم يسقط،

إن شاءت له البشرية أن يسقط.

وقال لي:

حين تستنفد الحياة نفسها؛

لن تكون على قيد الحياة.

ولن يتسنى لك أن تعلم

أنه لم تعد ثمة حياة.

لكن في الكون تسبح الكواكب،

والكائنات الجوهرية لا تسأل.

وقال لي:

عندما يكون للحياة أن تحيا؛

فلن يمنعها شيء من الحياة. •••

وقال لي:

لا تتدخل

في مجرى الحياة،

اكتف بتجربة

ما تقدمه لك الحياة؛

لتجربه. •••

وقال لي:

ليس بوسعك أن تحرك شيئا؛

أنت تحرك.

إن نهر الحياة الوحشي يسيل،

وأنت تسبح،

مثل قطعة خشب

فوق ظهره المحني. •••

لكني قلت:

ترى على أي شاطئ

سيقذف النهر الوحشي

ذلك البدن؟

وأي عفن

سيحلل الروح ببطء؟! •••

وقال لي:

نظام الطبيعة

هو التوازن،

هو بقاء الشجرة والبلبل.

وإلا لما بقي

سوى العدم. •••

وقال لي:

القرود التي لم تعد تجد

جوزة واحدة.

أضحت تنتظر اليوم

أن تغدو من جديد بشرا.

10 •••

وقال لي:

صرختك الأولى

تشد القوس،

ترسل إلى صدرك

سهم الموت المؤكد.

لكن مسافة البعد

بين الصرخة

والصمت

اسمها الحياة. •••

وقال لي:

تقبل ما يأتيك،

لا تنتظره.

رحب بالموت،

وعش. •••

وقال لي:

بين الأزل الأقدم،

والأبد اللامتناهي:

أنت الجسر؛

فلا تنأ بنفسك،

لا تنأ عن الطرفين. •••

لكني قلت:

القبر هو المحطة الأخيرة

للحيرة،

لكن الكمال بلا لغة،

والموت لا يعرف

غير كلمات قليلة.

الموت

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

طوبى لمن لا يقترب منه الموت!

لكن على الأمل في الحياة،

يضمك جدار الموت حريصا عليك.

وقال:

الموتى وحدهم يعلمونك

ألا تكون ميتا في الحياة.

في الموت وحده تكون بكليتك؛

لأن الموت، كالحب، كمال.

ولحظة الموت، كالجماع.

ليست إلا الكمال،

ليست إلا شهقة متصلة. •••

لكني قلت:

من أعماق لا تسبر

تطلع جنية،

شعاعا

بعد شعاع.

وتضيق عيوني عاجزة

عن أن تتملاها.

دوي النور لهذا الفجر

على (شط) البحر.

الألم

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

خناجر تشق وجدانك؛

لأنك تشتاق إلى الشوق،

حين يغيب الشوق.

وقال:

الألم يعضك،

والأرق،

حتى ينام فيك الشوق.

لكني قلت:

لو نام الشوق بقلبي؛

لخشيت

أن يطعنني الخنجر أثناء النوم،

فلا أشعر

بالألم.

مساء ومرح

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

صاحب الأسماك

بعيونها المستديرة.

اسأل الماء: لماذا يسيل؟

اسأل الموجة: إلى أين تسير؟

اسأل الزيتونة: لماذا تسمى زيتونة؟

اسأل البلد البعيد:

لماذا يبقى قريبا كل القرب؟

وقال:

غن مع البلبل

للأشجار المستغرقة في التفكير.

كن للمطر سحابة صيف.

وبرفق،

أطرق بالأحلام الخضراء

نوافذ هذا العالم.

ب

والجسر يمتد

من خط طول،

إلى خط طول.

قطار الضباب

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

خنجر الجوع يطاردك

من غرفة تعذيب إلى غرفة تعذيب،

حتى تستقر في الغربة

على أرصفة حزينة.

وقال:

كأن يديك شبحا يدين،

كأن عينيك حصاتان

في خرابة الوجه.

وكأن جسدك تحويلة

لقطار التاريخ الضبابي،

الذي تسوقه الغربة

من شوق

إلى شوق.

تغير الأثر

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

لا تحفر الغربة في جلدك،

تقبل وقاوم.

عنون الفرح بالألم،

والألم بالفرح؛

لأن الحجر وحده هو الذي يحفظ الأثر الأبدي للمطرقة.

أما الماء فيصقل برشاقة كل الشقوق.

وقال لي:

لا تكن حجرا ولا ماء.

انظر هناك لزهرة عباد الشمس؛

كيف ترتفع مزدهرة

متحدية الهواء الخانق،

غريبة عن الحقل في زهرية غريبة؟!

وقال لي:

اكسر شرنقتك العمياء،

ابحث في وهج الشمس عن ظلال

رطيبة،

وبالثلج أدفئ نظرتك.

وصول

اطرق بابها

بلا خوف،

ادخل وأفرغ حقيبتك،

دق المسمار في الحائط،

استيقظ في عينيها،

ثم نم فيهما (مساء).

جفت شفتاك من التجوال،

كرمل الصحراء،

وندى أخضر شفتاها. •••

وقال لي:

أنت وحدك هو بيتك.

أدخل الضيوف،

واقتسم حلمك معهم. •••

وقال لي:

قل لها،

لمن تحبها:

إنها جميلة،

وستصبح جميلة،

بقدر حبك لها.

البدن

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

في (حضن) العالم مكنون

لا متناه هذا البدن،

ومترام كالبحر،

كالزغرودة،

كالأفق،

كوطن تلجأ له

أطراف أصابع منفية.

وإذا يتمدد

فوق فراش ضيق،

يبدو أشبه بالحدقة،

في عين ضيقة (النن).

المطاردة

وهكذا تكلم عبد الله قائلا لي:

لا تطارد الزمن.

هذا الحيوان الخرافي الأعمى،

لا تهرب منه؛

وإلا طاردك بلا رحمة.

تنشق بكل حواسك

روائح العالم،

وكأن كل لحظة

بلا زمن. •••

وقال لي:

خذ الوردة في يدك،

قبلها قبلة عاشق،

وكعاشقة لدى القبلة الأولى،

سيحمر وجهها،

تحت الندى،

الوردة. •••

وقال لي:

الوحيد الذي لا يهجرك أبدا

هو أنت وحدك،

لكن لو هجرك العالم؛

فلن تصل إلى أي أنا. •••

وقال لي:

كن مرة أنا،

وكن مرة أنت؛

لأنك لو اقتصرت على أن تكون أنا؛

لأصبحت أنا وحيدا مع نفسي.

ولو اكتفيت بأن تبقى أنت وحسب؛

صرت حبة رمل في الريح.

استشعار الطقس

وهكذا تكلم عبد الله قائلا لي:

في صبح يوم مبكر،

وفجأة،

عندما تتلبد السحب،

وتحضن الحرارة المطر،

قبل أن (يومض) البرق، (ويدوي) الرعد،

سيتوقف القلب المتعب.

عندئذ يسقط المطر،

عندئذ تصبح السماء زرقاء،

عندئذ تتغنى الطيور،

ثم ترتفع الشمس

متجددة الفرح. •••

وقال لي:

عندما ترحل ذات يوم،

ستأخذ وجهها معك،

بين جفونك،

ولكن أعضاءكما الواهنة ما زالت

تتساند،

كالمحبين.

وتشيخان ما زلتما معا كالمحبين.

وما زال الصباح يتدفق من عينيك،

وينساب في الصباح،

شعاعا غائما بعد شعاع

في عينيها. •••

وقال:

في ضباب

الحب اللانهائي،

لا تصل نظرتك الكدرة

إلى روحها. •••

لكني قلت:

أغمض عيني،

وفمها مضموم

على شفتي.

بين الجفون

تستكن

كلمات

عينيها.

الجسر

وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي:

على النعناعة يتحرك،

فوق الصخرة يتحرك،

تحت الجسر يتحرك،

نور الحب المتألق.

وقال:

النعناعة تزهر في النعناعة،

الصخرة تستقر في الصخرة،

الجسر يمتد في الجسر،

وفي الطفولة يتجذر الجذر.

لكني قلت:

النور يلقيني في النعناعة؛

النعناعة تجعلني أزهر في الصخر.

الصخر يجذرني في الجسر،

والجسر يمتد

من خط طول،

إلى خط طول.

الفصل الثامن

قصائد مختارة

حتى الشوق الأخير

أنتمي للجذر.

هذا الجذر أين؟

أنتمي لل «بين بين»

لاهثا ما بين جرحين إلى آخر شوق.

أدفع الصخرة نحو القمتين.

يشتهيني الماء حينا،

تشتهيني النار حينا،

وأنا محترق بالماء،

ظمآن إلى النيران

بين الخطوتين.

القدم المبتورة

يعبرني هذا الشرخ كسهم،

من شوق الجرح لجرح الشوق.

لا ينصفني حتى دم قلبي،

ينساب كنهر دون شواطئ،

في غيبوبة هذا العشق.

لا يخصب مرج قبول في صحراء الغربة

إلا ويحاصره طوفان الرفض.

هل وطن هذا الجسد البض؟

هل قيد وجه دمشق؟

أتوتد في هذا الشرخ كمصلوب

من جرح الشوق لشوق الجرح،

تحت القدم المبتورة؟

لا أرض،

لا أرض! (عن ديوان الخروج من الذات الأحادية، دمشق، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1980م، ص5-6)

النورس

أقول أحبك، أنسى الترنح ما بين قطبين، أنسى بأني

وأني وأني، وأنسى الخريف الذي لفني بالتيبس.

أعرف أن الزمان يجف رويدا رويدا، بقلبي مثل سواقي الطفولة،

مثل الوريد تخثر فيه التطلع نحو التطلع.

ألمح وجهي طفلا عفيفا، وألمح وجهك جنية جئتني من وراء البحار،

ومن خلف كل التلال،

كأنك من حارتي جئت، من لهفتي جئت أما وأختا وابنة عم،

وجئت كلون المرح،

أحبك قلت، وأطبقت كل شفاه الكلام.

وأطبقت قلبي وقلت أنام

قليلا؛

لعلي أحط الرحال أخيرا وأنت إلى جانبي في المنام،

ولكنني

أتشوق للشوق تلك المسافة بيني وبينك جرح،

وشرخ وصوت

اصطدام.

وتلك الشرارة بيني وبينك عمر ودوحة ذكرى ونبع فرح.

أقول: أحبك، أخشى عليك من الحب، أخشى على الروح أن تستجيب

لصرخة طفل عفيف وراء البحار.

أقول: أحبك همسا لذاتي،

وألمح سوسنة سيخ نار بصدري،

وألمح شرخا حميما أضمده بالقصائد،

أجلد نفسي؛ لأني أحبك،

أقلع جذري، وأمشي وراءك،

مثل النوارس أمشي وأمشي بدون قوارب، دون بحار ودون انتظار.

حوار مع الموت المعلن

يتقدم مني الموت،

أراه،

أقول له لا تتعجل،

ما زال لدي أمور لم أنجزها.

فيقول سينجزها غيرك يوما، لست وحيدا فوق الأرض.

أقول لدي نصوص لم أكتبها، فيقول: سيكتبها غيرك بعد

رحيلك في الفجر.

أقول أنا: لا يعرفني أحد غيري، فيقول: تعفف،

لا يوجد نص أصل، لا يوجد قول فصل،

فأقول: ولكني البحر؛ لأني القطرة في الموجة، لا موجة دوني،

لا بحر.

فيقول بخبث ملحوظ: نصفك إبليس والنصف ملاك،

فبأي النصفين الآن تراك؟

فأقول:

ولا أعرف ما قلت.

في الحقيبة

حملت معي

على نعل الحذاء

أزقة الطفولة الضيقة،

المتمسكة

بجدائل الجبل الهرم.

وفوق العينين

عود النعناع الطري،

على حافة الساقية

تحت شجرة الزيتون.

وفي الشعر

النسمات الحنون للأمسيات الدمشقية.

حملت معي

على الذراع العاري

آثار وخزات قوافل الشمس

المحملة بشوق أجدادي.

للفيء المنعش

في واحات يسودها السلام.

وفي الروح

حملت طهارة الأنبياء، «كما ذكرتها الكتب»،

ووحشية الجبال الجرداء،

وحملت معي

على الشفتين.

من أمي الكآبة،

ومن أبي الظمأ

نحو الينبوع الناري

للنساء جميعهن. (لو لم تكن دمشق، ميونيخ، 1992م، ص7)

العمامة القديمة

1

ضعوا عن رأسي

هذه العمامة القديمة،

حطموا الأغلال في حكاياتكم

عن ألف ليلة وليلة.

مزقوا صورتي هذه

من مجلاتكم المصورة وكتب أطفالكم؛

فأنا لست «الحاج خالف بن عمر»،

ولا البدوي المتنقل على جمل،

ولا شيخ النفط ذا الأسنان المستعارة.

2

كنت مقيدا إلى الجمل

لأربعمائة عام متصلة،

مسجونا في الصحاري

لأربعمائة عام.

مسدودة كانت جميع نوافذ الضوء،

في بيتي المنسوج من شعر الغنم،

طوال أربعمائة عام.

وعلى مدى أربعمائة عام

كان عرقي يتحول بقدرة ساحر إلى ذهب

يعرض في واجهات أولئك

الذين كان علي أن أطعمهم.

3

لكن لماذا لا تسمونني الكندي،

أو الرازي أو ابن رشد؟

أولئك الذين حملوا إليكم ذات يوم

نور التقدم.

أو تسمونني على الأقل

عادل قرشولي؟

لماذا لا تزالون تحلمون بالحريم

باسمي أنا؟

لقد مزقت أختي من زمن طويل

عن وجهها حجاب أمي الأسود؛

فلماذا لا تزالون ترفعونه عاليا كأنه رايتي،

وتلونون وجهي بألوانه؟

4

كلا

لم يعد وطني هو الحمام التركي فحسب،

الذي استحم فيه الخلفاء والباشوات وإذا شئتم علي بابا

والأربعون حرامي.

طفل هو اليوم وطني في موكب العصر،

صحيح أنه ما يزال يقف بإحدى قدميه،

في القرون الوسطى. (وأنا أعرف هذا أيضا)

لكنه يقف بقدم أخرى،

في فجر يوم جديد،

تتساقط عنه أسنانه اللبنية،

ويخرج

من نفق البؤس الذي يبدو بلا مخرج.

إنه يقف

على خشبة العالم المضاءة بنور ساطع.

5

ضعوا إذا عن رأسي

هذه العمامة القديمة،

فكوا أسري وتعالوا

انظروا إلي كما أنا هناك،

حيث يتدفق العرق الملحي من الجباه،

في الشمس الصاعدة عند السد.

لنفحمكم

حيث الشمعة لا تريد أن تضاء،

إلا في ليلة الحب،

حيث القطار الحديدي يمد لسان الدخان

للجمل،

وحيث العاصفة تحتضن؛

لتكسر قيود القهر؛

لتنفض الغبار المتراكم؛

لتطفئ أفران التضخم الفكري.

وماذا عساي أن أبحث عنه، إن لم يكن هذا

تحت الظلال المنعشة في غابات النخيل

الشامخة؟ (لو لم تكن دمشق، ص23-24)

زيتونة وسنديانة

زوجان متباينان

في ذاتي،

نمو حذر

نحو الآخر.

آه أيها الشوق!

لا تخنق البراعم في الضلوع

المتشابكة الأغصان،

زيتونة عجوز

سخية بهدايا الزيتون،

مستودع للشموس

مطار أخضر لحمامة نوح،

أظفارها عنيدة،

تتمسك بأرض ظمأى

مغروزة بالصبار.

آه أيها الشوق!

لا تخنق البراعم في الضلوع

المتشابكة الأغصان.

هيا إلى السنديانة

المبتلة برداء لا نهائي من مطر

أغصان متكاثفة بلا جذع.

سطح لحبنا

ومن ثقب الباب تتلصص الشمس

أحيانا. (وطن في الغربة، هاله وليبزيج، 1984م، ص71)

موت غريب

مقتلع من جذوري،

متنام مع موت غريب

أنزع نفسي من نفسي،

ليلة

بعد ليلة. •••

قبر مفتوح

جلدي الرقيق،

برودة النظرات الشريرة

تتسلل بلا عائق

داخلة خارجة. •••

مستديرا للخلف،

أنطلق

في النهار القادم.

غربة

صماء هي زرقة سماء الحمام،

مسموم هو النبيذ،

واليد الممدودة من حجر. •••

والبلد

البعيد والقريب

يعلمنا منذ كنا في رحم الأم

أن نحفظ عن ظهر قلب

كلمتي:

الابتعاد،

والغربة.

قفص

غرفة

بلا نوافذ،

من يسكنون فيها

ينظمون العالم

وفق منظورهم.

تعلم المشي

القدم تقف مرة أخرى

على الأرض.

القدم الأخرى تتبعها،

والقدمان تقفان متجاورتين. •••

قدم تسبق الأخرى

تتساءل وتتساءل

خلال دغل كثيف

من الأسئلة. (القصائد الأربع الأخيرة عن مجموعة قصائد «موت غريب» من ديوانه «لو لم تكن دمشق»، ميونيخ، الطبعة الثالثة، 1999م، ص73-83)

قائمة بأهم مؤلفات الشاعر ومترجماته

(1) المؤلفات (1-1) مجموعات شعرية () بالعربية

موال الغربة، دمشق، 1967م.

الخروج من الذات الأحادية، دمشق، مطبعة اتحاد الكتاب العرب، 1981م. () بالألمانية

Wie Seide aus Damascus. Berlin, Verlag Volk und Welt, 1968 .

كحرير من دمشق، برلين، دار نشر الشعب والعالم، 1968م.

Umarmung der Meridiane, Halle-Leipzig, Mitteldeutscher Verlag, 1978-2., veränderte Auflage 1982 .

عناق خطوط الطول، هاله وليبزيج، دار نشر ميتلدويتش، 1978م، الطبعة الثانية 1982م.

Daheim in der Fremde. Halle-Leipzig, Mitteldeutscher Verlag, 1984 .

وطن في الغربة، هاله وليبزيج، دار نشر ميتلدويتش، 1984م.

Wenn Damascus nicht Wäre, Gedichte. München, 1992, AL Verlag .

لو لم تكن دمشق، قصائد، ميونيخ، 1992م، دار نشر أكسيون آيس.

Also Sprach Abdulla. München, AL Verlag, 1995 .

هكذا تكلم عبد الله، ميونيخ، دار نشر أكسيون آيس، 1995م. (1-2) دراسات نقدية () بالألمانية

Das Lehrstück “Die Ausnahme und die Ragel” von Bertolt Brecht und die arabische Brecht-Rezeption Eine Auseinandersetzung mit einigen Missverständn issen und Fehlinterpretationen in der arabischen Rezeption von Brechts Methode des epischen Theaters. Dissertation, Leipzig 1970 .

المسرحية التعليمية «الاستثناء والقاعدة» لبرتولت بريشت والتلقي العربي لبريشت، مناقشة لبعض أوجه سوء الفهم وسوء التفسير في التلقي العربي لمنهج بريشت في المسرح الملحمي، أطروحة جامعية، 1970م.

Brecht in arabischr Sicht. Abhandlung. Brecht-Zentrum der DDD, Berlin, 1982 .

بريشت في المنظور العربي، دراسة، مركز دراسات بريشت في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، برلين، 1982م.

Mein langer Weg zu Brecht, in: Leipziger Brecht-Begegnungen 1923-1994, Texte zur Literatur, Heft5, Rosa-Luxemburg-Stiftung Sachsen 1998, S. 105-111 .

طريقي الطويل إلى بريشت، في لقاءات بريشت الليبزيجية (نسبة إلى مدينة ليبزيج) 1923-1994م، نصوص أدبية، الكراسة الخامسة، مؤسسة روزا لوكسمبورج في سكسونيا، 1998م، ص105-111.

Die Figur des Shylock in heutiger Sicht, in: Shakespeare Jahrbuch, hrsg. Von Anselm Schlösser und Armin-Gerd Kuckhoff, Bd. 113, Hermann Böhlaus Nachfolger, Weimar 1977, S. 64-71 .

شخصية شيلوك من منظور معاصر، في كتاب شكسبير السنوي، نشره أنسيلم شلوسر وأرمين جيردكوكهوف، المجلد 113، خلفاء هيرمان بولاوس، فيمار، 1997م، ص64-71.

Über Georg Maurer, in: Bleib ich, was ich bin. Teufelswort Gotteswort. Zum Werk des Dichters Georg Maurer, Gerhard Wolf Janus Press Gmbt, Berlin, 1998 .

عن جورج ماورر، في: هل أبقي ما أنا عليه؟ كلمة الشيطان وكلمة الله، عن أعمال الشاعر جورج ماورر، مطبعة جيرهارد، فولف يانوس، 1998م.

Adonis-Verwandlungen eines Liebenden. Sechs Kleine Bemerkungen über einen grossen Dichter, in: Das Arabische Buch, 1992 .

أدونيس، تحولات عاشق، ست ملاحظات صغيرة عن شاعر كبير، نشرت في كتاب الشعراء العرب، برلين، الكتاب العربي، 1992م. () بالعربية

بريشت في المرآة العربية، دمشق، مجلة الحياة المسرحية، 1980-1981م.

تطور بريشت نحو المسرح الجدلي، دمشق، مجلة الحياة المسرحية، ع22-23 ،

الأطروحات العصية في المشاريع المسرحية، تونس، مجلة فضاءات مسرحية، ع5-6، 1986م.

تحولات خيال الظل، دمشق، مجلة الحياة المسرحية، ع9، 1979م.

شخصية شيلوك في كوميديا تاجر البندقية، دمشق، مجلة الحياة المسرحية، ع2، 1977م.

ملاحظات حول أوبرا ماهاجوني، تأليف برتولت بريشت وترجمة ع. ق، دمشق، مجلة الحياة المسرحية، ع17-18، 1981م. (2) المترجمات (2-1) إلى العربية

برتولت بريشت: أربع مسرحيات: ازدهار وانهيار مدينة ماهاجوني، دانزن، قائل نعم وقائل لا، ما ثمن الحديد، دمشق، وزارة الثقافة، 1989م.

ما هو خاص بنا، شعر لجورج ماورر، مع مدخل إلى عالم ماورر الشعري، بيروت، دار الفارابي، 1981م.

غيفارا أو دولة الشمس، مسرحية لفولكر براون، دمشق، وزارة الثقافة، 1991م.

بروميثيوس، قصيدة لغوته، دمشق، مجلة الآداب الأجنبية، ع35-36، 1983م.

أنشودة الفرح، قصيدة لشيللر، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، ع157-158، 1984م. (2-2) إلى الألمانية (مسرحيات ينتظر أن تظهر قريبا في كتاب)

سعد الله ونوس: رأس المملوك جابر، 1973م.

ألفريد فرج: علي جناح التبريزي وتابعه قفة، 1976م.

حمدة خميس: على رصيف المقاومة، قصيدة درامية، 1979م.

يوسف العاني: المفتاح.

معين بسيسو: العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع، 1979م.

سميح القاسم: مؤسسة الجنون، 1979م.

عز الدين المدني: ديوان الزنج.

جلال خوري: الرفيق سمعان.

محمود دياب: أهل الكهف، 1974م. (2-3) قصائد وقصص لم تنشر بعد في كتاب (عن الألمانية وإليها) (1)

قصص مترجمة إلى الألمانية: (أ)

دومة ود حامد: للطيب صالح. (ب)

الترام: لجمال الغيطاني. (2)

قصائد عربية مترجمة إلى الألمانية:

من شعر: محمود درويش، وأدونيس، وعبد الوهاب البياتي، وأمل دنقل، وعباس بيضون، وحسن عبد الله، وعبده وازن، وبول شاوول، وسركون بولس، وعبد القادر الجنابي، وسعدي يوسف، وأمجد ناصر، وعبد الله زريقة، ومهدي أخريف وآخرين. (3)

قصائد ألمانية مترجمة إلى العربية:

من شعر: جوته، شيللر، هلدرلين، فلهلهم بوش، بريشت، جونتر آيش، إنجيورج باخمان، إيريش فريد، فولكر براون، إنسينسبرجر، سارة كيرش، دورس جرونباين، وآخرين.

Unknown page