خطْبَة الْكتاب بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله على مَا منح من الْهدى وَجعل السّنة المطهرة قدوة لمن يقْتَدى الَّذِي خلق فأحيا وَحكم على خلقه بِالْمَوْتِ والفنا والبعث إِلَى دَار الْجَزَاء والفصل والقضا لتجزى كل نفس بِمَا تسْعَى كَمَا قَالَ فى كِتَابه جلّ وَعلا ﴿إِنَّه من يَأْتِ ربه مجرما فَإِن لَهُ جَهَنَّم لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى وَمن يَأْته مُؤمنا قد عمل الصَّالِحَات فَأُولَئِك لَهُم الدَّرَجَات العلى جنَّات عدن تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء من تزكّى﴾ وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على خير من أفيضت عَلَيْهِ بحار المكارم والندى ولاحت عَلَيْهِ لوائح الصدْق والصفا واهتدى بِمَا أنزل عَلَيْهِ من ربه وَإِلَيْهِ أمته هدى وأنقذها من شرك الردى وَلم يَتْرُكهَا سدى فَمن أطاعه ووالاه فقد رشد وَنَجَا وَمن عَصا وناوأه فقد ضل وغوى وعَلى آله وَصَحبه وَحزبه صَلَاة وَسلَامًا دائمين على طول المدى وَبعد فَهَذَا كتاب فى أَحْوَال النَّار وأصحابها وأهوال الْجَحِيم وأربابها نسجته على منوال كتابى فى أَحْوَال الْجنَّة وأهاليها وحقائق نعمها ومواليها والباعث على جمعه أَن الْحَافِظ الإِمَام نَاصِر السّنة وَالْإِسْلَام مُحَمَّد بن أَبى بكر بن الْقيم بوأه الله فى دَار السَّلَام ألف كتابا جَامعا لم يسْبق إِلَيْهِ فى مَا جَاءَ فى نعيم الْجنان ومدارج الرضْوَان والغفران وَهُوَ بَاب من أَبْوَاب التَّرْغِيب وَقد سبقت رَحْمَة الله ﷾ على غَضَبه كَمَا ورد ذَلِك فى صِحَاح الْأَحَادِيث وَلم أَقف لَهُ وَلَا لغيره على كتاب مُسْتَقل فى ذكر النَّار وأهوال الْجَحِيم وَمَا يُقَابل الرَّاحَة والعيش الآخر فى دَار النَّعيم وَهَذَا بَاب من أَبْوَاب التَّرْهِيب وحاجة الْمُسلم إِلَيْهِ أَشد من الْحَاجة إِلَى الأول لِأَن الْإِيمَان بَين الْخَوْف والرجا والمرء بَين الشدَّة والرخا وَالْخَوْف يفعل فى الْخَائِف مَالا يفعل الرجا فى الراجى

1 / 19

والخشية تميز تمييزا كَافِيا وافيا بَين الْهَالِك والناجى وَأَن دين الاسلام ورد بالمهلكات كَمَا جَاءَ بالمنجيات وَأَن النَّبِي ﷺ رغب وحذر وَبشر وأنذر فَهُوَ الْمخبر الصَّادِق بكلا الْأَمريْنِ إِخْبَارًا لَا يخفى على ذى عينين وَلَكِن الشَّيْطَان الرَّجِيم غرهم بالغفران والاحسان وكادتهم النَّفس الأمارة بالسوء ووعدتهم بالرضوان والجنان وَدخل عَلَيْهِم إِبْلِيس من بَاب الرجا حَتَّى أضلهم عَن طَرِيق الْهدى فَقَالُوا سيغفر لنا كَمَا قَالَ من قبلهم من الْأُمَم وَلم يعلمُوا أَن بَطش رَبهم لشديد الْأَلَم وَأَن الدَّار الْآخِرَة منقسمة إِلَى قسمَيْنِ رياض الْجنَّة وحفر النَّار وَالْعَبْد بَين مخافتين إِمَّا أَن يصير إِلَى النَّعيم بفضله سُبْحَانَهُ وَإِمَّا أَن يُصَار بِهِ عدلا مِنْهُ إِلَى دَار الْبَوَار وكل من قنع بالرجا وَلم يلم بالخوف لم يعلم بعاقبة أمره وَلم يعرف نَفعه من ضره وَإِنَّمَا الْمُؤمن الناجى من آمن بِاللَّه وَرَسُوله وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا وأقلع نَفسه فى هَذِه الدَّار عَمَّا يوبقه ويهلكه عذبا كَانَ أَو مالحا وفى حَدِيث شَدَّاد بن أَوْس قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ الْكيس من دَان نَفسه وَعمل لما بعد الْمَوْت وَالْعَاجِز من أتبع نَفسه هَواهَا وَتمنى على الله قَالَ فى مجَالِس الْأَبْرَار هَذَا الحَدِيث من حسان المصابيح انْتهى وَمَا أحسن مَا قَالَ بعض العارفين عجبت من شيخى وَمن زهده ... وَذكره النَّار وأهوالها يكره أَن يشرب فى فضَّة ... وَيسْرق الْفضة إِن نالها ووعد الْمَغْفِرَة فى كتاب الله مَنُوط بالايمان وَالْعَمَل الصَّالح جَمِيعًا فَمن أقرّ بِلِسَانِهِ أَن الْآخِرَة خير وَأبقى ثمَّ ترك الْعَمَل واشتغل بالمعاصى فَهُوَ من المغرورين بالدنيا والمسرورين بهَا والمحبين لَهَا والكارهين للْمَوْت خيفة فَوَات لذتها لَا خيفة فَوَات لذات الْآخِرَة وحول عقابها فَهَؤُلَاءِ هم الَّذين غرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم عَن الْآخِرَة هم غافلون

1 / 20

وَأما الَّذين غرهم بِاللَّه الْغرُور فهم الَّذين يعْملُونَ الْأَعْمَال ويشتغلون بالمنكرات وَيَقُولُونَ أَن الله رَحِيم نرجو رَحمته وكريم نتمنى مغفرته وَهَذَا التمنى هُوَ الْغرُور الذى غير الشَّيْطَان اسْمه وَسَماهُ رَجَاء حَتَّى خدع بِهِ كثيرا من النَّاس وَقد شرح الله الرَّجَاء بقوله الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فى سَبِيل الله أُولَئِكَ يرجون رَحْمَة الله وَقيل لِلْحسنِ قوم يَقُولُونَ نرجوا الله ويضيعون الْعَمَل فَقَالَ هَيْهَات هَيْهَات هَلَكت أمانيهم يتردون فِيهَا من رجا شَيْئا طلبه وَمن خَافَ شَيْئا هرب مِنْهُ وكما لَا ينْبت فى الدُّنْيَا زرع إِلَّا بالحرث كَذَلِك لَا يحصل فى الْآخِرَة أجر وثواب إِلَّا بِالْإِيمَان الْخَالِص وَالْعَمَل الصَّالح وَالنِّيَّة الصادقة وان الله تَعَالَى كَمَا كَانَ غَافِر الذُّنُوب وقابل التَّوْبَة فَهُوَ شَدِيد الْعقَاب أَيْضا وَأَنه مَعَ كَونه كَرِيمًا رحِيما خلد الْكفَّار فى النَّار أَبَد الآباد مَعَ أَن كفرهم لَا يضرّهُ بل سلط الْعَذَاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على عباده فِي الدُّنْيَا مَعَ كَونه رحِيما كَرِيمًا قَادِرًا على إِزَالَتهَا فَمن كَانَت سنته فى عباده كَذَلِك كَيفَ يغتر بِهِ العَبْد وَلَا يخافه وَقد خوف عباده ورجاء أَكثر الْخلق فى هَذَا الزَّمَان هُوَ سَبَب فتورهم عَن الْعَمَل وإقبالهم على الدُّنْيَا وإعراضهم عَن طَاعَة الله تَعَالَى وإهمالهم للسعى للآخرة وهم لَا يعلمُونَ أَنه غرور وَلَيْسَ برجاء وَقد غلب الْغرُور على آخر هَذِه الْأمة كَمَا غلب الطَّاعَة على أَولهَا قَالَ الغزالى قد كَانَ النَّاس فى الزَّمَان الأول يواظبون على الطَّاعَات والعبادات ويبالغون فى الِاحْتِرَاز عَن الشُّبُهَات والشهوات وَمَعَ ذَلِك كَانُوا يخَافُونَ على أنفسهم ويبكون فى الخلوات وَأما الْآن فنرى الْخلق آمِنين فرحين غير خَائِفين مَعَ إصرارهم على المعاصى وانهماكهم فى الدُّنْيَا وإعراضهم عَن

1 / 21

طَاعَة الله ويزعمون أَنهم واثقون بكرم الله تَعَالَى وفضله وراجون لعفوه ومغفرته وَيَقُولُونَ نعْمَته وَاسِعَة وَرَحمته شَامِلَة وأى شىء من معاصى الْعباد فى بحار مغفرته ويسمون تمنيهم واغترارهم رَجَاء وَيَقُولُونَ أَن الرجا مَحْمُود فى الدّين فكأنهم يَزْعمُونَ أَنهم عرفُوا من كرم الله وفضله مَا لم يعرفهُ الْأَنْبِيَاء وَالسَّلَف الصَّالح انْتهى هَذَا وَكَانَ يخْطر فى خلدى قَدِيما مُنْذُ ألفت كتاب مثير سَاكن الغرام إِلَى روضات دَار السَّلَام أَن أؤلف كتابا فى أهوال النَّار وَأَهْلهَا وَصفَة الْجَحِيم حزنها وسهلها مُقْتَصرا فى ذَلِك على مَا ورد فى آيَات الْكتاب الْعَزِيز وأدلة السّنة المطهرة الْبَيْضَاء فَلم يتَّفق لى هَذَا المُرَاد لعوائق عاقتنى وَضَاقَتْ بهَا على الغبراء إِلَى أَن حصل الْآن فرْصَة نذرة فانتدبت لتحرير هَذَا المرام ظنا منى أَنه لم يسْبق إِلَى مثل هَذَا التَّأْلِيف قبلى أحد من الْأَعْلَام وَلَو كنت وقفت على مثل هَذَا الْجمع لأحد مِنْهُم لم أكلف نفسى لجمع هَذَا الْكتاب الْمَوْعُود وَلم أدخلها فى هَذِه الْعقبَة الكئود وَلَكِن الله يوفق بِمَا شَاءَ من عباده وَله فى أَيَّام دهرهم نفحات أَلا فليتعرضوا لَهَا فى بِلَاده وَسميت هَذَا يقظة أولى الِاعْتِبَار مِمَّا ورد فى ذكر النَّار وَأَصْحَاب النَّار ورتبته على مُقَدّمَة وأبواب وخاتمة أجارنا الله تَعَالَى عَن النَّار الحاطمة

1 / 22

الْمُقدمَة فى بَيَان أَن الشَّرَائِع متفقة على إِثْبَات الدَّار الْآخِرَة الَّتِى فِيهَا الْجنَّة وَالنَّار أعلم أَن الله سُبْحَانَهُ صرح باسم الْجنَّة فى أول التَّوْرَاة عِنْد الْكَلَام على ابْتِدَاء خلق الْعَالم ولفظها وغرس الْإِلَه جنَّة فى عدن شرقا وَوضع هُنَاكَ آدم الذى خلقه ثمَّ ذكر أَن مِنْهَا خرج نهر وتفرع عَنهُ فيشون وحداقل وجيحون والفرات فَهَذِهِ هى الْجنَّة الَّتِى ورد ذكرهَا فى الْقُرْآن الْكَرِيم وَصَحَّ عَن النَّبِي ﷺ أَن هَذِه الْأَرْبَعَة الْأَنْهَار خَارِجَة مِنْهَا كَمَا فى دواوين الْإِسْلَام وَغَيرهَا واعترف بهَا رَأس زنادقة الْيَهُود مُوسَى بن مَيْمُون القرطبى الأندلسى فى تأليفه الْمُسَمّى المشنا فى الْفِقْه وفى كتاب اللُّغَات

1 / 23