الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة الْحَمد لله رب الْعَالمين الَّذِي بنعمته تتمّ الصَّالِحَات وتعظم الْخيرَات وتعم البركات، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على من أرْسلهُ الله تَعَالَى رَحْمَة للْعَالمين وَأنزل عَلَيْهِ الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب، وَبعد، فَإِنَّهُ من تواصل النعم من الْمولى ﷻ على عَبده الضَّعِيف مُحَقّق هَذَا السّفر النفيس أَن وَفقه لخدمة السّنة الشَّرِيفَة فِي تجلية مَنَاقِب هَذَا الْكتاب، وَالتَّعْلِيق على مَا ورد فِيهِ من أفكار ومعلومات، وَعرضه بالصورة اللائقة بِهِ، وفْق مَا ورد فِي الْمُقدمَة الطَّوِيلَة للطبعة الأولى، فلقي الْكتاب بذلك -وَللَّه الْحَمد- الْقبُول وَالِاسْتِحْسَان، حَتَّى جعله بعض مدرسي مَادَّة الحَدِيث الشريف فِي الجامعات بَين المراجع الْمُعْتَبرَة لطلابهم فِي كليات الشَّرِيعَة، وَطلبت مِنْهُ إِحْدَى الجامعات كميات مِنْهُ لتوزيعه على الطّلبَة. وَذَلِكَ لما يتضمنه الْكتاب من حوار علمي موضوعي لتجلية الصَّوَاب، وَلما يلقيه من أضواء على رؤى الْمدَارِس الفكرية الإسلامية فِي وَقت مبكر واجتهاداتها فِي تقييم الْأَحَادِيث الشَّرِيفَة من نَاحيَة الْمَوْضُوع؛ لَا من نَاحيَة السَّنَد فَقَط؛ كَمَا اعتاده عُلَمَاء الحَدِيث، وفْق الْقَوَاعِد الَّتِي وضعوها فِي علم مصطلح الحَدِيث. وَلَقَد رَأَيْت أَن أشرك معي فِي إِعَادَة النّظر مرّة أُخْرَى بالتحقيق والتقييم تمهيدًا لإعادة طباعة الْكتاب طبعة ثَانِيَة الْأَخ الشَّيْخ مُحَمَّد بدير الَّذِي جمعتني بِهِ زمالة الْعَمَل والاهتمام بِخِدْمَة الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة فِي مكتب الدراسات الشَّرْعِيَّة بصندوق الزَّكَاة فِي قطر، وَذَلِكَ لما خبرته فِيهِ من غيرَة

1 / 5

علمية، وحرص على بَيَان الْحَقِيقَة بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ، والمنافحة عَن دين الله تَعَالَى والالتزام بالمنهج العلمي فِي التأصيل والتدوين. وَقد رحب بذلك مشكورًا، فَقَرَأَ الْكتاب من أَلفه إِلَى يائه، وَكَانَت لَهُ ملاحظات مُخْتَلفَة، بَعْضهَا فِي تقييم بعض الْأَحَادِيث وَبَيَان دَرَجَة صِحَّتهَا، وَبَعضهَا فِي تَعْلِيق وَشرح ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله تَعَالَى وَقد أدرجت هَذِه الملاحظات، وميزتها عَن عَمَلي بِذكر اسْمه فِي نهايتها؛ عقب سردها فِي الْحَاشِيَة، فجزاه الله خيرا على ذَلِك. وَهَكَذَا فقد تميزت هَذِه الطبعة بمزيد من التَّنْقِيح والتصحيح، وتعدد النّظر والرؤى، وأسأل الله تَعَالَى أَن ينفع بِهَذَا الْكتاب طلبة الْعلم والباحثين والدراسين؛ وَأَن يغْفر الله تَعَالَى لنا الزلات والأخطاء إِذا وجدت، وَأَن يَجْعَل هَذَا الْعَمَل مبرورًا، ويتقبله برحمة مِنْهُ وَفضل، وَأَن يعمنا بثوابه ومغفرته مَعَ الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى، وَكَذَا من قَرَأَهُ ودرسه واستفاد مِنْهُ. وَللَّه الْحَمد فِي الأولى وَالْآخِرَة. الدوحة فِي ١٥/ ذُو الْقعدَة ١٤١٨هـ ١٤/ ٣/ ١٩٩٨م مُحَمَّد محيي الدَّين الْأَصْفَر

1 / 6

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدِّمَةُ الْمُحَقق للطبعة الأولى: إِن الْحَمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وسيئات أَعمالنَا، من يهده الله فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، وَأشْهد أَلا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ بلغ الرسَالَة وَأدّى الْأَمَانَة ونصح الْأمة وجاهد فِي الله حق جهاده صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا، وَبعد، فَإِن الْوَحْي الَّذِي تنزل على الرَّسُول الْخَاتم لم يقْتَصر على النَّص المعجز المتعبد بتلاوته "الْقُرْآن الْكَرِيم" بل شَمل كَذَلِك مَا رُوِيَ عَن الرَّسُولِ ﷺ فِي السّنة من قَول أَو عمل أَو تَقْرِير أَو صفة. وَقد شهد الْقُرْآن الْكَرِيم بشمول الْوَحْي لمصدري التشريع كليهمَا -الْقُرْآن الْكَرِيم وَالسّنة الشَّرِيفَة- بقوله تَعَالَى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ ١. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ ٢. ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ ٣. كَمَا أكد الرَّسُولِ ﷺ هَذَا الْمَعْنى بقوله: "إِنِّي أُوتيت الْكتاب وَمثله مَعَه" ٤. _________ ١ سُورَة النَّجْم: الْآيَة ٣: ٤. ٢ سُورَة آل عمرَان: الْآيَة ٣١. ٣ سُورَة النِّسَاء: الْآيَة: ٨٠. ٤ أخرجه أَبُو دَاوُد: كتاب السّنة٦، وَأحمد٤/ ٤/ ١٣١.

1 / 7

فبالإضافة إِلَى أَن السّنة صنو الْقُرْآن الْكَرِيم من حَيْثُ الدّلَالَة، فَهِيَ كَذَلِك شارحة لقواعده الْعَامَّة ومفصلة لمجمله، ومبينة لمعانيه، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ . فَهِيَ جُزْء لَا يتَجَزَّأ من كَمَال الرسَالَة وتمامها. وَلم تكن هَذِه الْحَقِيقَة مَوضِع خلاف بَين الصَّحَابَة ﵃، بل كَانَت من البدهيات الْمُسلم بهَا وَالْمجْمَع عَلَيْهَا نصا وَعَملا. تدوين السّنة فِي عهد النَّبِيَّ ﷺ: وَلَكِن السّنة لم تدون فِي حَيَاة النَّبِيَّ ﷺ خشيَة اختلاطها بِالْقُرْآنِ الْكَرِيم كَمَا هُوَ مَعْرُوف من نهي الرَّسُولِ ﷺ، وَكَذَلِكَ بَقِي الْأَمر على هَذَا الْحَال فِي عهد الصَّحَابَة ﵃ إِلَّا من استثناءت خَاصَّة لبَعض الصَّحَابَة المعروفين بعلمهم وضبطهم، فَكَانَت لبَعْضهِم مدوناته فِي السّنة، بِالْإِضَافَة إِلَى أَن مَنْهَج الاستيثاق وضعت معالمه فِي وَقت مبكر حِين جمع كتاب الله تَعَالَى فِي عهد الْخَلِيفَة أبي بكر الصّديق ﵁ ثمَّ فِي عهد عُثْمَان رَضِي عَنهُ، وَكَانَ لَا بُد من شَهَادَة اثْنَيْنِ من الصَّحَابَة على الْأَقَل حَتَّى يتم تدوين الْآيَة فِي موضعهَا من الْقُرْآن الْكَرِيم، وَقد انسحب هَذَا الشَّرْط على قبُول الحَدِيث أَيْضا، فَلم يُقبل حديثٌ من راوٍ مَا لم يتوفر لَهُ شَاهد أَو أَكثر، وَقد تورع كثير من الصَّحَابَة عَن رِوَايَة الحَدِيث مَا لم يَكُونُوا على يَقِين تَامّ مِمَّا ينقلون، حَيْثُ أَن أَمر حفظ السّنة وتناقل رِوَايَات الحَدِيث لم يكن مُشكلا طالما أَن جيل الصَّحَابَة كَانَ مَوْجُودا. تدوين السّنة بعد جيل الصَّحَابَة: وَلما بَدَأَ جيل الصَّحَابَة يتناقص وامتد الْإِسْلَام إِلَى شعوب وأمم أُخْرَى، وَكَانَت الْأَحَادِيث تتناقل شفاهة بشروطها التوثيقية، شعر الْمُسلمُونَ بضرورة تدوين السّنة كَامِلَة، وبذل عُلَمَاء السّنة جزاهم الله خيرا جهودًا محمودة فِي تدوينها، وَوضعت عُلُوم مُتعَدِّدَة لتنقية السّنة من الشوائب الَّتِي ابتدعها أَصْحَاب الْأَهْوَاء والنحل الْبَاطِلَة، وَكَانَ الأساس فِي تدوين السّنة

1 / 8

مَنْهَج الاستيثاق الَّذِي اعْتَمدهُ الصَّحَابَة ﵃ فِي وَقت مبكر بعد أَن طوروه إِلَى الصُّورَة الَّتِي جعلت مِنْهُ خير مَنْهَج علمي موضوعي يُمكن أَن يتوافر عَلَيْهِ بشر، حَتَّى أننا لَا نعهد فِي التَّارِيخ العالمي نبيًّا أَو عَظِيما بُذِلَ فِي سَبِيل تَحْقِيق مَنْطُوق كَلَامه وَمَا رُوِيَ عَن أَحْوَاله وَسيرَته بشكل عَام مَا توفر للرسول الْخَاتم ﵊. وَلَا غرابة فِي ذَلِك فَإِن من لَوَازِم الرسَالَة الخاتمة وصولها نصًّا سليما وبيانًا صَحِيحا كثمرة للْحِفْظ الرباني لهَذَا الدَّين: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ . فقيض الله لَهُ من يدْفع عَنهُ الشّبَه ويجلي الْحَقِيقَة، وينقله بِسَنَد مُتَّصِل على هَذَا النَّحْو من السَّلامَة والدقة. وَلَا شكّ أَن من نعم الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة أَن كَانَ ظُهُور الْفِتْنَة فِيهَا مترافقًا مَعَ وجود جيل الْأَصْحَاب -حفظَة الحَدِيث- الْمَشْهُود لَهُم من رَسُول الله، الْأَمر الَّذِي أدّى إِلَى تدوين وتوثيق السّنة بِحَيْثُ تحققت دَرَجَة صِحَة الحَدِيث وحجيته بِمَا لَا يدع مجالًا لشُبْهَة. وَهَكَذَا لم يخْتَلف جُمْهُور عُلَمَاء الْأمة على وجوب الْأَخْذ بِالسنةِ وَالِاسْتِدْلَال بهَا عملا بقوله تَعَالَى ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ . وَلَا يعْتد بِرَأْي بَعضهم مِمَّن جنحت بِهِ الْأَهْوَاء وأضلته الْفِتَن. اتجاه عُلَمَاء السّنة فِي عملية التدوين وَدفع الشّبَه: وَقد اتجه عُلَمَاء السّنة فِي بنائهم لصرحها اتجاهين واضحين لَا يُغني أَحدهمَا عَن الآخر: الأول فِي تدوين السّنة الصَّحِيحَة بإسنادها، وَالثَّانِي دفع الشّبَه والأهواء الْبَاطِلَة وَبَيَان وَجه الْحَقِيقَة فِي ذَلِك. وَيُمكن أَن يصنف هَذَا الْكتاب "تَأَول مُخْتَلف الحَدِيث" ضمن الْمَجْمُوعَة الثَّانِيَة فِي الدفاع عَن السّنة، ويتميز بِأَنَّهُ عرض الشّبَه الَّتِي أثيرت حول تنَاقض بعض الْأَحَادِيث فِيمَا بَينهَا، أَو معارضتها لآيَات فِي كتاب الله تَعَالَى، أَو خُرُوجهَا عَن منطق الْعقل ومبادئ الْفِكر الْمُتَعَارف عَلَيْهَا، أَو مخالفتها لمألوف النَّاس ومعروفهم، أَو لسنن الطبيعة وقوانينها العلمية. تِلْكَ

1 / 9