الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل التاسع‏

الفصل العاشر‏

الفصل الحادي عشر‏

الفصل الثاني عشر‏

الفصل الثالث عشر‏

الفصل الرابع عشر‏

الفصل الخامس عشر‏

الفصل السادس عشر‏

الفصل السابع عشر‏

الفصل الثامن عشر‏

الفصل التاسع عشر‏

الفصل العشرون‏

الفصل الحادي والعشرون‏

الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل التاسع‏

الفصل العاشر‏

الفصل الحادي عشر‏

الفصل الثاني عشر‏

الفصل الثالث عشر‏

الفصل الرابع عشر‏

الفصل الخامس عشر‏

الفصل السادس عشر‏

الفصل السابع عشر‏

الفصل الثامن عشر‏

الفصل التاسع عشر‏

الفصل العشرون‏

الفصل الحادي والعشرون‏

طائر في العنق

طائر في العنق

تأليف

ثروت أباظة

الفصل الأول

هذه هي المرة الأولى التي أمسك فيها بالقلم وأنا لا أدري إلى أين سأرمي به ولا إلى أين سيرمي هو بي، أهي رواية طويلة؟ أهي قصة قصيرة؟ أهي شيء بين هذه وتلك أم هي شيء جديد بالنسبة لي أنا؟ ولك أن تسألني - وما لك لا تفعل - ولماذا لا تصبر على قلمك وتنتظر حتى تعرف إلى أي الوديان أنت متخذ سمتك، ومستقبل وجهتك؟ ولي على سؤالك إجابة.

لقد خرجنا من فترة سياسية قلبت الموازين الاجتماعية كلها، وانقلب معها ما استقر عليه مألوف الناس، وما تعارفوا عليه في مضطرب حياتهم.

وقد وقف بنا هذا الاضطراب على أبواب حياة جديدة أصبحنا نرى فيها ما تعتبره بعض الأجيال عجبا وما تعتبره أجيال آخرون أمرا طبيعيا لا يدعو إلى دهشة أو تعجب.

وقد شاء لي تزاحم الحياة حولي أن أرى الكثير. وشاء لي قدري أن أكون من أهل الرواية والقصة. فليس عجيبا إذن أمري إذا أنا أمسكت بالقلم ورحت أفكر به فيما رأيته حولي من زحمة الحياة، وليس عجيبا من أمري ولا من أمرك أن أقدم إليك ما انتهى إليه حديثي إلى قلمي أو حديث قلمي إلي. قد يكون بعض الناس قد شاهد ما شاهدت، وسيجد هؤلاء أن ما خبره من الحياة لم ينفرد وحده بخبره، وقد يكون بعض آخرون قد سمع ولم يختبر، ونقل إليه الأمر ولم يره، أو قد يكون بعض ثالث بمعزل عن مضطرب الحياة وزحمتها، فلا هو رأى ما رأيت، ولا هو حتى سمع عنه.

وأيا ما يكون الأمر، فقراءة الشيء غير مشاهدته وغير الاستماع إليه؛ لأن القارئ حين يقرؤه يجده نابضا بنبض الكاتب ورؤيته. فلست حكاء أروي لك الخبر دون أن أنفذ إلى العميق العميق من أغواره، ثم أنا ألف حوله وأدور فأرى ما يحيط به من كل جانب، فأنت لن تقرأ حديثا هامدا لا حياة فيه ولا حركة؛ فليست القصة أو الرواية مجرد مجموعة من الأحداث أو من ملامح الشخصيات أو تطور التآلف بين الحدث والشخص، وإنما القصة أو الرواية هي رؤية فنان، وهي حياة كاملة ولعلها الحياة الوحيدة في الحياة التي نعرف سرها؛ فسر الحياة لا يعلمه إلا الله.

وما أنا بسبيلي إلى تقديمه إليك الآن لا أدري - كما قلت لك - كيف أنا سائر به أو كيف سيسير هو بي؛ فهذا الذي أكتبه لم أضع خطوطه العريضة، وإنما أنا مسلم أمري إلى ذكرياتي وتفكيري وقلمي، وهذه الذكريات فيها كثير تهادى إلي من أفواه ناس عن ناس، وأنا أعرف الحاكي والمحكي عنه. وهذه الذكريات فيها ما عرفته عن مشاهدة أو ما عرفته من مشاركة، ويتمازج هذا جميعه في نفسي وعلى سن قلمي، فإذا أنا لا أدري كيف يمكن أن تؤدي البداية فيه إلى النهاية.

الفصل الثاني

عدلي صديقي الذي أعرفه متمسك بالأخلاق الرفيعة تمسكا لا يقبل معه التنازل عن شيء من صغائر الأمور، ولكنه أمام مشكلة عمه واقف كالحجر لا يستطيع أن يحقق ما تقاضيه به المثل ولا يستطيع أن يسكت، أو أن نفسه تأبى عليه الهدوء أو قبول السكوت منه، وأقصى ما استطاع أن يبلغه ومن جهده أن يدعي الجهل بكل ما يقال حول عمه.

وهو يدرك أنه بذلك الذي صنعه إنما يخادع نفسه في حين تأبى نفسه أن تنخدع، فهو وإياها في صراع أي صراع، ولكن ما لنا نبدأ بالحديث عنه ولا نبدأ بالحديث عن عمه هذا؟

هو من مواليد السنوات الأولى من هذا القرن، وهو الأخ الأصغر لوالد صديقي الحائر. وأخوه يكبره بسنوات ليست قليلة، وقد مات عنهما أبوهما فواز الوسيمي، والأخ الأكبر حلمي في مدرسة الحقوق، فلم تكن في ذلك الحين تحمل اسم الكلية، فما كانت الجامعة قد نشأت بعد.

وكان الأخ الأصغر حفني متجمدا في الابتدائية لا يريد عنها حولا ولا منصرفا.

وكان التعليم في ذلك الحين قد بدأ يأخذ مكانه الرفيع من الحياة المصرية، وكان حرص حفني على البقاء في الشهادة الابتدائية ينغص على أخيه حياته، فهو ينظر في هلع كلما استشرف المستقبل له ورآه فيه ضائعا كهباءة لا معنى لها ولا وجود ولا ثقل.

وكان الأخ الأكبر شأن جيله جميعا من المشتغلين بالقضية الوطنية إلا أنه أبى أن يقف موقف المعلق أو السائر حيث تسير الجموع؛ فقد كان صاحب قلم وصاحب مواهب خطابية فأمره بين جيله منفرد تفرد صاحب الموهبة بين عامة الناس.

وقد كانت القضية المصرية تمثل عند حلمي الحياة جميعا، فهو ملهوب العاطفة كاره للإنجليز ولكل شيء ينتمي إليهم، وقد كانت المدارس الثانوية في ذلك الحين، والتي كانت تسمى التجهيزية، فيها قسم يدرس علومه جميعا باللغة الإنجليزية، وآخر يدرس علومه باللغة الفرنسية، فاختار هو الدراسة باللغة الفرنسية إمعانا منه في كره الإنجليز على الرغم من إلحاح إخوانه الذين كانوا يريدونه أن يدرس الإنجليزية ليعرف لغة أعدائه، فقد يحتاج إلى مجادلتهم، وكان جواب حلمي القاطع: عليهم هم أن يكلموني بلغتي فإن لم، فليتكلموا بالفرنسية، أما أنا فلن أجعلهم يرغمونني على تعلم لغتهم. وحين نال حلمي شهادة التجهيزية كان يتقن اللسان الفرنسي إتقانا نادرا؛ فقد كان ذا موهبة في اللغة وأحب الفرنسية، فكان إلى جانب العلوم التي يتعلمها بالفرنسية كالجغرافيا والتاريخ والطبيعة والكيمياء والحساب، يقرأ في الأدب الفرنسي بنهم شديد.

وهكذا كان الأمر ميسورا بالنسبة إليه في الرجوع إلى المراجع الفرنسية، كما كان ميسورا له تلقي المحاضرات عن الأساتذة الفرنسيين، ولم يكن عددهم قليلا في هذه الأيام. وعلى أية حال فقد أحس حلمي نفسه سعيدا كل سعادة أنه استطاع في تعليمه أن يقاطع الإنجليز والإنجليزية مقاطعة تامة، وحين تخرج حلمي لم يصبح له عمل إلا حرب الإنجليز حيثما هيأت له الفرصة حربا، وإن لم تهيئها اصطنعها هو اصطناعا.

كان حلمي مشغولا في الحياة العامة بحرب الإنجليز ومشغولا في حياته الخاصة بحرب الجهل الفاضح الذي يرزح فيه أخوه الذي يرفض كل الرفض أن يمسك كتابا أو يفكر في امتحان أو مستقبل يعتمد على علم.

بدأ حلمي عمله في وزارة الداخلية، وأصر حفني أن يتمسك بوظيفته التي يحبها ولا يفكر في تركها؛ طالب بالشهادة الابتدائية. وبلغ حفني مشارف الشباب وأصبح في البواكير الأولى من الحياة. وكان طويل القامة جميل القسمات بصورة لا يستطيع الإنسان أن يتجاهلها. وهب الله له حب الناس ويسر الصداقات، فكل الذين زاملوه وكل أصدقائهم الذين عرفوهم به أحبوه حبا شديدا، وقد كان يستطيع أن يجعل كل شخص منهم يعتقد أنه صديقه الأوحد أو الأول على الأقل. وكان كل أصدقائه يثقون بهذه الفكرة ثقة لا تقبل المناقشة أو التفكير، وهكذا أصبح لحفني أصدقاء في المدارس التجهيزية طبعا، ومع السنين أصبح أغلب أصدقائه في المدارس العليا، ومن باب أولى كان له أصدقاء كثيرون في المدرسة الحربية ومدرسة البوليس. ولعل هؤلاء كانوا أشد أصدقائه قربا إليه، فما كان يذهب إلى هاتين المدرستين إلا الذين يريدون أن يتعجلوا الخروج إلى الحياة، فهم في هذا مع حفني على وفاق أي وفاق.

فما كانت هاتان المدرستان تحتمان أن يكون الملتحق بهما من حملة البكالوريا.

ويا طالما ألح حلمي على حفني أن ينال الابتدائية لعله يستطيع أن يلتحق بواحدة من هاتين المدرستين، ولكن من أين؟ إنه يستطيع أن يصادق أي إنسان أو أي شيء إلا أن يصادق الكتاب حتى وإن كانت صداقة مغرضة منافقة تتقطع أواصرها إذا نال منها بغيته، عداوة موهوبة ومكتسبة، وهكذا أصبح من الطبيعي أن يكون له أصدقاء في المدرسة الحربية أو في مدرسة البوليس، ولكنه لم يستطع قط أن يخطو إلى داخل واحدة منها تلميذا منتظما.

لم يستطع عمل حلمي في وزارة الداخلية أن يجعله معقولا بعض الشيء في كرهه للإنجليز، فكان يكتب مقالات بتوقيع مستعار «مصري صميم» في الصحف اليومية، وكانت السلطات البريطانية تحاول التعرف على صاحب هذا التوقيع فتصاب بالفشل الشديد، فقد كان رؤساء التحرير يدعون دائما أن المقالات تأتي إليهم في البريد، وأنهم ينشرونها دون أن يعرفوا اسم صاحبها، وكانوا يعلمون طبعا أن العقاب نازل بهم لنشرهم هذه المقالات، ولكنهم كانوا يشعرون بالسعادة وهم يستقبلون هذا العقاب.

واستطاع حلمي عن طريق وظيفته ومقالاته أن يتعرف على رؤساء تحرير هذه الصحف. وكان حفني قد كف عن محاولته في الحصول على الابتدائية فلم يجد حلمي بدا آخر الأمر من أن يرجو صديقه فايز وهبي رئيس تحرير مجلة الفن أن يعين حفني عنده ناقدا فنيا، فالنقد لا يحتاج إلى مؤهل، وحفني يستطيع أن يتعرف على العاملين في المسرح وغير المسرح من ملاهي الليل.

ولم يكن حلمي يعلم أن حفني وطيد الصلة فعلا بالممثلين والمخرجين، فقد كانت الحياة التي تجمع حلمي وحفني في بيت واحد تباعد بينهما بعد ذلك في كل شيء؛ فحلمي لا يعرف عن حفني إلا أنه موظف بوزارة الداخلية، وحفني لا يعرف عن حلمي إلا أنه خائب.

وحين تجمع بينهما المائدة فحديث مقتضب، فكل منهما يحيا حياة غير التي يحياها الآخر، فإن لم يكن هناك خبر ذو شأن في السياسة أو جديد يقال عن الأرض التي يملكانها والتي يشرف عليها حلمي لا يكون بينهما حديث على مائدة الغداء، وهي المائدة الوحيدة التي يمكن أن تجمع بينهما في وجبات اليوم.

على أن مائدة الغداء هذه نفسها قليلا ما كانت تجمع بينهما، فكثيرا ما كان يتغذى كلاهما خارج البيت أو يتغذى أحدهما على الأقل في الخارج مع صديق له.

وعلى مائدة الغداء قال حلمي: حفني تستطيع أن تذهب غدا إلى الأستاذ فايز وهبي. - صاحب مجلة الفن؟ - أتعرفه. - أعرف المجلة. - من أين تعرفها؟! - أكان لا بد أن أحصل على الابتدائية حتى أعرف مجلة الفن. - كنت أحسب أن ليس لك صلة بأي قراءة. - ولا حتى مجلة الفن! - حسنا، هل تستطيع أن تكتب شيئا عن المسارح والغناء والتمثيل وما إلى ذلك؟ - طبعا، أنا لي أصدقاء كثيرون بينهم. - كيف؟ - طول المعاشرة للمدرسة جعل لي أصدقاء في كل مكان. - حتى بين أهل الفن؟ - خصوصا بين أهل الفن. - لك حق فكلهم ... - لا تكمل، أعرف ما ستقول. - أنت تعرف أني أقدر الفنون. - ولكن هذا لن يمنعك أن تقول إن كلهم خائب مثلي. - أنا لم أقل. - قلت ولكنك لم تنطق. - يا خسارة يا حفني! - نعم لك حق. - وفهمت هذه أيضا. - إن لم أفهم أخي الذي في مكان أبي فمن أفهم؟ - لو كنت أكملت تعليمك لاخترقت كل الصفوف لتصبح النابغة الأول في أي ميدان تختاره. - وهل يدري أحد يا سي حلمي أين يكمن نجاحه؟ - لك حق، فعلا لك حق، إن شاء الله توفق في عملك الجديد. - بفضلك، إن شاء الله.

ولعلك قرأت كلمة يا سي حلمي وأنت بين مصدق ومكذب، فما هكذا ينادي الأخ أخاه الأكبر، فإن حرفي سي اللذين يمثلان اختصارا لكلمة سيدي لم يعودا يتخذان نفس القيمة في زماني وزمانك إلا في بعض البلاد العربية غير مصر، ولكن هذين الحرفين في ذلك الزمان كانا عنوان احترام شديد وتوقير، وكان الأخ الأصغر ينادي بهما الأخ الأكبر إذا كان فارق السن بعيدا كما كان أي شاب في أسرة ينادي من هم أكبر منه بأسمائهم مسبوقة بهذين الحرفين. وما دمت قد أخذت نفسي أن أقص عليك ما كان من شأن هذين الأخوين، فحتم علي أن أقص أيضا ما يعرض له الحديث من عادات العصر الذي نشأ فيه، فإن لم أفعل وجدت نفسك متعجبا حينا ورافضا أيضا، وأنا حريص أن أمنع عنك التعجب وأشد حرصا ألا ترفض. •••

وبدأ حفني مستقبلا جديدا كأنما الوسط الفني لم يخلق إلا ليعيش فيه حفني، أو كأن حفني لم يخلق إلا ليعيش في هذا الوسط.

انداح فيه كأنه مولود على خشبة مسرح. وحاول بعض المخرجين أن يستغل جمال وجهه، ولكن انعدام الموهبة تماما عنده، وربما أيضا خشيته من أخيه، كانت حائلا بينه وبين أن يكون ممثلا؛ فقد يقبل حلمي أن ينقد أخوه الفن، ولكنه لا يسمح أبدا أن يصبح أخوه فنانا.

لم يكن المسرح في ذلك الحين هو ذلك الفن الرفيع الذي نعرفه اليوم، ولم يكن مستقلا كل الاستقلال عن مواخير الليل وكباريهات الرقص وبائعات الجنس.

وهكذا راح حفني يتنقل بين أولئك النسوة في زهو الشباب، وعلى موائد المواخير عرف حفني مصر كلها، كبراءها وشبابها، عظماءها والمتسلقين حول عظمائها، وعرف الناس من كل النحل والمهن. عرف الأطباء والمحامين والكتاب والمهندسين وكبار الموظفين وصغارهم وضباط البوليس وضباط الجيش، وما أكثر ضباط الجيش الذين عرفهم هناك!

وعرف أيضا ... عرف القمار.

وعلى هذه المائدة يجتمع عالم آخر غير عالم الناس، وتعيش بجانب الحياة حياة أخرى.

وعرف الزجاجة ولم يحبها، ولكنه كان يشرب ليجاري الجلسة.

وفي جلسة من هذه الجلسات سأله صديق جديد لم يكن رآه قبل ذلك اليوم: اسمك حفني الوسيمي؟ - نعم. - ترى هل لك صلة بالأستاذ حلمي الوسيمي. - أخي. - غير معقول. - لماذا؟ - لا، لا شيء. - إلا أنه جاد. - ماذا تقصد بجاد؟ - يعني ... ليس مثلي. - على كل حال ليست دهشتي لهذا. - فلماذا؟ - لأنه صديق قريب لي جدا، وكثيرا ما نذهب إلى المسارح، وكثيرا ما نجلس معا في بار اللواء وفي صولت. - فلماذا لم تأت به إلى هنا؟ - إلى هنا مستحيل، الظاهر أنك لا تعرف أخاك. - هو في مكان أبي، ولكن المؤكد أن الذي أعرفه عنه أكثر مما يعرفه الآخرون حتى ولو كانوا أصدقاءه. - الحقيقة أنني لم أعرف أن له أخا إلا الآن، هل أنت متأكد أنك أخوه؟ - أنا متأكد أن والدتي مثل أعلى في الشرف.

وضحك الجميع وخجل محاوره بعض الشيء وغمغم. - أنا آسف ... العفو ... طبعا أنا لا ... المهم ... المهم أن هناك حقيقة عن أخيك المؤكد أنك لا تعرفها. - الحقيقة أن سعادتك أكثرت من الشرب وجعلتنا نشغل الإخوان بما لا يعنيهم. - الحقيقة أنني أريد أن أعلن عن بطولة أخيك التي لا تعرفها. - هل أنت مصمم؟ - هل تقرأ وهل تقرءون المقالات الموقعة باسم مصري صميم؟

واختلطت أصوات التأييد وأصوات الإعجاب. - أتعرفون من يكتبها؟ - وتضافرت «لا» على الشفاه، ونظر الصديق السكران إلى حفني. - أتعرف أنت؟ - ومن أين أعرف؟ - ألم أقل لك أنك لا تعرف شيئا عن أخيك؟ حلمي الوسيمي هو مصري صميم. •••

قبض على حلمي وألقي به في السجن وفتش بيته في القاهرة وفي قريته الرمايحة.

ولكن الغريب أن الاحتلال لم يكن يلقي الناس في السجون دون أن يوجه لهم تهمة معينة أو يعنى على الأقل بتلفيق تهمة بذاتها يستر بها وجهه أمام العالم.

وهكذا لم يكن غريبا ألا يطول المقام بحلمي في السجن، ولكنه حين خرج وجد نفسه مترددا في مواصلة العمل بوزارة الداخلية، ولكن السلطات المحتلة كانت على قدر من الذكاء فلم تشأ أن تفصله ليصبح بطلا قوميا، ولم تشأ أيضا أن تنقله من الداخلية حتى يظل تحت عينها. وكان يعلم أن بقاءه تحت عيونهم سيقف حائلا بينه وبين نشاطه الآخر الذي كان أكثر خطورة من المقالات.

ولم يشأ حلمي أن يستقيل ليظل قريبا من الإدارة المصرية. ترك بضعة أيام ثم ذهب إلى مقهى الكلوب المصري حيث تصعب المراقبة، وتحرى ألا يجلس مع شخص واحد بمفرده، بل عمد إلى جماعة كان بينهم صفوت الأشموني الذي يريد أن يكلمه. ولم يطلب إلى صفوت أن ينتحي به جانبا، وإنما جلس إلى جواره بين الجالسين وراح ينظر إلى النرد الذي يتحلق حوله الآخرون. وقال صفوت: أرسلنا إليك لتبتعد عنا فترة. - لم يأت لي أحد. - يحسن أن تبتعد. - سأسافر إلى الرمايحة فترة. - خيرا تفعل. - سأحضر أول اجتماع. - موعدنا كما هو لم يتغير. - وهو كذلك. •••

لم تمنع عنه الإجازة حين طلبها. وذهب إلى الرمايحة وراح يكتب المنشورات من هناك. ولم يكن غريبا أن يرى المرشدون والمخبرون فلاحا يرتدي طاقية معممة يذهب إلى الكلوب المصري. ولم يكن غريبا أيضا أن يجلس بجانب الأفندية وتنتقل المناشير في ذكاء شديد من عيسى أحد خفراء بلدة الرمايحة إلى وحيد زنكي الذي أخذ مكان صفوت في الكلوب.

وما هي إلا ليلة حتى تكون هذه المنشورات قد طبعت ووزعت في القطر المصري كله من أقصاه إلى أقصاه موقعا عليها بتوقيع مصر. وهل كان يكتبها إلا مصر؟!

ولكن حفني كان لا شأن له مطلقا بهذا الذي يصنعه أخوه، وإنما هو يغمر حياته في متع كثيرة، فلا يترك لحظة من حياته لا يملؤها المرح والبهجة. •••

انتهت إجازة حلمي وعاد إلى القاهرة يشم في أرجائها عبير ثورة يكاد يراها ويوشك يهتف بها ولا يطول به الانتظار.

يخترق يوم 13 نوفمبر حجب الغيب، وأستار التوقع، وسدل الحدس والتخمين، ويتم ذلك اللقاء الذي بدأت به مصر حياتها السياسية في العصر الحديث.

ومثل ريح عاصفة، طيبة، عاتية ولكن حنون، مزمجرة ولكنها موسيقى التاريخ ... يصبح سعد وفهمي وشعراوي أنشودة أمل وبداية حياة لمصر وللعالم العربي، ثم لكل الدول التي لا تغيب عنها شمس الإمبراطورية الكريهة.

وتتواكب الأحداث ويقبض على عمالقة الثورة فيسيرون إلى المنفى وكأنهم إلى الاحتفال باستقلال مصر يسيرون. وتصبح مصر نارا مثل نار الحقيقة التي ألقي إليها إبراهيم، عليه الصلاة والسلام. ولكن النار الحديثة كانت تقتل المحتل مع ذلك حين هي على الوطنيين برد وسلام، كما أمرها الله أن تكون على أبي الأنبياء، ثم هي تنقلهم من فانية إلى باقية، ومن أسماء لا قيمة لها على صفحات الحياة إلى خلود يظل أبد الدهر وإلى ما بعد الأبد مضيئا على جباه الحرية.

وفي مدرسة الحقوق يضرب الطلبة عن تلقي العلوم، ويخرج إليهم عميد الكلية الإنجليزي. - عليكم أن تنتظموا في دراستكم وتتركوا السياسة، فإن آباءكم قد أرسلوكم إلى هنا لتتعلموا.

ومن بين الصفوف يخرج طالب شامخ الطول مثل مصر، في صوته ثورة الأحرار، وحكمة الفلاح. - إن آباءنا هم هؤلاء الذين قبضتم عليهم، ونحن نؤمن بالقضية التي يبذلون حريتهم في سبيلها وحياتهم إذا احتاجت القضية إلى حياتهم. وهيهات لنا أن ندرس هنا الحقوق، وحقوق آبائنا ووطننا مضاعة . تحيا الثورة.

وتندلع إلى بروج السماء هذه الأيام المجيدة المطهرة بدماء الشهداء والنابضة بروح جديدة وهبها الله للشعب ...

وكان اسم هذه الروح الجديدة المنورة بضياء السماء هو مصر. وتنعقد الاجتماعات السرية وتتخذ القرارات. ويقسم الشباب نفسه بين خطباء ظاهرين وبين جنود في الخفاء يقتلون، فيصبح الاحتلال في مصر على فراش من رصاص ومتفجرات.

وفي بعض الأحيان كان المجتمعون يقرون قتل من يرون أن في وجوده خطرا على القضية المصرية حتى وإن كان مصريا؛ فليست المصرية مولدا وإنما هي عقيدة تنبت مع الولادة وتسمق شجرتها في النفس حتى تصبح هي النفس كلها. فإذا كانت البذرة خبيثة وماتت في ركام المنفعة واختنقت في حمأة الخيانة، فصاحبها إذن ليس مصريا.

كان هؤلاء قلة نادرة بل كانوا أقل من القلة النادرة، وكان الحكم عليهم في جمعيات الثورة السرية لا بد أن يكون اجتماعيا، لذلك فلم تقتل هذه الجمعيات من المصريين إلا فردا أو اثنين.

حاول الإنجليز أن يصوبوا سهامهم إلى العقائد الدينية، وصاحوا بالعالم أنهم يريدون أن يحافظوا على الأقليات باحتلالهم لمصر.

وأدرك أقباط مصر الدور المهين الذي يريد الإنجليز أن يستعملوهم فيه، فإذا هم ينتفضون مصريين. وحين تنهار حجة القوي يصبح السلاح هو حجته، فإذا الدماء المراقة تلقح الثورة بالعنفوان فتزداد على الأيام روعة وشموخا.

وبعد فما أظنك تنتظر مني أن أروي لك أحداث الثورة الكبرى في مصر؛ فأنت لا شك تعرفها وتعرف كيف أصبح الشعب فيها كلا واحدا. واختلط المثقف بالجاهل والقادر بالمعسر والفلاح بصاحب الأرض والعامل بصاحب المصنع، وسقطت كل الفوارق فتعانق الصليب والهلال وأصبح كل فرد في الشعب المصري لا يعرف أن له مصلحة خاصة، وإنما مصلحة الوطن العامة هي هي ذاتها المصلحة الخاصة عند الجميع.

حلمي في ثبج الأحداث وفي بؤرة العاصفة؛ فهو في الجمعيات السرية، وهو يقوم بدوره الذي يختارونه له، فيوما تراه خطيبا في صحن الأزهر الخالد الشامخ، ويوما لا تراه لأنه يلبس الخفاء ويتعقب جماعة من الإنجليز يقضي عليهم بالسلاح الذي تتفق الجمعية على استعماله؛ فالرأي جميع والجميع رأي وعمل.

قلة قليلة وقفت من الأحداث على حوافيها تعلق ولا تشترك؛ فالثورة عندها موضوع حديث لا حياة أمة، والأمة عندها شخص غريب يوحي بالحواديت والأخبار المسلية، فيستوي الأمر عندها أن يكون هذا الشخص مصر ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، أو أي دولة أخرى لا صلة لهم بها ولا سبب كان.

كان حفني من هؤلاء؛ فقد كانت أهمية الثورة عنده أن الأحاديث حول مائدة القمار أصبحت أكثر جمالا ورونقا وانفعالا أصبح فيه سحر الحدث لا موات التعليق. الخبر يلقى ليشمل أمة بأسرها، وكانت الأخبار قبل ذلك تلقى فلا تكاد تجد سامعا، ومن أي سلة كانت تخرج الأخبار قبل الثورة غير سلة التفاهة! فهذا زوجته تزور أمها، وهذا يريد لابنته عريسا فيومئ ولا يصرح ويشير ولا يبوح، وذلك يريد لابنه عروسا فيقول ويرفع صوته، أليس غضنفرا رئبالا أنجب ولدا بحاله ويريد له عروسا. كانت أخبارا تولد موءودة تموت قبل أن تتم خبرا أو تجد تعليقا.

أما اليوم فالخبر أسطورة، والكلمة تاريخ، واللحظة خلود، وهم يلعبون القمار ويلتذون في نفس الوقت بجسامة الأحداث، وبهذه الخلجات العالية الضجيج التي يصنعها الخبر العظيم حتى في نفس هؤلاء الذين يعيشون من الحياة على هامش الحياة.

وتمضي الأيام ويعود سعد ورفاقه من المنفى، وتبدأ المفاوضات وحلمي ورفاقه سائرون الطريق بقوة الثائر وذكاء السياسي، وقد استقر الرأي عندهم أن يكون عملهم هو تأييد المفاوضين بالطريقة التي يراها المفاوضون، وكان عبد الرحمن فهمي في مصر ذلك الزعيم العملاق الذي رفض أن يتقاضى ثمن الزعامة هتافا وإعجابا، وإنما تقاضاه راحة ضمير وعملا خطيرا خفيا وراء الأستار في سبيل مصر، كان ذلك السياسي الزاهد في المجد الشخصي والمتعبد في محراب مجد الوطن هو الصلة بين المفاوضات وبين الجماعة التي يعمل فيها حلمي.

فالعمل إذن كان متئدا متزنا لا نزق ولا رعونة. وكان أعضاء الجمعية يتزاورون، فلم يكن معقولا أن يصطنعوا لأنفسهم مكانا ثابتا يلتقون فيه.

وقد يزور الصديق منهم صديقه على غير موعد، وقد يزور الغني فقيرا، فلم يكن المال بذي شأن في علائقهم؛ فمنهم من كان قادرا على أن يستأجر أكثر من خادم، ومنهم من لا يستطيع أن يستأجر إلا خادما واحدا أو خادمة، فقد كان وجود الخادم في المنزل ضرورة لا غنى عنها، وإلا فمن يشتري من الأسواق.

وقد تطهو سيدة المنزل أو ابنتها، ولكن لا بد أن يصل إليها الطعام الفج ليكون على يديها مطهوا.

وحين زار حلمي بيت صديقه وزميله في الدراسة أحمد عبد المتعال لم يكن بالبيت فرج الخادم، وكانت الأم مشغولة في شئون المنزل فلم تجد وصفية بدا من أن تجيب الطارق، فلم تكن الأجراس معروفة في ذلك الحين. ولم تقل من؟ وإنما ظنت أن فرج عاد من السوق ففتحت بسرعة، وما إن رأت غريبا حتى توارت في لمحة وراء ضلفة الباب. - أفندم؟ - أحمد بك هنا؟ - لا يا أفندم. - شكرا. - نقول له من؟ - حلمي. - حاضر. - شكرا.

كانت اللمحة كافية لأن يرى حلمي وصفية.

الفصل الثالث

ولم لا؟ وتزوج حلمي من وصفية وانتقل إلى بيت جديد وترك أخاه حفني في البيت، وبدأ صديقي عدلي يتشكل في عالم الغيب.

وكانت السيدات في ذلك الحين يسيرات المأخذ قريبات الرضى، فبحسب الزوجة أن تجد رجلا يحميها من ضراوة الحياة ويمد قلبها وروحها بدفء الطمأنينة حتى تسلم إليه حياتها كلها، وقد كانت حياة السيدات كلها موهوبة لبيوتهن؛ فالنجيبات منهن النجيبات من أصابت بعض تعليم في المنزل الأول، سواء كان هذا المنزل بيت أبيها أو بيت أخيها كشأن وصفية التي مات عنها أبوها وهي في باكر الصبا تولى أخوها أحمد أمرها. ولما كان واسع الأفق واسع الآمال حين يفكر في بلاده فقد كان مؤمنا بتعليم المرأة، وهكذا ذهبت وصفية إلى مدرسة السنية وبقيت بها حتى أتقنت القراءة والكتابة واللغات أيضا، ثم أصرت أمها منيرة هانم أن تكتفي من التعليم بما أصابت خشية أن ينصرف عنها الرجال، أو ذلك ما صرحت به لابنها على الأقل فقبله في غير اقتناع، ولو كانت قد ساقت له السبب الحقيقي لرفضه بغير جدال، ولو أن الرجال في هذه الأيام لم يكونوا ليجرءوا أن يرفضوا لأمهاتهم مطلبا مهما يكن حظ الأبناء من التعليم والمكانة ومهما يكن حظ الأمهات من الجهل، فقد استطاعت الحياة أن تعلم نفسها لأولئك الجاهلات، فهن في شئون حياتهن وخاصة أمورهن أعلم من العلماء إن فات الرأي السديد هؤلاء العلماء في هذه الشئون.

كانت منيرة هانم ترى وصفية متفوقة في الدراسة وقد خشيت إن أمعنت في هذا التفوق أن تنصرف عن الزواج إلى الدراسة، فرأت أن تحسم الأمر في مهده وتقضي عليه قبل أن يستفحل، واصطنعت هذا السبب الذي اصطنعته لتبقى ابنتها في البيت، ولم يستطع أحمد أن يجادل مكتفيا بأن وصفية أصبحت تستطيع أن تثقف نفسها إذا شاءت ما دامت أصبحت تعرف الكتابة واللغات قراءة وكتابة. •••

مر على الزواج شهور والزوج سعيد بزوجته سعادة يتوقعها؛ فقد كانت أغلب الزيجات تتم دون أن يرى العريس عروسه، أما هو فقد رآها، وهو يعرف البيت الذي نشأت فيه، فأبوها رجل من علماء الأزهر الأجلاء وإن يكن قد رحل وهي طفلة إلا أنه ترك نور إيمانه في البيت وفي زوجه وفي ابنه أحمد صديق حلمي وزميل دراسته منذ هما في الخديوية الثانوية حتى نالا شهادة الحقوق وعمل حلمي بالداخلية وأحمد بالنيابة العامة. وحين تم هذا الزواج كان أحمد قاضيا.

ولم يكتمل العام على الزواج، فقد سرعان ما قبضت عليه السلطات المحتلة وألقت به إلى السجن، وذهب أحمد إلى أخته. - تعودين معي إلى البيت. - أترضى لي هذا؟ - ولا أرضى لك أن تعيشي وحيدة. - كنت تعرف حين زوجتني أن زوجي قد يقبض عليه في أي لحظة. - وكنت تعرفين. - وقبلت أنا الزواج وقبلته أنت، أفأترك البيت حين يحدث ما توقعه كل منا؟ - لو كان مسافرا لجئت معك، أما وهو في السجن السياسي فلا. أأجعل سجانه يحس ولو للحظة أنه هدم بيته، وأن زوجته تخلت عنه؟ - إن واجبي قبلك وقبل حلمي يحتم علي ألا أتركك وحدك. - هذا حق. - إذن؟ - تأتي أنت وتقيم معي. - وأمي؟ - سلها. ••• - وأقيم أنا أيضا معكما عند حلمي.

والناس اليوم لا تدري أية تضحية كبرى قدمتها الأم العظيمة منيرة هانم وهي تترك بيتها، فترك البيت في ذلك الحين كان أمرا تقف دونه أهوال جسام، ولكن الأم أدركت أن هذا وقت التضحية التي تملكها في سبيل مصر أولا ثم من بعد، من أجل ابنتها وزوجها البطل.

الفصل الرابع

خلا حفني بالأرض فأصبح يشرف على أرضه وأرض حلمي جميعا، وكان القمار قد تغلغل في دمه فراح ينفق الريع كله في شهر أو شهرين، ثم يقف عاجزا لا يدري ماذا يصنع. أما أموال أخيه فقد كان يخشى عليها من نفسه، وكذلك أعطى أمره للناظر ألا يعطيه مليما من أموال حلمي وإنما عليه أن يذهب بها جميعا إلى أحمد بك صهر أخيه لينفق منها على البيت ويبقي بقية المال لأخيه.

وهكذا تعرف الناظر الحاج علي سعدون على أحمد، وفي أول لقاء لهما. - هذا هو الريع. - هل معك إيصال أوقع عليه؟ - والله أعددت الإيصال نعم. ولو كان مالي ما أعددت. - وأنا لا أقبل مليما لا أعطي عليه إيصالا، فأنا أمين على هذا المبلغ، ولا بد أن أؤدي الأمانة إلى أهلها ومعها الشواهد. - إن صهرك يعرف طهارة يدك. - وأنا أيضا أعرفها، ولكن ماذا أقول إذا نسيت أنت أو نسيت أنا قيد مبلغ؟ - الإيصال أضمن. - وهذا هو التوقيع. - ولكن هذا أمر لا خطر له. - هناك أمر له خطر؟ - كل الخطر. - خيرا. - لا خير مطلقا. - ماذا؟ - حفني بك. - ما له؟ - طلب إلي أن أبحث عن مشتر لعزبة الزمايلة. - أكلها من نصيبه؟ - له النصف وهو ما يريد بيعه. - وأرض حلمي؟ - ملاصقة طبعا لنصيبه. - كم فدانا هي؟ - مائتا فدان. - وبكم الفدان؟ - لن يزيد عن مائة جنيه، سينفقها على القمار في شهرين أو ثلاثة، وإذا استمر الحال على هذا المنوال فالله أعلم إلى أي مصير سينتهي إليه، والله أيضا يعلم إلى متى سيظل البك محبوسا عند أولاد الكلب هؤلاء. - اسمع، كم عندك لحلمي بك؟ - هذه عشرة آلاف، وعندي محاصيل بحوالي خمسة آلاف. - ألا تستطيع تدبير الخمسة الباقية؟ - لا يهم أن أدبرها. - كيف؟ - لاعب القمار يرضى بأي مبلغ. - ماذا تعني؟ - أخسف الثمن وأشتري على آجال، وحين يخرج حلمي بك من السجن نكون قد اشترينا الأرض كلها بربع ثمنها. - افعل ذلك. - وحلمي بك؟ - لو استطعت أن ألقاه - وهذا مستحيل - لن يقبل، ونحن نحافظ على أرض أبيه في غيابه، ولا حيلة لنا إلا هذه؛ لأن الأرض إذا انتقلت إلى يد غريبة فلن تعود. - نعم الرأي. ولكن مصاريف البيت؟ - أمرها سهل، لا شأن لك. - وهو كذلك.

الفصل الخامس

القمار مضمار عجيب من ميادين الحياة، الداخل فيه يدخل إلى حياة أخرى بعيدة كل البعد عن حياته وعن مألوف أمر الناس. وما ظنك بقوم يجتمعون حول مائدة واحدة وكل شخص منهم يحرص أن يخرب بيت الآخر في صراحة ووضوح! فعلى هذه المائدة لا وجود لأي آصرة من قربى وإن كانت قرابى ابن من أبيه، ولا وجود لأي معنى من معاني الصداقة أو المودة، سعار خالص بريء من أي شائبة إنسانية، ولا يبقى إلا المال صاحب الصرخة الوحيدة والسيطرة المطلقة. وإن كان المال قوي البراثن صلب المخالب في الحياة إلا أنه فيها يتخفى وراء كلمة طيبة أو يستخذي أمام صلة رحم أو سبب من أسباب المودة أو عشرة قديمة، إلا أنه في مائدة القمار يخلع كل الأقنعة ويعلن نفسه حاكما فردا باطشا آخذا لا شريك له، ولا هو يقبل أية مراجعة.

وعلى هذه المائدة تلتقي أصناف من الناس شتى لكل منهم عالمه الخاص البعيد كل البعد عن عالم الآخرين الجالسين على نفس المائدة العاكفين على المعبود الواحد؛ القمار. تجد السياسي رجل الدولة الذي يوشك أن يكون عالما، وتجد الطبيب العالمي فعلا، وتجد المهندس الذي يهز اسمه أوساط الفن الهندسي في كل أنحاء المعمورة، وتجد الضابط. وكثيرا ما تجد الضباط، وتجد القواد، وتجد المقامر المحترف النصاب. وتجد الجميع يعرف عن الجميع كل شيء، ولكن لا شأن لأي منهم بالآخر، متفقون على أن الصلة بينهم هي هذه المائدة. وإن كان لأحدهم عند آخر منهم مسألة أو موضوع فلا بأس أن يقضيه له كما يقضي خدمة لشخص يعرفه، ولكن العلاقة تظل واضحة؛ علاقة قمار. وأغلب الأمر أن من يقضي هذه المسألة إنما يقضيها لأنه يعلم أنه ملاق الشفيع فيها كل يوم، ولن يفلت من الحاجة، على أن هذه الخدمات لا تتجاوز فعل الخير إلى المنفعة الخاصة، فالمصارحة بينهم تتم حين يوزع بينهم ورق الدور الأول في اجتماعهم، فلا يستطيع رفيق المنضدة أن يستغل نفوذ السياسي لأن السياسي سيواجهه في الحال بما لم يتعود أن يواجه به الآخرين، وسيقول إن هذا الموضوع ستكسب منه كذا، ولست مستعدا أن أخون الأمانة من أجلك أو من أجل أي أحد.

فلاعب القمار ليس من الحتم أن يكون لصا، وإنما قد يكون شريفا غاية الشرف. صحيح أن القمار قد يجرف الشريف إلى مهاوي الدنية، ولكن هذا المنحرف ضعيف كان مستعدا أن يكون لصا تحت أي ضغط أو أمام أي إغراء. وها أنت ذا رأيت حفني يأبى أن يمس مال أخيه.

فالقمار هو هذه المائدة العجيبة التي تجمع الأصدقاء الألداء والأحباب الذين لا يمانع أحد فيهم أن يقتل حبيبه فقرا طبعا، بل هو يسعى إلى ذلك جاهدا ما وسعه الذكاء والمران والمناورة والمداورة.

كانت مائدة حفني للقمار تعمر بكل هؤلاء الذين ضربت بهم المثل، فكان فيها حامد باشا محمد السياسي الداهية الذي تولى مناصب الوزارة، بل إنه تولى عددا وفيرا من الوزارات، وهو رجل شريف السمعة لم يقل عنه أحد ما يشين، وهو ذو عقلية سياسية نادرة وكان يلعب القمار بشيء من التعبد وبكثير من الإخلاص في اللعب، فقد كانت المائدة المكان الوحيد الذي ينسى عليه خصوماته السياسية والمؤامرات التي تدبر عليه والتي يدبرها هو، وقد كانت أغلب الخصومات حتى ذلك الحين مع الإنجليز، وكان معه دائما سياسي آخر يعمل بالمضاربة في البورصة، فهو حينا منتعش النفس أو هو حينا آخر منتكس الخاطر والقلب، ترى في وجهه تقلبات البورصة شأن المبتدئ الذي لا يستطيع أن يخفي مشاعره، ولهذا لم يكن عجيبا أن يخسر عبد الفتاح صدقي بك دائما على المائدة، فقد كان وجهه صفحة مفتوحة لأعين الخبراء، وكان معهم أيضا وجدي المسيري الملازم بالجيش، فمائدة القمار لا تعترف بالفوارق، فأنت تجد السياسي العجوز يجلس إلى الضابط الصغير دون أي شعور بفارق المرتبة، وكان وجدي في اللعب مغامرا يبحث عن البطولة في ورق اللعب بعد أن تعب في البحث عنها في أرجاء الحياة ودروب الوظيفة. وكان هناك أيضا يسري الجندي اللاعب المحترف، وكان هناك أيضا رشدي المهدي اللاعب المحترف والقواد المحترف أيضا، وهو الذي يعد المائدة ويدعو إليها ويدبر اللقاءات بين اللاعبين. وكان هناك طبعا حفني.

إذا اتفقت المشارب بين اثنين من اللاعبين فلا بأس عليهما أن تقوم بينهما صداقة. وقد كان حفني بموهبته الخارقة في صنع الصداقات على صلة وطيدة بالجميع حتى ليحسب كل لاعب على المنضدة أنه الصديق الأول عند حفني.

ولكن القمار لا صديق له، فحفني يخسر عشر ليال ويكسب ليلة، وإذا كان جميع اللاعبين الذين ذكرتهم والذين لم أذكر يتبادلون أمكنتهم على المائدة فهناك دائما اثنان لا يكاد يغيب أحد منهما عن اللعب، رشدي المهدي وحفني الوسيمي؛ أما رشدي المهدي فتلك هي وظيفته في الحياة ولا وظيفة له غيرها، وأما حفني فلأنه لم يكن يجد شيئا يعمله إلا اللعب، وربما لو وجد متعة أخرى لترك المائدة سعيدا، فهو لا يعرف التحمس لشيء حتى ولا للقمار الذي أجمع التاريخ على أن من يصاب به فلا فكاك له منه. ولكن حفني شيء آخر غير الناس، لا يخلص لشيء ولا يتشبث بأي عادة مما يتعود الناس عليه. دخن بعض الوقت ثم ترك التدخين، وشرب الخمر ويشربها ولكنه لا يشربها إلا ليشارك الشاربين، فهو لا يذكر أنه جلس منفردا وطلب كأس خمر، وإذا مر به الشهر أو الشهران لم يجلس إلى شاربين لم يشرب هو قطرة واحدة. وهكذا شأنه مع القمار يذهب كل ليلة ليلعب فإذا وجد متعة أخرى انقطع تماما عن اللعب. هو لا يتمسك بشيء أبدا ولا يسمح لشيء أن يتمسك به. ماذا تراه يفعل إذا تزوج؟ تلك تجربة ستكون فريدة وعجيبة أيضا، أيمكن أن يفكر مثله في الزواج؟ من يدري؟

وهكذا باع حفني أرضه كلها، وكان مثال المقامر في بيعه، فكل ما كان يفعله أن يوقع حيث يطلب منه الحاج علي أن يوقع، لا يرى إلى اسم البائع ولا يعنيه أن يرى إليه، بحسبه أن يرى المبلغ معدا في يد الحاج علي حتى يوقع عجلا متسرعا، ويطوي الحاج علي العقد في تؤدة وذكاء وخبرة نادرة ويضعه في جيبه ويقول: عد معي يا سعادة البيك. - يا حاج علي ألم تعد أنت؟ - نعم، وإنما لا بد أن تعد أنت أيضا. - يا حاج علي أنت تعلم كم أثق فيك. - ولكن أنا يا سعادة البيك لا أثق في نفسي، عد مائة مائتين ...

ويتكرر هذا المشهد في كل مرة لا ينقص كلمة ولا يزيد، ولا يختلف في مرة عن الأخرى إلا في رقم المبالغ الذي راح يتضاءل يوما بعد يوم، شهرا بعد شهر. •••

دعا رشدي المهدي إلى عشاء بمنزله، وكان حفني بين المدعوين، وهناك وجد حفني دنيا جديدة تطالعه من الحياة لأول مرة وهو الذي خبر من هذه الحياة ما لم يخبره إلا القلة النادرون.

الباشاوات هناك وقد خلعوا رتبة الباشوية، بل خلعوا رتبة الإنسانية وارتدوا حيوانات حمر الوجوه من الرغبة والإثارة. والعظماء بلا عظمة، والنساء بلا ملابس، والمقامرة بالعرض لا بالمال، وبالشرف لا بالنفوذ. ورشدي منتعش النفس يضحك دائما ويعقد الصفقات بين المرأة والرجل وهو سعيد غاية السعادة هنئ في قمة الهناءة.

ويعجب حفني أن رشدي لم يفقد شيئا من احترام المجتمع، بل إن كل هؤلاء يقدم له الاحترام والتبجيل والإعزاز، ولا يعنى حفني بما في داخل النفوس، وإنما بحسبه ما يراه في ظاهر الوجوه وفي الأيدي الممتدة بالمال من ناحية وبالإجلال والتعظيم من ناحية أخرى للشخص نفسه الذي يتاجر في الشرف، ولم يعرف حفني أن هذا الذي يتاجر بالشرف لا بد أن يتاجر معه بشيء آخر هو الذي يهيئ له كل هذا الإجلال. إنه كما يتاجر في شرفه وشرف النساء، يتاجر في سمعة الرجال والعظماء من الرجال. وكلما ازداد الرجل عظمة ازداد حرصا على سمعته، ولكن أي حرص لا يستطيع أن يقف أمام رشدي. يا لها من تجارة! يا لها من تجارة!

ما هذا الحب الذي يحظى رشدي به من أصدقاء له! بل ما هذا الاحترام وما هذا الإجلال؟! إنها مهنة تصور حفني أن يكون رصيدها أي شيء إلا الاحترام. قد يجني العامل فيها مالا أو صداقات أو قدرة على الشفاعة، أما أن ينال الاحترام أيضا فهذا ما لم يتصور حفني أن المهنة ترتد على صاحبها به. لقد كان لفظها يختلط في نفسه بالمهانة والاحتقار وكل ما هو ذليل في الحياة؛ فقد عرف محترفيها من أسفل الطبقات، ولم يعرف من محترفيها في الطبقات العليا إلا رشدي. القواعد في هذه الطبقات مختلفة، والوسائل ليست هي الوسائل، والصفقات تعقد دون تصريح، والأجور يتم تسلمها دون إبانة، ولكن الهدف واحد، والغاية لم تتغير، وهنا في هذه الطبقة الأسماء تطلق على مسميات أخرى؛ فالفتاة أو المرأة موضوع الصفقة صديقة لا عاهرة، والأجر هدية وليس أجرا. ولكن الفتاة أو المرأة تذهب إلى المخدع على أية حال، والهدية تصل واسطة التعارف، ولا يسمى قوادا ولا تسمى الهدية أجرا، فكل شيء هنا محصن بسياج الشرف، وأي عيب أن يحيي صديق صديقا؟ وأي بأس في هذا المجتمع الساقط أن تحب المرأة رجلا فتقضي ليلة في مخدعه؟ وأي لوم في أن يقبل شخص في مثل مكانة رشدي ابن الأكرمين هدية من شخص آخر هو أيضا ابن أكرمين؟ منذ هذه السهرة أصبح عبد الفتاح صدقي أكثر الناس تقربا إلى حفني، ولم يكن هذا غريبا، فقد كانت سنه ومكانته تمنعانه أن يصل إلى المرأة عن طريق آخر غير طريق حفني. وقد رأى عبد الفتاح إقبال النساء على حفني وحبهن له، وخير له أن يتعرف بالمرأة عن طريق حفني أخي حلمي وغير القواد من أن يتعرف بها عن طريق رشدي فيصبح الأمر رسميا، وإن كانت الرسمية متسترة بأسماء بريئة. والظاهر عند عبد الفتاح وأمثاله أهم من الواقع. وحفني يمثل له الشخص الأمثل ليقدمه إلى من يحب، فجمال حفني يقتنص من النساء أشدهن مراسا وأعظمهن فتكا. ومكانة حفني الاجتماعية وما هو معروف عن غناه وما ليس معروفا عن فقره، كل هذا يجعل صداقة العظماء به أمرا طبيعيا لا غرابة فيه، ولو لم يكن لأسرته من المكانة إلا اسم أخيه بطل ثورة 19 وسجين الإنجليز لكان حسبه وحسب أسرته مكانة ورفعة.

وهكذا توطدت العلائق بين عبد الفتاح رجل البورصة الذي يحيط دائما بكل ظروف الصفقة قبل أن يقدم عليها، وبين حفني الذي وجد فيه شخصا غاية في الذكاء وسرعة الخاطر مع مقدرة فائقة على التمتع بالحياة، جدها وهزلها. وأصبح بيت عبد الفتاح مثابة لحفني، ولم يجد عبد الفتاح في ذلك بأسا؛ فحفني يصغره بسنوات عديدة ولا خوف على زوجته منه، وزوجته سيدة فاضلة شريفة أنجبت بنتيها وانتهى ما بينها وبين الأنوثة منذ مجيء آمال البنت الصغرى منذ ما يقرب من خمسة عشر عاما. وكانت البنت الكبرى سناء في السابعة عشرة حين تعرف على الأسرة حفني، ولم يكن حفني يتعامل مع هذه الأعمار في مألوف حياته. فلا حرج على عبد الفتاح إذن أن يستقبل بيته حفني في أي وقت، وقد استطاع حفني بالموهبة التي منحتها له السماء أن يكون محبوبا من السيدة كريمة المدبولي ومن ابنتيها جميعا سناء وآمال. وقد سعد حفني بهذه الأسرة، فقد كان عمله في الصباح قليلا، فما عليه إلا أن يكتب كلمتين ويلقي بهما إلى المجلة، ثم يصبح فارغا لا هم له إلا أن ينام في القيلولة بضع ساعات يقوم بعدها ليجد الفراغ ينتظره حتى يبدأ السهر المتكاسل، الذي يأبى أن يبدأ قبل العاشرة، إن يكن قمارا فقمار، أو يكن حفلة فحفلة.

فماذا هو صانع في الصباح؟

وماذا هو صانع بعد نومة القيلولة إلى مشارف العاشرة؟

أما بيت أخيه فلم يكن يرحب به كل الترحيب وإن كان لا يصد عنه، فهو يذهب ليقضي واجب الأخوة ثم سريعا ما ينصرف إلى هواء آخر يحب أن يستنشقه، وهو بالتأكيد ليس الهواء الذي في بيت حلمي.

ولم يكن هواء البيت عند عبد الفتاح مشوبا بما يحب أن يستنشق حفني في مألوف حياته، ولكنه أيضا كان خاليا من التزمت الذي كان يواجهه في بيت حلمي وزوجه وأخيها وأمها التي لا تترك سجادة الصلاة إذا تصادف ووجدهما عند زيارته.

وحفني لم يحصل على الأسرة منذ وعى الحياة، والأسرة جزء من دمائنا نحن الشرقيين. وقد كان حلمي هو أسرة حفني جميعا. أما أقاربه الكثيرون فكانوا أصدقاء ولم يعاشرهم وما عاشروه، فهو إذن واجد في بيت عبد الفتاح كل ما تتوق له نفسه من شعور الأسرة، ومن ترحيب في اللقاء، ومن سماحة في المعاملة من بين ضحكات منطلقة لا يحبسها شيء في رنينها، فهي صفاء القلب الخالي والاطمئنان والإقبال على الحياة.

الفصل السادس

صدر تصريح 28 فبراير وأصبحت البلاد تتهيأ لدستور جديد وانتخابات برلمانية، وأصبح من المضحك أن يبقي الإنجليز على معتقلين من المصريين وهم يعترفون لهم في نفس الوقت بحقهم في الحياة البرلمانية الديمقراطية.

وخرج حلمي دون أن تتم محاكمته، فالقضية سقطت بصدور التصريح. - ماذا فعلت بأرضك يا حفني؟

ويجيبه صمت وإطراق. - أجب. - لقد عرفت. - ولكن أحب أن أسمع الإجابة، فلست وحدي الذي سيسألك هذا السؤال، وسنسمعه من أقاربنا جميعا، وسنسمعه من أصدقائك الذين يحترمونك اليوم ظانين أنك صاحب الضياع والأرض والمال ... سنسمعه دائما. فماذا أنت قائل: أجب. ماذا أنت قائل؟ - أنا لم أمس من مالك مليما. - ومتى كان لي مال ولك مال؟ - احتجت للنقود. - فالبيع أقرب شيء إليك؟ - لم تكن بجانبي ماذا كنت أفعل؟ - بسيطة تبيع الأرض. أقدرت أنني سأموت في السجن؟ ألم تنتظر أن تقف مني هذا الموقف؟ - كنت في حالة يائسة. - توقف عن القمار. - كنت خسرت كثيرا وأريد أن أعوض. - وتدور العجلة فتخسر كل شيء. - لم أقدر هذا. - لأنك لا تقدر شيئا على الإطلاق. أنت ابن لحظتك، وليكن بعد ذلك ما يكون. - أرجوك يا سي حلمي كفى. - ألم تقل لنفسك كفى وأنت تبيع كل هذه الأرض؟ أظننتها أرضك؟ - أليست أرضي؟ - إنها أمانة في أعناقنا ولها أصحاب. - أمانة! أصحاب! من أصحابها؟ - أصحابها أولادنا. - قد يبيعونها هم من يدري. - نؤدي نحن أمانتنا والباقي نتركه على الله، فالأرض كلها ملكه، وما نحن إلا خلائف له عليها. - ماذا؟ - أنا آسف. كان يجب أن أقدر أن هذا الحديث لا يلقى إليك. - أكافر أنا؟ - لا. مقامر فقط. - سأتوقف. - أرجو ... كم بقي معك من ثمن الأرض؟ - ماذا؟ - لا شك أنك سمعتني. - وماذا تريد من الباقي؟ - أريده. - أنت؟ - نعم أنا. - أنا لا أعصي لك أمرا. - أعرف ذلك. - خمسة آلاف جنيه. - هاتها. - أمرك.

وخرج حفني ذاهلا، وابتسم السياسي المحترف حلمي وهو يرى الدهشة على كل نأمة جسمه حتى على قفاه الذي كان آخر ما اختفى من الباب.

بقي حلمي لحظات وحده، لم يفقد كل الخير الذي فيه، قلت هات قال حاضر، وهو حتى لا يعلم لماذا إلا أنني أريد فقط.

ويدخل أحمد الحجرة ويصيح به حلمي: أهلا أحمد باشا. - باشا مرة واحدة. - الباشوية مضمونة لك يا سعادة القاضي، كل القضاة يصبحون مستشارين فباشاوات ... - وأين أنا من مستشار هذه؟ - أنت عينت في النيابة منذ تخرجك ورقيت إلى القضاء وأنت صغير، فإن لم تصبح أنت مستشارا فمن يكون؟ المهم أنا لا أعرف كيف أشكرك على ما صنعت مع وصفية ومع حفني، أما فضل السيدة العظيمة والدتك فهو أكبر من أن يذكر. - أما عجيبة يا أخي! أولا من وصفية هذه، أليست أختي؟! وهل أشكر لأني أؤدي واجبي نحو أختي؟! وثانيا حفني أنا صنعت ما صنعته معه لأنني تصورت أنك لو كنت خارج السجن لما فكر هو فيما أقدم عليه، وأن لك علينا واجبا أكبر من واجب الصهر على أصهاره. - أي واجب يا سعادة الباشا؟ - واجب الوطني على مواطنيه. أتسجن من أجل مصر ولا نقدم كل ما نملك لك؟! ألسنا بشرا مصريين؟! - خطبة وطنية رائعة. - تنفعك في الانتخابات. - لا يا عم، لا شأن لك أنت بالانتخابات، فأنت رجل قضاء. - من سيرشح أمامك؟ - اثنان حتى الآن، أعتقد أن أحدهما سيتنازل. - والآخر؟ - مرشح الوفد. - ولماذا لا تنضم إلى الوفد، أنت من مؤسسي لجان الشباب فيه، وكنت من أعظم أبطال منظماته السرية؟ - العمل في السياسة عندي ليس تجارة أدفع مقدما لأربح مؤخرا. أنا عملت مع الوفد لأنه كان مصر كلها، وكنت واحدا من الذين يستطيعون أن يقدموا شيئا لوطنهم. - وقد قدمت بقلمك ولسانك ومالك وحريتك. - ولكني لم أعد معجبا بسياسة الوفد التي ينتهجها، فقد أصبحت سياسة شخصية بعد أن كانت قومية. - ولكنه قوة خطيرة في الانتخابات. - هذا صحيح، ولكني حتى إذا لم أنجح فإن هذا لن يجعلني أغير رأيي في سياسة الوفد الآن. المهم هناك موضوع أحب أن أكلمك فيه. - انتظر حتى أفتح باب المرافعة. - وهل حجزت القضية للحكم. - وماذا أعمل لك وأنت تستأذنني في الكلام! نحن إخوة يا حلمي. - وأكثر والحمد لله. حين راجعت الحسابات وجدت أنك أعطيت كل الريع لحفني ثمنا لأرضه، ومعنى هذا أن مصاريف البيت كنت تقوم بها أنت! - وما له! بيتي. - وبيتي أيضا. - كنت في السجن. - ولكن أرضي لم تكن في السجن معي. - أرضك ريعها ذهب لحاجة أهم. - ليس أهم من المعيشة. - قمت أنا بها، ماذا في هذا! - لا شيء، ولكن قدر ظروفي. - حين تقدر أنت ظروفي. - ظروفك؟ - أيرضيك أن أحس أنا وأمي أننا انتقلنا إلى بيتك لنعيش على حسابك؟ - وأنت هل يرضيك أن أتزوج أختك ونعيش على حسابكم؟ - كان ظرفا استثنائيا. - لو لم يصنع حفني ما صنع ماذا كنت ستفعل؟ - كنت سأعطي أختي ما تحتاجه يدها من مالك، وأنفق أنا على البيت الذي أصبحت رجله حتى يخرج رجله من السجن الشريف. - هذا ظلم. - هذه كلمة يقولها الناس في مألوف حياتهم ولا تعني شيئا، ولكنها إذا قيلت لقاض فهي كبيرة. - والقاضي يكون في بعض الأحيان ظالما لنفسه، ولا بد أن يجد من يواجهه بهذا ما دام بعيدا عن منصة القضاء. أنت في هذا ظالم. - ظلما أحبه. - وهذا أظلم. - لمن؟ - لي أنا. - وما شأنك أنت؟ - لا يقع الظلم إلا على مظلوم. وأنت لا يرضيك أن تظلمني. - لقد طال الحوار في أمر لا يحتاجه. - وهذا ظلم آخر، فإن المظلوم وحده هو الذي يعرف أين ينتهي الدفاع. - اسمع، أنت خريج حقوق معي فقل ما تراه. - أدفع ما كنت أدفعه في البيت وأنا فيه. - اسمع، لقد فوضت المحكمة الأمر إليك فكن عادلا، واخصم ثلثه مقابل غيبتك، فقد كنت تعيش على حساب الحكومة في السجن. - موافق. - وأنا موافق وأمري إلى الله، ولو أن الأمر لا يستاهل كل هذا. - إن راحة النفس لا يماثلها شيء في العالم. - أعرف ذلك. - وأعرف أنك تعرفه.

الفصل السابع

حين خرج حفني من حجرة أخيه أحس دوارا لا قبل له به، كأنما كان يواجه تنينا وأنقذ منه، أي شيء فيه أخافه؟ هو أنيس لا ينطق كلمة جارحة ولا يأتي بعمل عنيف، ولكنه مع ذلك قوي صلب، أي شيء فيه أخافه؟ ربما لأنه دائما على حق وأنني دائما أفعل ما يحلو لي بغير اهتمام بالحق أو بالباطل، وهو يضحي بعمره من أجل وطنه وأنا أتمتع بحياتي أقصى ما تكون المتعة، أنهل رحيق كل ساعة فيها وتسري لحظاتها في دمائي نشوة وسرورا وجدلا وفرحا، أيحس هو في جهاده بما أحس أنا به في متعتي؟ الحياة عندي ضحكة والحياة عنده جهاد. أينا عرف سرها وبلغ مكامن الحقيقة فيها؟ هو يعطي دماءه لبلده جميعا، وأنا أعطي دمائي لنفسي. ربما شعر هو بمتعة العطاء قدر ما أشعر أنا بمتعة الأخذ.

هو يعتصر الحياة ليقدم للبشرية مثلا رفيعا مختلطا بتضحيته بكل ما يمتعه، وأنا أعتصر الحياة لتعطيني أكثر مما تطيق أن تعطيه فأنهله أنا ... أنا ... أنهله متعة وحبا للنساء كل النساء، ولرشفة خمر أشربها في غير رضاء عنها، وإنما لأنها تمثل رحيق عدم المبالاة بالحياة متجسما في شراب ولعب القمار؛ لأن الحياة قمار، وأنا أريد أن أمارسها وأعيشها وأذلها بألا أعنى بكل ما تخبئه لي، فإن يكن خيرا فأهلا، وإن يكن شرا فأنا عنه لاه، وعن نتائجه مشيح غير آبه ولا مهتم، ومنه أنا غير خائف ولا متوجس ولا متحسب لخفايا الغد فيها. هو يفكر في الغد وما بعد الغد، وأنا ابن لحظتي وأبوها وربها وقاتلها قبل أن تقتلني. فأينا عرف حقيقة الحياة؟ وأينا بها أكثر خبرا ولخبثها أكثر درءا ومنعا؟ وأينا أذل الحياة واغتصب منها ما يريد أن يغتصب؟

حين سألني كم بقي قلت خمسة آلاف فصدقني. هل صدقني أم أراد أن يصدقني، إنه ذكي يقبل الكذب الذي يلقى إليه ما دام يعرف أنه لن يستطيع أن يصل إلى الحقيقة. فيم يريد هذا المبلغ؟ لعل الانتخابات ونفقاتها جعلته يحتاج إلى هذا المال. إن كان الأمر كذا فيسعدني أن أقدم له العون، فرغم أن كلا منا يقف على طرفين متناقضين من الحياة إلا أنني أقدره كل التقدير. أتراني أقدره أم أقدر فيه الرجل الذي تمنيت أن أكونه ولم أستطع؟ ترى هل مرت به لحظة ولو لحظة عابرة تمنى أن يكونني ولم يستطع؟ من يدري؟ ربما!

مشى به الطريق والضجيج في داخله، وليس يشعر من خارج نفسه ضجيجا ولا حسا، وإذا هو يجد نفسه فجأة بين رأسي حصانين ويعلو الضجيج في هذه المرة من خارجه لا من داخله. - يا أفندي اصح، مسطول في عز الظهر. - احفظ أدبك. - أدق لك الجرس من الصبح وأنت ولا أنت هنا. - قلت لك احفظ أدبك يا قليل الأدب.

وحينئذ يقفز من داخل العربة ضابط ملازم ثان ويثور به: أما إنك بارد حقا وقح. تسير في منتصف الشارع ولا يهمك من العربات الرائحة والجائية، وإذا أنقذ الأسطى حياتك تطول لسانك عليه! - أتظن أنك تخيفني ببذلتك العيرة هذه؟ - عيرة يا قليل الأدب. - بذلة المحمل. - محمل! قدامي على القسم. - أخفتني. قدامك على القسم.

وكان أسرع منه في ركوب العربة، فقد تنبه أنه يبغي أن يحسم الموقف قبل أن تتشابك الأيدي ويتجمع الناس، وصادف هذا التفكير مثيله عند الملازم شوقي سالم. وحاول السائق أن ينهي الموضوع. - يا أفندية لا لزوم لهذا، حضراتكم ناس محترمون والقسم ليس لأمثالكم.

وصاح الملازم في كبر وغيظ: امش أنت إلى القسم ولا شأن لك . لا بد أن يدفع ثمن طول لسانه. - إياك أن تزيد كلمة واحدة. في القسيم قدم شكواك، ولكن حتى نصل إلى القسم تسكت تماما. - وهو كذلك. أما نشوف.

ولم يجد السائق بدا من الصمت، فقد أدرك بذكائه الفطري أن أي حديث قد يشعل حريقا لا داعي له.

وقفت العربة عند القسم ونزل الخصمان، وطبعا قصد الملازم إلى حجرة المأمور مباشرة ودخل حفني وراءه، وإذا الجالس في مكان المأمور ملازم ثان من الشرطة لم يعرف ضابط الجيش ولكنه ما إن رأى حفني حتى هب من كرسيه: من! حفني الوسيمي!

وصاح حفني: أهلا. كيف أنت يا زين.

وصاح شوقي: أتعرفه.

والتفت زين أخيرا إلى شوقي: أهلا حضرة الضابط، تفضل. كيف أنت يا حفني؟

وحين هدأت التحايا قال شوقي في غيظ موجها كلامه لحفني: ولأنك تعرف ضباط البوليس تريد أن تأخذ الدنيا في وشك؟

وقال حفني في ثقة وعدم مبالاة: أنت الآن في القسم، اكتب شكواك واترك الأمر للبوليس يأخذ إجراءاته. - وهل بقي فيها إجراءات! طلعت صاحب البوليس.

وقال زين وهو يكتم غيظه: يا حضرة الضابط لا لزوم لهذا، ومعرفتي بحفني بك لن تمنعني من إعطائك حقك إن كنت صاحب حق. - وهل عاد فيها حق؟ - سترى. - وهو كذلك.

وروى القصة وما إن انتهى منها حتى ضحك زين: ألا تعرف حفني بك؟ - عرفته بين رأسي الفرسين. - حفني بك الوسيمي.

ونظر شوقي إلى حفني نظرة متفرسة: أأنت الذي تكتب في مجلة الفن؟

وقهقه زين أخيرا وقد أحس أن الحرج الذي وقع فيه قد انجاب عنه إلى غير رجعة. - هو الذي يكتب في مجلة الفن، وأخوه حلمي الوسيمي الوطني المشهور. - ولماذا لم تقل هذا من الصبح يا أخي؟ - وهل تركت لي فرصة لأقول. - أوجعتني بذلة المحمل. - حقك علي. - ولا حق ولا يحزنون، إلى أين أنت ذاهب؟ - كنت في طريقي لاستئجار عربة. - لمجرد استئجار عربة أم لتذهب بها إلى مكان معين؟ - والله كنت سأفكر أين أذهب بعد أن أركب. - ولا تفكر ولا حاجة، تعال نشرب حاجة أولا ثم فكر على كيف. - تعال معنا يا زين. - والمحضر؟ - اكتبه حين ترجع. - وضحك ثلاثتهم. - على رأيك. - ونادى زين البلوكامين: أنا خارج في مهمة، ولن أغيب. - أمرك يا أفندم.

وفوجئ سائق العربة بالخصمين يخرجان وقد لف كل منهما ذراعه في ذراع خصمه ومعهما أيضا ضابط البوليس، وركب الثلاثة عربته. وصدر إليه الأمر أن يذهب إلى قهوة ريش. وزيد عدد الأصدقاء عند حفني صديقا جديدا سرعان ما تبين له أن صداقته ستكون وطيدة بذلك الإحساس الخفي الذي لا يعرف مأتاه إلا خالق النفوس وباريها.

الفصل الثامن

توقع حفني كل شيء إلا هذا الذي فاجأه به أخوه حين ذهب إليه بعد الظهر يحمل مبلغ الخمسة آلاف جنيه التي ادعى أنها كل ما بقي له. - أتعرف من اشترى الأرض؟ - لا والله. - ألم تقرأ عقدا واحدا من عقود البيع؟ - وفيما أقرأ؟ الحاج علي هو الذي يقوم بالبيع، وكلانا يعرف أمانته كل المعرفة. - هيه، النهاية، أنا الذي اشتريت الأرض.

ووجم حفني في ذهول. - تقول من؟! - ألم تسمع؟ - ولكنك ... ولكنك ... - نعم، وأنا في السجن اشتريتها. - كيف؟ - لا يهم، المهم. - أرجوك ... انتظر، أرجوك يا سي حلمي انتظر لم يعد في رأسي عقل ليسمع. - ضياع عقلك أمر يحدث كثيرا. - في عرضك انتظر قليلا.

وصفق وجاء بخيت أمين المنزل وطلب منه كوب ماء وانتظر الصمت كوب الماء حتى حضر. وخرج بخيت بالكوب الفارغ. - أهذا ذهول الفرح أم العجب أم السخط؟ - كل هذا معا. - والسخط أيضا؟ - على نفسي. - أهذا فقط ما يسخطك على نفسك؟ - لماذا لم تقل لي هذا من قبل؟ - وماذا كنت تفعل إذا قلت لك؟ - أهدأ وأستريح. - وهل كنت مضطربا حتى تهدأ؟ - ومن أدراك أنني لم أكن مضطربا؟ - لأن الله وهب لك أعصابا من حديد. - كيف تعرف؟ - بعت أرضك كلها ومع ذلك لم يهمك شيء. - وماذا يمكن أن يهمني؟ - ألا تخاف المستقبل؟ - وأنت موجود ... لا، لا أخاف شيئا. - نعم تعودت أن تجدني دائما. - وسأجدك دائما. - فهل يا ترى سأجدك أنا؟ - أنت لا تحتاج إلي ولن تحتاج إلي. - من يدري؟ - أنا أدري. - تستطيع أن تكون قمة في الذكاء، ولكنك أبدا لن تستطيع أن تعرف الغيب. - أرجو ألا تحتاج إلي أبدا، ولكن على كل حال أنت أبي وأخي وأستاذي ومثلي الأعلى، فإن خنت واحدا من هؤلاء فلن أخون الآخر.

وعاد الصمت مرة أخرى وبدأ حلمي الحديث: على كل حال، الأرض ستظل ملكا لك وسأسدد لنفسي ما دفعته لك ثمنا لها من الريع حتى إذا استوفيته عادت إلى إدارتك مرة أخرى، وفي هذه المرة لن تستطيع أن تبيعها ثانية. - أطال الله عمرك وأبقاك. - وفي فترة السداد سأعطيك خمسين جنيها شهريا لتظل محافظا على مظهر البذخ الذي عرفك الناس به. - هذا كثير، كثير جدا. - الجنيه في يدك مليم، أرجو أن تقدر أن المبلغ كثير حقيقة ولا تبالغ في الإنفاق. - مرة أخرى وثالثة وعاشرة وألفا أطال الله عمرك، أريد أن أقبلك ولكن لن أقبل وجهك كما يفعل الأخ مع أخيه وإنما ...

واختطف يده وقبلها وأكمل الحديث: كما يفعل الابن مع أبيه.

واضطرب حلمي هنيهة، ولكنه تمكن بقوة السياسي أن يكبت عواطفه ويغير مجرى الحديث: أنا مسافر غدا لأبدأ الحملة الانتخابية.

ولكن حفني عاجله: لا تغير الموضوع، هناك أمر لم يتم. - ما الذي لم يتم فيه؟ - هذا المبلغ. - ما هذا؟ - ألفا جنيه. - إذن فقد كانت سبعة! - لم أكن أعرف فيم تريد المبلغ، قلت إن كان يريد أن يعاقبني فالخمسة كافية، أما إذا كان يريد المبلغ للانتخابات فالسبعة كلها له. - مهما تكن أعمالك سيئة في حق نفسك إلا أنك كأخ تعتبر من أبر الأخوة. - الآن غير الموضوع إذا شئت. - أنا مسافر غدا للانتخابات. - أسافر معك. - لماذا؟ - لأكون معك. - كما تشاء، ولو أنني أفضل أن تبقى. - أبقى لماذا؟ - أخشى أن تحتاج وصفية إليك. - هل اقترب موعد الوضع؟ - أظن ذلك. - البلد ليست بعيدة، وأنا قادر إن شاء الله على أن أكون على علم بأخبارها دائما. - كما تريد، وعلى كل أخوها أحمد ووالدتها سيقيمان معها هنا. - إذن فأنا معك. - على بركة الله. •••

في مولد فجر من عام 1924م ولد صديقي عدلي حلمي الوسيمي الذي بدأت به ومعه هذه الرواية التي أرويها لك، وأصبح والده الأستاذ حلمي الوسيمي عضوا بمجلس النواب، وبدأت بالأب وابنه حياة جديدة، وربما أيضا بدأت مصر نفسها حياة جديدة.

الفصل التاسع

أما أخي فقد أصبح عضوا بالبرلمان منذ سنوات وسنوات، وأصبح له ابنه عدلي، فماذا أنا في هذه الحياة؟ مقامر صاحب نساء ثم ماذا؟ وماذا تريد بعد ثم؟ هو يجاهد في سبيل الوطن ويشق الحياة بمخالبه ليحقق الاستقلال لبلاده لأن استقلاله هو ممثل في استقلال مصر، أما أنا فمتمتع باستقلالي دون البحث عن استقلال مصر، هو سينال مكافأته وسعادته إذا جلا الاحتلال وأنا أنال مكافأتي من كل لحظة حياة والدفع فوري، المتعة مع اللحظة بلا أجل ولا تسويف ولا تعطيل ولا تأخير. أنا واثق أنني تقاضيت ثمن جهدي، أسهر على المائدة وأتمتع وأنال متعتي مع سهرتي. أو أسهر مع صاحبتي وأنال متعتي في الصحبة نفسها، أما هو فمن يعلم أينال ما يرجوه أم هو جهاد بلا نتيجة، وشقاء بلا ثمن، وتعب بلا فائدة.

أهو هكذا حقا أم تراه يجد لذته في أنه يؤدي واجبه الذي اقتنعت به نفسه واطمأن إليه ضميره؟ أشهد أنه لا يهتم بالشهرة ولا يسعى إليها ولا يفكر فيها، وإنما هي تسعى إليه كنتيجة طبيعية لجهاده، ولكنها أبعد ما يكون عن آماله.

أينا خير من صاحبه؟ وفيم التفكير؟ وهبني أردت أن أكون مثله، أبيدي هذا؟ إنما أحسن ما لا يحسن، ويحسن هو ما لا أحسن. هل أستطيع أن أتكلم بالبرلمان وأحارب الإنجليز وأؤيد الحكم أو أعارضه؟ وهل يستطيع هو أن يلعب البوكر أو الكونكان كما ألعب؟ هل يستطيع أن يجعل أجمل سيدات مصر يتقن إلى ابتسامة منه أو موعد؟ هيهات له هيهات!

بالمناسبة ما قصة هذه الأميرة المقبلة علي، وماذا تريد مني، وماذا أستطيع أن أقدم لها؟ جمالي وشبابي! ألم تجد شابا جميلا غيري؟ أعجبتها؟ وأي عجيبة في ذلك! ومهما تكن أميرة فإنها ما زالت امرأة. ولكن الملك معجب بها. وماذا في ذلك؟ هل جننت ؟ إنه الملك. وأنا ما شأني به؟ لتكن أنت لا شأن لك به، أليس أخوك مرشحا أن يكون وزيرا؟ وما شأن الوزارة وأميرة أرادها الملك وأرادت هي غيره؟ أنسيت كيف تحكم مصر؟ لا، ولكن أستطيع أن أتناسى أنها أميرة، وأنها امرأة. كيف ستبدو؟ كما تبدو النساء. أكل النساء متساويات هيهات! لو كان الأمر كذلك ما بحثت عن بديلات دائما. كل امرأة لها مذاقها الخاص وطعمتها الخاصة ولونها المتميز. صوت كل امرأة له تهدج مختلف، ولكل صوت وقعه في الأذن نغمات تتقاصر بجانبها موسيقى عبد الوهاب وأم كلثوم. والله ولا مائة ملك سيمنعني عن الأميرة فضيلة، فضيلة، مصيبة لو كان لها من اسمها نصيب! •••

كان الحفل في قصر الأميرة فضيلة غاية في البهاء والروعة، ولكن حفني أصبح متمرسا على هذه الحفلات، إلا أنه فوجئ بشوقي سلام ضابط الجيش بين المدعوين. - أهلا شوقي. - أهلا حفني. - ماذا أتى بك؟ - مأمورية. - ماذا؟ - ألم تسمع أم أنت مندهش؟ - كنت أظن هذا من عمل البوليس. - أصبحت وجوههم معروفة، وأصبحنا نحن نكلف من حين لآخر بهذه المهمات. - في أي سلاح أنت؟ - ألم تدرك؟ - أريد أن أتأكد. - في الحرس الملكي. - أهلا، تشرفنا. - حفظت؟ - وأنت ماذا أتى بك؟ - مأمورية. - أنت الآخر؟ - هذا عملي الرسمي. - حسبتك صحفيا. - هذا عملي غير الرسمي. - وقعتك هباب، مأموريتك ألعن من مأموريتي. - ربنا يستر. - أنا علي أن أراقب أما أنت ... - ما دمت أنت الرقيب فمهمتي سهلة بإذن الله. - ولم لا؟ لولاك ما جئت أنا هنا الليلة. - كيف؟ - وصلت إخبارية أن هناك حبيبا جديدا، ومهمتي أن أعرفه. - لا تتعب نفسك. - وفيم التعب؟ المأمورية تمت والحمد لله. - إياك أن تؤدي المأمورية بأمانة. - المسألة كلها لا أمانة فيها، وما دمت أنت المقصود فأنت أولى بالمحاباة. - والله صاحب. - هل رأيت شيئا بعد؟ - الناس لبعضها البعض. - هيص أنت وانس أمري تماما. - تعيش. •••

الأميرة فضيلة ذات نوع من الجمال المبهر الذي لا يستطيع إنسان مهما يكن زاهدا أن يعبره دون أن يقف أمامه حائرا ذاهلا، وفي أحيان كثيرة يتولى الذي يراها للمرة الأولى نوع من الخشوع والرهبة. قوام فارع مياد، إذا مشت خيل إليك أن العالم كله يعزف موسيقى إلهية من نوع خاص لا تعرفها الأرض ولم تسمع بها. شعرها ثورة كل شعرة منه تقوم بوظيفة لا يستطيع أن يؤديها غيرها، عيناها الخضراوان الضاربان إلى الزرقة بحر وشلال ونمير وجدول ومطر وبرق ورعد وناي وعود وكمان وقانون تعزف جميعها ألحان باخ وبتهوفن وشوبان وليست. أنفها أمر، وفمها إشراقة ابتسامة وكبرياء سيد. جيدها قصيدة تشابكت البحور فيها فإذا هي بحر جديد يجمع فن الغرب والشرق جميعا، وجهها أنواع شتى من وجوه الجمال في أنحاء العالم كله، إذا طالعه إنسان لم يستطع أن يطيل إليه النظر خاشيا أن تصيبه منه صاعقة ترديه، وفي الوقت نفسه لا يستطيع أن يصرف عنه عينيه، فهو عائد إليه، فالصاعقة أهون بكثير من أن يحرم النظر إلى هذا العالم المتفرد من الفن والجمال والطيبة والقسوة والإسماح والجبروت والقبول والرفض.

كل ما كان يحسه حفني أنها ذات جمال رائع، ولكن هيهات له أن يصل من جمالها إلى أعماقه، ومن أين له؟! وكل ما يعنيه منها ما يفكر فيه رجل من محترفي النساء عند امرأة تحب دائما أن ترى أثر جمالها الفادح على المحترفين قبل الهواة.

في لحظة أو هنيهة من لحظة استطاعت أن تهمس في أذنه آمرة في دلال وحزم حاسم: تأتي غدا الساعة الواحدة ظهرا. - أمر سموك.

الفصل العاشر

مجلة الفن التي يعمل بها حفني تجمع فيها كل أصناف الناس، وكذلك شأن الصحافة منذ ولدت الصحافة في العالم؛ فهي تجتذب بسحر لها عجيب ألوانا من الناس شتى تضاربت مشاربهم واختلفت أهواؤهم وتعددت ثقافاتهم وجهالاتهم، وكثيرا ما يكون الجهل في الصحافة رأس مال. ولا تحسب أني أغالي أو أحاول إثارة التعجب في نفسك، وإنما أقصد تماما ما أقول، فإذا كان محرر الشئون الفنية للممثلين في ذلك الزمان عالما - لا قدر الله - يسقط بابه سقوطا فاحشا، فالمفروض في محرر هذا الباب أن يكون قمة في السطحية؛ لأنه ينبغي عليه أن ينقل إلى القراء أين تصنع الممثلة ملابسها وأين تسهر ومع من، كما يتحتم عليه أن يذكر أحداثها الغرامية ومغامراتها، فإذا لم يكن لها أحداث فعليه أن يختلقها اختلاقا. والخبطة الصحفية تتحقق عنده إذا ذكر أن ممثلا وقع في حب ممثلة. وليس يعنيه أن يكون الممثل متزوجا ولا يعنيه أن تكون الممثلة كذلك، إنما المهم أن يمتع القراء. ولو كان - لا قدر الله مرة أخرى - على شيء من الثقافة لأصابه بعض الحياء، فإن أصابه هذا الداء الوبيل المسمى بالحياء لما استطاع أن يقدم الباب الناجح الذي يريده صاحب المجلة أن يقدمه.

وهكذا تجدني لم أبتعد عن الحق، بل التزمته حين قلت لك إن الجهل يكون في كثير من الأحيان رأس مال خطيرا في عالم الصحافة.

وكما تجتذب الصحافة هؤلاء تجتذب أيضا من يريد أن يظهر اسمه منقوشا بحروف المطبعة ولا يهم على أي مادة يظهر هذا الاسم، إنما المهم أن يظهر حتى ليضطر بعض الذين على شيء من العلم أن يخفوا علمهم هذا وكأنه سبة حتى يقبل صاحب الأمر في الصحافة أن ينشر له.

ومن الصحفيين من يريد أن يتصل بصاحب سلطة أو صاحب جاه أو صاحب شهرة.

ومنهم من يريد أن يكون كاتبا فيبدأ حياته ناقل خبر حتى يصل الزمن به يوما أن يكون صاحب قلم.

ومنهم غير ذلك. في بعضهم الإخلاص لمهنته، وفي بعضهم الرغبة أن يركب مهنته وسيلة إلى غاية أخرى.

ومنهم من يتخذ مهنته - كما ينبغي لها أن تكون - مهنة الأمانة والشرف والصدق والنقد الراغب في الإصلاح والتأييد المنبعث في الحق.

ومنهم من يتخذ مهنته - كما ينبغي لها أن تكون - سلاحا لقطع الطريق وفرض إتاواته على كل من لا يطيع رغباته الشخصية، فإذا هاجم هاجم لينال، وإن مدح مدح لينافس ... و...

وإذا أنت لم تشرب مرارا على القذى

ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

في كل مهنة في الحياة أخبارها وأشرارها، وهل المهن جميعا إلا بنات الحياة، صناعها هم أبناء الدنيا، والدنيا خير وشر، وشرفاء ولصوص، وأتقياء وفجرة ، وأنقياء وقذرة. •••

شاع في الصحافة جميعا تلك الصلة التي استحكمت حلقاتها بين الأميرة فضيلة وحفني. ورأى حفني عجبا، راح الصحفيون من جميع الجرائد يتقاطرون على حفني. ولكن سبقهم جميعا إليه اثنان من العاملين معه في المجلة. لم يكن واحد منهما يلقي إليه اهتماما أو يحاول أن يتعرف به. ولكنهما فجأة حين عرفا بتلك الصلة الجديدة أقبلا عليه إقبالة غير قادرة ولا متمرسة؛ فقد كان كلاهما في أول حياته الصحفية، وإن شئت قلت في أول الحياة كلها، ولكن هذان الصحفيان حقيقان أن نعرف عنهما كل شيء، وإني بأمرهما على علم اليقين.

فأما أولهما فهو حامد العراقي. وليست كلمة العراقي تلك جنسيته وإنما هي اسم، والسبب فيه غاية في الغرابة!

قدمت قبل مولد أبيه جارية من العراق أدركها قانون منع الرق فصارت راقصة في الأفراح والموالد، واستعملت معها مغنية مصرية كان لا بد لها منها حتى يتاح لها أن تسمع سيدات هذا العصر الغناء، فقد كان لا يغني عند الحريم إلا المغنيات، وكان من الطبيعي أن تطلق على هذه المغنية اسما فنيا فأطلقته، فإذا هو سعاد العراقية. وحين تزوجت سعاد نسب ابنها إلى الجانب الأكثر شهرة، فإذا اسم ابنها وجيه العراقي لا وجيه القماش، كما كان ينبغي أن يكون. مع أن القماش كان أيضا من أهل الفن، فقد كان طبال الفرقة التي تغني فيها العراقية، ولكن أين الطبال من مغنية الفرقة!

أنجب وجيه العراقي الذي عمل قاهيا بوش البركة فوزي العراقي الذي صمم أبوه أن يبعده عن الوسط تماما، فعلمه حتى نال الشهادة الابتدائية، وسعى له عند زبائن بالمقهى حتى عين موظفا بوزارة الأوقاف، وأصبح يحمل اسم فوزي أفندي العراقي، وأنجب فارس حديثنا هذا حامد العراقي. وقد لقي حامد من شظف العيش ما جعله يكره الدنيا جميعا، فجوانحه كلها حقد وسخيمة، ونفسه تأكل نفسه حتى شب ولم يشب، فهو مشروع إنسان لم يكتمل خلقه ولم تكتمل نفسه، فهو قصير غاية القصر، ضامر كل الضمور، وإن تهيأ لك أن تطلع على داخله لوجدته أعظم قماءة من جسمه.

أصر أبوه أن يعلمه ويتم تعليمه، وكانت دون ذلك أهوال. واستنجد فوزي أفندي بكل ذي أكرومة حتى استطاع أن يحصل على إعانة من الأوقاف كانت هي أحد المصدرين اللذين كان لهما الفضل في تعليم حامد، أما المصدر الثاني فقد كان مبلغا من المال يجود به كل شهر وجيه العراقي على حفيده حامد. وهكذا شب حامد وتعلم على موردين من المال عجيب أن يقترب أحدهما من الآخر، وعجيب أن ينسجما في مجرى واحد، وكل منهما قادم من مصدر بعيد كل البعد عن المصدر الآخر؛ فقد اجتمع على تنشئته وتربيته وتعليمه مال الصدقة قادما من الأوقاف، ومال السحت قادما من وش البركة.

وأكمل حامد العراقي تعليمه وتخرج في كلية الحقوق، وكان ترتيبه متقدما، فكان طبيعيا أن يسعى جهده ليعين في النيابة العامة أمل خريجي الحقوق جميعا، ولكن وقفت دون ذلك عقبات لا يستطيع أن يتخطاها به أحد حتى ولا زبائن جده بوش البركة. وكيف لمن كان جده قاهيا وجدته راقصة أن يصبح عضوا بالنيابة؟ هيهات! راح حامد يبحث عن وظيفة أخرى، ولكن الوظائف لم تكن ميسورة في ذلك الحين، فالأبواب أمامه مغلقة. كان الحقد قد تمكن من نفس حامد وعظم سخطه على المجتمع. فأي ذنب جناه هو حتى تحيطه الحياة بكل هذا القذر الذي يحيط به والذي يحول بينه وبين أن يبلغ من المكانة ما يصل إليه من هم أقل علما.

راح حامد في هوة الفراغ التي تطالعه من الحياة يقرأ، وكان بروح الحقد التي طمت على نفسه يعرف ما يريد أن يقرأ. وبدأ يكتب واتجه بكتابته إلى مجلة الفن؛ فقد كان فيها أبواب لا تخلو من الجرأة، وهو يريد حقده أن يفشو في كتاباته ومقالاته بعد أن فاضت به مشاعره.

ومهاجمة المجتمع والمستقر من شئونه أمر حبيب إلى نفس أصحاب الصحف؛ فكل هجوم حبيب إلى القراء، فالفاشلون في المجتمع أكثر من الناجحين، وقديما قال الشاعر:

بغاث الطير أكثرها فراخا

وأم الصقر مقلات نزور

والفاشلون يحبون دائما أن يعلقوا أسباب فشلهم على أقرب مشجب، وليكن المشجب فساد المجتمع أو الوساطة التي تأخذ بيد الناجحين أو هم يبالغون فيدعون أن الذين أفلحوا إنما أفلحوا بالنفاق والسفالة وبيع الضمير. ليكن المشجب أي شيء إلا أن يكون الناجح أهلا للنجاح وهم أهلا للفشل بغبائهم أو جهلهم.

وهكذا نشر صاحب المجلة مقالات حامد، وما هي إلا بضع مقالات حتى عين حامد محررا لباب المجتمع في مجلة الفن، ومن هذا الباب كتب في السياسة. وحين تقرب إلى حفني طلب إليه أن يعرفه بأخيه حلمي. ولم يجد حفني مانعا وتعرف حامد بحلمي.

ألا يطيب لك الآن أن نترك حامد قليلا لنذهب إلى زميله الذي سعى إلى حفني حين بلغه اتصاله بالأميرة. إنه حسن هنداوي.

أما أبوه فسمسار غلال تمكن من تعليمه حتى نال الابتدائية، ثم تقطعت أنفاسه وأعلنه أبوه هنداوي: الابتدائية على أيامنا كانت تجعل الحاصل عليها أفندي قد الدنيا. - ولكنها على أيامنا لا تزيد عن الآخرة في شيء. - يا ابني ألا تعرف ماذا أعمل؟ - تاجر غلال. - يا ليت! يا ابني أنا سمسار، أوصل البائع إلى المشتري أو المشتري إلى البائع وآخد العمولة والسمسرة. - ولماذا لا تكون تاجرا؟ - أولا أنا لا أملك رأس المال، وهذا وحده سبب كاف، ثم إن التاجر عرضة للخسارة، أما السمسار فلا يخسر أبدا. - ولكنك لا تملك شيئا حتى تخشى الخسارة. - حتى وإن كنت أملك المال فأنا لا أملك الجرأة. - الجرأة هي الحياة. - وهي الموت أيضا. - المهم أنا لا أستطيع إكمال تعليمك. - حاول أن تعيني في وظيفة إذن، فعملك جعلك تعرف الكثيرين.

وكان عضو النواب بالدائرة ممن يبيعون قمحهم عن طريق أبيه، فزكاه عند صاحب الجريدة فعين بها، وراح يحاول الالتصاق بالأستاذ فايز وهبي صاحب الجريدة.

وكان الأستاذ فايز يحب الليالي الحمراء، وأدرك حسن هذا فيه، فإذا هو يتقرب إليه عن طريق النساء. وأصبح هو الصلة بين الأستاذ فايز وبنات المواخير اللاتي وجد حياته تقوم على الاتصال بهن، وأصبح من أقرب المحررين إلى صاحب المجلة. ولكن حسن كان ذا طموح كبير ضخم وليس فايز بالنسبة إليه إلا أول الدرج، وربما كان حفني وحلمي هما السلمة الثانية في هذا الدرج. وهو درج من نوع عجيب يراه حسن يؤدي إلى السماء السابعة من الشهرة والمجد والجبروت، ويراه المجتمع الشريف يؤدي إلى أسفل حمأة من السفالة، ويبيع القلم والضمير والشرف وكل ما يتصل بالخلق الكريم.

ولكن حسن حين جال بعينيه فيمن حوله أدرك أنه لا سبيل له أن ينال مكانة مرموقة في الصحافة التي رمته المقادير إليها إلا بأن ينال شهادة وأن يتقن لغة أخرى. وإن كانت صلته بفايز تمكنه اليوم من نشر مقالاته وتقربه مما يظن أنه شهرة ومجد فقد كان من الذكاء بحيث يدرك أن الكتابة هي عرض عقل الإنسان على بشر كثير، وإذا لم يكن ما يعرض عميقا ذا قيمة فلا بد على الأقل أن يكون جذابا، فإذا هو ظل محصورا في دائرة الثقافة الابتدائية وما يكتبه الآخرون في شتى الصحف فلا مستقبل له. التحق حسن بمدرسة من مدارس اللغات وراح يتعلم اللغة الإنجليزية، وفي نفس الوقت راح يذاكر لينال شهادة التوجيهية أو البكالوريا من المنزل؛ فقد كان حسن يعلم أنه إذا لم يتسلح بالشهادة وباللغة فلا سلاح له في الحياة، وحين تعرف بحفني كان قد نال شهادة البكالوريا، وكانت أنفاسه قد تقطعت فاكتفى بها وانصرف عن إكمال الجامعة، واعتمد على أن إتقانه للغة الإنجليزية قد يعوضه عن الشهادة العالية، واعتمد أيضا على أن الناس مع الزمن ينسون ما حصل عليه الإنسان من شهادات، وخاصة إذا كان هذا الإنسان يعمل في الصحافة وليس في وظيفة رسمية في حكومة.

كان كل من حامد وحسن أصغر كثيرا من حفني. وهكذا استطاعا أن يلازماه ملازمة الظل، وتعرف كلاهما بحلمي الذي أصبح وزيرا، فكان مصدر معلومات سياسية لكليهما، وكانا يقسمان المعلومات بينهما، ويعرض كل منهما معلوماته ويعلق عليها كل بطريقته. أما حامد فبخبث الحاقدين، وأما حسن فبديماجوجية التجار الباحثين عن الإبهار عن طريق تضخيم الهائف وتعظيم التافه، وإكساب هين الأمور ما لا تستحقه من أهمية وخطورة.

الفصل الحادي عشر

طغى الملك واستكبر وتجمعت حوله ثلة من أصاغر الناس وحقرائهم الباحثين عن المال لأنفسهم وللملك عن أي طريق وبأي وسيلة، أما هم فوضعاء ويعلمون أن بقاء أي فرد إلى جانب السلطان أمر لا يطول أمده، وأنهم إن كانوا نجوما اليوم فهم في غد قريب مبعدون، فهم يهتبلون فرصة قربهم هذا ليشفطوا ما يتاح لهم وما لا يتاح من أموال، أما الملك فقد كان يشعر في بيته بالمهانة وحقارة الشأن، وكان يريد أن يثبت لنفسه أنه ذكي وخطير، وأنه يستطيع أن يسخر ممن يشاء، وما درى المسكين أنه يسخر أول ما يسخر من نفسه، فإن أحدا مهما يكن ذكاؤه لا يستطيع أن يسخر من شعب أي شعب، فما الخطب إن كان هذا الشعب هو الشعب المصري الذي خاض من أهوال الحياة ما لم يخضه شعب آخر، والذي اقتعد قمة التاريخ في صدر التاريخ ودوخ الطغاة ودوخوه على مر الآلاف من السنين. فليس في العالم أجمع شعب خبر الحياة وخبرته الحياة مثل الشعب المصري، فهيهات أن يسخر منه ساخر.

قد يخدعه مخادع، ولكن هيهات أن يستطيع المخادع أن يخدع المثقفين منه والمتعلمين، أما الذين لم يتلقوا من التعليم حظا فهم يتقنون من الحياة صنعتهم في الحياة؛ فالفلاح المصري يزرع بأدوات قدماء المصريين وينتج إنتاج القرن العشرين. رأيت فلاحا يمسك بقطعة الطين من الأرض ويضعها على لسانه، ثم يقول وكأنه أستاذ في أعلى الجامعات: هذه الأرض لا تصلح لزراعة القطن.

ورأينا الصانع المصري يجتاز فترة الحرب العالمية وسيارات مصر جميعها تسير بغير قطع غيار من الخارج، والمباني تقوم دون أن يستقدموا لها الحديد أو أدوات السباكة من الغرب الذي كان مشغولا بحربه، ولا عبور بالبحر الأبيض المتوسط الذي كان لا يخدم إلا سفاكي الدماء من الجانبين المتحاربين.

فإذا ظن سياسي أنه يخادع هؤلاء فلأنهم كانوا مشغولين عنه بإتقان صنعتهم وليس يعنيهم أمره في قليل أو كثير، وكأنهم كانوا يريدون أن يقولوا له في تلك الابتسامة الطيبة العذبة: أتريد أن تضحك علينا وماله؟ اضحك ولكن اتركنا نحن لنقوم بواجبنا نحو صنعتنا.

وهكذا أصبح الملك لصا وهو في غير حاجة إلى مال، وحلا له أن يذاع عنه أنه في ميدان النساء صنديد لا يشق له غبار ليخفي بذلك حقيقة أمره. وما كان في حاجة إلى إخفائها، فما يعني الناس عنه في هذا الميدان شيء، ولكنه غباء تمكن منه وخرج به عن طبيعة الأمور، وربما كان له العذر في ذلك بما كان يلقاه في أسرته من أهوال.

حاول الملك أن يعدو على أموال الدولة في الوزارة التي كان يحمل عبئها حلمي باشا. وكان الملك يظن أن إنعامه عليه بالباشوية سيجعله يقبل محاولة الملك أن ينال أموال الدولة، ولكن فأله خاب. ورفض حلمي أن تتنازل وزارته عن حقها في المال العام فيصبح مالا خاصا للملك.

وأصر الملك وأصر حلمي. وأحرج رئيس الوزارة، ولكن حلمي الذي لم يأبه بغضب الملك كان أكثر إهمالا لحرج رئيس الوزراء.

وأوشك رئيس الوزراء أن يستقيل، ولكن الأحداث تلاحقت.

واضطر الملك أن يتراجع ليتظاهر أنه يواكب الأحداث.

فقد حدث في ذلك الحين أن بدأ اليهود في انتهاب دولة فلسطين مؤيدين بالإمبراطورية التي كانت ما تزال حتى ذلك الحين تغطي بشمسها المظلمة العالم أجمع، وأصبحت مصر في موقف غاية في الحرج؛ فهي من ناحية زعيمة العالم العربي والإسلامي، وها هي ذي دولة عربية بأكملها يحاول عدو وقح أن يستولي عليها ويقيم عليها دولة يهودية، ومن ناحية أخرى كانت مصر هذه الزعيمة دولة محتلة بالإمبراطورية البريطانية التي تحمي العدوان اليهودي الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ.

وحاول الملك أن ينتهز الفرصة ليلهي الناس عن فضائحه ويحيي الحلم القديم الذي راود أجداده أن يصبح خليفة على العرب جميعا متناسيا طبيعة التاريخ والدول، ورفض كل دولة أن تكون تابعة في حكمها إلى أي دولة أخرى مهما تكن هذه الدولة حبيبة وصديقة، بل وزعيمة أيضا.

أراد الملك أن يجبر الوزارة على دخول الحرب بغير أي استعداد، وعرض الأمر على مجلس الوزراء، وانقسم الرأي ، وكان رأي حلمي أن نسأل وزير الدفاع، وكان وزير الدفاع من أتباع الملك فإذا هو يقول وهو يعلم أنه كاذب: إن هذه الحرب نزهة حربية للجيش المصري، وأنه يستطيع أن يقضي على القوات الإسرائيلية فيما لا يزيد عن أسبوعين.

وحينئذ قال حلمي: ما دام الأمر كذلك فإن الجيش المصري لن يجد فرصة مثل هذه ليمحو عن نفسه ذلك الاسم المقيت من أنه جيش المحمل الذي لا عمل له إلا الخروج في الاستعراضات ليكون أشبه شيء بعارضات الأزياء. ومصر عليها أن تواجه قدرها الذي ألقاه التاريخ على كاهلها، فهي زعيمة العالم العربي والإسلامي، ومصر يجب أن تجعل المحتل يحس أنه غير آمن في احتلاله، ولعله يعجل بالرحيل بعد أن انتهت المفاوضات الأخيرة بالفشل، شأنها شأن كل المفاوضات السابقة عليها.

ورفعت الجلسة دون أخذ الرأي، فإذا حلمي يقدم استقالته إلى رئيس الوزراء، ويطلب إليه رئيس الوزراء أن يؤجلها إلى فترة قصيرة، ويقول حلمي: أنا أعلم أن الوزير عليه أن يخضع لرأي الأغلبية في مجلس الوزراء، ولكني أعلم أيضا أن موضوع الخلاف إذا كان من الخطورة بهذا المكان، فإن ضميري يحتم علي أن أقدم استقالتي لأنني مصمم على رأيي، وأرى أن بقائي في الوزارة يعد خيانة مني للوطن ولنفسي.

ويقول رئيس الوزراء: إنك محق فيما تقول، ولكن لا تنس أن مجلس الوزراء لم يقل رأيه بعد، فأبق عليك استقالتك حتى يصدر المجلس قراره، فإن كان مخالفا لرأيك أصبح من حقك أن تقدم استقالتك، وأصبح من واجبي أن أقبلها.

وانتظر حلمي وقطع الشعب المصري الطريق على أي رأي؛ فقد تطوعت الألوف من الشباب، بل تطوع أيضا الكثيرون من رجال الجيش، ووجدت الحكومة نفسها مرغمة أن تعلن الحرب حتى تستطيع أن تقدم لهم السلاح علانية، وقامت الحرب واكتسح الجيش المصري أعداءه، ولكن الإمبراطورية البريطانية أدركت أنها لو أتاحت هذا النصر لمصر فمصيرها في مصر أصبح مقضيا عليه، وهي في الوقت نفسه كانت تريد لدولة إسرائيل أن تقوم لتكون قاعدة لها في المنطقة إذا اضطرتها الظروف أن تجلو عن البلاد التي تحتلها، وكانت تدرك في نفس الوقت أن شمسها تنحسر عن العالم، وأن شمس الإمبراطورية الأمريكية الجديدة تطفئ أضواءها، فكان من الطبيعي أن تحاول لندن وهي تلملم ثيابها من الشرق أن تغرس فيه هذه الشوكة لتستعملها عند الحاجة إليها.

وتتابعت الأحداث ...

الفصل الثاني عشر

أين صديقي الذي حدثتك عنه عندما بدأت هذه الرواية؟ ألا ترى معي أنه تأخر كثيرا عن الظهور. لا علي ولا عليك ولا عليه، فما كان صديقي حتى الآن ذا مكان في الحياة حتى يمثل مكانا في هذه الرواية. وأنت على كل حال قد تعرفت عليه، ولكنك لم تلتفت إلى أمره ولا عنيت به، فهكذا أنت أيها القارئ تريد من الروائي أن يضع لك كل شخصية في إطار، ويلح عليك أن تتعرف بها، والروائي عادة لا يفعل ذلك إلا إذا كان يحتاج إلى هذه الشخصية، وهو أيضا لا يفعل ذلك إلا حين يرى أن الموقف قد حان لشخصيته أن تظهر. وقد ألمحت لك عن عدلي قبل الآن، متى كان ذلك؟ عليك أنت أن تتذكر. إن عدلي هو الابن الوحيد الذي أنجبه حلمي الذي أصبح حلمي باشا، وقد كان عدلي يحبو في حنايا السنين ليتعلم، وحين تعرف حامد وحسن الصحفيان إلى أبيه الباشا كانت سنه تقارب سنهما؛ فلم يكن غريبا أن يسعى كل منهما إلى التعرف إليه وتوثيق هذه المعرفة، وكان عدلي من ذلك النوع من الناس الذين يحبون أن يعرفوا الناس، وينزلوا كل إنسان في منزلته. وأدرك حامد أن عدلي لا يمكن أن يكون متفقا معه في الرأي، فهو من الفئة التي لا تحقد، وإنما يحقد عليها الحاقدون، فعمل جهده أن يجعل الجانب الذي يبدو لعدلي منه مناقضا تماما لوجهه الحقيقي، واستطاع في نفس الوقت أن يجتذب عدلي إليه بما قرأ من كتب في الفلسفة والسياسة والتاريخ. أما حسن فقد علم أن عدلي لا يحتاج إلى فتيات المواخير، وهو في نفس الوقت لا يحب أن تكون هذه الصفة معروفة عنه في بيت حلمي ، ولكنه استطاع أن يجتذب عدلي بحديثه المنمق وبنفاقه ويسكب المديح من غير تحفظ على والده حلمي باشا.

وقد أثمرت هذه الصداقة منفعة لحامد وحسن على السواء.

أما حامد فقد كان يريد أن يسافر إلى الخارج بأي وسيلة من الوسائل، وقد أدرك أن حفني لا يستطيع أن يكون شفيعا له عند فايز ليأمر له برحلة إلى العالم الخارجي ليرى ما لا يستطيع أن يراه بماله الخاص.

وقد استطاع هو أن يقنع فايز أنه لو جعل له مراسلا في لندن وآخر في باريس لسبق المجلات المصرية في عرض أنباء العالم. وقد اقتنع فايز بهذه الفكرة، وخاصة بعد أن أصبحت مجلته عامة لا تقصر اهتمامها على الفن وحده. وطمع حامد أن يكون هو واحدا من هذين المراسلين. ولكنه وجد في فايز فتورا عن الاستجابة لمطلبه، وفي دربة الكلاب على الشم أدرك أن حلمي باشا لو أوصى به عند فايز فإن فايز لن يستطيع أن يتغاضى عن رجاء الوزير. وتكلم حامد مع صديقه عدلي وأصبح حامد مندوب المجلة في باريس.

أما حسن فقد أراد أن يكون مندوب المجلة في حرب فلسطين، ولكن فايز لا يستطيع أن يستغني عن خدمات حسن في القاهرة، فهو الذي يؤجر له الشقق وما ينتفع به في هذه الشقق، وهو الذي يعد له كل ما يحتاجه الأمر في أمسياته، ولكن حسن كان مصرا على أن يقفز حواجز الزمن، وكان يدرك أنه إذا لم يصنع في الصحافة ما يخشى الآخرون أن يصنعوه فلا فلاح له. وما دام قد صنع ما يخجل الآخرون أن يقوموا به فمن الطبيعي ألا يقف شيء أمامه بعد ذلك.

وتوجه إلى عدلي برجائه وتقرر أن يكون حسن مندوب المجلة في الحرب. •••

لم يكن حفني ليعنى بهذه الحرب في شيء، إلا أنه فوجئ بشوقي سلام يأتي إليه على غير موعد ببيته. - أنا وقعت من السما. - وأنا ألقاك. - أنا مسافر إلى فلسطين بعد يومين. - يا نهار اسود! - ولا اسود ولا حاجة، كل اخواني مسافرون. - من اخوانك هؤلاء؟ - ليس هذا هو المهم. - فما هو المهم إذن؟ - صاحبتي. - أحلام؟ - طبعا، وهل أعرف غيرها! - الآن لا. - إذن هي. - وما شأن أحلام بفلسطين. - هي عندي منذ ثلاثة أيام. - عندك! ألست متزوجا؟ - ماذا جرى لك؟ يا أخي أنت تفهمها وهي طائرة. - ولكن هذه ليست طائرة، هذه غير واضحة الرؤية مطلقا. - في شقتي الخاصة طبعا. - عظيم. - بل هباب! - لماذا؟ - كانت قالت لزوجها أنها ستذهب إلى أمها في الإسكندرية، بسلامته أخذ إجازة أمس وذهب إلى الإسكندرية ولم يجدها! أحد أصدقائي ... ماذا أقول ... أحد إخواني وشى بي. - أحد إخوانك. - ضابط زميلي كل نفسه حقد يحقد على أي سعادة مهما يكن مصدر هذه السعادة. المهم ليس هذا وقته، أرسل ورقة مجهولة إلى الزوج يخبره عن عنوان الشقة. - وكيف عرفت أن صديقك هذا الذي أرسل الورقة؟ - من حظي الأسود له صديق في نفس العمارة التي بها الشقة، ومن حظي الأسود أنه جاء يزور صديقه هذا فرآني مع أحلام، فهو الوحيد الذي كشف أمري. يا أخي ليس هذا هو المهم. - وما هو المهم؟ - أن نختفي. - أين؟ - في أي داهية. - ألم يأت الزوج إلى الشقة؟ - تنيل، أتى. - وأين كنتما؟ - كنا في أول الشارع قادمين إلى العمارة حين رأينا سيارته أمام الباب فادركت كل شيء. - والآن؟ - أبحث لي عن مخبأ. - هيا بنا. - إلى أين؟ - إلى العزبة. - هيا. - أين أحلام؟ - تحت في السيارة. - سأذهب أنا في سيارتي وتلحق بي أنت في سيارتك. - لماذا؟ - حتى تكون عندنا حرية الحركة. - لك حق فإن صديق الحقد الذي كلمتك عنه يعرف صلته بك، ولا تستبعد أن يرسل ورقة ليرشد الزوج عن العزبة. - هيا.

وقبيل الغروب شهد منزل الوسيمي ببلدتهم الرمايحة سيارتين ينزل عنهما ثلاثة نفر، وجرى عبد المعين خادم المنزل ففتح الباب وقال حفني: كيف حالك يا عبد المعين؟ - بخير يا سعادة البك، ربنا يبارك فيك.

وصاح شوقي: اسمه عبد المعين.

وقال عبد المعين: خادمك يا سعادة البك.

قال شوقي: ربنا يستر. أخشى أن يكون هو عبد المعين صاحب المثل المشهور.

وضحك حفني قائلا: لا تخف ، فهو عند الشدة يعجبك. اعمل لنا عشاء يا عبد المعين. - أمرك يا بك. - وجهز حجرتي لشوقي بك والست زوجته، وأنا جهز لي حجرة من حجر الضيوف. - أمرك يا بك. سعادتك ستتعشى هنا أم في الدور الأعلى. - هنا. - وصاح شوقي: في الدور الأعلى، في الدور الأعلى أنا في عرضك.

ونظر إليه حفني وسكت لحظة، ثم أدرك ما يعنيه وقال: وهو كذلك في الدور الأعلى، واسمع يا عبد المعين، قل لسعدون يفتح الجراج. - أمرك يا بك.

وحين انصرف عبد المعين قال حفني: أدخل سيارتك في الجراج وقل لهم أن يتركوه مفتوحا. - معقول! الجراج بعيد عن مدخل البيت. - طبعا. •••

كان الليل حالك الظلمة، وكانت آلة الإنارة قد توقفت تماما في عزبة الوسيمي، وأصبح البيت قطعة من ظلام لم تجرؤ الأشعة المتخافتة من ضوء مصباح الغاز المتروكة في البهو أن تعدو على حلكته أو أن تبدد شيئا من قتامته.

ولكن ضوء سيارة اخترق الظلام واعتدى على هذه الحلكة بنور جريء جرأة صاحب الحق، وهب الثلاثة في بيت الوسيمي وهم يعرفون من صاحب السيارة والنور.

واقتحم حفني الحجرة على شوقي وأحلام وألقى أوامره في سرعة وحسم: أحلام خذي بدلتي هذه والبسيها، وأنت البس هدومك وانزلا فورا من باب الخدم إلى الجراج، وسأشغل أنا عبد الصادق حتى تخرجا بالسيارة إلى مصر، واذهب أنت يا شوقي إلى بيتك، أما أنت يا أحلام فعودي إلى بيتك واتفقي مع صديقة لك في أي بلد أن تقول إنها دعتك فذهبت إليها. أسرعا. اسمعي أليس لك صاحبة ليست في القاهرة. - المنصورة. - حلوة، هيا.

وبسرعة نادى عبد المعين وأمره أن يرتب فراش شوقي، وأن يترك فراشه مهوشا كما هو، ونزل إلى الطابق الأول. - أهلا عبد الصادق بك. - أهلا بك يا حفني بك. أهكذا؟ - أهكذا ماذا؟ - أتقبل أن تكون هذه صنعتك؟ - يا ترى أنت متأكد أنك قصدت إلى الشخص المطلوب؟ - لا شك في هذا. - ومن هو الشخص المطلوب؟ - حفني الوسيمي. - في عزبتي والساعة تقترب من الثانية صباحا؟ - أتظن أنني أفعل مثل هذا إلا لسبب خطير؟ - متصل بي أنا؟ - طبعا. أين زوجتي يا حفني؟ أين أحلام؟ - أحلام! معي أنا؟ - مع صاحبك شوقي. - وأنا ما شأني؟ - أنت تخفيهم عندك. - وإذا كان هذا صحيحا فكيف عرفت؟ - اقرأ.

ولم يكن حفني في حاجة إلى أن يقرأ، فقد أدرك أن توقع شوقي قد صح، فأخذ الورقة ثم رفع بصره إلى عبد الصادق: ورقة من مجهول تجعلك تأتي في الثانية صباحا إلى بيت وزير من وزراء الدولة لتتهم أخاه أنه يتستر على جريمة زنا؟! - كان على أخي الوزير أن يبقي بيته وبيت أخيه شريفا. - وهل سمعت عن حلمي غير ذلك؟ - عن حلمي لا. أما عن أخي حلمي فإنه يستطيع أن يصنع أي شيء. - تهمة مثل هذه عندنا نحن الفلاحين لا يمحوها إلا الدم يا عبد الصادق بك. - إذا لم تكن صحيحة. - أنت تحتاج إلى إثبات. - اسمح لي أن أمر بغرف البيت. - الطابق الأسفل نعم، أما الطابق الأعلى فهيهات أن تخطو إليه رجل غريبة. - ما غريب إلا الشيطان يا سعادة البك يا أخا سعادة الباشا. - اخرس. - تخفيهما في الطابق الأعلى وتقول لا تطؤه رجل، لا وحياة والدك لئن لم أصعد إلى الطابق الأعلى لأبلغن البوليس فورا. - أتظن أن البوليس يجرؤ على التهجم على بيت وزير وعضو نواب دون أمر بالتفتيش ورفع الحصانة من مجلس النواب أيضا؟ - أبلغ وزير الداخلية ووزير الحقانية، شرفي يا هوه، شرفي يا عالم. - أتظن أنك تصون شرفك بهذه الضجة؟ - هذا شأني أنا. - اسمع يا عبد الصادق، أنا لا أخشى التهديد، ولكن لأنني إنسان وأدرك الحالة التي أنت فيها سأصعد معك إلى الطابق الأعلى، ولكن قل لي، إذا لم نجد أحدا كيف ستعتذر؟ - الذي جعلك تقدر حالتي من الثورة سيجعلك تقدر حالتي من الخجل. - وهو كذلك، تفضل.

وطبعا لم يجدا أحدا.

الفصل الثالث عشر

ربما خيل إليك بما قدمته لك عن حفني أنك عرفته من كل جوانبه، ولكن هيهات؛ فإن حفني هذا دنيا بأكملها، وهيهات لأحد أن يحيط بدنيا. بحر هو متلاطم الأمواج لا يقر له قرار ، وأعجب ما فيه أنه لا يتحمس لشيء في الوجود، ولا يأخذ شيئا مأخذ الجد إلا متع الحياة، وليس يعنيه مصدر المتعة، وإنما يعنيه أن يحصل عليها في أي مظنة لها.

وقد رأيناه يبيع أرضه ليلعب القمار، ولم يكن ذلك منه تحمسا للقمار وإنما احتقارا للتملك مع حب شديد للمال لا ليكنزه وإنما لينفقه ويستمتع به، وليس يهمه أن ينفق كل ما يملك في سبيل لحظة واحدة من المتعة الحقيقية. وهو لا يعرف في الدنيا مشاعر، فهو لم يستطع أن يكره أحدا. وشعوره نحو أخيه شعور من نوع عجيب، فهو يعلم أن انتسابه إلى أخيه هذا يمكنه أن يحصل على أنواع من المتعة، هيهات أن يستطيع الوصول إليها إذا لم يكن أخا لحلمي باشا.

ولكن حلمي يظل مع هذا بالنسبة لحفني جزءا من كيانه، ولو كان قلبه يعرف الحب ما أحب إلا أخاه حلمي، ولكنه لا يشعر بهذا الحب، ولا هو يعرف معناه، ولكنه يعرف أنه مستعد أن يبذل كل جهده من أجل أخيه من غير حب. وما دام ما يبذله لا يفسد عليه متعة من متعه. وأحسب أن حفني لو أحس أن قطعة من جسمه ستقف حائلا بينه وبين متعته لاستغنى عنها وكأنه يلقي سيجارة شربها إلى عرض الطريق. وهكذا عاصر حفني كل هذه الأحداث التي مرت بها مصر، لم يشترك يوما في مناقشة يحس أنها ستعكر مزاجه أو تجعله آخر الأمر يفكر بجدية في شيء ما، ولهذا لم يكن عجيبا أن يكثر حوله الأصدقاء، ولماذا لا؟ وأين سيجدون شخصا يوافق كل الآراء المتعارضة دون أي مناقشة لها؟ بل ربما وجد الكلمة المؤيدة للرأيين المتناقضين، فإن يكن أخوه من حزب معارض للوفد فهو لا يعرف الحزبية، وأصدقاؤه من كل الأحزاب، وكلهم واحد عنده تأييدا لرأيه في الحياة.

وهكذا مرة أخرى لم يكن عجيبا أن تتوثق الصلة وتزداد توثقا بين حفني وعبد الفتاح صدقي، وتستمر هذه الصداقة رغم فارق السن بينهما، ولكن صلات حفني لا تعترف بفوارق الأعمار ولا بفوارق الطبقات ، فهو كما يعرف حامد وحسن وهما من سن ابن أخيه عدلي الذي هدهد طفولته وهو وليد، يعرف عبد الفتاح صدقي الذي يكبره بما يقرب من عشرين عاما.

وبعد فهل تراك عرفت حفني؟ هيهات لك أن تعرفه! وكيف لك أن تصل إلى أغواره إذا كنت أنا وأنا مصدر الوحيد عنه لا أستطيع أن أدعي أنني بلغت من حقيقته كل حقيقة؟!

وحسبي وحسبك أن أروي لك ما خاض من أحداث لعلك تقف على شيء يسير من حقيقته، وربما سألت نفسك: وماذا يهمني من أمر حفني؟ فإذا فعلت فإنني أحزن حزنا شديدا، فإنما حفني لون من ألوان الإنسانية، وما نحن إذا لم نعرف أنفسنا، وكل إنسان هو جانب منا ونحن جانب منه، هو يمثل لونا من الفصيلة التي نكونها نحن البشر، فإذا كنت لا تعرف نفسك مصورة في الآخرين فماذا يمكن أن تعرف؟!

لا عليك ولا علي، فإني أقص وشأنك وما أقول، ولك أن ترى فيه ما تشاء من رأي. •••

لم يكن حلمي قد اشترك في الوزارة بعد، حين التفت عبد الفتاح صدقي إلى حفني وهو يقدم له فنجان قهوته: قل لي يا حفني، إلى متى تظل تلعب القمار؟ - كلنا يقامر يا عبد الفتاح بك. - لم نختلف، ولكن قمار عن قمار يختلف. - كله قمار. - تظل تلعب الليل كله وتجهد نفسك وتتعب أعصابك. - اسمع يا عبد الفتاح بك، لعلك أول إنسان أخبره، أنا لا ألعب لأكسب. - فلماذا تلعب؟ - لأني أجد متعة في اللعب، فإذا فقدت المتعة تركت اللعب. - ولا تريد أن تكسب؟ - ليس للفلوس عندي أي معنى إلا أن تكون وسيلة لأنبسط وأعيش كما أحب أن أعيش. - أنت أحسن إنسان يمكن أن يعمل في البورصة. - أتظن هذا؟ - أنا محترف وأعرف ما أقول. - ولماذا أعمل في البورصة؟ - لتكسب. - وماذا أفعل بالمكسب؟ - ستتزوج يوما. - أتظن ذلك؟ - اسمع، أنت تعرف خالتك كريمة عز المعرفة. - طبعا. - أتعتبرها امرأة؟ - كانت. - أنا أتكلم عن الحاضر. - أنا لم أنظر إليها من هذه الناحية. - وهل يستطيع أحد أن ينظر إليها من هذه الناحية ؟ - ماذا تقصد؟ - وأنت تعرف طبعا مغامراتي. - كلها على يدي. - أتعرف لو ارتفعت حرارة خالتك كريمة نصف درجة أصاب بالجنون؟! - هو الحب إذن. - وأكثر، هو الحياة؛ حياتي وحياة بناتي وكل ما لي في الوجود. - وتريدني أن أتزوج؟ - طبعا. - أتريدني أن أجن؟ - لا، وإنما أريدك أن تعيش. - الزواج مسئولية، وأنا يا عبد الفتاح بك أرفض المسئولية. - أنت اليوم شاب، فكر في يوم تصبح فيه في مثل سني، أنا بدون كريمة وسناء لا أساوي شيئا. - أما أنا فقاربت الأربعين، أما أنت فتساوي كثيرا من غير أحد. - أوهام، أنا أعمل لأسرتي. أنت لا تعرف المتعة التي أجدها حين أشغل نفسي بأمورهم، ولا تعرف المتعة التي أحس بها وأنا أتكلم مع كريمة عما سنصنعه لسناء حين تتزوج ولآمال. - ولكن لا أنسى الشقاء الذي ساد البيت يوم مات لطيف خطيب سناء. - أنت رجل مقامر، ولكي تكسب لا بد أن تخسر. - أنا أريد أن أكسب فقط. - المتعة الحقيقية هي المكسب بعد الخسارة، أما المكسب المستمر فيورث الملالة. المتعة العميقة هي الخسارة والمكسب معا. هكذا الحياة. - أظن أن هذه المتعة لا أحب أن أعرفها. - اسمع، أنت ستتزوج يوما. - لا أظن. - سترى. - انتظر حتى نرى. المهم لماذا لا تعمل معي في البورصة؟ - أعمل. - حقا؟ - ولم لا؟

وعمل حفني في البورصة، وعن هذا الطريق استطاع أن يجد وظيفة لعدلي في البورصة بعد أن تخرج في كلية التجارة. وكان اليوم الواحد من العمل في البورصة يقدم لعدلي من الخبرة في المجال الاقتصادي ما تقدمه عشرات السنوات في أي عمل آخر بهذا الميدان.

وعين حلمي وزيرا، وحاول حفني أن يستخدم وظيفة أخيه ليصل إلى معلومات يستفيد بها في البورصة، فكان الفشل نصيبه دائما، فمهما يكن ذكاء حفني فهو لا يستطيع أن يصارع داهية في السياسة مثل حلمي.

والتفت حفني إلى عدلي فوجده ما زال عبيطا عبط الشباب في سنه المؤمنين بالشرف والخلق وأسرار الدولة وواجبات العمل، فانصرف عنهما كليهما واتجه إلى صداقاته، وطالما أسعفته صداقاته، وازدادت ثروة حفني، وكان ينشغل تماما عن مادة القمار وانحصرت متعته في الحفلات الصاخبة التي يخرج منها دائما بامرأة لا يعنيه من أمرها أن تكون متزوجة أو غير متزوجة. •••

كان الحفل رائعا في بيت رشدي المهدي؛ فقد ترك الشقة التي كان يسكن بها وابتنى لنفسه فيلا أنيقة جعلت أعماله تتسع والمال ينهمر عليه انهمارا، وكانت الحفلات التي يقيمها في فيلته تدر عليه أرباحا خيالية، فقد كان يوهم كثرة من الوجهاء أن الحفلة مقامة له خصيصا ليعرفه بالفتاة التي يريد أن يتعرف بها، وهكذا كان يأخذ مصاريف الحفلة مضاعفة خمسة أضعاف أو ستة أو أحيانا سبعة قبل أن تقام الحفلة. وكان من الطبيعي أن يكون حفني الوسيمي وعبد الفتاح صدقي عضوين دائمين في كل حفل يقيمه رشدي المهدي، أما حفني فلسمعته النسائية ولحب الأصدقاء له، وأما عبد الفتاح فلأنه هو أيضا كان يقيم الحفلات في بيت رشدي المهدي لحسابه الخاص، أو أن رشدي يوهمه بهذا على الأقل.

كان حفني منذ تعرف بالأميرة فضيلة قد علا نجمه بين النساء بصورة خيالية. وأصبحت كل فتاة من اللواتي لا يعنين كثيرا بالشرف تتمنى أن تكون صديقة لذلك الفتى الذي صاحب الأميرة فضيلة فترة من الزمان.

وكان في هذه الحفلة في تلك الليلة فتاة أو قل سيدة، أو إذا كنت تريد الدقة في الوصف فقل امرأة اسمها وسيلة الدهري، وكانت لها قصة. أما قصتها فلا شأن لها بما أرويه لك، ولكني مع ذلك أجد نفسي مسوقا لقصها عليك، إذا كنا اتفقنا أننا نسعى لمعرفة البشر الذي تنتسب إليه، أم ترانا لم نتفق؟ المهم كانت وسيلة. أتحب أن أروي لك أنا قصتها أم أتركها هي ترويها لك، فأنا حريص على ألا أقص عليك قصة واحدة مرتين. وفي هذه الحادثة التي سأقدمها إليك والتي وقعت بين حفني ووسيلة ستسمع القصة منها هي، فلماذا لا أكتفي بنقل أنباء هذه الواقعة إليك وأترك وسيلة تقص هي عليك قصتها؟ والحقيقة أنها فيما قالته كانت صادقة، لا لأن الصدق من طبيعتها، ولكن لأنها لم تكن محتاجة لكذب على من تروي له القصة.

كان رشدي المهدي يقدم خدماته للجنسين معا. فكما يستجيب لرغبات الرجال كان يستجيب أيضا لرغبات النساء، وقد طلبت إليه وسيلة أن يعرفها بحفني، وكانت هذه الحفلة الموعد الذي حدده لها لينفذ رغبتها.

وسيلة سيدة غاية في الجمال تركت الثلاثين من عمرها منذ سنوات قلائل، وهي زوجة الدكتور فتوح عبد القادر، وهو طبيب واسع الشهرة في أمراض النساء والولادة. ووسيلة هي زوجته الثانية، وهي تتمتع بشهرة قريبة من شهرة زوجها في ميدان المغامرات، وإن كانت الألسنة تتناقل شهرة زوجها في علانية وصوت جهير، فهي تتناقل سمعة زوجته بنفس السعة ولكن خفية وفي صوت هامس.

قال رشدي المهدي: حفني بك لا بد أنك تعرف وسيلة هانم. - بشهرة الجمال وإن لم يسبق لي الشرف.

وقالت وسيلة: أما أنا فأعرفك بشهرات أخرى عديدة.

وقال رشدي المهدي: إذن فلا مكان لي بينكما.

خبير هو واسع الخبرة. لقد أتم مأموريته وانصرف ليقوم بالأعمال الأخرى الكثيرة المتراكمة على كتفيه، أم يجدر بنا أن نقول المتراكمة على رأسه.

قالت وسيلة: غريبة أننا لم نلتق قبل الآن. - بل لا غرابة، فأنا أعرف أن الدكتور مشغول، وأنك لا تكثرين من الذهاب إلى الحفلات. - أنت تعرف عني الكثير. - إذا لم أعرف عن هذا الجمال كل أخباره فالموت أولي بي. - أعوذ بالله! لا ... اطمئن، إنك جدير بالحياة، فأنت تعرف كل شيء تقريبا. - إذن فهناك أشياء لا أعرفها. - طبعا، وهل يستطيع أحد أن يعرف كل شيء عن الآخرين. - إذن فأنا منتظر أن تخبريني أنت عما لا أعرف. - عني؟ - طبعا. - وهل تظن أن أحدا يعرف كل شيء عن نفسه. - الآن عرفت شيئا لم أكن أعرفه. - أهكذا؟ - أنت فيلسوفة أيضا. - وهل شفت حاجة! - أريد أن أشوف. - وماله. - متى؟ - متى أحببت. - أنا أحب من الآن. - من الآن؟! - من الآن. - والحفلة؟ - في ستين داهية الحفلة ومائة حفلة. - هيا. - هيا. ••• - كانا في سرير حفني عاريين تماما. - ها أنت شفت. - وما أجمل ما شفت! - ولكن أتظن أنك عرفت عني كل شيء؟ - عرفت أهم شيء . - يتهيأ لك.

وعلا صوت جرس الباب يدق في إصرار متصل، فشحب وجه حفني، وابتسمت وسيلة، وقال حفني: أنا لا أنتظر أحدا.

وقالت وسيلة في عدم مبالاة وفي هدوء: أما أنا فأنتظر. - غير معقول. - فعلا غير معقول. - ضعي شيئا على نفسك وادخلي الحجرة المجاورة. - لا تخف. - أنا خائف فعلا. افعلي ما قلته لك. - وقالت وسيلة في غير عناية: أمرك، ولكن لا تخف.

وكان قد وضع على نفسه أحد معاطفه المنزلية وخرج وهو يربط حزامه والجرس مصر على ألا يصمت، وفتح حفني الباب ليرى أمامه الدكتور فتوح ولم يخطئه، فهو رجل شهير وقد رآه أكثر من مرة في أكثر من مناسبة. وقال الدكتور وهو على الباب: أين وسيلة؟

وكان حفني مشدوها حائرا، فهو مع ممارسته الطويلة للمغامرة لم يلتق بموقف مثل هذا الذي يعانيه في لحظته تلك: ألا تدخل يا دكتور. - لا أريد أن أدخل. - أظن لا يعقل أن دكتور في مثل شهرتك وسنك ... - لا شأن لك بسني. - في مثل مكانتك يناقش أمرا مثل هذا على باب شقة، ويدخل الدكتور ويغلق حفني الباب وهو يقول: تفضل اقعد.

والتفت إليه فإذا بيد الدكتور مسدس وروع حفني. - ما هذا يا دكتور؟ أهو فيلم سينما؟ - أريد زوجتي.

وقال حفني وهو يتصنع الشجاعة، وإن كان في دخيلة نفسه قد زلزل الهلع كيانه كله، وفي لحظات تصور ما قد ينشر في غده عنه وعن أخيه وعن الدكتور الشهير وعن وسيلة. - أدخل هذه اللعبة في جيبك. - أنا أقتلك وأقتلها وأقتل نفسي. - وماذا تكسب؟ - أقتلك ...

ودخلت وسيلة وهي تضع على نفسها معطفا منزليا من معاطف حفني، وقالت في حسم: قم يا فتوح واذهب إلى البيت. - إذن فأنت هنا. - قم يا فتوح.

وتوقع حفني أن ينطلق النار من المسدس ليقتل وسيلة، وهي في وقفتها هذه المتحدية وفي ملبسها هذا الذي يدعو ألف رصاصة أن تنطلق، ولكن الذي حدث شيء مختلف تماما. ارتخى المسدس في يد الدكتور، وانخرط العملاق الأشم في بكاء منهار مستخز، واعتمد رأسه بذراعه، وتقطعت جمله. - نعم هي تعرف أنني لن أفعل شيئا ... هي متأكدة ... لأني أحبها ... أحبها ... ضعفي الوحيد في حياتي.

وقالت وسيلة التي أصبحت مثل صخرة ناطقة: بل أنت تعرف أنه ليس ضعفك الوحيد. قم ولا تجعل من نفسك أضحوكة، فأنت رجل محترم.

وقال الزوج وهو ينشج: وهل يمكن لمن يتزوجك أن يكون محترما؟

وقالت الصخرة: إذا احترم هو نفسه. - سأطلقك، سأطلقك. - اذهب الآن إلى البيت، هيا.

وقام فتوح أشبه ما يكون بكلب يطيع أمر صاحبه، وتدلى المسدس في ذراعه المرتخية وخرج، وقبل أن يغلق حفني الباب وراءه صاحت وسيلة: ضع هذا البتاع في جيبك.

ورآه حفني وهو يصدع بالأمر مثل آلة ضغط صاحبها على الزر المناسب للحركة التي يريدها منها. وأغلق حفني الباب وارتمى على كرسي مرتعدا ما يزال يكاد لا يصدق ما رآه منذ لحظات، وأحضرت له وسيلة بعض الماء، وراحت ترش على رأسه كولونيا وهي تضحك ضحكا شديدا وهي تقول: لم أكن أتصور أنك خواف إلى هذه الدرجة. - خواف! يا ست أنت مش واخدة بالك من اللي حصل ولا دا كان حلم؟! - بل حقيقة. - أمال ربنا عمل الخوف ليه إذا لم يكن للموقف الذي كنا فيه؟! - عمله لغيرك الذين لا يغامرون مع زوجات الآخرين. - طول عمري أغامر مع زوجات الآخرين ولم يحصل لي شيء من هذا مطلقا. - ألست أنت الذي أردت أن تعرف عني كل شيء؟! - معرفة مهببة. - ألم تنبسط؟ - وهل هناك انبساط في العالم يساوي هذا الذي كنا فيه؟ - اهدأ، اهدأ. - إنما قولي لي أنت، ما كل هذا الهدوء؟ - ألم تعرف؟ - أكاد أعرف. - ماذا؟ - ليست هذه المرة الأولى. - ولا أظنها ستكون الأخيرة. - ما حكايتك؟ - هذا الرجل تزوجني من اثنتي عشرة سنة. كنت أنا لم أكمل العشرين، وكان هو في الستين وقد جاوزها. الزواج الحقيقي لم يدم بيننا أكثر من سنتين. - ولماذا قبلت الزواج منه؟ - أبي كان غنيا وأضاع أمواله كلها، وطمع أن يعينه هذا الرجل على الحياة، والبنت منا لا تملك من أمر نفسها شيئا. - إذن ... - وهل فيها إذن؟ كان من حقي أن أستجيب للطبيعة، وكنت في أول الأمر أحاذر أن يعرف، ولكنه عرف، وفي كل مرة أتعرف بشخص جديد تتكرر هذه التمثيلية. - ماذا سيفعل معك حين تعودين إلى المنزل؟ - أنا عادة لا أعود في نفس الليلة التي يقدم فيها هذا العرض الذي شهدته. - إذن ... - هل عندك مانع أن أقيم معك بضعة أيام؟ - أهلا وسهلا، ولكن ماذا بعد بضعة الأيام هذه؟ - أعود إلى المنزل. - وزوجك؟ - يستقبلني وكأني عائدة من مشوار لم يستغرق أكثر من ساعة، وكأن الذي جرى ما كان، ونستأنف حياتنا، هو يعرف أني أخونه، وأنا أعرف أنه يعرف، ولا يذكر أحد منا للآخر شيئا. - ولماذا لم تقولي لي هذا قبل أن تدهمني المفاجأة التي كدت فيها أن أفقد حياتي؟ - من مسدسه؟ - من الخوف. - أحببت أنا أيضا أن أعرف شيئا عن مقدار شجاعتك. - يا ست وهل قلت لك أني جنرال؟! - أنت في حجرة النوم أعظم من جنرال. - في حجرة النوم، إنما أمام المسدس أنا أقل من قطة. - عرفنا. - الحمد لله إنكم عرفتم. •••

وفي اليوم التالي ووسيلة لا تزال في بيته قصد إلى بيت عبد الفتاح صدقي. - لا بد أن أتزوج فورا. - ماذا؟ - ألم تسمع؟ - المصيبة أنني سمعت. - وما المصيبة في هذا؟ - كلمتك مائة مرة أن تتزوج وكنت ترفض. - والآن قبلت. - أنا عندي العروسة، ولكن لن أخبرك عنها إلا إذا قلت لي ما الذي غير رأيك بهذه السرعة؟ - أنا الآن في الأربعين وأستطيع أن أكون زوجا صالحا لسنوات عديدة، ولا أريد أن ينزل علي قضاء الله بالزواج وأنا أكبر من هذه السن. - كلام معقول. - خشيت أن أصاب وأنا في الشيخوخة بحمى الزواج وأصبح أضحوكة أمام نفسي وأمام زوجتي. - لا بد أن شيئا قد حصل لك بالأمس. - حصل أو لم يحصل لا يهم، أنا أريد أن أتزوج. - وأنا عندي عروستك. - من؟ - ابنتي سناء. - أنا في عرض النبي، أنا أعرف سناء وهي طفلة. - أنت دخلت بيتي منذ كم سنة؟ - أظن منذ حوالي عشر سنوات. - هو كذلك فعلا. سناء كان عندها في ذلك الحين سبعة عشر عاما. - حقا؟ - طبعا. أنت لم تكن تنظر لها لأنك كنت في الثلاثين من عمرك وقطعت السمكة وذيلها. - وهي تأخرت في الزواج لأنها كانت مخطوبة لابن عمتها. - وأنت تعرف أنه استشهد في فلسطين، وأنا أريد أن أخرجها من حزنها عليه. - لا يزال الفرق بيني وبينها حوالي ثلاثة عشر عاما. - كل زواجاتنا تتمتع بهذا الفرق. - والله معقول. ولكن كيف تقبلني زوجا وأنت تعرف عني ما تعرف؟ - أنت شبعت من النسوان، وأنا أطمئن على ابنتي بين يدي رجل في مثل تجربتك. - على بركة الله. - نقرأ الفاتحة. - بل لا بد أن يقرأها عني حلمي أخي. - هكذا يكون كلام العائلات، وهو كذلك.

وتزوج حفني من سناء.

الفصل الرابع عشر

حين عاد حسن من الجبهة كانت تحيط به أجواء غريبة كل الغرابة على الذين يعرفونه؛ فقد أصبح يحاول أن يضفي على نفسه نوعا من الأهمية، وأصبح فايز يهتم بأمره بعض الاهتمام، الأمر الذي لم يكن أحد يتصور أن يحدث أبدا، بل والأعجب من ذلك أنه أصبح يشارك فايز سهراته بعد أن كان يعدها له فقط دون أن يجرأ على التفكير في مشاركته فيها.

وقد أصبح شديد العناية بملبسه في الحدود التي تتيحها له دخوله المختلفة، والتي ما زالت قليلة مع ذلك.

وقد توثقت صلة حسن بالأميرالاي وهبي عبد المولى، وصار يتردد على بيته في انتظام. وكان للأميرالاي وهبي ابنة في الثلاثين من عمرها وكانت تكبر حسن ببعض سنوات، ولكنه وجد أن فرصة زواجه منها لن تتكرر، ومن أين له أن يجد ابنة أميرالاي إلا أن تكون زوجة سابقة مات عنها زوجها وترك لها طفلا. - يا ترى يا سعادة البك أطمع في هذا الشرف. - والله يا حسن يا ابني تعرف أن بنتي كانت متزوجة، وقد أصبح لها وحدها الحق أن تقبل الزواج مرة أخرى أو ترفضه. - البركة فيك يا سعادة البك.

ووافقت الست بديعة وهبي على الزواج، وطبعا لم يفكر حسن أن يدعو أباه إلى العرس، ولكنه دعا إليه - طبعا - حلمي باشا وأخاه حفني وعبد الفتاح صدقي وعدلي. ودعا أيضا شخصا ربما تكون قد نسيته وهو حامد العراقي الذي عاد من فرنسا ومعه زوجة فرنسية، فقد انتهز فرصة وجوده في باريس ووثق أنهم هناك لن يعرفوا شيئا عن جده أو جدته أو الطريقة التي تعلم بها، وأين يمكن أن تتوه هذه الأعراق العميقة الجذور في تربة وش البركة إذا لم يدركها التيه في باريس؟

وهكذا تزوج هو أيضا وشهدت زوجته مادلين زواج زميله حسن. وقدم فايز إلى حسن مائة جنيه هدية زواج له استطاع أن يشتري منها حلة العرس. وبدأت مطالع حياة جديدة تسفر عن وجهها الحسن بعد وجه شائه لم تكن الحياة تطالعه إلا به. وحين انتهى العرس جلست أسرة الأميرالاي وهبي بك تذكر ما كان من المدعوين ومن أمر الراقصة ومن أمر النقوط. وإن لم يكن الحفل كبيرا ولكن الحديث عنه كان موفورا. وغمزت الست حكمت اليازرجي زوجة وهبي لزوجها بعينها، وتلقى الإشارة وأحسن فهمها. - ألا قل لي يا حسين يا بني. - نعم يا سعادة البك.

وقالت الست حكمت: يا أخي قل يا عمي.

وقال حسن في نفاق يجري في عروقه مجرى الدم: لا يمكن يا ست هانم، أين أنا من كلمة عمي هذه؟

وضحك الأميرالاي وهبي، فقد كان لقب بك حبيبا إلى نفسه دائما، وأكمل حديثه. - متى تحب أن تتم الدخلة؟ - متى تأمر بديعة هانم.

وقال وهبي: بيدك أن تكون الليلة وبيدك أن تكون بعد أشهر. - اجعلها الليلة أنا في عرضك يا سعادة البك.

وضحك الجميع ووضعت بديعة على وجهها خمارا من حياء، وقال وهبي: هل تصر على أن تسكن في شقة وحدك أنت وعروسك؟ - والله الأمر إليها وإليك. - أنت تعرف أن ابنها نبيه محتاج لمن يرعاه، وهنا سته تستطيع أن تكون إلى جانبه دائما، والبيت هنا كبير وتستطيع أن تعيش معنا، وهكذا لا تحرم خالتك حكمت من بنتها الوحيدة ومن حفيدها. - وهل يمكن أن أتمنى أحسن من هذا؟ كل ما في الأمر أنني مواعيدي صعبة كصحفي، وسعادتك تعرف وأخشى أن أزعجكم. - لا إزعاج في الأمر، سنجعل حجرتك على السلم مباشرة لتخرج وتدخل وقتما تشاء. - وهو كذلك أمركم. - اذهب إذن وأحضر ملابسك. - في لمح البصر يا سعادة البك، في لمح البصر. - ألم أقل لك أن الحياة أصبحت تطالعه بوجه لم يكن يتصور أنه سيراه من هذه الحياة؟

الفصل الخامس عشر

حين اندلع حريق القاهرة لم يأت على القاهرة وحدها، وإنما أتى على أموال حفني وعبد الفتاح مصطفى في لفحة واحدة؛ فالبورصة لم تكن تتوقع هذا الحريق فإذا هي تجابه به وكأنه حيوان شرس جائع وجد طعامه، والمال أكثر شيء جبنا، فما الخطب إذا واجه الرعب نفسه والحريق والدمار الآخذ لا يبقي على شيء؟!

ونزل الحدث على عبد الفتاح مصطفى بالهول الوبيل؛ فهو إنسان طبيعي ضاعت ثروته كلها التي شقي في جمعها طول عمره. فأي عجيبة أن يصاب بالهون، بل أي عجيبة أن يصاب بالفالج؟ أما حفني فالأمر معه مختلف كل الاختلاف، لقد استقبل الأنباء وكأنه يسمع أمرا ليس يعنيه في شيء، فقد المال الذي كسبه في البورصة، وفقد الأرض التي تركها له أبوه وأنقذها له أخوه وكأنما كان ينقذها لتعتسفها البورصة، وأصبح مصيره ومصير زوجته وابنه فواز الجوع والمسغبة وهوان الفقر وذلة الأخذ، وهو الذي تعود الشبع وعزة الغنى وكبرياء العطاء. ولكن لو أنه كان اهتز أقل هزة لأصبح إنسانا آخر غير حفني الذي نعرفه.

ولما استحق منا أن نتيح له هذه المساحة العريضة مما تقدمه لك هذه الرواية.

وقف حفني للعاصفة مثل الجبل، وانتظر حتى انحسر عزيف الرياح عنها مخلفا وراءه الخراب وعبد الفتاح صدقي وقد أصبح جزءا من شيء لا حياة فيه ولا رجاء منه.

وكان حلمي على علم بالأمر، وكان يعرف من أخيه في كل لحظة على أنباء الخراب الذي يحل به. واعتصرت الرجل الوطني أيد عنيفة من الأسى، فهو حزين أشد الحزن على عاصمة وطنه التي يمثل خرابها خراب مصر جميعا، وحزين من أجل أخيه الذي أتت الكارثة على أمواله جميعا.

كان حلمي قد ترك الوزارة، وهكذا أعفته الظروف أن يكون فريسة لموقف المسئول أمام مسئوليته.

كان من الطبيعي أن يطلب حفني ليوافيه بمنزله: أنا أنقذت أرضك مرة وأظنني قادرا على إنقاذها مرة أخرى. - يا أخي ربنا يطيل عمرك، أظنك في هذه المرة لا تستطيع. - كيف؟ - الدين الذي تحمله الأرض أكثر من ثمنها عشرات المرات. - وماذا تنوي أن تفعل؟ - هل رأيتني عمرك أشكو قلة المال؟ - كان لا يمكن أن تشكو قلة المال وأنت على ما كنت عليه من غنى. أما الآن فالأمر يختلف. - توكل على الله. - كم عندك الآن؟ - ما يكفيني. - لا يمكن. فلوسك كلها كانت في البنك. - ما يكفيني يا سي حلمي. - طيب، خذ هذه خمسمائة جنيه ودبر بها حالك، أو أبقها معك إذا كان معك ما يكفيك حقا. - لن أرفضها؛ فهذه يد أحب دائما أن آخذ منها، أطال الله عمرك.

حين عاد حفني إلى بيته أصبح يعرف طريقه تمام المعرفة؛ فهو حين تزوج كان قد انتقل إلى شقة فاخرة ضخمة عريضة الاستقبال تستطيع أن تتسع لمائتين في ليلة واحدة، وقد أثثها له حموه بأحسن الأثاث. وهكذا بدأ حفني يعطي أوامره. وقد اتخذ موقف المسئولية عن بيته وبيت حميه، وما كان الأمر يحتاج إلى هذا، فقد كان عبد الفتاح مصطفى شأن كل المقامرين قد كتب عمارة لكل فتاة، كما كتب عمارة لزوجته، فهم يستطيعون أن يعيشوا في ستر وإن لم يكن في رخاء، ولكن حفني لم يكن يملك شيئا وهو حريص أن ينال المتعة التي رصد حياته لها، فكيف إذن سيبرر تصرفاته المقبلة إذا لم يتظاهر أنه يصنع في سبيل فواز وأمه، بل ويزداد جرأة على الحق فيدعي أنه ينظر أيضا إلى مصلحة حماته ومصلحة آمال.

وحاولت سناء أن تذكره أن دخل والدته وأختها من العمارتين سيكفيهما، بل إن دخلها هي من العمارة سيكون قادرا على مواجهة الحياة، ولكنه قال في حسم: لقد تعودتم جميعا على العيش في سعة، وهيهات أن تستطيعوا العيش في قلة. - وماذا تريد أن تفعل؟ - نذهب لنعيش مع أبيك في بيته. - هل البيت باق له ؟ - إنه قد كتبه باسمك واسم آمال في العام الماضي. - وبعد ذلك؟ - لا شيء. أولا تكون عيشتنا واحدة، وتجد والدتك وأختك رجلا معهما تعتمدان عليه. - هل وافقتا؟ - إن أمك هي التي طلبت هذا.

قالها الرجل في بساطة وهدوء، ولو كنت شاهدا الحوار بينه وبين كريمة ... وما لي لا أتيح لك أن تسمعه.

قالت كريمة: أهكذا ينتهي عبد الفتاح صدقي يا حفني؟ - عبد الفتاح صدقي لا ينتهي أبدا يا كريمة هانم. - ألا ترى إليه؟ - شدة وتزول، إنما أنا أرى أن تنتقلي به إلى بيتنا، الأمر قد يحتاج لوجودي معه، ربما احتاج إلى طبيب في الليل أكون إلى جانبكم. - ربنا يا بني يطيل لنا عمرك. وهل أصبح لنا غيرك! لا والنبي لم يصبح لنا غيرك. - فما رأيك؟ - وكيف يمكن نقله يا بني؟ وأنا كيف أذهب معه؟ - بيتي كبير وأنت تعرفين. - لكن اسمع، أليس بيتنا أكبر؟ لماذا لا تأتي أنت وسناء وفواز وتعيشون معنا؟ أولا أجد أنا رجلا أطمئن به ونوحد المعيشة. - أترين هذا؟ - أليس هذا هو المعقول؟ - أمرك.

وانتهى الحوار.

ولكن حفني الجبار يقول لسناء إن كريمة هانم هي التي طلبت. وهذا في ظاهره حق، ولكنها طلبت لأنه جعلها هي تطلب. هكذا حفني، أتذكر حين قلت لك إنك لن تستطيع أن تلم بجوانبه؟ وقالت سناء: ولكن ماذا سنفعل ببيتنا هذا؟ - يا ستي لا تفكري فيه الآن.

طبعا يجب ألا تفكر فيه الآن أو بعد الآن، فما كانت النقلة إلا لما يفكر هو فيه بشأن هذا البيت. •••

بدأت الحفلات في بيت حفني الوسيمي تضارب حفلات رشدي المهدي، وبدأ حفني نفسه يقضي على رشدي المهدي في صنعته التي عاش عمره كله بها ولها.

وعاد المال ينهمر على حفني وإن كان انهماره من أنهار أخرى، ولكن الرجل لم يكن يعنى أقل عناية بمصادر المال الذي يصل إليه.

وكان شوقي سلام يأتي إلى حفلات حفني بانتظام لا يخطئ، وكان يأتي معه في كل مرة بأربعة نفر تعرف بهم حفني وأدرك بذكائه الخارق أنهم يدبرون شيئا، ولكنه أيضا أدرك بذكائه الخارق أنهم لا يريدونه أنه يعلم عنه شيئا، فصمت وقد فطن أنه لو أظهرهم على ما يحسه فربما امتنعوا عن المجيء.

وفي صباح يوم دق جرس التليفون في بيت عبد الفتاح صدقي الذي أصبح بيت حفني الوسيمي. - أنا شوقي. - أهلا شوقي. - أين ستذهب في الصباح؟ - لا مكان. - إذن فاذهب إلى جروبي. - ولماذا لا تأتي أنت إلى هنا؟ - اسمع ما أقوله ولا تناقش، الساعة الحادية عشرة في جروبي عدلي.

سلام عليكم. - وعليكم السلام. ••• - تذهب إلى أخيك فورا وتطلب منه أن يبيع ما يستطيع من أرض. - ماذا تقول؟ - ما تسمع. - وما الذي يجعله يصدقني؟ - أخوك سياسي وهو يرى الحالة بعين الغيب، وسيعرف أن الكلام ليس تخريفا. - كل أرضه؟ - إن استطاع. - وإن لم يستطع؟ - لا يبقي منها غير خمسمائة فدان، خمسمائة على الأكثر. •••

وقال حلمي باشا: خمسمائة فدان؟ - على الأكثر. - أترى هذا معقولا؟ - اسمح ووكلني واترك الأمر لي. - إنني أملك أكثر من ألف وخمسمائة فدان. - هذا شأني. - تعال غدا خذ التوكيل. •••

ذهب حفني إلى العزبة وصحب معه عدلي. وراحا يبيعان الأرض متظاهرين أن حلمي باشا يريد أن ينقذ أخاه، واستطاعا فعلا أن يبيعا كل ما يزيد عن الخمسمائة فدان، وأحضرا الأموال وسلماها إلى حلمي باشا الذي وضعها في خزانة بيته وانتظر الأحداث.

ولم يطل به الانتظار.

وحين صدر قانون الإصلاح الزراعي الأول كانت الأرض التي يملكها حلمي لا تزيد عما فرضه القانون إلا مائتي فدان استطاع أن يبيعها بسهولة، مطبقا نفس القانون الذي كان يسمح لمن تزيد أرضه عن النصاب أن يبيعها.

الفصل السادس عشر

حين قامت الثورة كان حفني صديقا للأغلبية الكاثرة منها. وقد جاءه شوقي الذي يتصدر منها مكانا مرموقا في ليلة من ليالي بيته التي ازدادت ازدهارا مع الأحداث الجديدة، وقال شوقي: قل لي يا حفني، هل أساء أخوك حلمي إلى الصحفي حسن هنداوي؟ - أساء! إنه هو الذي جعله يذهب مندوبا عن المجلة في حرب فلسطين وهو الذي ... النهاية لا أحب أن أذكر ما صنعه معه ولا ما كان يعطيه له من ... المهم ... - هل أنت جاد؟ - الأمر معروف. اسأل أي صحفي يخبرك ... لماذا؟ - طيب وحامد العراقي هل أساء له أخوك؟ - كل الإساءة. - كيف؟ - هو الذي رجا فايز حتى يكون مندوب المجلة في باريس. - عجيبة! - ماذا حصل؟ - أنت لا تتصور كيف كان كل منهما يصر اليوم على أن يلقى أخوك في السجن مع المعتقلين السياسيين. - هل هذا معقول؟ ماذا قالا؟ - قالا إن الوجوه القديمة لا بد أن تتغير، وأن الناس لا بد أن تعرف أن حياة جديدة في الطريق. ولا بد لهؤلاء السياسيين أن يختفوا من الحياة، وقلت لهم حتى الشرفاء، فقال حسن وخاصة الشرفاء؛ لأن هؤلاء هم الذين يخشى منهم على الوضع الجديد، وأيد حامد كلامه في صياغة أيدولوجية وألفاظ رنانة. - يا نهار أسود وبعد؟ - ولا بعد ولا قبل. أصررت أنا وأصدقاؤك الذين تعرفهم فاستثني أخوك من الاعتقال. •••

وهكذا اجتاز حلمي باشا كل ما وقع على زملائه من ضير، وأحس السياسي المحنك أن الحياة في مصر تغيرت، ورأى أن خير ما يفعله أن يبتعد.

ينظر إلى الجهلاء والمنتفعين فيجدهم أصحاب رأي يقال وينشر وينفذ، وهو الذي كانت مصر عنده عقيدة كأنها دين يحرم من أن يقول رأيه، هذا الحق البسيط الذي ينبغي أن يتمتع به كل فرد من أفراد الشعب الحر، ولكن أين الحرية في بلد أصبح أخوه حفني هو الذي يحميه فيها، ولم يكن يعرف عن حفني إلا أنه إنسان فشل في كل ما عهد إليه من الحياة، ولم يرق إليه النجاح الساحق الذي يحققه حفني في كل ليلة في البيت الذي شهد زواجه وشهد مولد ابنه فواز الذي أسماه على اسم جده، وكأنه إنسان يعرف كيف ينتمي إلى أسرة عريقة.

ولكن أصدقاء حلمي كثيرون. وما لم يرق إليه في شهر بلغه نبؤه بعد أشهر، وكأنما هذا الذي بلغه ستار الختام لحياته؛ فقد طلب أخاه في التليفون وأمره أن يحضر إليه فورا. وكان أمر حلمي عند حفني معناه النفاذ. فما أسرع ما قصد إليه وجلس منه تلك الجلسة التي تعودها معه ولم يستطع أن يغيرها وكأنه ما زال ذلك التلميذ الذي لم يستطع أن ينال الشهادة الابتدائية.

كان حلمي قد استطاع أن يقف صلبا شامخا أمام كل ما مر به وبمصر. ولكنه في هذه المرة لم يستطع أن يبقى على هدوئه. كانت عيناه تلتمعان بدموع يمنعها الكبر أن تسيل، فانفجرت نبضا على شفتيه ورعشة في يديه لم يتح له أن يتحكم فيها، وتخلج لسانه في فمه. - أحقا يا حفني ... أحقا ... - ماذا يا سي حلمي؟ - أحقا ... أحقا ...

وآثرت روحه أن تخرج إلى بارئها قبل أن تخرج الكلمة التي تجمدت على لسانه إلى حفني.

ومات حلمي ... ومات عهد.

الفصل السابع عشر

انفرد عدلي بين كل لذاته من أبناء الأثرياء بأن المال كان موفورا لديه، فلم يشك الفقر ولا القلة، وكان له في عمه حماية أي حماية، ولكنه كان غير مرتاح قط، كان يقول لي: الله وحده يعلم كيف استطاع عمي حفني أن يحصل على هذه الأسرار التي حفظ بها ثروتنا.

وكنت أحس أنه كان يريد أن يتعرف مني على مدى انتشار الحقيقة التي يتناقلها الناس عن عمه. كنت واثقا أنه يعرف ولا يريد أن يعرف، وكنت أشفق عليه أن أظهره على ما يقوله الناس، وكنت أختار لنفسي طريقا ملتويا. - يا أخي وأي عجيبة أن يحمي أخ أموال أخيه؟ - لست من هذا أعجب، وإنما أريد أن أعرف كيف وصل إلى هذه الأسرار. - من أصدقائه. - ما نوع هذه الصداقة وماذا وراءه وما مداها؟ - وفيم يعنيك هذا؟ لقد أنقذه أبوك مرة من الخراب، وأنقذ هو أباك مرة في مقابلها. - أما أبي فأنقذه بماله، أما هو فماذا قدم لينقذ أبي؟

ولم يكن شيء يجعل عدلي يسكت عن هذا التساؤل كلما خلا به وبي مكان. •••

لم يكن عدلي يستطيع أن يعيش دون أن يعمل، فقد التحق بالوظيفة منذ تخرجه، ولم يكن يجد في التحاقه بالوظيفة أمرا يستحق منه إنعام نظر أو إمعان فكر، فهو حاصل على شهادة التجارة العليا، وعين في الدرجة التي يعين بها كل زملائه، وكان تعيينه في البورصة لأن عمه كان يعمل بها وصداقاته فيها مشهرة معلنة لا تحتاج إلى البحث عما وراءها، إن كان شيء وراءها.

ومرت على وفاة أبيه سنة وبعض السنة وهو مقيم في بيته مع والدته التي بدأت تلح عليه أن يتزوج شأن كل أم لها ابن وحيد، وتريد أن تطمئن أن حياة أبيه التي اعتسفت ممتدة في حفيد يوحي إليها ببعض طمأنينة أن حلمي الوسيمي لم يمت.

وكان عدلي يرى أن زواجه أمر طبيعي، فهو ليس من رواد الليل، ولا هو عربيد ولا صاحب لهو، فسنة الحياة سنته، والطريق الذي رسمه المجتمع هو طريقه لا يريد أن يخرج عنه ولا أن يغير الكون أو يحطم ما جرى عليه عرف الحياة.

وقد وجد في ابنة خاله أحمد نشيدته، فهي فتاة متعلمة حصلت على شهادة الآداب وذات جمال ناضر نقي وقلب يافع طازج، مقبلة على الحياة إقبالة طهورا رصينة، وهو منها ومن أسرتها في أمان أي أمان. أمها كانت منه بمنزلة الأم وأبوها أبوه. وهما أسرتان لا تجمعهما صلة الرحم وحدها وإنما يجمعهما أيضا قانون مجتمع واحد وخلق متشابه، فهما وإن كانا يعيشان في بيتين إلا أنهما في تكوين أخلاقهم وتفكيرهم بيت واحد. حتى لقد كان كل بيت منهما يطلق على البيت الآخر كلمة البيت الثاني، فلا يقال بيت الباشا ولا يقال بيت أحمد بك في أي من المنزلين، وإنما يقال البيت الثاني - فهما إذن بيت واحد. فزواج عدلي من حورية أمر يكاد يكون مقررا بالأمر الواقع حتى إنه لو لم يحدث لكان شذوذا عن الطبيعة الكونية لا معنى له ولا داعي إليه. وكان من الطبيعي أيضا أن تقيم حورية مع عمتها في نفس البيت. •••

حين أغلقت البورصة أبوابها كان عدلي قد أنجب ولده الأول منذ سنوات، وكان من الطبيعي أن يسميه حلمي. ولم يطق عدلي أن يعمل في الوظيفة التي نقل إليها؛ فقد كان لا يصنع شيئا إلا أن يقبض المرتب في آخر كل شهر، وهذا أمر يأباه ضميره، كما أن طبيعة عدلي ترفض أن يكون بلا عمل حقيقي، وليس يرضى أن يتوارى أمام الناس وراء وظيفة بلا عمل.

كان قد تعرف وهو في البورصة على أكبر المحاسبين شأنا، وقد اختار منهم مكتب الدكتور فكري الدهشان، فقد كان يأنس إليه، وكان يحس منه أمانة منقطعة النظير، كما أنه كان يعجب بعلمه النظري والعملي جميعا.

وقد كان الدكتور فكري من الذين يعجبون بوالده كل الإعجاب، ولم يكن يخفي إعجابه هذا كلما دعا الحديث أن يبديه، قصد إليه. - يا دكتور أريد أن أعمل معك. - وتترك الحكومة؟ - أنت بالذات تعرف معنى أن يتناول الإنسان مرتبا دون أن يعمل في مقابله شيئا، وأنت بالذات تدرك معنى أن يكون الإنسان في ريعان شبابه وفي استقبال القادم من الأيام دون أن يعد نفسه لذلك بالعمل والجهد. - ولكن يا عدلي يا بني عمل المحاسبين في مصر أصبح محدودا كما تعرف. - وهل طلبت منك مرتبا؟ - إذا كنت أنت لا تقبل أن تنال أجرا بلا عمل، فإنني أنا أيضا لا أقبل أن يعمل محاسب في مكتبي بلا أجر. - أنت تعلم أنني والحمد لله موفور. - لا يعنيني هذا في شيء. أنت ستعمل معي فلا بد أن تنال مرتبا. - إذن فأنت ترفض أن أعمل معك. - وهل تتصور هذا؟ - هذا ما فهمته من كلامك. - إن ما قلته واقع لا شأن له بعملك معي، فإن مجرد إبداء رغبتك في العمل معي يعتبر كأنك عملت فعلا، فأنت تعرف رأيي فيك وفي المرحوم والدك. - إذن؟ - اسمع، أنا لن أجد خيرا منك ليتولى أعمال مكتبي في مصر. - ماذا؟ - هذا هو الجديد، لقد فتحت مكتبا في الكويت، وأعتقد أنه سيشغلني بعض الوقت عن المكتب هنا. والعمل الحسابي في مصر كما قلت لك أصبح نادرا، أو أقل من النادر وخاصة في المكاتب الكبيرة مثل مكتبي، وكنت فكرت أن أقفل المكتب هنا، ولكني سرعان ما طردت الفكرة، فقد أحسست أنها أشبه ما تكون بالانتحار، فالدنيا يا عدلي ليست فلوسا فقط، وها أنت تبحث عن عمل مع إنك تستطيع أن تعيش على دخلك، وهذا المكتب يمثل عندي كفاح عمري كله، فأنا إذن سأتركه في رعايتك وأسافر أنا لإنشاء مكتب الكويت، وسنكون على اتصال دائم إما بأن تأتي أنت إلى الكويت أو بأن أجيء أنا إلى القاهرة. ما رأيك؟ - سأقدم استقالتي غدا إن شاء الله من الحكومة، وإن كنت مندهشا مما سمعت. - ومم الدهشة؟ - أنت بلا ولد، وقد كونت اسما عظيما، ولا شك أنك كونت ثروة، ففيم إذن سفرك إلى الكويت وهذا الجهد؟ - عجيب شأن الناس! لماذا يظن الناس أن ما يصدق عليهم لا يصدق على غيرهم؟! يا رجل ألم تأت إلي هربا من الفراغ؟ - أنا آسف لك حق.

الفصل الثامن عشر

كانت الحياة الجديدة هي أصلح حياة لحسن هنداوي. وكأنما تم كل هذا الذي تم ليصبح حسن هنداوي في الذؤابة العليا من القمة، والحقيقة أنه كان يعرف طريقه كل المعرفة، فإذا هو حوت شرس، يحرص كل الحرص أن يمزق بأسنانه الحادة المتراكبة كل من كان ذا فضل عليه في ماضيه. استطاع أن يزج بفايز إلى السجن أو أوحى إلى مستمعيه أن عدلي لا حديث له إلا الهجوم والتنقص، واعتقل عدلي ولكنه لم يبت ليلته في المعتقل، فقد أدركه عمه مرة أخرى وخرج بعد عشر ساعات من اعتقاله، فصداقات حفني لم تكن مقصورة على فئة بعينها إنما هي تنداح وتتسع فتشمل كل ذي سلطان في أي وقت. وكأنما كانت شقة حفني مظهرا لا يكتمل سلطان ذي السلطان إلا به، فلم يكن عجيبا أن يكون محاطا بسياج من الأمان يستطيع أن يصد عنه وعن كل من يهتم به أي عادية.

ولكن العجيب أو ربما لم يكن عجيبا، أن حسن لم يحاول يوما أن يمد أباه بشيء يعينه على الحياة مع أن المال كان يجري بين يديه سيلا لم يطف يوما بأحلامه، وبعد أن كان يعيش مع الأميرالاي في بيته ابتنى هو لنفسه فيلا خاصة، وطبعا أقامت فيها زوجته وحدها دون أهلها ودون ابنها، وإنما أقامت معهما ابنته التي أسماها جميلة.

أما حامد فقد فشا هو الآخر واعتلى مكانا سامقا، ربما لا يطاول مكانة حسن إلا أنه ليس بعيدا عنه كل البعد. وقد كان حامد بحاسته وبقدرته الفائقة على النفاق حريصا أن يجعل حسن راضيا عنه دائما كل الرضا. •••

كان عدلي جالسا في سميراميس في انتظار صديقه الصحفي فخري عبد النبي الذي كان يعمل تحت رئاسة حسن. وجاء فخري وهو ملتاع خائف لا يطيق أن يخفي من لوعته أو خوفه شيئا، ولم ينتظر عدلي أن يسأله، بل عاجله. - مصيبة سوداء. - ماذا! قل. - قرأت اليوم نعيا لعم حسن هنداوي. - نعم قرأته. - أنت أيضا؟ - وما العجيب في هذا؟ - يبدو أن أحدا لم يقرأه إلا أنا وأنت. - كيف؟ - كان من الطبيعي أن أذهب إلى العزاء، كلمت زملائي فإذا هم جميعا يرفضون الذهاب، منهم من يدعي المرض، ومنهم من يدعي الشجاعة والعزوف عن النفاق. فقلت أذهب وحدي والأمر الله. البلدة ليست بعيدة عن القاهرة، استأجرت سيارة أجرة وذهبت، ويا ليتني ما ذهبت!

وقال عدلي وطيف ابتسامة يتماوج على فمه: فعلا يا ليتك ما ذهبت. - أنت أيضا تعرف؟ - لو كنت سألتني لأخبرتك. - أأطلب منك أن تعزيه وأنا أعرف أنه حاول أن يعتقلك؟ - كنت سأرفض الذهاب، ولكن ليس من أجل هذا السبب. - فلماذا؟ - أكمل حكايتك. - ذهبت فوجدت العزاء بلا سرادق ولا حتى كراسي، وإنما جلسنا على الأرض وتحتنا شريط من الحصير، وكان أبو حسن يستقبل العزاء وعليه معطف حائل اللون يملأ الرتق جوانبه جميعا. - هذا هو السبب الذي رفض زملاؤك الذهاب من أجله. - أكلهم يعرفون؟ أليس هناك خائب غيري؟ - وفيم خوفك؟ - أن يعرف أنني عزيته.

وضحك عدلي وقهقه ثم انخرط في البكاء في حزن شديد، وأخذ فخري وكأنما خشي أن يكون صاحبه قد أصابه مس من الجنون. - الله! عدلي، عدلي ماذا بك؟

وتماسك عدلي وصمت وناوله صديقه كوب ماء وشرب ثم تكلم وكأنما ينعى نفسه. - أهذه هي مصر؟ يخاف فيه الشخص أن يعرف رئيسه أنه عزاه وعرف أنه سافل مع أبيه وضيع ساقط المروءة. كان من الطبيعي أن يخاف الشخص إذا لم يقم بواجب العزاء، أما أن تخاف - وأنت محق - لأنك قمت بالواجب فواضيعة مصر! ولا يخاف الشخص الذي لم يقم بواجبه أو ببعض واجبه نحو أبيه أصل وجوده وصاحب اسمه، وتكون أنت يا من قمت بواجبك مرءوسا ويكون الآخر رئيسا! فلأي شيء صنع البكاء إذا لم يكن صنع لهذا الذي ترويه، وهو أهون ما نراه؟

كيف أعيش في مصر؟ لقد جربت أن أنافق وفشلت، لا شجاعة مني، ولكن طبيعة تكويني ترفض أن تتيح لي هذه الميزة التي تتمتع بها الكثرة ممن أعرفهم.

ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي قمت فيه بمراجعة دفاتر رجل الأعمال الشهير مرجان علوان الذي نجا من التأميم لسبب لا يعرفه أحد. ربما كان له الآخر عم كعمي. المهم راجعت دفاتره فوجدت أنه لص من أكبر اللصوص الذين نسمع عنهم، ووقفت أمام دفاتره حائرا - مكتب الدكتور فكري ليس فيه مثل هذا، وإن كان فيه ما عملت معه، أو لما قبل هو أن أعمل معه، ولكنني أيضا لا أستطيع أن أرفض الزبون برأيي المفرد، فهذا قرار يجب أن يتخذه صاحب المكتب نفسه الموجود الآن بالكويت.

كان علي أن ألقى مرجان، وجاء الرجل في الموعد المحدد. - أنت يا عدلي بك رجل سمعتك مثل الجنيه الذهب. - ألف شكر. - وليس هذا غريبا على من له أصلك، واسم أبيك نار على علم. - ألف شكر يا مرجان بك. - وأنا والحمد لله رجل لا أقبل مليما حراما. وأنت اطلعت على دفاتري، ومثلك لا تخفى عليه خافيه ولو كان فيها، لا قدر الله، شيء لا ترضى عنه ...

ومضى الرجل يتحدث عن الشرف الذي يتمتع به وعفة اليد، وكيف أنه لا يأكل على الحكومة مليما واحدا، وثبت أنه يملك مع ذمة اللص جرأته على الحق. وعزمت في نفسي أن أؤيد كل كلمة يقولها عن نفسه، وبدأت أرتب الحديث. استغفر الله يا مرجان بك، أنت رجل فوق كل الشبهات ولا يجرؤ أحد أن يشك في ذمتك ... إلى آخر هذا الحديث الذي تواضع المنافقون على قوله لكل اللصوص، فأنا أعرفه ولست أغباه. كان المهم فقط أن أقوله؛ فأنا لم أقله قط لمن لا يستحقه. ظللت أتمرن على الكلام طوال الفترة التي يتكلم فيها مرجان عن ضميره اليقظ ويده الشريفة وذمته النقية. ولم يكن حديثه قصيرا، فالفترة التي أتيحت لي للتمرين لم تكن قصيرة حتى إذا سكت مرجان وجدتني أقول في عفوية وانطلاق دون أي ريث من تفكير: الحقيقة يا مرجان بك إنك أكبر لص التقيت به في حياتي.

وسكت الرجل لحظة ثم انفجر ضاحكا بأعلى صوت له، ووجدتني أقول: ولكنني لا أمزح يا مرجان بك.

وازداد ضحك الرجل، حتى إذا هدأ به الضحك قال: العجيبة أن هذه هي الحقيقة، ولكنني أسمعها لأول مرة، وقد كنت أفكر ماذا أنا صانع إذا جابهني بها أحد.

ولم أجد شيئا أقوله، وكان الرجل غاية في الذكاء، فقد سرعان ما استرد وجهه ملامح الجد. - إن الحكومة التي تسرق الأفراد لا بد أن يسرقها الأفراد. - الحكومة شخصية معنوية تمثل الشعب أجمع، وأموالها أموال عامة لا يجوز لأحد أن يسرقها، والذين تتكلم عنهم يمثلون أنفسهم ولا يمثلون مصر. وعلينا نحن أن نؤدي واجبنا نحو بلدنا حتى لو كان هناك من لا يؤدي هذا الواجب. - إذن فأنت ترفض الدفاتر. - أنا شخصيا لن أكون مسئولا عنها، أما رفضها أو قبولها فمن حق صاحب المكتب الدكتور فكري وحده. - أنا أعرف مكانتك عنده، وما دمت أنت رفضتها فهو أيضا سيرفضها، فدعني آخذها ويا دار ما دخلك شر. - هذا إليك. - أتصدقني إن قلت لك شيئا؟ - هذا يتوقف على ما ستقوله. - أنا معجب بك غاية الإعجاب. - ألف شكر. - ولكني لا أتمنى أن تعمل معي ولا أن تعمل لي. - الآن صدقتك.

ولم أعجب من الدكتور فكري حين رد على رسالتي التي قصصت له فيها ما كان من أمر مرجان، ووجدته سعيدا بموقفي كل السعادة، ولكن الدكتور فكري في الكويت. فكيف أعيش أنا في مصر. ومع من أستطيع أن أعمل؟ بل مع من أتكلم؟ كلام الناس في مصر همس، بل لقد انقطع الهمس خشية أن تشي النفس بالنفس. مع من أعيش؟ مع زوجتي، وابني وأمي، ولكن الحياة لا تستقيم إلا مع الحياة. إذا لم أر إلى الناس وأجلس إليهم وأعيش حياتي كما ينبغي لإنسان في مجتمع أن يعيش فما الحياة، هذه مصري أنا وهي مصر كل إنسان فيها، فكيف تنحسر ملكيتها وتصبح مقصورة على عمي حفني ومن يذهب إلى شقته في خوافي الظلام الذي لا يخفي شيئا؟

كيف أعيش في مصر؟ وإذا أنا استطعت فما مصير حلمي؟ إنه الآن في العاشرة من عمره وستلقفه في غد هذه الحياة، فأي الطريقين سيسير فيه؟ وأي النجدين سيهتدي إليه؟ أهو سائر في طريقي وطريق جده أم هو آخذ سمته إلى طريق عمي؟ إن الدماء التي في عروق حفني هي الدماء التي في عروقي، وهي نفسها التي في عروق ابني حلمي، ففي نفسه فجورها وتقواها.

إن البيت الذي نشأ أبي ونشأني هو البيت الذي نشأ حفني وهو نفسه الذي سينشأ في أجوائه وتعاليمه حلمي الحفيد فما مصيره؟

وإذا كان عمي حفني قد اختار طريقه والحياة في مصر فيها الجانبان، فما مصير حلمي وهو لن يجد إلا جانبا واحدا، هو جانب عمي حفني ورواد لياليه؟ •••

جاءني عدلي وعرض علي حيرته تلك ووجد عندي الصمت المطبق؛ فقوله كله حق. والله وحده يعلم مصائر الناس، ولا أستطيع أنا ولا أعتقد أن غيري يستطيع أن يطمئنه. ولم أجد شيئا أجيب به حيرته إلا أن أسأله: ماذا تتوقع؟ - في أي شأن؟ - في شأن مصر.

وصمت قليلا وقال: لم يبق إلا الكارثة.

وذهلت وأكمل: لكل أمر مستقر، ولكل فورة نهاية. وما دامت الأمور قد بلغت هذا المدى فلا بد أن تنكشف عن قمة الهاوية إذا جاز هذا التعبير. - أهذا ما تتوقعه؟ - لا بد للسائر أن يقف، ولا بد للصاعد أن يبلغ القمة أو يهوي، ونحن صاعدون قدما على جبل من أوهام وفساد، وليس للفساد قمة إلا الهاوية.

وما لبثت أن جاءت 67 تحمل في طواياها كل ما تنبأ به عدلي. وكان ابنه حلمي قد تخطى الحلقة الأولى من حياته. ولكن عدلي لقيني والدموع في عينيه وهو يقول: إنها ليست على مصر الحاضر وحدها، وإنما على مصر الغد أيضا. - أعوذ بالله. - لو رأيت حلمي ابني وكيف أصيب في سنه هذه الباكرة بانهيار عصبي! - كل الشباب كذلك. - الشباب نعم لأنهم شهدوا غير ما كانوا يسمعون، ورأوا عكس كل ما كانوا يتوقعون. أما حلمي فهو لم يصبح شابا بعد، فما مصير جيله إذا أشرقت حياتهم على الحروب وافتتحوا مستقبلهم بالخراب. •••

لست أدري أي الأسباب كان هو الأقوى عند عدلي حين قرر أن يسافر إلى الكويت.

فقد حدث أن أصيب الدكتور فكري بأزمة قلبية في الكويت، وحين شفي منها قرر أن يعود إلى مصر وعرض على عدلي أن يقوم هو بأعمال مكتب الكويت. - يا بني يا عدلي أنا ليس لي أولاد، ومكتب الكويت يدر مكاسب طائلة وحرام أن أقفله دون أن تستفيد منه، فلماذا لا تذهب تقوم بشأنه ويكون لك نصف الأرباح والنصف لي طول حياتي حتى إذا اختارني الله إلى جواره تكون أنت قد تعرفت على الناس هناك، وبارك الله لك في المكتب جميعه. وفي مكتب مصر أيضا.

وقبل عدلي. هل قبل من أجل المال؟ لقد كان عنده ما يكيفه. أكان يريد أن يهرب من مصر، أم يريد أن يهرب من نفسه في مصر؟ ولكنه سيلقى مصر ونفسه في الكويت أو في أي مكان. ولو كان استشارني ما نصحت له بالذهاب، ولكن الإنسان لا يستشير إلا إذا كان مترددا، فهو إذن لم يتردد وغادر مصر إلى الكويت وتركني أنا أقول لعله كان يريد أن يعمل أي شيء غير السكون والصمت والجمود. فليس هناك سبب واحد يجعله يترك مصر وزوجته وابنه وأمه إلا أنه كان يريد أن يصنع أي شيء، أي شيء حتى ولو كان هذا الشيء ترك نفسه إلى ما لا يدري. لعله كان يريد أن يبحث عن نفس أخرى لا تضيق عليه الخناق ولا تلهبه بعذاب القلق.

ربما هرب من الترجح بين الأمل واليأس إلى إحدى الراحتين. مسكين عدلي فما كان يعرف إلى الهدوء سبيلا. ولو كان على غير ما هو عليه لكان الهدوء ملك يمينه ورهن إشارته.

الفصل التاسع عشر

سمعنا عن قصة ذلك المهندس الذي استدعاه صاحب أحد المصانع ليرى رأيه في آلة توقفت عن العمل وكانت الآلة تساوي ملايين الجنيهات، وكان المصنع قد أخذ قراره بالاستغناء عنها وشراء غيرها إلا أن القائمين بأمر المصنع أرادوا أن يكونوا على ثقة من قرارهم فاستقدموا هذا المهندس ليعطي رأيه وليصدر قرار المصنع النهائي. ورأى المهندس الآلة وقال في بساطة: أستطيع إصلاحها، ويمكن أن تعمل بعد ذلك عدة سنوات أخرى.

ووافق صاحب المصنع ولكن المهندس طلب أجر إصلاحه للآلة خمسين ألف جنيه، ولم يجد صاحب المصنع بدا من الموافقة.

ولبس المهندس حلة العمل وأمسك بعض المفاتيح وواجه الآلة وربط مسمارا هنا وآخر هناك، واستغرق عمله ساعة أو بعض الساعة وضغط على زر الآلة فعملت وعادت وكأنها قادمة لتوها من مصنعها. وخلع حلته وذهب إلى صاحب الآلة وطلب أجره. ولكن صاحب المصنع بعد أن دارت الآلة ذات الجنيهات الملايين استكثر أن يدفع خمسين ألف جنيه من أجل ساعه عمل واحدة وقال للمهندس: أتريد خمسين ألف جنيه من أجل عمل ساعة واحدة.

ولكن المهندس قال له في ثقة: لا يا سيدى إنني أتقاضى خمسين ألف جنيه من أجل عمل خمسين سنة، فالخبرة التي قدمتها لك في ساعة واحدة اكتسبتها أنا في خمسين سنة.

وأمام هذا المنطق الحاسم لم يجد صاحب المصنع مناصا أن يدفع الأجر الذي اتفق عليه.

ولكن بعض الدول العربية ما زالت تفكر بتفكير صاحب المصنع، وقليلة هي الدول التي تفكر بتفكير المهندس؛ فالخبرة التي تقدمها مصر إلى الدول العربية هي خبرة آلاف السنين تلقوها من أجدادهم الذين بنوا الأهرام مارين بكل ما مرت به مصر من تجارب، فالصانع المصري لا مثيل له في العالم، والعلماء المصريون يقفون مع علماء العالم على قمة واحدة، والمثقف المصري هو منارة العالم العربي أجمع .

فما لي أرى الناس في الكويت تعاملنا نحن المصريين المقيمين فيها هذه المعاملة وقد شهدتهم يستقبلون الأدباء المصريين والعلماء والفنانين أعظم استقبال ويحتفون بهم كل الاحتفاء ويجلونهم غاية الإجلال.

ولكن المقيم عندهم لا يلقى من هذا شيئا. وأعرف أن الشعب الكويتي مثله مثل الشعوب العربية جميعا يحب مصر والمصريين غاية الحب، ولم لا وقد تعلموا على مدرسيهم وحفظوا شعرهم وغنوا غناءهم! فما بالهم إذن إذا أقام معهم المصريون تكبروا وشمخوا عليهم بأنوف عربية من شأنها أن تعرف الكبرياء ولا يجوز لها أن تعرف التكبر. يذكروننا ببيت الشعر القديم:

وكان بنو عمي يقولون مرحبا

فلما رأوني معدما مات مرحب

وعلم الله ما أصبحت مصر معدمة إلا بظروف قاهرة فرضت عليها فرضا ولم نخترها، وعلى أية حال فقد أنفقت مصر على الحروب العربية ما أبهظ مقدراتها بقدر ما أبهظها المتلفون الذين أضاعوا أموالها، وأذكر البيت القديم أيضا:

يعيرني في الدين قومي وإنما

ديوني في أشياء تكسبهم حمدا

أكان ذنبنا أن حاربنا نحن وخلطنا بالمال دماءنا دفاعا عن العرب؟ أم كان ذنبنا أن تولى أمرنا من جلب علينا هزيمة 67. ولماذا اعتبرت هزيمة 67 هزيمة لمصر وحدها ولم تعتبر هزيمة للعرب أجمعين؟

يعيروننا في الكويت وفي العراق وفي دول الخليج بالهزيمة، ونصلى نحن المصريين مرارة الخجل والهوان، وأصيح في نفسي:

لم أكن من جناتها علم الله

وإني بحرها اليوم صال

أمن أجل هذا اللقاء تركت وحيدي حلمي وزوجتي الحبيبة حورية وأمي التي تتلهف علي في غيبتي وتخشى أن يوافيها الأجل وأنا عنها بعيد؟

ولكنني قبلت ما عرضه علي الدكتور فكري، وإن كنت أستطيع أن أضيع حق نفسي فما أنا بمستطيع أن أضيع حق رجل وهب لي ثقته واعتمد علي. فما هكذا نشأت وما بهذا يرضى أبي.

فلأصلاها إذن أياما قاتمة، ولأقضي للدكتور فكري حقه علي، بل إن هنا في الكويت أيضا قوما وضعوا ثقتهم في، ما أحسب أنه يجوز لي أن أتخلى عن ثقتهم قبل أن أربي هنا ممن يساعدونني من يطيق أن يحمل هذه الثقة ويؤدي الأمانة التي أؤديها. وليظن منهم من يظن أنني إلى المال أسعى، فأنا أعرف ما في نفسي، وحسبي هذا إرضاء لها.

وليس السعي في سبيل المال أمرا تأباه الكرامة.

أنا هنا أعرف كيف أعامل من يسيء إلي، فإن من كان عزيزا في قومه يعرف كيف يكون عزيزا في أي قوم.

وأنا أضع كرامتي في مكان لا يستطيع أن يرقى إليه إنسان، فإذا تطاول أحد علي فإنما إلى نفسه يسيء وليس إلي. وتعجبني كلمة قالها معاوية لابنه يزيد حين رآه يضرب غلاما له: «أتعلمه الأدب بأن تضيع أنت أدبك؟» ولم يضرب يزيد غلاما له بعد ذلك قط. وأنا هنا لست على استعداد أن أعلم أحدا الأدب وأفقد في سبيل ذلك أدبي، فلأتذرع بالحلم، وليقضي الله أمرا كان مفعولا. •••

تتابعت الأحداث في مصر، وكان عدلي يعود إلى أهله أسبوعا في كل شهر، وكان يعد مكتبه في الكويت ليقلب الأمر ويزور بعد ذلك مكتب الكويت أسبوعا في كل شهر؛ فقد كان حلمي يشب عن الطوق، وكان عدلي مصرا أن يكون إلى جانب ابنه في هذه الفترة التي يتكون فيها أساسه، فقد كان عدلي يرى أن يقوم هو بواجبه نحو ابنه ويترك المستقبل لمن عنده أم الكتاب.

حدثت ثورة مايو واسترد شعب مصر قدرا كبيرا من حريته، وبدأ الناس يتنفسون جهرا بعد أن كانوا يتنفسون خفية، وأصبح كل فرد في مصر يحاول أن يذكر الآخرين بنفسه بعد أن كان كل فرد في مصر يتمنى لو ينساه الآخرون.

كان عدلي في مكتبه بالكويت حين طلبته السيدة ألفت حشمت بنت أخي الدكتور فكري لتخبره أن الدكتور فكري قد عاودته الأزمة القلبية، وأنها تكلمه دون علم عمها، ولكنها تدرك العلاقة بينهما، وأحست أنه ينبغي عليها أن تخبره.

ووصل عدلي إلى القاهرة في أول طائرة، ولم يقصد إلى بيته وإنما سارع من فوره ومعه حقائبه إلى بيت أستاذه. وكان الأطباء قد منعوا الدخول إلى حجرته، ولكن السيدة ألفت استثنت عدلي من هذا المنع، وطفرت إلى وجه الرجل فرحة حب لا تطفر إلا على وجه أب يرى ابنه. - كيف أنت يا عدلي؟ - طمأننا الله عليك يا دكتور. - اطمئن. - أرجو ألا تتكلم. - إذا مت ذهبت إلى مكان سعيت عمري أن أذهب إليه، وإن عشت فأنا مطمئن بوجودك إلى جانبي. - أطال الله عمرك. - لا يهم. مصر الآن بخير، وما بنيته أنا سيصبح في يد أمينة. لم أعش عبثا يا عدلي يا بني، وهل هناك أجمل من أن يحس الإنسان أنه لم يعش عبثا! - سأتركك لأنك تتكلم كثيرا. - وما له دعني أتكلم فإنني سأصمت طويلا. - أتركك بخير، هل تأمر بشيء؟ - خذ بالك من نفسك ومن ابنك حلمي، اجعله يصبح مثل أبيك أو مثلك على الأقل. - وهل بيدي؟ - حاول. - أنا سعيد أنني رأيتك. - وستراني دائما. - ربما، وإنما أعتقد أنك أنت لن تراني. - وخرج عدلي وكأنما كان الرجل يطلع على وجه الغيب، فقد كان هذا آخر لقاء بينهما.

واستمرت أعمال المكتبين في مصر والكويت على حالها لم تتغير، فقد كان زبائن المكتب قد عرفوا عدلي واطمأنوا إلى عمله، فلم يترك أحد منهم أيا من المكتبين.

وكانت ألفت ميسورة الحال، وكان زوجها ميسور الحال أيضا، ولكن عدلي أصر أن يكون لها مرتب ثابت من المكتب، فإذا هي تلقاه: ما هذا المبلغ الذي أرسلته إلي؟ - أهو قليل؟ - هو غير مفهوم. - إنه مرتب شهري أعتقد أنك تستحقينه من مكتب عمك. - لم يصبح المكتب مكتب عمي. - هو الذي أنشأه. - ولكنك الآن تقوم بشأنه، وأنت تعلم أنني والحمد لله غير محتاجة. - أعلم ذلك كل العلم، ولكن أنا أقوم بما أراه عدلا. - هل من العدل أن تعمل أنت وأتناول أنا مرتبا؟ - لولا عمك ما عملت. - لقد ورثت كل أمواله، فقد باعها لي منذ سنوات دون أن يتلقى ثمنا لها، أما المكتب فقد كانت إرادته أن يئول إليك. - أعلم ذلك. - فما هذا المرتب الذي تريد أن تجريه علي؟ - أريح به ضميري. - فهل فكرت في ضميري؟ - اسمعي يا ألفت هانم، هذا نقاش أشعر معه بنوع من السعادة انقطعت عن الشعور بها منذ سنوات. - والعجيبة أنني أنا أيضا أشعر بجو أصبح غريبا على زماننا. - فما رأيك أن يكون هذا المبلغ الذي قدرته لك نواة شيء طيب بيننا. - كم هو؟ - ألم تعديه؟ - لا والله، وجدت نقودا في ظرف ومعها بطاقة منك فجئت إليك من فوري. - أنت ست عظيمة. - وأنت رجل عظيم. - المبلغ مائة جنيه. - هذا كثير. - اسمعي، ما رأيك لو أنك ادخرت المبلغ ثم نلتقي كل عام في مثل هذا الشهر ونقرر جهة البر التي نقدمه إليها؟ - موافقة. - عظيم. - ولكن انتظر، باسم من يكون التبرع؟ - باسمك طبعا. - أكون قد ادعيت لنفسي فضلا ليس لي. - وجدتها! - فقلها. - باسم المرحوم الدكتور فكري الدهشان. - هو ما قلت.

الفصل العشرون

إن الذي يبني مجده على أكتاف الآخرين يزول مجده بزوالهم. فمجدك إن لم تصنعه يداك على أساس من الكفاءة والعمل الجاد إنما هو سراب قد يفرح به الرائي، ولكن إذا بلغته الحقيقة وجدته وهما من الوهم، وهباء من الهباء.

ولكن الذين يخدعون أنفسهم مساكين، فهم أول من يصدق أنفسهم حين تخدعهم، وهم في خداعهم هذا يعمون عن الحق ويطيشون عنه، ويظنون أن مجدهم هم صانعوه، وهيهات لهم أن يتبينوا الحقيقة من أنهم نباتات متسلقة على أشخاص آخرين. فإذا شاء حظهم التعس وزال هؤلاء الآخرون طالعتهم الحقيقة صريحة صارخة لا قبل لهم بمواجهتها، ولا قبل لهم بتجاهلها، وويل لهم من أنفسهم حينذاك. فالنفس الممزقة والحقيقة التي تكشف الوهم وتجعل الدجل ينماع إلى زوال ويتهافت إلى تلاش وينهار إلى هباء، تجعل الواهمين الدجالين في سعار من الجنون يتخبطهم الشيطان فيعرف الناس عنهم أعماق الأعماق التي كان يغشيها الوهم ويذود عنها الدجل الرؤية الصادقة.

وقد يغيب الحق عن الظهور بعض الوقت ولكنه في موعده قادم لا شك، وهو في قدومه موكب له طبل وزمر وزفاف كفيل أن يجعل الخداع مهتك الأستار والدجل مفضوحا ليس له من غطاء ولا وقاء.

لهذا لم أعجب وأنا في الكويت حين كنت أقرأ مقالات حسن، فالعهد الجديد يرفض أن يعطيه ما كان يعطيه العهد الماضي . فإذا هو يبالغ في مديح الماضي، وهو في مديحه لا يملك أدلة من واقع؛ فالهزيمة ماحقة والجراح من النفوس والجسوم ما زالت تنزف، وليس هناك نظرية واضحة المعالم يستطيع أن يتخفى وراءها كما كان يتخفى حامد وراء نظرية. وهكذا أصبح موقف حسن مضحكا. وكلما كتب ازداد الناس ضحكا منه، ولكنه ضحك موجع مؤلم كله سخرية من ذلك الذي خدعهم حينا ثم تكشف أمره عن بلياتشو كانت الأصباغ تغطي وجهه ثم أزالتها مياه الحرية، فإذا هم يتبينون أن الوجه لم يكن وجهه وإنما كان وجه الآخرين.

إن الشيوعيين حين يدافعون عن رأيهم يجدون نظرية مهما تكن فاسدة سفاحة قاتلة للإنسان في الإنسان، إلا أنها على كل حال نظرية اعتنقها سفاكون وفرضوها على دول. وهكذا كان حامد يستطيع أن يقول ويجد ما يقول. أما حسن فعن أي شيء يدافع؟ ليس في يده إلا وقائع كلها عسف وبطش وجبروت واعتداء على كل ما هو إنساني، جسما كان أو روحا أو كرامة.

ووجد حسن مدخله إلى الحديث من باب ضيق حشر نفسه فيه فلم يخرج، فقد راح يدافع عن الهزيمة ويبين أنها أمر لا يمكن تلافيه، وأن التفكير في حرب أخرى إنما هو الخراب الآخذ الشامل الذي لا خراب مثله. ويقرأ الجيش هذا الكلام فيزداد سخطا على حسن، ويقرأ العرب هذا الحديث فيزدادون اشمئزازا من الكاتب ورفضا له.

فقد كانت الحرب هي الأمل الوحيد الذي يتحدثون به، وقد كنت أنا بعد الهزيمة واثقا أنه لا حرب هناك. وكيف تكون الحرب مع جيش هزم الجيش المصري في ساعات والجيش السوري في دقائق؟!

ولكنني مع ذلك كنت لا أميت الأمل في نفس محدثي، وأذكر بيت الشعر:

إذا تمنيت نمت الليل مغتبطا

إن المنى رأس أموال المفاليس

وقد كنت أعتقد اعتقادا راسخا أننا أصبحنا أكثر هوانا من كل مفاليس العالم.

أما أنا فلست كاتبا، وأنا لا أنشر رأيي على الناس، فمن حقي أن أظن ما أشاء، وأعتقد ما أريد أن أعتقد، ما دام هذا الظن وذلك الاعتقاد حبيسين في نفسي لا يخرجان منها إلى كلام منشور في صحف.

أما الكاتب، فإنه وإن كان واجبه أن يكون إنذارا للناس ونورا لهم ومصباحا على غدهم، وكشفا لأمسهم، إلا أنه لا يجوز أن يكون لهم حسرة وبأسا. فإذا توجس وجب عليه أن يذكر مكان الأمن، وإذا حذر تحتم عليه أن يبين طريق الرشاد. أما أن يكون ارتكاسة مع الحكام ومعولا مع الخراب وهزيمة مع الهزيمة، فهذا ما لا يرضاه أحد من كاتب ولا يرضاه أحد له.

وقد كان حسن ارتكاسة وحطاما ومعولا وخرابا وهزيمة في وقت معا.

في أول رمضان جئت إلى القاهرة لأقضي الشهر مع حورية وحلمي ومع أمي، وبدأ الشهر، بدأ طبيعيا، ولكن ما كادت تمضي منه أيام ستة حتى انفجر في العالم العربي ذاك الخبر الذي قلب موازين العالم أجمع.

مصر تعبر القناة.

كان حلمي في تلك السن التي تبهرها الأنباء ولا تطل إلى ما وراءها، فإذا الفتى يكاد يجن من الفرح، فهو رائح غاد في البيت وفي يده الراديو، أو وهو ممسك به عيناه على التليفزيون التصقتا به.

أما زوجتي فهي خائفة على الشباب الذي يحارب، وهي في نفس الوقت فرحة سعيدة، فهي تعتقد أنه لم يكن لنا سبيل إلى استعادة الحياة إلا بحرب أخرى ولتكن نتيجتها ما تكون. أما أمي فلا تترك كرسي الصلاة على السجادة، فقد كانت لا تستطيع أن تصلي إلا وهي جالسة وهي تدعو الله في تجرد كامل لوجهه سبحانه أن يحمي أبناء مصر المحاربين.

أما أنا فقد كان أمري عجيبا! لقد توقعت هزيمة محققة. والآن وأنا أفكر بعد كل هذه السنوات أجدني كنت محقا في تفكيري، وإلا فكيف لجيش هزم منذ ست سنوات فقط في ست ساعات أن يعود إلى حرب أشد شراسة بنفس الرجال ونفس السلاح ويريد أن ينتصر؟!

لقد كان في الحرب الأولى مع العدو على أرض واحدة لا تفصله عنه حدود من طبيعة أو من صنع الإنسان، والآن يريد أن يعبر القنال ويحطم خط برليف وما فيه من ألسنة لهب مثلوها لنا كنار جهنم، ثم ينتصر!

أينهزم ولا حدود بينه وبين عدوه وينتصر وبينه وبين عدوه حواجز من بحار وجبال ونيران؟! هيهات!

ولكن الآن لا بد أن أقول إذا لم يكن الجيش قد انتصر وأمامه كل هذه العقبات لما حقق المعجزة، وقد شاء ربك من فوق سماوات سبع أن يقول لعباده آمنوا بي، فإن أكن قد قطعت عنكم رسالات السماء فإني أرحم بكم من أن أقطع عنكم معجزاتها.

وتمت المعجزة.

ويماري فيها أقوام في نفوسهم إحن وأحقاد مثل حسن وحامد ولكنها معجزة. وما لهذين ولأمثالهما ألا يماروا! وإلا فماذا كنا نريد منهم أن يقولوا؟! أعيدوا إلينا شلالات الأموال التي كانت تنسكب علينا، وآيات المجد التي كانت تحيط بنا، وطقوس الإجلال التي كانت تفرش تحت أقدامنا.

وما لهم ألا يماروا وقد خسروا بانتصار مصر طريقهم إلى خراب مصر.

استعاد حلمي ابني نفسه وأحس أنه إنسان مكتمل، وفي يوم وقف إطلاق النار فوجئنا به على المائدة يقف والدمع في عينيه ويصيح بأعلى صوته: أنا مصري، بابا أنا مصري، نينا أنا مصري، ماما أنا مصري.

كانت بداية مشرقة لعامه المدرسي، فقد كان في الثانوية العامة، وقد اختار هو دون أي تدخل من أحد أن يكون في القسم العلمي. وكانت درجاته العلمية تتيح لي أن أستبشر خيرا باختياره هذا.

وكان حلمي في الإجازة قد وثق صلته بقريتنا الرمايحة، وقد أغراه فريد بن الحاج سعدون الذي أصبح يشرف على أرضنا بعد أبيه أن يربي بعض عجول بدلا من أن يترك العزبة خالية من البهائم تماما، وقد أحببت أن يرتبط عدلي بالرمايحة وشجعت تحمسه المراهق، وفرح وبدأ مشروعه، وقد كان الفتى يعرف حقوقه وواجباته، وكنت واثقا أن اشتغاله بالعجول لن يشغله عن الدروس، وكنت أمزح معه قائلا: يا عدلي يا بني العجول لا تغني عن العقول.

ويبتسم في ثقة ويقول: لا تخف. •••

انتهى شهر رمضان وعدت إلى الكويت لأقضي بها أسبوعين. لقد عادت مصر إلى مكانها، بل إنها عادت إلى أرفع مكان تبوأته في تاريخها ، وما لها ألا تعود وقد حققت النصر الوحيد في العصر الحديث؟ ولكن عجيبة! أم تراها ليست عجيبة؟ لقد كانت الهزيمة هزيمة مصر وحدها، ولكن وبقدرة قادر - أم تراني يجب أن أقول بقدرة ظالم - أصبح النصر نصر العرب أجمعين! لا بأس فليكن كذلك، وهل مصر والعرب إلا كما قال الشاعر:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

وانتهى الأسبوعان. وركبت الطائرة عائدا إلى القاهرة. شعور عجيب يتولاني كلما عدت من الخارج إلى مصر. مهما يكن المكان الذي كنت فيه والذي أعود منه إلى مصر. أنا دائما مشوق إليها بكل حال هي عليه. أنا مشوق إليها والظلم يتغشاها ويتغشاني معها، ومشوق إليها وحقي وحقوق المصريين مكفولة. ومشوق إليها حتى بعد أن خامرها ما خامرها من طريق غير سوي وماء متفجر وكهرباء مقطوعة وتليفون لا ينطق، بل ربما أنا أشد شوقا إليها وهي في تلك الحال من شوقي إليها وهي لا تعاني. وهل نعرف قيمة الأم إلا إذا مرضت الأم. وهل نحبها في مألوف أيامنا قدر ما نحبها وهي تعاني. وأمنا الخالدة تعاني، فنحن أبناءها أعظم لها حبا، وأكثر إليها لهفة، وأشد عليها حرصا.

لقيني حلمي في البيت، وما هدأ بي المقام حتى وجدته ينتهز فرصة صمت ويسارع قائلا في لهفة، وقد وضح لي أنه كان يختزن ما يقوله منذ أيام، وينتظرني متعجلا عودتي ليعرض علي ما يعرض. - يا بابا من المفروض أن يأتي إلى العجول طبيب بيطري ليرى إن كانت قد بلغت الحجم الذي تستحق معه الحصة المخصصة لها من العلف أم لا، وقد جاء الطبيب ورأى العجول وقرر أنها لا تستحق بعد تلك الحصة، وقبلت رأيه كأمر مقرر ولم أناقشه، وخرج الطبيب من المنزل هو والتمورجي الذي يعمل معه، ولكن ما هي إلا دقائق حتى عاد التمورجي ليهمس في أذني: إذا كنت تريد أن يقرر الدكتور حصة العلف فادفع خمسة جنيهات عن كل رأس. وسألته: لمن؟ قال للدكتور. قلت: أهي تمغة أو ضريبة حكومية مثلا ؟ قال : لا، وإنما هي إكرامية للدكتور. قلت: ولك؟ قال: اللي تشوفه. قلت: ولكن الإكرامية من الإكرام، والإكرام لا يكون بالعافية. قال: والله أمرك. قلت: اتركني أفكر في الأمر. والحقيقة أن المبلغ بسيط لا يستحق التفكير، ولكنني يا بابا لا أتصور أن أبدأ حياتي بالرشوة، وفي نفس الوقت أرفض أن يقع علي ظلم لأنني رفضت أن أقدم رشوة. ماذا أفعل؟

ولا أدري إن كان قد ظهر على وجهي ما شقيت به من ذلك الحديث أم لم يظهر، فجعت فجيعة كبرى. ليس الأمر غريبا علي. ولكنني شأن الناس أرى الشيء وهو بعيد ولا أتوقع أن يلاقيني أنا في طريقي. ماذا أنا قائل لابني الآن؟ أأقول اقبل أن تكون راشيا؟ هذه هي المثل العليا التي يريد أب مثلي أن يرسيها في نفس ابنه. وماذا سيكون أمري أمام ابني وهو يرفض لنفسه أن يكون راشيا وأنا أقبل له هذا؟ أم أقول له ارفض وهو يريد أن يخوض الحياة وقد بدأ خوضها فعلا بتلك العجول التي يربيها؟ وكيف يستطيع خوضها وهو بكل هذه الطهارة؟ ويل لمصر مما مر بمصر!

قد يصلح الطريق فيها للسيارة، ولكن ما أظن أنه سيصلح للمثل العليا، وقد لا تنقطع فيها الكهرباء ولكن نور الشرف سيتأخر عن الإنارة، وقد يتحدث التليفون ولكن شقة عمي ما زالت تعمل، وما زال التليفون يستعمل في إقامة لياليها.

قلت لحلمي في حسم: حلمي ما دمت قد دخلت إلى الحياة فينبغي أن تقرر طريقك فيها وحدك. انظر أنت ماذا تريد أنت أن تفعل وافعله.

قال الفتى في حسم: بابا، أنا لن أدفع مليما واحدا، وليكن بعد ذلك ما يكون.

قلت في نفسي: لهفي عليك يا بني، لقد اخترت طريقك لا شك في ذلك، فاللهم يا رب العالمين يا حق يا عدل يا سبحانك ثبته على هذا الطريق وإن لقي فيه ما لقي الحسين بن علي.

وقررت أن أقيم في مصر، وهنا بجانب ابني، فإنه في هذا الطريق سيحتاجني لأكون له نسمة هواء في هجيره، ونفحة دفء في جليده. أنا هنا.

الفصل الحادي والعشرون

قال لي عدلي: ماذا أصنع الآن؟ إن عمي حفني يرسل إلي كثيرا من الزبائن وكلهم أصدقاؤه، وكلهم من ذوي الصداقات ذات النفوذ. وأنا لا أحب صداقاته هذه، ولا أعرف ما تخفي، ولا أدري أقبل أم أرفض.

وأسقط في يدي، فإن كان هو يدري ما وراء هذه الصداقات أو كان لا يريد أن يدريها فأنا أدريها كل الدراية، فإن قلت له اقبل خنت نفسي وخنته، وإن قلت له ارفض أقفلت من دونه بابا واسعا من أبواب الرزق. وليس الرزق له وحده، فربما كان في وفرة تغنيه عن المال وتغنيني عن الحيرة، ولكن الرزق أيضا للشباب الكثيرين الذين يعملون معه والذين يريدون أن يتعرفوا على هؤلاء الناس ويشقوا طريقهم في الحياة كما شقه أستاذهم عدلي. ولم أجد شيئا أقوله إلا أن سألته: ألم تخبرني عن موقفك من مرجان حين أراد لمكتب الدكتور فكري أن يكون مسئولا عن حساباته؟ - أما زلت تذكر؟ - وأنت أيضا يجب أن تذكر. - فهمت ما تعني. - فلا حيرة إذن. - فيما يختص بالزبائن لم تعد هناك حيرة. - إذن؟ - حيرتي لن تنتهي ولن تنتهي.

وعرفت ما كان يقصده تماما، ولكنني أيضا كنت سعيدا بتخلصي من الإجابة على سؤاله، ولم أشأ أن أوقع نفسي في حيرة جديدة معه. •••

شمل السلام مصر واتهمها من اتهمها أنها باعت القضية بقبضة من الرمال، وعلم الله أن مصر لم تبع القضية، وإنما أقامتها على أسس من المنطق والعقل بعد أن ظلت أعواما لا شيء إلا هتافات وشعارات وصراخا لا معنى له ولا قوام ولا عمق. وعلم الله أن هذه الرمال إنما هي أرض مصرية عزيزة على مصر، ولست أدري لماذا تكون أرض مصر وحدها هي الرخيصة وكل أرض غير أرضها عرض وشرف وكرامة ومستقبل وماض وحاضر وتاريخ؟! لم أذهب إلى الكويت وإن كان مكتبي ظل يعمل به تحت اسمي، وأصبح من بين تلاميذي الذين مرنتهم هناك من يستطيع أن يقوم بالعمل خير قيام، ومن أعتقد أنه نال الثقة في نفسه ومن الزبائن. وتركت أمر المكتب لم أعد أفكر فيه، واستغرقني عمل المكتب في القاهرة، فقد نشطت الحركة الاقتصادية في مصر بصورة لم أر لها مثيلا في حياتي، واتسع مكتبي اتساعا لم أكن أنتظره، ولكن الذي يحيرني هو النظام الذي يقوم عليه الاقتصاد في مصر، فهو نظام فريد في العالم لا شبيه له.

فهو باليقين والقطع ليس نظاما شيوعيا، وهو أيضا ليس نظاما اشتراكيا. وهو أيضا ليس نظاما رأسماليا. إنما هو خليط من هذا جميعه. يأخذ من كل نظام بطرف، والنظريات ليست على استعداد أن تقبل معها نظاما جديدا خلقته الظروف الشاذة في حياة مصر ولم تخلقه التيارات الطبيعية التي تولدت عنها النظريات الأخرى ما نجح وما ثبت فشله. والذي لا شك فيه أن هذا النظام المضطرب الذي كان الاقتصاد المصري يعانيه هو ابن شرعي للنظام السياسي المترجح الذي كان يحكم مصر. فلا كان النظام في مصر ديكتاتوريا كاملا يترأسه حاكم باطش مخيف ليس يبقي لأعدائه من باقية وليس يرعي فيهم حق إله أو كرامة إنسان أو شرف آدمية، ولا كان النظام أيضا ديموقراطيا مطلقا، ومن أين له بالديموقراطية وقد قتلت أصولها منذ ربع قرن ولم تعد لها أدوات ولا أحزاب ولا أشخاص؟!

وبيد الحرية الوليد وآثار الديكتاتورية قتل رئيس النظام، وتغيرت الأوضاع في مصر بعض الشيء فبقيت وجوه على المسرح وأخرى تبدلت بقوم آخرين، إنما الذي عناني بالذات أن شقة عمي قد أقفلت أبوابها، وبدأ عمي يبحث عمن يؤجرها منه إيجارا مفروشا. ولكن أن يكون وجوه القوم الذين كانوا يعمرون شقة عمي قد غابوا عن الواجهة فإن أذنابهم يملئون أرجاء مصر منتشرين في كل مرفق من مرافقها، ما لهم عنها من منصرف.

قلت له: أتقص علي كل هذا وكأنني لا أعرفه؟ - بل أعرف أنك تعرفه، بل وتعرفه كل المعرفة. - ففيم إذن أتعبت نفسك؟ - لا بد من شكري لذي مروءة. - أشكر لك حسن ظنك، ولكن ماذا بعد الشكوى؟ - أما جواب منك أو أظل أنا على حيرتي؟ - وفيم الجواب وأنا لا أعرف بعد ما السؤال؟ - ابني. - ما له. - لقد انتهى من دراسة الطب. - وهذه أيضا أعرفها. - والأطباء فئة فيهم الملائكة، وفيهم الوحوش القاتلة السفاحة السفاكة. - هو ما قلت. - وحلمي ابني يحمل دم جدي. وهذا الدم أخرج أبي وأخرج عمي. فإلى أي فصيلة من الفصيلتين سينتسب حلمي؟ وهل طريقه مسبعة الذئاب الباطشة أم مسابح الملائكة؟ لكم أخاف عليه! إن الذي أشاهده في مصر لا يفرش الطريق إلى مسابح الملائكة، وهو مهيأ كل التهيؤ أن يجعله إلى الوحوش يميل. - أولم يكن الأمر معك أشد عسفا وجورا وظلما؟ - لو كنت واثقا أنه سيصبح مثلي ما احترت. - ومن الذي يستطيع أن يعرف الغد؟ - وأخاف عليه أن تطالعه سمعة عمي حيثما اتجه. - وأي شيء تخشاه من هذه السمعة؟ أتخشى أن تكون عائقا له؟ أم تخشى أن تكون طريقا له مفروشا بالورد والرياحين والزئبق الذي كان يملأ شقة عمك؟ - أخاف عليه من الأمرين كليهما، فكل من الفرضين أشد هوانا من صاحبه. - هل طالعتك أنت سمعة عمك؟ - لست أذكر. - فلماذا تخشاها عليه وهي لم تهددك أنت، وأنت إلى عمك أقرب من ولدك إليه؟ - الحيرة تقتلني. - ألم تشعر أنك أديت واجبك؟ - كل إنسان يطمئن نفسه بهذه الجملة. - أتحس أن هناك شيئا كان أن تصنعه ولم تصنعه؟ - لا أظن. - أفلا تترك الأمر لله الذي ألزم كل إنسان طائره في عنقه. اترك ابنك يلزم طيره، والزم أنت طيرك، وتوكل على الله.

وصمت عدلي، ولكن أكان صمت الطمأنينة وزوال الحيرة؟ لا أظن، بل إني واثق أنه على حيرته ما تزال مسلط عليه ما كتب على الإنسان ألا يعرف ماذا يكسب غدا. ذلك القانون الذي يتمثل فيه عذاب الحياة، وتتمثل فيه متعتها أيضا. (تمت)

Unknown page