السمان والخريف‏

السمان والخريف‏

السمان والخريف

السمان والخريف

تأليف

نجيب محفوظ

السمان والخريف

1

وقف القطار ولكنه لم يجد أحدا في انتظاره. أين السكرتير؟ أين موظفو المكتب؟ أين السعاة؟ وأجال بصره في المكان والناس بلا جدوى، ماذا جرى؟! هل دار رأس القاهرة تحت ضربة القنال الآثمة؟! وغادر موقفه عند مقدمة العربة، فسار حاملا حقيبته الصغيرة نحو الخارج وهو يقطب استياء، ثم ساوره قلق. وتفحص الوجوه بدافع غريزي فوجدها تعكس انقباضا مخيفا، وتحركت في أعماقه غريزة تتنبأ بالمخاوف. أهي مذبحة الأمس بالقنال أم أحزان جديدة تزحف؟ هل يسأل الناس عما وراءهم؟! ولم ينتظره أحد، ولا واحد من مكتبه شذ عن هذا السلوك العجيب! يا لها من أيام غريبة حقا، ولم تزل ذكريات القنال ناشبة في رأسه بكل حدة، المشاهد الدامية، مذبحة رجال البوليس، البطولة العزلاء. ولم يزل صوت الشاب الفدائي يخرق أذنه وهو يصيح غاضبا: أين أنتم .. أين الحكومة .. ألستم أنتم الذين أعلنتم الجهاد؟!

فقال في حرج شديد: بلى، ولهذا تجدني أمامك في هذا الخلاء.

فصرخ في غضب أشد: نريد سلاحا، لم تقترون علينا؟! - اليد قصيرة، وموقف الحكومة دقيق. - وموقفنا نحن! .. وموقف الأهالي الذين خربت بيوتهم؟! - أعلم ذلك، كلنا نعلم ذلك، صبرا، وسنبذل أقصى ما نستطيع. - أم تقنعون بالفرجة؟!

يا لها من غضبة كالنار، ولكن ماذا في القاهرة؟

لا عربة واحدة لتنقله، وفي ميدان المحطة جماهير تجري في كل اتجاه. الغضب يشتعل في الوجوه واللعنات تنصب على الإنجليز. الجو بارد والسماء متوارية خلف سحاب متجهم والهواء ساكن لا حياة فيه، الدكاكين مغلقة كالحداد، وعند الآفاق تصاعد دخان كثيف.

ماذا في القاهرة؟!

وتقدم في حذر، وأشار إلى رجل يقترب ثم سأله: ماذا في البلد؟

فأجابه في ذهول: القيامة قامت!

فسأله في إلحاح: تعني مظاهرات احتجاج؟!

فهتف وهو يأخذ في الجري: أعني النار والخراب.

وواصل تقدمه الحذر البطيء وهو يتفحص ما حوله، وتساءل في دهش: «أين البوليس؟ أين الجيش؟» وفي شارع إبراهيم تجلت حقيقة اليوم بصورة أبشع، خلا الميدان للغاضبين، انفجر مكنون اللاوعي كالبركان ، صراخ جنوني كالعواء، انقضاض على أي قائم على الجانبين، بترول يراق، حرائق تشتعل، أبواب تحطم، بضائع تنتثر، تيارات تندفع كالأمواج المتلاطمة، الجنون نفسه بلا رقيب. ها هي القاهرة تثور ولكنها تثور على نفسها. إنها تصب على ذاتها ما تود أن تصبه على عدوها، إنها تنتحر، وتساءل في فزع ماذا وراء ذلك كله؟! واستفحل نشاط غريزته التي تتنبأ بالمخاوف، وأيقن أن مأساة حقيقية سيرفع عنها ستار الغد، ثمة خطر يتهدد صميم حياتنا، يتهددنا نحن لا الإنجليز، يتهدد القاهرة والمعركة القائمة في القنال والحكومة، ويتهدده هو باعتباره جزءا من هذه الحكومة. هذا الطوفان سيقتلع الحكومة والحزب وشخصه في النهاية. هيهات أن يعتصر هذا الخوف من قلبه، هيهات أن يتناساه رغم دوامة الجنون المحدقة به، كأنها أقوى من الجنون والخراب والنار. وإنه ليؤمن بغريزته بهذا إيمانا قاتلا. هي نذيره في أوقات الأزمات السياسية وقبيل الإقالات المتعددة التي أطاحت بحزبه عن كراسي الحكم المرة تلو المرة، لعلها النهاية. وستكون نهاية مميتة لم تسبق بمثيل لها من قبل.

ومضى يقترب من قلب المدينة في ذهول تام. صمم على أن يطلع على كل شيء. إنه مسئول، ومهما يكن من ثانوية مركزه نسبيا فهو مسئول ويجب أن يرى كل شيء بعينه، الضوضاء فوق كل احتمال، كأن كل ذرة في الأرض تصرخ. اللهيب ينطلق من كل موقع، إنه يرقص في النوافذ، يقعقع في الأسقف، يصفر في الجدران، يطير في الجو، والدخان يتربع مكان السماء. رائحة الحريق تقتحم الأنوف كعصارة جهنمية من الخشب والأقمشة وزيوت شتى. هتافات غامضة كأنما تنبثق من الدخان، غلمان يخربون كل شيء في نشوة وبلا مبالاة، جدران تنهار مفجرة رعدا. الغضب المكتوم، اليأس المضغوط، الضيق المتكتل، كل أولئك حطم القمقم وانطلق كزوبعة من الشياطين وقال لنفسه إن أشياء كثيرة يجب أن تحرق ولكن ليست القاهرة. أنتم لا تدرون ماذا تفعلون. إن فرقة كاملة من الإنجليز لتعجز عن إحداث عشر هذا الخراب، انتهت معركة القنال، خسرنا المعركة، قلبي المجرب بالمحن لا يكذب، الحكومة بلا جنود والنار تجري بلا عقبة. هل تلتهم النيران المدينة الكبرى؟ هل يمسي ثلاثة ملايين من البشر بلا مأوى؟ هل ينعق الخراب والمرض والفوضى ويرجع الجيش البريطاني ليعيد الأمن إلى نصابه؟ هل ينسى الناس في محنة الخراب الاستقلال والوطنية والآمال العريضة؟ إن القلق يدب في جذور قلبه كالنمل، وتسود الدنيا في عينيه اللتين زايلهما الطموح والمجد، وعند الأركان في الشوارع الرئيسية لبد رجال يحرضون: احرق ... خرب ... يحيا الوطن!

تفحصهم باهتمام وحنق، ود لو يستطيع أن يقنعهم، ولم يمكنه التيار المتضارب من الوقوف قبالتهم لحظة. إنهم وجوه غريبة لا هي من حزبه ولا من الأحزاب الأخر. إنها وجوه غريبة تفوح منها رائحة الغدر، وخيل إليه أن في الجو رائحة عفنة أشد كآبة من الدخان، وزفر مع اليأس والذهول غضبا: احرق ... خرب ... يحيا الوطن!

يا للأوغاد! هل تذهب دماء القنال هدرا؟ وأرواح جنود البوليس وضباطهم؟ إن كل ما هو قيم وجميل يبدو أنه سيصير هباء، كيف السبيل إلى الوزارة ليقابل المسئولين؟ ليس في الطرقات إلا حطام سيارات، ليس في الجو إلا حمرة قانية تحتدم تحت سواد. ماذا يقول للفدائي الغاضب لقلة السلاح إذا اطلع على هذا المشهد الغادر الدامي؟ ما عسى أن يقول لو سمع نداء المؤامرة؟ - احرق ... خرب ... يحيا الوطن!

النار والخراب والدخان شعارات اليوم الفظيعة، ولكن الخيانة اللابدة في الأركان أفظع. وتلاطمته أمواج الثائرين الجنونية، فازدرد ريقه مرات بمعطفه الرصاصي الطويل، ولفظته. وقد اختل توازنه واصطكت بساقيه حقيبته وهو يشد على مقبضها بقوة مستميتة، وتلاشت من رأسه نقاط التقرير الذي كان عليه أن يرفعه إلى الوزير عن سير المعركة ومطالب الفدائيين. وفكر في المستقبل على ضوء العاصمة المحترقة فلاح لعينيه كالدخان، وتذكر وهو يميل إلى منعطف أقل وحشية حديث عضو الشيوخ المعمم الذي قال معلقا على إلغاء المعاهدة: انتهينا والأمر لله!

وغضب وقتذاك وهو يجلس لصقه بالنادي وصاح: هكذا أنتم أيها الشيوخ لا يهمكم إلا مصالحكم!

فقال له بتوكيد وبلهجة لم تخل من سخرية: هذه هي النهاية والأمر لله!

فارتفع صوته في حماس : ليس في كل ماضينا المجيد موقف كهذا.

فعبث الشيخ بشاربه، وقال بحزن: بلى، كأيام سعد، ولكنها النهاية.

شيخ مجرب طوى عهد الحماس ولكن ها هي القاهرة تحترق، وهؤلاء الغادرون في الأركان ما أكثرهم! واليد قصيرة إذا اقترنت ببصيرة، فليسكر صاحبها بنقيع الأحزان حتى يغرق. وفي الفضاء المكتظ بشظايا الخراب تجسد الحزن كأنه وحش قتيل. ونال منه الإعياء فقرر أن يشق الطريق إلى مسكنه، وخيل إليه أن دهرا طويلا سيمضي كالسلحفاة قبل أن يلمح مشارف الدقي.

2

عند جثوم الليل ذهب إلى سراي شكري باشا عبد الحليم على مسيرة ربع ساعة من مسكنه بحي الدقي. واستقبله الباشا في حجرة مكتبه، فجلسا على مقعدين متقاربين، وبدا الباشا في المقعد الكبير شبه ضائع بجسمه النحيل القصير، ولكن وجهه الصغير المستدير الناعم عكس اكفهرارا مغلفا بهدوء الشيخوخة، وأعلنت بدلته الرمادية الإنجليزية عن أناقة عريقة، واستقام طربوشه الأحمر الفاتح على رأس لم يبق فوق سطحه شعرة واحدة. تبودلت كلمات الترحيب في عجلة دلت على خطورة الموقف، وشعر عيسى بحرج أول الأمر لما علمه من تطلع الباشا إلى الوزارة، ولما تردد من شهر أو أكثر عن ترشيحه لها في أول تعديل وزاري. وأفدح الخسائر ما أصاب الجانبين الشخصي والعام في وقت واحد. ترى كيف يفكر هذا الشيخ الذي انتظر الوزارة طويلا؟ هذا الشيخ الذي هبط نشاطه في مكتبه إلى الحد الأدنى، والذي لم يعد له من عمل حقيقي سوى نشاطه باللجنة المالية بمجلس الشيوخ. رثى له كما يرثي لنفسه، ورنا إليه بنظرة مترددة كنوع من العزاء وهو يجلس على المقعد بقامته الرشيقة وقد استرد وجهه - بعد الراحة في بيته - رونق الشباب رغم جريان الهم في تقاسيمه. وقال الباشا وهو يدير خاتم الزواج حول بنصره: سنؤرخ بهذا اليوم طويلا.

فقال عيسى متشوقا لمعرفة أي جديد: شهدت جانبا منه، يا له من يوم أسود!

وأحنى رأسه الكبير المستطيل حتى ترامت صفحة شعره المجعد أمام عيني الباشا، ثم رفعه مقطبا ليتطلع إليه بوجهه المثلث الذي ينبسط عند الجبين ويضيق رويدا حتى يرتكز على ذقن مدبب، وتساءل الباشا: إذن جئت والقاهرة تحترق؟ - نعم، كانت الجحيم نفسه يا باشا. - يا خسارة! ... وكيف وجدت الحال هناك؟ - الشبان في غاية من الحماس ولكنهم في حاجة ماسة إلى السلاح، أما مذبحة البوليس فقد هزت القلوب هزا. - معركة ظالمة مشئومة.

فقال عيسى بضيق: نعم، إننا ندفع دفعا نحو ...

وتلاشت الكلمة الأخيرة بين شفتيه في إشفاق فتلاقت أعينهما في كآبة، وسأله الباشا: ماذا يقول الناس عنا؟ - الروح الوطنية عالية جدا، أما أعداؤنا فيقولون إننا افتعلنا معركة لنشغل الناس بها عنا.

فانحرف جانب فيه في احتقار قائلا: سيجدون دائما ما يقولونه، أوغاد ... أوغاد!

وبينهما قام خوان، وفوق الخوان إبريق مفضض وطبق بسكوت، فطلب الباشا إلى عيسى - دون كلفة - أن يملأ قدحين، وراحا يحتسيان بلا لذة، وفي أثناء ذلك امتد بصر عيسى إلى صورة سعد زغلول المعلقة في الجدار فوق المكتب الفخم إلى يمين مجلسهما، وقال عيسى: تصور سعادتك أنني لم أستطع الاتصال بوزيري حتى الآن.

فربت الباشا على شاربه الفضي برقة وقال: قل في هذا اليوم ما شئت، أين الوزير؟ .. لا أحد يدري، أين البوليس؟ .. لا أحد يدري، أين الجيش؟ .. لا أحد يدري؟ اختفى الأمن وزحف الشيطان. - ترى هل ما زالت النار مشتعلة؟!

مد الباشا ساقيه حتى طوقتا أرجل الخوان الأبنوسية فاشتد لمعان حذائه الأسود تحت سمت النجفة البلورية الرباعية الأذرع، وحانت من عيسى التفاتة إلى المدفأة المركبة في الجدار فأعجب بشفافية لهيبها الأحمر المتراقص وتذكر المجوس، ثم سرعان ما استملح الدفء الذي يهبه بجود، وجرت عيناه برشاقة على الأثاث الكلاسيكي المجلل بالوقار والفخامة وأحزان الوداع فتذكر مرثية أنطونيو فوق جثة قيصر، أما شكري باشا عبد الحليم فأجابه في كسل متعمد: آن للنار أن تنطفئ بعد أن أدت الخدمة المطلوبة!

فالتمعت عينا الشاب العسليتان المستديرتان، ثم قال مستدرجا محدثه إلى المزيد: لعله الغضب الأهوج.

ابتسم الباشا عن طاقم نضيد وقال: كان غضب، وكان وراء الغضب حقد، أما الغضب فأهوج حقا، وأما الحقد فذو خطة مرسومة. - وكيف يقع هذا ونحن في الحكم؟

ضحك الباشا ضحكة جافة مختزلة، وقال: هذا اليوم كالليل المتراكم السحب، انتظر حتى نعرف أين الرأس وأين القدم.

وتطاول عيسى في توتر ثم زفر حتى أرعش أهداب غطاء الخوان المخملي، ثم تمتم متسائلا: الأحزاب؟

فانحرف إلى أسفل جانبا الفم الدقيق في ازدراء، وقال: هي أضعف من أن تدبر أمرا! - من إذن؟

تساءل وريبة ذات معنى تتجلى في عينيه، فقال الباشا: الأمر ليس بالوضوح الذي تظنه، قد تتسلل من السراي تعليمات معينة، قد يمرح جواسيس الإنجليز ويعيثون فسادا، ولكن يخيل إلي أن المد بدأ طبيعيا جدا ثم انتهز النهازون الفرص.

وبغتة ثارت المخاوف الراسبة في أعماقه فزلزلت قلبه فتساءل: وماذا عن مصير المعركة؟

عاد الباشا إلى العبث بشاربه الفضي، ورفع عينيه إلى السقف التي تضيء أركانه الأربعة أنوار متوارية وراء أجنحة مذهبة، ثم أعادها إلى وجه الشاب، وهما تعكسان غموضا وكآبة دون أن ينبس، فقال عيسى مطاردا القلق الذي يعذبه: الويل لمن تسول له نفسه العبث بجهادنا!

فلم يبد الحماس في وجه الباشا ولا التفاؤل واكتفى بأن قال: هذا يوم خطير له ما بعده.

فقال عيسى بصوت فاتر منهزم: للمرة الثانية في هذا اليوم أتذكر قول الشيخ عبد التواب السلهوبي إثر المعاهدة: «انتهينا والأمر لله.»

فابتسم الباشا قائلا: إننا لا ننتهي أبدا، فقد نسقط ولكننا نعود أقوى مما كنا.

ورن التليفون، وكان المتحدث حرم الباشا من الدور الأعلى، وتجلى الاهتمام في وجه الباشا إلى أقصى حد، وأعاد السماعة وهو يقول: أعلنت الأحكام العرفية.

ومضت فترة ذهول حتى قطعها عيسى مغمغما: لعلها ضرورة للقبض على المجرمين.

لكنه رأى الباشا غارقا في التفكير الحزين فاستدرك متأسفا: أحكام عرفية في عهدنا! .. يا له من حدث مؤسف!

فقال الباشا: وهي لم تعلن من أجل عهدنا!

3

قال عيسى: صدر قرار بنقلي من وظيفة مدير مكتب الوزير إلى المحفوظات!

رفعت إليه أمه وجها نحيلا يشبه وجهه لدرجة كبيرة، وبخاصة في هيئته المثلثة ولكنه كثير الغضون، وللشيخوخة في عينيه وفمه ولحييه معاقل، ثم قالت: ليست المرة الأولى، لا تحزن، ستعود إلى ما كنت وأحسن، وربنا يصلح الحال.

كانا يقعدان في حجرة الجلوس ذات الشرفة المطلة على شارع حليم بالدقي، وكان زجاج الشرفة العريض مغلقا دفعا للبرد، وأغصان صفصافة تصعد وتهبط خلفه في حركة وانية، وامتدت وراء ذلك السحب وتكاثفت وتجهمت كالسياسة، وكانت الوزارة قد أقيلت، فأقصته الوزارة الجديدة فيمن أقصت من موظفين عن الوظائف الرئيسية، وبخاصة من كانت لهم علاقة بمعركة القنال، وتعد هذه الأحداث عادية أو شبه عادية عند الأم لكثرة حدوثها. وهي لا تصدمها صدمة اليأس لأنها ألفت أن يعقب المد جزر في صالح ابنها المحبوب. ورغم شيخوختها وأميتها فهي تتابع الحياة السياسية وتدرك من أمورها ما يسمح به موقف عيسى وما يؤثر في حياته جذبا ودفعا. هي به فخور وتؤمن بكل كلمة يقولها، وتعجب بما حقق من نجاح يفوق الخيال، خيالها وخيال المرحوم والده الذي عاش ومات موظفا صغيرا مغمورا، عيسى يشق طريقه رغم شلالات السياسة وزوابعها، يغطس أحيانا حتى يظن به الغرق، ولكنه يقب محرزا درجة جديدة من التفوق، وهذا المسكن الجميل بالدقي آية على نجاحه وصموده، وأثاثه متعة تبهر البصر، وفي مناسبات غير نادرة يشرفه بالزيارة باشوات ووزراء. وتتساءل المرأة وأصابعها المتحجرة تقدس الله على حبات المسبحة الحجازية: أما لهذه الحال من نهاية تستقر فيها على خير؟! وهل هي وليدة ظروف معقدة عسيرة على الفهم أو هي إصابات نافذة لأعين شريرة؟!

وقال عيسى في فتور: من العجيب أننا لا نكاد نستقر في الحكم عاما حتى يقذف بنا خارجه أربعا، ونحن نحن الحكام الشرعيون ولا حكام شرعيين غيرنا في البلد.

فقالت بإيمان وإصرار: المهم الصحة والعافية.

فابتسم ابتسامة ساخرة مريرة، ولكنه لم يشأ أن يعلن عن مرارته. وعلى العكس من ذلك قال بلهجة ذات دلالة: المهم أن أنتهز فرصة العزلة لأعنى بشئوني الخاصة.

فاختلجت عيناها الكليلتان في اهتمام وقالت بارتياح صاف لأول مرة: نعم. تعجبني، آن لك أن تتزوج، فتاتك في الانتظار، وأبوها العظيم لم يضن بموافقته.

فضحك متسائلا: ألم يكن الأجمل أن أتزوج وأنا متمتع بالجاه والسلطان؟!

فابتسمت عن طاقم لاح بريقه كياسمينة منسية في حديقة اقتلعت أشجارها وقالت: مركزك كبير، وهم يعلمون أنك مرشح لأعلى المناصب، وعلي بك سليمان يفهم الأمور جيدا، ثم إنه قريبك. وكان يحب المرحوم والدك أكثر من أي شيء في العالم.

هذا كله حق، علي بك سليمان ابن خال والده. وأسرته تمثل الغصن المورق في شجرة أسرته الجرداء، غني من سلالة غنية، ومستشار خطير، فضلا عن أنه من رجال السراي. وعندما يدعم نفسه بمصاهرته سيجد في مرفئه استقرارا إذا عبثت عواصف السياسة بقاربه. الخسائر التي تجيئه من الحزب أطول عمرا من مكاسبه. وسلوى فتاة ممتازة حقا، لا وجه للمقارنة بينها وبين ابنة عمه التي سعت أسرتها طويلا لتزويجها منه، وأم سلوى امرأة ممتازة أيضا، وهي ميالة للمحافظة على ندرة ذلك في طبقتها. ومن حسن حظه أنها حسنة الظن جدا بمستقبله، حتى تخيلته وزيرا أقرب مما يتصور. وعندما فاتحها في مطلب زواجه من كريمتها صارحته قائلة إنها لا يهمها المال ولكن يهمها المركز، أوليست الدرجة الثانية امتيازا حقيقيا لشاب في الثلاثين من عمره؟ وهي لها تقدير خاص للشبان المتعلمين في الخارج، وهو وإن لم يتعلم في الخارج إلا أنه خدم عاما في سفارة لندن، وسافر ملحقا بسكرتارية وفد المفاوضات. وطاب له أن يستحضر صورة سلوى بجمالها البلقاني المغري كالكريم شانتيي، واعتدها منة من الله أنها ليست من فتيات النوادي ولا من معتنقات فلسفة العصر. وقال لوالدته: تصوري أنني لم أكن رأيتها منذ الصغر! - هذا تقصير منك. انهماكك في العمل ليس بالعذر الكافي؛ فمن كان له قريب كعلي بك سليمان وجب عليه أن يوثق علاقته به. - كنت ألقاه في الخارج. لم أكن أفكر في الزواج.

وهو قد طلب يدها من والدها وليس له عن صورتها إلا فكرة غامضة غاية الغموض، ولكنه وجدها آية، وسرعان ما أحبها من كل قلبه، وتهيأ لاختيار الألفاظ المناسبة للإفصاح عن عواطفه الجديدة أمام أمه. ولكن دخلت أم شلبي لتعلن عن حضور حسين ابن عمه لزيارته. وتجاذبت قلبه عواطف متناقضة، ولكن غلب عليه النفور الخليق بمن يكابد حسرات الهزيمة.

وقدم حسن علي الدباغ منطلق الأسارير، ربعة متين البنيان، مربع الرأس، عميق الملامح، عريض الذقن، ويمتاز بعينين صافيتين ذكيتين، وأنف حاد مدبب، قبل يد امرأة عمه، وصافح عيسى بحرارة لم تخفف من نفوره، ثم جلس إلى جانبه وهو يطلب الشاي. هو على وجه التقريب يماثل عيسى عمرا، غير أنه في الدرجة الخامسة، على حين دفعت السياسة عيسى إلى الدرجة الثانية، ومع أنه من حملة بكالوريوس التجارة إلا أنه لم يجد عملا إلا في القرعة العسكرية، وسألته أم عيسى: كيف حالكم؟ - بخير، أمي بخير وأختي بخير.

ازداد عيسى نفورا عند ذكر الأخت، لا لشيء كريه فيها، ولكن لكونها أخت هذا الغريم والمنافس القديم. كانا متنافسين ومتلازمين وتبادلا عواطف حادة مؤلمة. السياسة وحدها التي حسمت ما بينهما من أسباب التنازع، فرفعت عيسى إلى مركزه المرموق، على حين تدرج حسن ببطء في طريقه الوعر، وفترت العلاقات بعض الشيء، ورسبت العواطف في الأعماق، ولكن حسن لم ينقطع عن ابن عمه أبدا بل تمنى لو يزوجه من أخته. ومن عجب أن حسن فكر جادا في الذهاب إلى قريبه علي بك سليمان ليطلب منه يد ابنته عقب عيسى بأيام، وضحك عيسى ازدراء عندما نمى إليه الخبر، وقال لنفسه: «رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.» ولكنه كان يضمر له إعجابا رغم نفوره منه لقوة شخصيته ووفرة ذكائه، وقال حسن بأريحية: سمعت عن نقلك إلى المحفوظات، لا تحزن، أنت رجل مخلوق للشدائد.

فدخلت الأم في الحديث قائلة بحماس: لا داعي للحزن، هذا ما أقوله دائما، وهؤلاء الناس لماذا يتركون الكبار وينتقمون من الأبناء!

وتعقد عيسى بمواساة حسن فقال باعتزاز: نحن قوم اعتدنا السجن والضرب، فما أهون عقاب اليوم!

ومضى حسن يرشف الشاي في سعادة وهو يبتسم ويقول بلهجة تنذر بالهجوم: أنتم تسجنون وتضربون حقا ولكن الآخرين يتاجرون.

وأدرك عيسى من يعنيهم بقوله «الآخرين» فتحفز لمعركة. وغادرت الأم لتصلي المغرب، وقال عيسى منذرا : أنت تعلم بمنزلة الآخرين في نفسي فحذار!

فقال حسن بتحد باسم: إن كل شيء ينهار بسرعة، ومن الخير أن ندعه ينهار، هذا القديم كله يجب أن يجتث من جذوره!

فتساءل عيسى في حدة: وقضيتنا الوطنية من يبقى لها؟ - أتظن أن هؤلاء الشيوخ المخرفين الفاسدين هم الذين سيحلونها؟ - أنت لا تستطيع أن تراهم على حقيقتهم. - الحقيقة أنني أراهم على حقيقتهم. - أنت تردد باستمرار أقوال الصحف المعادية!

فقال بثقة مثيرة للحنق: أنا لا أومن إلا بالواقع، وعلى الشباب أن يعتمد على نفسه!

فدارى عيسى حنقه قائلا: دعوة هدم خطيرة، لولا الخونة لأوقفنا الملك عند حدوده الدستورية ولحققنا الاستقلال.

أتى حسن على القدح وابتسم بغية تلطيف الجو، ثم قال برقة: أنت رجل مخلص، وإخلاصك يحملك على الولاء لأناس لا يستحقون الولاء. صدقني، لقد عم الفساد، لا هم لأحد من أصحاب السلطات اليوم إلا الإثراء المحرم، إننا نستنشق الفساد مع الهواء، فكيف تأمل أن يخرج من المستنقع أمل حقيقي لنا؟!

وترامى إليهما صوت الأم وهي تكبر، وخفف عيسى من حدته مراعاة للضيافة، ولم تكن قوة تستطيع أن تحمله على التسليم بما يقول غريمه ولو معاندة له، ولكن اجتاحه حزن عميق، الدنيا تتغير، وآلهته يتفتتون بين يديه. وحسن من جانبه غير الحديث، فتكلم عن خسائر الحريق وتقدير التعويضات وموقف الإنجليز والاعتقالات المستمرة، ولكن ما لبث أن عاد يقول: دلني على ركن واحد لم ينضح بالفساد؟

ما أبغض أفكاره! محنق حاد مثير للكدر، وحادثة قديمة برزت في وعيه بلا مناسبة، وكان بصحبة أبيه في زيارة لبيت علي بك سليمان، فوجد نفسه وحيدا في حجرة السفرة، ولمح قطعة شيكولاتة في درج نصف مفتوح فدس يده فسرقها. حدث ذلك منذ حوالي ربع قرن، فيا للذكرى، أما حسن فلا يكف عن الهجوم كعادته دائما فتبا له. وسأله بفتور: ماذا تريدون؟ - دما جديدا طاهرا. - من أين؟

فضحك عن أسنان لؤلؤية صارخة بالصحة والعافية وقال: البلد لم يمت بعد.

فتساءل عيسى بحدة: دلني على ركن يستحق الثقة غير حزبنا!

رماه بنظرة ساخرة دون أن ينبس، وعلا صوت العجوز في الخارج بسيل من الأدعية، فعاد عيسى يتساءل: ما العمل إذن؟ - نؤيد الشيطان إذا تطوع لإنقاذ السفينة. - لكن الشيطان لا يتطوع لإنقاذ شيء.

ونظر في غير اكتراث إلى السماء الغارقة في الدكنة ليريح قلبه من نظرات خصمه، فقال حسن: يجب أن يذهب الإنجليز والملك والأحزاب وأن نبدأ من جديد.

فضحك عيسى في مرارة ثم قال: حريق القاهرة أثبت أن الخونة أقوى من الحكومة والشعب معا.

ورجعت الأم وهي تقول: ألا يوجد حديث آخر؟

بدا خداها محتقنين وشبه متورمين، واتخذت مجلسها السابق وهي تسأل حسن: وأنت متى تتزوج؟

وتذكر عيسى تقدمه الجريء لخطبة سلوى فاشتد امتعاضه. فقير لكنه جريء، وطمع - ولا شك - في مالها كآخر وسيلة لانتشاله من متاعبه. أما حسن فأجاب: الأحداث الهامة تقع فجأة وبلا سابق إنذار. - وأمك متى نراها؟ - آه، مسكنكم بعيد عن روض الفرج، ولكنها ستجيء حتما.

ثم سأل عيسى وهو يتهيأ للقيام: أين تذهب هذا المساء؟

فأجاب بتحد ولكن في هدوء: إلى النادي.

فنهض حسن وهو يقول: أستودعك الله .. وإلى اللقاء!

4

يوم الخطبة في قصر علي بك سليمان بهليوبوليس يوم يستحق الذكر، لم يكن ثمة فاصل حقيقي بين الجنسين، فقد احتلا بهوين متصلين بمدخل مشترك يعد في ذاته تحفة زخرفية، وأم عيسى وسلفتها أم حسن جلستا بين المدعوات في البهو الأحمر، وجلس في البهو الأخضر - بين المدعوين من الأهل والأقارب - أصدقاء عيسى الحميمون سمير عبد الباقي وعباس صديق وإبراهيم خيرت وابن عمه حسن، على حين استقبل البهو الكبير المتصل بالمدخل كبار المدعوين من أصدقاء علي بك سليمان وجملتهم من رجال السراي أو من رجال القضاء، كذلك معارف عيسى من رجال الحزب، وانكمشت أم عيسى وسلفتها تحت غمرة الأنوار الساطعة. فهذه الدنيا لا ينتميان إليها بسبب. ورغم الفستان النفيس التي تزينت به أم عيسى، ورغم وقار الشيخوخة، ورغم ضعف الحواس، وبخاصة البصر والسمع الذي أوهن انفعالها بالجو، رغم ذلك كله فقد لاذت بالانطواء ولم تحاول في مجلسها أن تمارس أي مظهر خليق بأم العريس، وعنيت سوسن هانم حرم علي بك بمؤانستها عناية خاصة لتذهب عنها الوحشة؛ فهي تحبها من قديم أو مذ كانت عروسا لعلي بك سليمان، وحبها للعجوز كان ضمن الأسباب التي جعلتها توافق على قبول عيسى، وسوسن هانم في أواسط الحلقة الخامسة ولكن لم يبق من جمالها إلا مسحة بسبب مرض الكبد المزمن وسوء حالة الكلية، ولكن طولها وعرضها وبهاءها الفطري أورثتها مزايا باهرة لا تبيد، وجعلت تقول لأم عيسى في لطف بديع: لا تنسي أنك في بيتك.

وهجم حسن على أصدقاء عيسى في مناقشة سياسية رغم معرفته البسيطة بهم. وتابعه عيسى من بعيد بعض الوقت وكان يظن أنه سيحجم عن شهود الحفل، فعجب لشأنه واقتنع بأنه يستطيع أن يتحدى الزمن نفسه إذا أراد، ولكن عيسى لم يستقر بمكان.

وخص مدعويه من الحزب بأخص مجاملاته، ولم يكن الجو في البهو الكبير يخلو من حرج، فقد واجه رجال الحزب رجال السراي، ومع أن البعض ربطت بينهم مودات قديمة إلا أن الأغلبية من الطرفين تجاهلت بعضها البعض، ولعب علي بك سليمان دوره بكل لباقة، ورحب بالجميع على قدم المساواة، رغم أنه هو نفسه من رجال السراي، كان محاميا وسطا حتى رشحته السراي لوظيفة مستشار في إحدى الحركات القضائية، ولم يعرف بلون حزبي ثابت، ولكنه اكتسى بشتى الألوان كقوس قزح، ثم انضم إلى حزب الاتحاد في الوقت المناسب، وسار في الركب الملكي حتى اعتلى أسمى مركز في القضاء، ومع أنه يقترب من الستين إلا أنه يتمتع بصحة وحيوية نادرتين. طويل القامة في استقامة رياضية بديعة، وعيناه السوداوان تحت حاجبيه الغزيرين الأسودين يهبانه جاذبية لا تقاوم، ودعم حياته في مطلعها بمصاهرة آل همت - أسرة سوسن هانم - فمد رقعة أرضه وأصل الأرستقراطية في ذريته، وراح يضحك ويداعب مدعويه جميعا قائلا: من تفرقهم السياسة فلتجمعهم الأفراح!

وهمس شكري باشا عبد الحليم في أذن عيسى: ألا ترى أن قريبك يعترف في دعابته بأن رجال الملك - والملك بالتالي - ليسوا فوق الأحزاب؟!

ومال الشيخ عبد الستار السلهوبي برأسه نحوهما ليسمع الهمس في اللحظة المناسبة، ثم ضحك ضحكة صامتة وهمس بدوره: إذن فلتكن الأحزاب فوق الملك!

ومد بصره في حذر إلى صورة الملك المعلقة بالجدار الأوسط للبهو، فابتسم عيسى قائلا: لا تخف، فإن اللعنات تنصب عليه في المقاهي جهرة.

ولكن مرارة السياسة ذابت في شربات الحفل، عيسى نفسه - وهو مخلوق سياسي قبل كل شيء - أسلم نفسه بكليته إلى لذة الوجدان. ازين كأحسن ما يكون، وتجلى وجهه ذو الهيئة المثلثة في أنقى مظهر، وصفت عيناه المستديرتان، ولم تكن فرحته بمصاهرة المال والجاه لتذكر إلى فرحة قلبه بعروسه، وأمله الصادق في حياة هانئة حقا، وغد مفعم بالمسرات، ومستقبل واعد بمجد حقيقي، وتناسى حريق القاهرة وإقالة الوزارة ونقله إلى المحفوظات، والفتور المحزن الذي اجتاح الحماس الشعبي، والتقاعس الذي طوق الجهات الرسمية نحو الأماني الوطنية والكآبة الدكناء التي خضبت الآفاق رغم انتشاء الحياة بمباهج الربيع. وكان عليه ألا يستقر في مكان أكثر مما يجب، الأمر الذي وافق رأسه المشتت بالانفعال. ومضى إلى سوسن هانم، فتفقدا البوفيه معا وألقيا نظرة أخيرة على صورته المكتملة الزاخرة بالألوان، ثم قصد إلى البهو الأخضر فجلس بين أصدقائه الأعزاء الذين ود لو يبقى بينهم حتى تدعوه اللحظة الحاسمة. وقال إبراهيم خيرت وهو يسدد النظر إلى البهو الأحمر: ما أكثر اللحوم البيضاء وما أجملها!

فتساءل عباس صديق مازحا: هل تقصد الحاجة أم عيسى؟

ونظر عيسى إلى أمه في فستانها النفيس المحتشم فارتاح إلى تفوقها على أم حسن في الوقار رغم وسامة الأخيرة، وشكا عباس صديق إليه حسن قائلا: ابن عمك أعنف من حريق القاهرة!

فضحك حسن طويلا، وعاد عباس يقول له بنبرة الناصح: تزوج أنت أيضا وسوف تقتنع بأن الحزبية ليست أسوأ الأشياء.

وإذا بسمير عبد الباقي يقول: الحالة مضطربة جدا!

فأدرك الجميع أنه يتكلم في السياسة، وقال عيسى: هذا أمر محقق.

فقال سمير بتوكيد: لكنها مضطربة أكثر من الظاهر المعروف.

فقال حسن ساخرا: ربنا يكرمك! - يقال إن الملك سيستأجر جنودا مرتزقة لأنه لم يعد يثق بأحد!

فقال عباس صديق ضاحكا: ليس أدل على سوء الحال من قول أحد الأحرار الدستوريين إنه يفضل عودة الوفد على تفسخ الوضع الراهن!

وقال حسن بإصرار: أسأل الله المزيد من الاضطراب والتفسخ!

دعي عيسى إلى الداخل لإعلان الخطبة، فتعلقت به الأبصار وساد الصمت، وصمت حسن أثقل الصمت، وانطلقت زغرودة سمعها كل من في القصر، وطافت سلوى بين أمها وخطيبها بجميع الحاضرين قبل أن تتخذ مجلسها المجلل بالورود في البهو الأحمر. جميلة حقا. عيون أبيها ركبت في وجه بدري شفاف البياض. واقتبست من أمها طولها الفارع البهي، وعنقها الطويل النحيل، ولكن انبعثت من عينيها نظرة رطيبة طيبة توحي بالوداعة والخلو التام تقريبا من الذكاء والحرارة، وجعلت تلتفت نحو أمها بصفة مستمرة كأنما تستلهمها الإرشاد والمعونة أو أنها تعاني في أعماقها بوادر أزمة الانفصال عنها في خوف وعدم ارتياح، أما فستانها فقد تحدث المدعوون عنه طويلا.

وتواصل الحفل ففني جميع ما اكتظ به البوفيه من الشطائر والحلوى والأشربة، وأخذ المدعوون في الانصراف محملين بعلب الحلوى، ثم خلت حجرة الجلوس المطلة على شارع البارون بفراندا ضخمة للخطيبين وسوسن هانم، وانتشر الليل في جو ربيعي صاف، وامتدت عمالقة الأشجار المحدقة بالبستان مترنحة سابحة في أمواج الضوء الساطع المتدفق من المصابيح الكهربائية، وهبت نسائم مرطبة ببرودة حنونة منعشة.

وقال عيسى: إني أعتبر اليوم غاية سعادتي.

فهمست باسمة في حياء: أشكرك .. وأرجو أن أعرب لك عن مشاعري عندما أجد الشجاعة الكافية.

وتفحصتهما سوسن هانم بسعادة وهي تقول: ستتم سعادتنا بزواجكما في يوليو بإذن الله.

وتساءل عيسى: متى يتاح له عناقها؟! وثمل بسعادة دسمة لحد القلق، وقال لنفسه إنه يترسم خطى علي بك سليمان، وسوف يفوز في النهاية بمركز كمركزه، ولم يكن ذاق الحب إلا مرة وهو تلميذ بالثانوية، أحب يومذاك ممرضة على محطة الترام الصباحية واندفع بجنون، ولكن والده شكمه وروضه. ها هو اليوم بعد مرور حياة غير قصيرة، وبعد أن امتحنته الدنيا بالسجن والضرب والمطاردة والرفع والخفض، ها هو يخطب بعد انقطاع عن رؤية خطيبته لا يقل عن عشرة أعوام، ولكنه في الوقت نفسه عرف الحب وأترع برحيقه، وكان يقبض بيديه على سعادة مضمونة، وقال لها: أنت يا عزيزتي صورة من والدتك، ولذلك فخيالي عاجز عن تصور سعادتي.

فضحكت سوسن هانم قائلة: أرجو أن تذكر كلامك هذا للمستقبل، فإنه يقال إننا - الحموات - لا نسمع الكلام الجميل إلا في هذه المناسبة.

وضحكت سلوى ضحكة رقيقة جدا، فازداد عيسى سعادة وملكته فجأة رغبة في التباهي فسألها: ترى هل يضايقك العيش في الخارج لو دفعتنا الظروف مستقبلا للعمل في السلك السياسي؟

فأجابت عنها أمها قائلة: سلوى متخرجة في المدرسة الألمانية.

فابتسم معلنا عن ارتياحه، ثم غمغم: لتكن الحياة سعيدة، شهدنا في حياتنا آلاما حقيقية، فلتكن سعادتنا حقيقية أيضا!

5

قال عيسى لسلوى: في حياتنا سر يجب أن تعرفيه.

وهما يجلسان في الفراندا المفعمة بعبير الورد والقرنفل، والمغيب يقترب نصف مسدل الجفنين، والشمس تسحب أهدابها من هامات القصور، والربيع يتنفس شبابا رائقا، وهما في خلوة خلقها اختفاء سوسن هانم إلى حين، يشربان الليمون من دورق بلوري على ترابيزة من القش الملون. وغمغمت سلوى متسائلة: سر؟!

فارتفع نصفه الأعلى ابتداء من حاجبيه المستقيمين، كما يفعل وهو يتأهب للحديث أو للخطابة، ثم قال: نعم، تظنين أنني تقدمت لخطبتك دون سابق رؤية، ولكنني في الحق أحببتك حبا عظيما قبل عشرة أعوام، كنت وقتذاك في العاشرة وكنت أنا في العشرين، وكنا نقيم في بيت والداتي بالوايلية، وأنتم كنتم في الهرم، وكان والدك - المحامي وقتذاك - على صلة وثيقة بأبي ويتبادلان الزيارة كثيرا، وكنت جميلة جدا كما أنت اليوم، فوقعت في غرامك، ألا تذكرين تلك الأيام؟!

فتكتمت ضحكة بالعض على باطن شفتها وقالت: قليلا، أذكر أنني رأيت صواريخ مولد النبي مرة عندكم، ولكني لا أذكر ذلك الغرام.

فضحك وهو يطوح برأسه إلى الوراء في حركة خاصة مقلدا دون قصد أحد باشوات الحزب، وقال: ولا أحد يذكر، ولكن المرحوم والدي ضبطني مرة وأنا أحدق فيك بشغف وأخرى وأنا أقبلك! - لا! - نعم .. قبلة بريئة تناسب طفولتك. - لكنك لم تكن طفلا . - لكنك كنت طفلة! ما علينا، قال لي والدي عند ذلك: اجتهد وأنت تتزوجها، كن شابا لائقا بها وأنا أزوجك منها! فسألته عن مدى اللياقة المطلوبة، فقال لي: إن علي بك سليمان قريبه وحبيبه ولكن يجب أن تحوز القبول عند سوسن هانم، وهي غنية لا تهمها الثروة، ولكنها تريد لكريمتها شابا ناجحا، قاضيا مثلا، والحق أن كثيرين بهرهم صعودي السريع حتى صرت من كبار الموظفين، بل ومن رجال السياسة في هذه السن المبكرة، ولكن أحدا لم يفطن إلى البواعث الحقيقية وراء ذلك النشاط الفذ.

فبسطت بحركة رشيقة مروحة عاجية صغيرة، حتى تكشف صفحتها عن صورة بطة في الماء، وقالت في سخرية وديعة: هذا رغم أنك لم تزرنا طوال عشرة أعوام!

فقال جادا: لا تنسي أن والدك اختير مستشارا بعد ذلك، فعمل أعواما ما بين أسيوط والإسكندرية، ولا تنسي انغماسي في السياسة بعد ذلك.

فقالت وهي تبتسم في دلال: وكيف عرفت أن العشرة الأعوام لم تصنع مني شيئا رديئا؟ - قلبي! أنا أومن بشعور القلب، ولما رأيتك تضاعف إيماني به، وعليه فخطبتنا في ظاهرها تقليدية، ولكنها تطوي في أعماقها قصة حب، وإن يكن حبا من جانب واحد.

وهمست وهي تنظر بعيدا: على أي حال لم تعد كذلك!

ضم ذقنها بين أصابع يده، وأدار وجهها بلطف، ومال برأسه حتى تلاقت شفتاه المشوقتان بشفتيها الرقيقتين في نبضة متبادلة، وارتد وهو يبتسم في سعادة حقيقية، وراح ينظر إلى مجامع أصص الزهور في الفرندا بعينين غمرتهما العاطفة كما يغمر الضباب زجاج النافذة. والقصة بعد ذلك ليست اختلاقا على طول الخط، طالما أعجب بجمالها في ذلك العهد البعيد، وهو وإن لم يكن نسيها عشرة أعوام إلا أنه يحبها الآن حبا حقيقيا، فما الضير في سد الفجوة بكذبة بيضاء تشع حكمة وتضفي على علاقتهما جمالا ساحرا! ولكن المحبوبة لا تريد أن تنفصل عن أمها، كأن القابلة نسيت أن تقطع حبلها السري في حينه، وهو يتوجس من ذلك خيفة أحيانا، ويتطلع بإلحاح إلى اليوم الذي يتم له امتلاكها حقا، ونظرة الاسترشاد أو الاستئذان التي توليها إياها عند مقاطع الحديث تقلقه بعض الشيء، ولكن سعادته اكتسحت ذلك كله كما تكتسح الموجة العالية نفايات الساحل ثم تتركه أملس صافيا، وفقرها المدقع في تجارب الحياة العادية أسعده. ولعله تملق شعوره بالاستعلاء، كما لذه حنينها الدائم إلى الموسيقى واطلاعها الغني على الرحلات، وقال: حبك كنز ثمين لا يقدر بثمن، وعندما جئت لمقابلتك أول مرة سألت الله أن أقع من نفسك موقعا حسنا. - كنت أراك قبل ذلك في الصحف.

فقال بارتياح: لو توقعت ذلك في حينه لاستعددت استعدادا أكثر عناية للتصوير. - هذا لا يهم البتة، ولكن سمعت أيضا عن «شقاوتك» في السياسة.

فضحك مطوحا برأسه إلى الوراء مرة أخرى على طريقة ذلك الباشا، وقال: ترى ما رأيك في ذلك؟ .. أنا صديق عتيد لهراوات البوليس، وزنزانات الأقسام، والرفت، والمطاردة، ترى ما رأيك في ذلك؟!

فعضت باطن شفتيها مرة أخرى وقالت: بابا يقول ...

وسرعان ما قاطعها: لا داعي للاستشهاد ببابا في هذا الشأن، أنا أعرف مقدما رأيه، فهو من رجال الجانب الآخر، وأنت لا تهتمين إلا بالموسيقى وكتب الرحلات .. عليك من الآن فصاعدا أن تعدي نفسك لدور زوجة الرجل السياسي بكل معنى الكلمة.

ورجعت سوسن هانم إلى الحجرة، فوقفت أمامها وهي تقول بلهجة من يفضي بنتيجة مسعى قام به: ليكن الأمر كما تشاء.

فوقف الشاب ببدلته الشاركسكين الناصعة البياض وهو يقول: شكرا يا هانم.

ثم جلسا وهو يستطرد: ليكن الزواج إذا في أغسطس، ثم نسافر إلى أوروبا بعد ذلك مباشرة.

وتلاقت النظرات في ارتياح، وغاب آخر شعاع من الشمس، وربت عيسى على ركبتيه فجأة، ثم قال مخاطبا سوسن هانم: كنت أحادث سلوى عن غرامي بها منذ عشرة أعوام.

فرفعت المرأة حاجبيها دهشة، وقالت لابنتها محذرة: لا تصدقي كل شيء يا سلوى، خطيبك سياسي وأنا أدرى بهؤلاء السياسيين!

وأغرق ثلاثتهم في الضحك.

6

كان عيسى يتناول فطوره حين توقف الراديو عن إرساله المعتاد ليذيع بيان الجيش في صباح 23 يوليو.

لم يفقه معنى ما تلقته أذناه بادئ الأمر، ثم وثب من مجلسه ليحملق في الراديو وهو يلعق شفتيه. وترادفت الكلمات الغريبة لتصنع جملا مذهلة سرعان ما تنفجر الدهشة عند استيعاب معانيها، ودار رأسه كمن يخرج بغتة من ظلمة عمياء إلى نور باهر، وراح يتساءل: ما معنى هذا! ما معنى هذا؟!

ومضى إلى حجرة الجلوس، فجلس إلى جانب أمه وهو يقول: أنباء خطيرة جدا!

رفعت العجوز إليه عينيها الضعيفتين، فقال: الجيش يتحدى الملك!

وهضمت المرأة الخبر بعسر شديد، ثم تساءلت: كأيام عرابي باشا؟!

آه .. كيف لم يرد هذا المعنى على ذهنه؟! حقا إنه في نهاية من الاضطراب، وتمتم: نعم، كأيام عرابي.

فسألته بقلق: وهل تقوم الحرب؟

آه .. ماذا سيقع حقا؟! ليس في القاهرة الآن شخصية واحدة يمكن الرجوع إليها لاستقاء الأنباء، وإذا كان هو لم يقم في إجازة، فما ذلك إلا لأنه أجل إجازته لحين سفره إلى الخارج. - كلا، للجيش مطالب، وسوف تتحقق مطالبه، هذا كل ما في الأمر.

وسافر إلى الإسكندرية، ها هو الطاغية يتلقى صفعة فولاذية، لتكن صفعة بقوة طغيانه، فلتكن قاضية، وليحترق باجترار آثامه. انظر إلى عواقب غيك وحماقتك، ولكن أين تقف هذه الحركة؟! وما الدور الذي سيلعبه الحزب؟ الأمل أحيانا يسكره، وأحيانا يدوخه إحساس كالذي يخالج الكلاب قبيل الزلازل، ووجد عبد الحليم باشا شكري في أثنيوس مرتديا بدلة بيضاء من الحرير الطبيعي، مغروزا في عروة جاكتتها وردة حمراء قانية، وأمامه قدح من البيرة الاستوت، لم يبق فيها إلا رغوة كاليود، وقال له الباشا وهو يضيق عينيه في فتور: دعك من مطالب الجيش، الحركة أكبر من ذلك، المطالب يمكن أن تتحقق اليوم ثم يشنق مقدموها غدا، كلا يا أستاذ، ولكن من الصعب جدا التكهن بما وراء ذلك. - أليس عند سعادتك أخبار؟ - الحوادث أسرع من التنبؤ، كان يجلس مكانك منذ ساعة مستر جودوين الصحفي الإنجليزي، وقد أكد لي أن الملك قد انتهى.

فاستكان للدهشة الطاغية دقيقة ثم تساءل: أليس لنا علاقة بهذا الأمر؟ - لا يمكن الجزم بشيء من هؤلاء الضباط؟ ولا تنس أن زعماءنا في الخارج. - قد يكون لسفرهم علاقة بالحركة.

وأبى وجهه أن يتفاءل، واكتفى بأن قال بصوت لا يكاد يسمع: قد!

وأكثرا من الكلام وأعاداه دون أن يضيفا إليه جديدا، ولكنه انقلب غاية في ذاته وجدا فيها متنفسا عن القلق.

وفي فيلته بسيدي بشر، استلقى علي بك سليمان على كرسي خيزران هزاز، شاحب الوجه، مغضن الجبين بعبوسة ثابتة، وفي عينيه نظرة مريضة خسرت جمالها الطبيعي وكبرياءها المأثور، ولما رآه مقبلا تطلع إليه باهتمام شديد وسأله بلهفة: ما وراءك؟

وجلس عيسى وهو يشعر بثقل نظرات الرجل وزوجه وكريمته، ثم قال بهدوء ظاهري واعتزاز خفي بما سيضيفه إلى الموقف من جديد: الملك انتهى.

وانطفأ آخر قبس في عيني الرجل، وألقى نظرة عليلة على البحر المعربد من خلال الشرفة، ثم تساءل: وأنت .. أعني أنتم .. هل أنتم موافقون؟

استمتع بلحظة اعتزاز كاذب، تأرجحت فوق جرح أليم، وتمتم: الملك عدونا التقليدي.

اعتدل البك في جلسته، وسأله: هل للحزب علاقة بما يحدث؟

ود لو يستطيع أن يجيب بالإيجاب أمام الأعين المحدقة، ولكنه قال وهو يداري تعاسته: لا أدري عن هذا شيئا. - لكنك تستطيع أن تدري بلا شك. - ولا أحد ممن قابلتهم يدري، وزعماؤنا الحقيقيون في الخارج كما تعلم سعادتك.

فنفخ الرجل بضيق شديد، وقال: نسينا بسرعة درس عرابي، وعما قليل سيزحف الإنجليز.

فتساءل عيسى قلقا: هل من أنباء عن ذلك؟

فلوح الرجل بيده ساخطا، على حين سألته سوسن هانم: ألا يحسن أن نذهب إلى العزبة؟

فأجابها بفتور: لا أحد يدري ما هو الأحسن.

وانطلقت الأحداث حتى غادر الملك البلاد، وشهد عيسى ذلك في الإسكندرية، ورأى بعينيه تحركات الجيش، كما رأى المظاهرات الصاخبة، وعانى طوال الوقت من عواطف متضاربة أطاحت به في دوامة ما لها من قرار، شعر بفرحة كبرى عزت على التصديق والتأمل، وشفت صدره من آلام المقت المكبوت، ولكن هذه الفرحة لم تنطلق إلى ما لا نهاية، وإنما ارتطمت بسحائب دكناء كدرت بعض الشيء صفاءها، أهو رد الفعل الطبيعي لكل شعور عنيف؟ أم هو رثاء تجود به النفس المطمئنة أمام جثة غريمها الجبار؟ أم إن تحقيق هدف من أهدافنا الكبرى يعني في الوقت ذاته زوال سبب من أسباب حماسنا للوجود؟ أم إنه عز عليه أن يتحقق هذا النصر الكبير من غير أن يكون لحزبه الفضل الأول فيه؟

وهكذا وجد زوار عبد الحليم باشا شكري في قصره بزيزنيا، كانوا مزيجا من السرور والوجوم والقلق، وراح الباشا يقول: سبحان من له الدوام.

وبطريقته الخطابية في الحديث، قال الشيخ عبد الستار السلهوبي، عضو الشيوخ: انتهى فاروق، ولكننا نريد أن نطمئن على أنفسنا.

وتمطت موجة من الضحك العصبي الخالي من السرور الحقيقي، غير أن عيسى تساءل، وهو يجلس إلى جانب أصدقائه سمير عبد الباقي، وعباس صديق، وإبراهيم خيرت: ماذا عن المستقبل؟

فأجابه عبد الحليم باشا شكري متجاهلا الغرض الحقيقي من السؤال: سيكون خيرا من الماضي بلا ريب!

فقال الشيخ عبد الستار السلهوبي: لعله يسأل عن مستقبلنا نحن!

فقال الباشا بوجه غير معبر كما يجدر بسياسي عتيق: سيكون لنا دورنا بغير جدال.

واهتز جذع الشيخ عبد الستار كالمقرئ في الفترات المتخللة للتلاوة، ثم قال بعنف: هذه الحركة ليست في صالحنا .. إني أشم الخطر على بعد آلاف الأميال، يوم ألغيت المعاهدة خسرنا الملك والإنجليز، واليوم سنخسر كل شيء.

فقال سمير عبد الباقي: نحن آخر من يتوقع الخطر، أو هذا ما ينبغي.

وقال إبراهيم خيرت: إن ما حدث اليوم هو ما كنا نفعله لو ملكنا القوة اللازمة.

فقال الشيخ عبد الستار ساخرا: ولكننا لم نفعله يا سي عمر!

وتجمع الماضي في خيال عيسى كقبضة عنيفة مفعمة بالجلال والحزن، وحدثه قلبه بأن ذلك الماضي يتبلور الآن في صورة فقاعة لن تلبث أن تنفجر، وأن وجها جديدا من الحياة يسفر عن صفحته رويدا رويدا حافلا بالجدة والغرابة، وأن بوسعه أن يتعرف على هذا الوجه لأنه سبق له أن لمحه هنا أو هناك، ولكن من أين لهذا الوجه أن يتعرف عليه هو داخل الفقاعة المتفجرة؟ ثم استراحت عيناه عند صورة فنية معلقة على الجدار فوق المدفأة الباردة، تعرض زنجية غليظة الشفتين جاحظة العينين في غير دمامة، تحدق في وجهه بنظرة حسية وقحة ناطقة بالإغراء والتحدي.

7

وشحن الجو باحتمالات شتى متناقضة، ولكنها اتفقت جميعا على انتزاع الطمأنينة من نفسه، فكابد حياته بأعصاب عارية، وبات تأجيل زواجه أمرا محتوما حتى تستقر الأرض تحت قدميه، وحتى يسترد حموه وعيه. وانتصبت علامات الاستفهام أمام عينيه وأعين أصحابه كالرايات السود على السواحل عند هياج البحر، ومضغوا الشائعات كالعلقم، ثم علم أن حسن ابن عمه اختير لوظيفة مهمة، وأن الباب انفتح أمامه إلى مراكز أهم وأخطر، مما قطع بأنه من أهل الدنيا الجديدة وقد صعقه الخبر أشد مما صعقته الأحداث، ولبث مدة لا يدري كيف يبلغه أمه، ولكن العجوز لم تفهم الأمور على حقيقتها وقالت ببلاهة: سيأتي دورك، لا تحزن، أنت تستحق كل خير.

وقال لنفسه: ما أجمل أن يعيش الإنسان بعيدا عن منطقة الوعي! ثم أعلن عن نظام التطهير، وقرأه بانتباه جنوني ومرارة ويأس، سيدركه الدمار الذي يحيق بالأحزاب والزعماء، ستقتلع الجذور التي تثبته بأرضه جذرا بعد جذر، وما أغرب ما يقع اليوم مما لم يكن يتخيله أحد، ها هو صديقه إبراهيم خيرت المحامي وعضو مجلس النواب السابق يتحمس للثورة بقلمه في أكثر من صحيفة كأنه ضابط من رجالها! ويهاجم الأحزاب - وحزبه ضمنها طبعا - والعهد البائد كأنما لم يكن أحد رجاله. وعباس صديق آمن مطمئن غير مكترث للأحداث إذا وجد ظهرا يحميه في العهد الجديد بل واصل طموحه إلى الترقي بأمل أقوى مما كان، سمير عبد الباقي وحده الذي شاركه القلق والخوف والمصير، وهو شاب نحيل رقيق قمحي البشرة، تشع من عينيه الخضراوين نظرة حالمة فوجد عنده بعض العزاء، وسأله: كيف تتصور أن يكون مصيرنا؟

فقال وهو يبتسم ابتسامة باهتة: الطرد أقل ما ينتظرنا.

فسأله بحلق جاف: ما عسى أن نفعل؟ - معاش لا قيمة له، ولكننا قد نجد عملا في شركة. - ترى هل يتيسر لنا ذلك، وهل نجد الشجاعة لنبدأ من أول الطريق من جديد؟!

وهز الآخر رأسا لا يعد الشيب نادرة في سواده وغمغم بلا روح : عسى أن تكذب الأحداث ظنوننا.

وتراكمت الشكاوى في لجنة التطهير كالزبالة، وعلم عيسى أن كثيرا منها يستهدف القضاء عليه. ولم يستغرب ذلك بطبيعة الحال، فإن أعداءه من المسئولين في الوزارة أكثر من أصدقائه، وأضاف إليهم الحاقدين والحاسدين والذين يتطوعون للشر عند أي مناسبة، بل من هؤلاء وأولئك من تحداه علنا في الوزارة بلا سبب، ومن عرض به ساخرا وجها لوجه، وحتى بعض مرءوسيه استباح لنفسه الاستهانة به، حتى انقلبت الوزارة ركنا من الجحيم.

ثم استدعي للمثول أمام لجنة التطهير، وكانت اللجنة تجلس وراء مائدة خضراء امتدت في عرض الحجرة بمكتب المستشار القانوني للوزارة، واحتلت السكرتارية الجناح الأيمن، على حين دعي هو للجلوس أمام الأعضاء في الناحية المقابلة من المائدة، لمح مكان صورة الملك أخرى تحمل اسم الله، ونقل بصره بين الوجوه فعرف في ممثل مجلس الدولة زميلا قديما في لجنة الطلبة كاد يهلك معه يوما في مظاهرة أمام بيت الأمة، فبل منظره ريقه، ولكن الأعين جعلت تنظر إليه برزانة أو تلقي على الأضابير نظرات، ولم يبد على أحد منهم أنه زامله يوما، بالرغم من وجود مراقب المستخدمين ومدير الإدارة العامة بينهم، وكان شخصه يهز كثيرين من أعضاء اللجنة في الماضي، حتى وحزبه خارج الحكم، ولكن حلت الحيدة الباردة محل العرفان والعاطفة، وسرى في جو الحجرة الكبيرة عالية السقف ذات الجداران القاتمة المشبعة برائحة السجائر العطنة روح رهبة ثلجية، ومن خلال زجاج الباب المغلق انقضت حدأة على الشرفة الخارجية ثم ارتفعت بسرعة خاطفة وهي تطلق صوتا كالنواح.

وحدجه الرئيس بنظرة طويلة من نظارته الكحلية المذهبة وقال: أرجو أن تطمئن كل الاطمئنان إلى عدالتنا فهي لا تبتغي إلا وجه الحق وحده.

فقال بهدوء باسم ليستر يأسه: لا شك عندي في ذلك. - وأحب أن تعلم أن المهمة التي كلفنا بها غايتها المصلحة العامة لا الانتقام ولا أي غرض آخر.

فقال وهو يهبط درجات جديدة في أحضان اليأس: لا شك عندي في ذلك أيضا.

وصدرت إشارة إلى السكرتارية فتليت العرائض تباعا، بعضها موجه من موظفين، والبعض الآخر من عمد، وانقلب صوت قارئ العرائض رتيبا كملقن الأموات، وأغمض عيسى عينيه ابتغاء تركيز أشد، ولكن التهم جميعا انصبت على تعيين العمد بالحزبية والهدايا، فتشتت في التكرار تركيزه، وذاب في الظلمة التي اختارها. ومن خلال ضباب أحمر انغرزت في أذنيه السهام، ورغم الجهد المبذول للتركيز اعترضته الذاكرة بصورة قديمة جدا مخضلة كأعشاب الطفولة اليانعة وهو عائد من ملعب كرة في الخلاء المحدق بالوايلية في يوم انهل مطره كالسيل، فلم يجد ما يحتمي به من انفعال السماء إلا أسفل عربة زبالة، وتساءل عن معنى هذا كله، وفتح عينيه فرأى الوجوه وهي تتموج، وللحظة قصيرة خيل إليه أن فردة شارب المستشار اليسرى موصولة بفردة شارب ممثل مجلس الدولة اليمنى، وسئل عن رأيه، أي رأي؟! وقال بحدة قاهرة: كلام فارغ، أريد دليلا واحدا.

وامتلأ قوة، ولكنه سرعان ما باخ وتهاوى كورقة خضار ذابلة صفراء. قال الرئيس: كان الوزير يعتمد ترشيحاتك، فأنت أول مسئول. - كان ذلك ضمن واجباتي، وقد أديته بما يرضي ضميري. - هل من سبب غير الحزبية يمكن أن يفسر لنا عزل وتعيين العمد؟

فقال وهو يحاول أن يسيطر على لهاثه وتهدجه: لتكن الحزبية هي السبب، ألم تكن من مقومات حياتنا الماضية؟ - هل أنت مقتنع بصحة تصرفاتك؟ - أرى أنها كانت طبيعية جدا.

فتساءل الرجل وهو يلعب بالباركر في يده: والهدايا؟!

فاندفع يقول بحدة: قلت إنه كلام فارغ، أريد دليلا واحدا.

وتليت أسماء الشهود من العمد أنفسهم، فهتف: ما قيمة الدس الوضيع؟

ثم استدعي موظفون ممن عملوا معه على فترات متتابعة، فأدلوا بأقوالهم، وعرضت عليه توقيعات بخط يده لترقية موظفين بصفة استثنائية، ولأداء خدمات في الري والزراعة، وبعضها يوصي بمجرمين ريفيين ممن تربطهم صلات الرعاية أو القربى بنواب سابقين. وامتد الوقت حتى فقدت الأشياء ألوانها، وصاح بعصبية: دلوني على موظف واحد يستحق البقاء!

وتصدى له عضو في اللجنة لم يعرفه من قبل، فتكلم بعنف عن واجبات الموظف نحو الشعب، ثم قال: الثورة صادقة العزم على تطهير الجهاز الحكومي من كافة أنواع الفساد، وأؤكد لك أن المستقبل لن يرى مصريا واحدا مهضوم الحق، ولا مصريا واحدا يؤثر بأي لون من ألوان الخير أو الامتياز لانتمائه إلى فرد أو أسرة أو هيئة.

ونصحه شيئا من أعماقه بألا يتعرض لمناقشة هذا العضو، فلاذ بالصمت، واستمر التحقيق حتى الرابعة مساء، ثم غادر اللجنة كعود جاف مقصف اخترمته دودة عاتية! واخترق إلى الدقي طرقات غرقت - كقارة أطلس - بجميع أبعادها وأحيائها وجمادها تحت أمواج ذاته الهائجة المتلاطمة، حتى لم يعد يرى أو يسمع أو يعي إلا القلق الشيطاني بأشواكه الحادة ومكره القاسي، وتساءلت الأم العجوز: لم لا تحدث في أمرك ابن عمك وهو منهم؟

لدغته وصيتها فانفجرت في عينيه نظرة جنونية من الغضب.

8

واستدعاه مراقب المستخدمين ليبلغه قرار إحالته إلى المعاش مع ضم سنتين إلى مدة خدمته، وهو نفس المراقب الذي كتب مذكرات ترقياته الاستثنائية التي توجت بترقيته إلى الدرجة الثانية ... ولعله ما زال يحتفظ بمشروع مذكرة لترقيته إلى الدرجة الأولى كانت قد أعدت لرفعها إلى مجلس الوزراء قبيل إلغاء المعاهدة بأسبوع واحد، ثم لم تحظ بفرصة لاعتمادها في غمار الأحداث التي أعقبت إلغاء المعاهدة، ولم يكن للرجل لون حزبي ولكنه لم يشك لحظة في كراهيته له لتساويه معه في الدرجة رغم فارق السن الشاسع بينهما، وتأثر المراقب بمأساة الموقف فانتهز خلو الحجرة من أي مستمع وقال له: لا يعلم إلا الله مدى حزني يا أستاذ عيسى!

فشكره وهو على يقين من مدى كذبه، فثمانية أعوام في معاشرة الموظفين كافية جدا ليجيد ترجمة مصطلحاتهم المحفوظة في المجاملات إلى معانيها الحقيقية. وها هو ملف خدمته مطروحا على مكتبه، وها هو اسمه مخطوطا على غلافه بالفارسي «عيسى إبراهيم الدباغ»، فرآه بعين الخيال وهو يلقى في الدفترخانة ليقبر هنالك إلى الأبد بكل ما يسجل في أوراقه من توقيعات تاريخية تشهد له بالامتياز وتبشره بأسعد مستقبل. وسأل عن مقدار معاشه فأجاب المراقب: اثنا عشر جنيها، ولكنك ستقبض مرتبك كاملا لمدة عامين.

وغادر الوزارة بعينين تحملقان في داخل رأسه. أيقن الآن أنه قضي عليه بأن يعاني التاريخ في إحدى لحظات عنفه، حين ينسى وهو يثب وثبة خطيرة مخلوقاته التي يحملها فوق ظهره، فلا يبالي أيها يبقى وأيها يختل توازنه فيهوي، ومشى طويلا في دفء الشمس دون هدف، وفي غفلة تامة عن الشوارع التي يخبط فيها. تذكر البوديجا قهوته المختارة، فمضى إليها. في مثل هذا الوقت من الظهيرة ليس ثمة أمل في أن يجد في مجلسه أحدا من أصدقائه فراح يحتسي الشاي وحيدا وصورته في إحدى المرايا المصقولة تؤانسه، رغم كآبة منظرها. ووجد الجماعة تلعب النرد وتتحمس حتى الجنون لما يجيء به الزهر، وجد فيها أصدق مثال للامبالاة التي تلقت بها الدنيا كارثته، فتحول عنها وعن الغارقين في دخان النارجيلة إلى صورته الكئيبة. لو نطقت هذه الصورة لوجدت حقا من يفهمني، خبرني ماذا فعلت، ولم لم تقرأ المستقبل إذ هو على بعد ساعات منك، على حين تؤكد أخبارا وقعت فوق سطح الأرض منذ ملايين السنين. وهذا الوجه ذو الرأس الكبير والهيئة المثلثة الذي مدحه أحد الشعراء فشبهه بدلتا النيل، وهذا الوجه الذي كان مرشحا للصفحات الأولى من الصحف، ما باله يندثر كالديناصور عملاق الأساطير البائدة! وكالشاي الذي تحتسيه المقتلع من أرضه الطيبة في سيلان ليستقر آخر الأمر في مجاري القاهرة. وإذا علوت بضعة آلاف من الأقدام في الفضاء فلن ترى فوق سطح الأرض حيا ولن تسمع صوتا، إذ يذوب كل شيء في حقارة رهيبة كونية، والماضي الضخم الذي ما زالت أنفاسه تتردد على وجهك تقطع القرائن بأنه سيتحلل وشيكا ويتعفن ولن تبقى منه إلا على رائحة كريهة.

وارتفع صوت يقول في عصبية: قلبي يحدثني بأنني سأجدك هنا.

وأقبل سمير عبد الباقي فجلس إلى جانبه بوجه شاحب ونظرة منكسرة كأنما تطالعه من وراء القضبان، وفرح عيسى به فرحة جعلته يشد على يده بقوة نابضة بالاستغاثة، وعاد سمير يؤكد: قلبي يحدثني بأنني سأجدك هنا!

فضحك عيسى ضحكة عالية اختلج لها جفنا صاحب القهوة وراء طاولته ثم قال: ولن تجدني منذ اليوم إلا هنا!

فرنا إليه بنظرة ميتة من عينيه الخضراوين، وقال: وأنا كذلك اليوم، وقد غادرت الوزارة لآخر مرة.

وتبادلا نظرة طويلة مغرورقة باليأس، ثم اجتاح عيسى مرح غريب لكنه مريب غير أصيل، كأنه منبعث من خمر أو مخدر، وتساءل: وما العمل؟ - لدينا هدنة عامين بمرتب كامل. - وبعد ذلك! - يمكن أن نجد عملا في شركة.

فتساءل عيسى بارتياب: وأي شركة تجازف بقبولنا؟!

فقال سمير متنهدا: لا بد لكل مشكلة من حل.

ومضى في طريقه إلى مسكنه، وهو ينظر إلى الناس بغرابة، كأنما يراهم لأول مرة، وهم غرباء لا يمتون إليه بسبب ولا يمت لهم بسبب، وهو منفي في مدينته الكبيرة، مطارد بغير مطاردة، وعجب كيف انهارت الأرض تحت قدميه فجأة كأنها نفخة من تراب، وكيف تقوضت الأركان التي قاومت الدهر ربع قرن من الزمان ... وألقى نظرة على وجه أمه الذابل، ثم دهمها بالخبر، فوضعت راحتها فوق نافوخها كأنما لتوقف الألم المتصاعد، وتأوهت متسائلة: لم يفعلون بك ذلك يا بني؟

من الخير أنها لا تدري شيئا، وراح يتجول في المسكن على مهل، يا له من مقام نفيس لا يمكن الاحتفاظ به بعد الآن، مرتب عامين ورصيد في البنك من نفحات العمد، ولكن هل يكفيه ذلك إلا عامين آخرين؟! وجميع هذه التحف التي تزين المدخل والاستقبال والمكتبة هي أيضا «هدايا». أجل، إن المذنبين أضعاف المطرودين، ولكنه مذنب وأصحابه مذنبون، أين الأيام البعيدة الطاهرة أين! أما الختام فهدايا محرمة وفساد ثم الضياع المباغت وهو على عتبة المناصب العالية المؤدية إلى كرسي الوزارة! وكيف تعيش في دنيا من الناسين والمتجاهلين والشامتين وقد طويت الأمجاد كأن لم تكن، ونشرت الأخطاء كالأعلام؟!

وذهب عصرا إلى فيلا علي بك سليمان، تحت سماء ملبدة بالغيوم، وقد عصفت بالجو ريح باردة أثارت غبار الأرض كالخماسين. وفكر وهو يصعد السلم المرمري العريض بأنه لولا الحصانة القضائية لقذف بعلي بك سليمان إلى جانبه في الشارع.

وكان البك في الخارج، وسوسن هانم في الفراش متوعكة بنزلة برد، ثم جاءت سلوى في روب من المخمل الأزرق، سطع من طوقه وجهها كالضياء. وهو وجه على جماله شحيح التعبير، فلم يستطع أن يقرأ في صفحته أثر الأحداث، ولكن قلبه المكروب اهتز لمرآه، ونبض فيه الشوق كلحن قلق. وقال لنفسه: إنها القيمة الوحيدة الباقية لي في الحياة، وتساءل في اللحظة التالية: ترى هل هي «لي» حقا؟! ورغبة في حسم الوساوس، قال بإيحاء مخيف: سلوى .. أحالوني إلى المعاش.

اختلجت عيناها الجميلتان الخاملتان، وهمست في ذهول: أنت؟!

فقال مسلما أمره للمقادير: نعم، أنا كما يقع للكثيرين في هذه الأيام.

فحدجته باستغراب قائلة: ولكنك لست كالآخرين!

فوخزه قولها كطعنة في العين، وترنح خياله منذعرا بين التحف ورصيد البنك، ثم قال: إنهم ينتقمون منا باسم التطهير.

امتد بصرها عفوا إلى تمثال برونزي لفارس مغربي يمتطي جوادا، كأنما تستلهمه الرأي، ثم تمتمت: تصرف غير لائق!

فتشجع قائلا: سوف أجد عملا خيرا من وظيفتي.

وابتسمت كأنما لتعتذر عن فتورها المتزايد، وتساءلت: أين؟

وتساءل هو عن مدى حبها وعما تضمره له الأيام من غدر جديد، ولعن في سره صورة رئيس لجنة التطهير التي اقتحمت خياله فجأة، ثم أجاب: في شركة أو في العمل الحر.

وبرز طرف لسانها ليرطب شفتيها في حركة طبيعية وشت بنسيانها لنفسها، فأدرك مدى الخيبة التي تعانيها، وقال برجاء: دعيني أستمد القوة منك!

فابتسم فوها وحده وغمغمت: أتمنى لك النجاح.

فطرح يده على يدها المبسوطة فوق ذراع المقعد وقال فيما يشبه الهمس: الحزب يهزأ بأمثال هذه المشكلات بكل بساطة. - نعم .. نعم.

قد تكون فاترة الطبع، ولكنها تحبه بلا ريب، وجاءه دافع قهار ليضمها إلى صدره، فمال نحوها وطوقها بذراعه، وعندما رشقته بنظرة مخملية واستسلم جذعها لذراعه تطايرت من كمده شرارة جنسية مباغتة فانكفأ بوجهه على وجهها ضاغطا بشفتيه المتوثبتين شفتيها الرقيقتين مذعنا لتحريض شهوة طامحة للعزاء، ولكنها أوقفته براحة مبسوطة، وأدارت وجهها لتتخلص من هجمته، فانفصلا وهما يلهثان، وانفصلا أكثر بصمت رهيب تبادلا فيه العتاب من ناحية والاعتذار من ناحية أخرى عن طريق قراءة الأفكار المحمومة، ثم خرج صوته من المعمعة كسيرا وهو يقول: سلوى .. أنا أحبك .. حياتي كلها تتلخص في شيء واحد، هو أنت.

فربتت على يده برقة ورثاء، فقال: يجب أن تتكلمي.

فتنفست بعمق لتستعيد توازنها، ثم قالت: علينا أن نواجه الحياة بكل ما فيها.

وأصغى إلى عذوبة النغمة بارتياح عميق، وود أن يغيبا عن الدنيا في مكان مجهول إلى الأبد؛ مكان لا سياسة فيه ولا وظائف ولا ثورات ولا ماضي له، وسألها بصوت مبتهج لأول مرة: هل تهبينني الثقة والتشجيع؟

فقالت وهي تجفف شفتيها بمنديلها: لك ما تريد وأكثر.

وجاءته رغبة جديدة في معانقتها، ولكن صوت علي بك سليمان تردد خارج الحجرة كأنما يعلن عن مقدمه.

9

أقبل البك نحوهما شبه مبتسم، ومكث معهما قليلا، ثم دعا عيسى إلى الاجتماع به في حجرة مكتبه، وبدا جو الحجرة في شبه ظلام، لبعدها عن الطريق، ولشدة اكفهرار الجو في الخارج، فأضاء مصابيحها، وجعل عيسى ينظر إليه بعناية، فقرأ في أعماق عينيه تجهما، فتساءل: ترى ألهذا علاقة به أم أنه العاقبة الحتمية للأحداث؟ وحانت منه التفاتة إلى فوق، فرأى صورة للبك في التشريفة القضائية قد حلت محل الصورة التقليدية للملك.

وتساءل علي بك سليمان: كيف الأحوال؟

فتظاهر عيسى بالاستخفاف وهو يقول: سأبدأ من جديد!

وقص عليه مأساته في كلمات من وجهة نظره، فتفكر الرجل قليلا، ثم قال: لن تجد الأمر سهلا. - أعلم ذلك، ولكني غير يائس.

ولاحت في عيني البك نظرة جادة لدرجة مثيرة، ثم قال بنبرة الاعتراف: الحق أن الحكاية لم تكن مفاجأة لي! - لعل رئيس اللجنة قد أبلغها سعادتك! - نعم. - ألم يكن في الإمكان ... - كلا، الرجل صديق حقا، ولكن اللجنة أقوى من رئيسها، والخوف قد ركب الجميع.

فقال بامتعاض: على أي حال، ما فات فات، فلنفكر في المستقبل. - هذا خير ما تفعل.

فقال عيسى متحديا المجهول: عن ذلك حادثت سلوى. - سلوى! .. هل أخبرتها حقا؟ - هذا طبيعي جدا.

بعد تردد: بكل شيء؟!

فحدجه بنظرة مريبة، وقال بشيء من الحدة: طبعا! - وماذا قالت؟

فقال وهو يتوثب في باطنه لجميع الاحتمالات: ما ينتظر منها، فهي معي في الخير والشر على السواء!

نقر الرجل بأصبعه على الكساء البلوري للمكتب، ثم قال: أحب أن أكون صريحا معك، الزواج الآن ليس من العقل في شيء! - هذا حق الآن!

وهز الرجل رأسه كأنما يخفي أكثر مما صرح به، فقال عيسى ليسبر أغواره: ما أنا إلا ضحية سياسية!

فرفع الرجل حاجبيه الغزيرين دونما إفصاح، فراح الآخر يقول بغيظ: طالما كان لي الشرف بأن أكون كذلك.

وإذا بالبك يقول في ضجر: ولكن السياسة لم تكن هذه المرة وحدها!

وتلاقت العينان في نظرة مزعجة، فاجتاحت عيسى موجة عاتية من الغضب، وتساءل بصوت متهدج: مزيدا من الشرح من فضلك!

فقال الآخر في امتعاض وحزن: أنت تعرف ما أعنيه يا عيسى.

فسأله بحدة أسمعت أركان الحجرة الوقور: أبك شك من ناحيتي؟ - لم أقل هذا. - إذن ما تقصد؟

فقال وهو يقطب استياء من حدة لهجته: القرائن خطيرة!

فهتف: بل هي حقيرة لدرجة أنه لا يمكن أن يهضمها إلا عقل حقير! - الظاهر أن أعصابك ... - أعصابي كالحديد وأنا أعني كل كلمة تفوهت بها.

فاحتد الرجل قائلا: إذا أثرت غضبي فسيكون أمرا مؤسفا حقا!

ولم يكن بقي له من أمل في سلوى أكثر من واحد في المائة، فصاح بجنون: لا أبالي كيف يكون الأمر، وأيا كانت خطورة القرائن التي تذكرها فإنني لم أكن يوما انتهازيا ولم يكن للملك السابق فضل علي.

وهب الرجل واقفا ووجهه يقطر غضبا قانيا، وأشار إلى الباب بذراع متشنجة دون أن ينبس بكلمة، وهكذا غادر عيسى الحجرة.

ورغم ذلك كله قرر ألا يذعن لليأس قبل أن يستميت في الدفاع عن ركن العزاء الذي لم يتهدم، يجب أن تكون الكلمة الأخيرة لسلوى دون غيرها، ولم يكن ينتظر الكثير من شخصيتها ولا من حبها، ومع ذلك طلبها عصر اليوم التالي في التليفون، وقال لها بتوسل: سلوى .. يجب أن أقابلك فورا!

وجاءه الجواب كالصفعة!

10 - لا مشكلة بلا حل!

هكذا تكلم إبراهيم خيرت في ركنهم الخاص بالبوديجا، وهو لضآلة جسمه وقصر قامته قعد قريبا من حافة الكرسي ليتمكن من إيصال قدميه إلى الأرض، ويعقد جبينه في مقدمة رأسه الضخم ليضفي على شخصيته جدية تصد عنها الهازلين، وتكومت فوق كرسيين متلاصقين معاطفهم، وتقاربت رءوسهم في القهوة المزدحمة الصاخبة، وقال عيسى لنفسه: إنه - إبراهيم خيرت - يتكلم عن المشاكل والحلول بطمأنينة لأن الزلازل لم تحدث خسائر في أرضه، وهو محام ناجح، وقلم يتألق في الصحف، ومثله عباس صديق المستقر في وظيفته، رغم أنه كان أشد اغتيالا منه لأموال الناس، ولكن لم يمكن الحسد ولا الحنق ولا الغضب ليؤثر في صداقتهم الوطيدة وزمالتهم السياسية القديمة، وتناول سمير عبد الباقي كبشة فول سوداني من طبق صغير ممتلئ، وقال: كلام جميل، ولكن ها هي الأيام تمضي دون أن نجد حلا حقيقيا!

ونظر عيسى إلى الرذاذ المتساقط في الخارج من زجاج النافذة، وتساءل: وهل نبدأ من أول الطريق على الآلة الكاتبة؟

وراح عباس صديق يقرقر في النارجيلة وينفث الدخان كعضو في أوركسترا المدخنين بالقهوة والدخان، ينعقد حول المصابيح المدلاة كالضباب، وتأمل عيسى الوجوه المتباينة التعابير على طول القهوة، المتراوحة بين الخمول عند الحالمين، والتركيز المحموم لدى اللاعبين، وتساءل في جزع: لماذا قدر عليه أن يحارب التاريخ في موكبه المتدفق منذ الأزل؟! وتطلع من زجاج النافذة إلى الطريق السابح في المطر والضوء بنهم جنسي يفتش عن امرأة مهرولة بمدخل عمارة مظلم، وقال: الشتاء جميل، ولكن القاهرة غير مستعدة له.

فقال إبراهيم خيرت مخاطبا سمير عبد الباقي: لا تنس أن رجالنا منتشرون في مجالس إدارات الشركات.

ها هو يتكلم عنهم فيقول «رجالنا»، ويحمل في نفس الوقت بقلمه على الأحزاب والحزبية ويطالب بمحو الماضي محوا، ما أكثر القرف الذي يدعو إلى التقزز، وهو نفسه عنصر هام من عناصر القرف. والاستثناء المثير للحيرة حقا هو ماضيه - وماضيهم - المضيء بالإيثار وشرف النفس! وسأله: خبرني عن شعورك وأنت تقرأ مقالاتك في الصحف.

فقال إبراهيم خيرت في رزانة غير عابئ بابتسام الآخرين: أنا أتساءل لم أراد الله لآدم أن يهبط إلى الأرض؟!

ورفع عباس صديق وجهه عن خرطوم النارجيلة وهو يجلس على كرسيه ربعة بدينا فاقع بياض الوجه جاحظ العينين براقهما لحد المرض أصلع، يوحي منظره جملة بأنه أكبر من عمره بعشرة أعوام على الأقل، وقال: سوف نشقى حتى نراكما في وظيفتين كبيرتين بشركة محترمة.

وراح عيسى يحاول النفاذ إلى بواطن الآدميين المتكتلين في القهوة لغير ما سبب واضح. وجرى في الماضي ملايين السنين بين الدهشة والارتياع، ثم التفت نحو زجاج النافذة فرأى شحاذا واقفا وراءه ليرمقهم بنظرة مستعطفة وقد انقطع المطر فقال لأصحابه: تصوروا أن هؤلاء الآدميين انحدروا في الأصل من السمك! - لكن الأسماك ما زالت تزحم المحيطات بملايين الملايين!

فقال بفتور: وهذا هو سر مأساتنا الحقيقي.

وطرد الشحاذ بإشارة من يده، وعاد يقول: يعزيني أحيانا أن أرى نفسي كالمسيح أحمل خطايا أمة من الخاطئين.

فسأله عباس صديق: هل أنت متأكد من معلوماتك التاريخية؟

فقال لنفسه إنه تأكد منها ساعة أغلقت التليفون في وجهه، وقال إبراهيم خيرت بتحريض: الليلة مناسبة جدا لشيء من البراندي.

وشرب سمير عبد الباقي قليلا من الماء ليرطب فاه الذي جف بطحن الفول السوداني، وقال: حتى على فرض أننا أخطأنا، ألم يجدوا في ماضينا ما يشفع لنا؟!

وأغمض عيسى عينيه ليرى الماضي، فترة حية من نبض القلب، هدير المجد يخلد في الأسماع، وهراوات الجنود كالصواريخ، والحماس المهلك للأنفس، ثم الإغراء الموهن للهمم، وزحف الفتور كالمرض، ثم الزلزال دون نذير كلب، ونشدان العزاء عند قلب أجوف، ثم صرير التليفون كصوت العدم.

وقال سمير عبد الباقي أيضا: كنا طليعة ثورة فأصبحنا حطام ثورة!

فقال إبراهيم خيرت باهتمام، وكأنما يبرر موقفه بصفة عامة: أقول إنه علينا أن نلحق بالركب.

فتجلت نظرة حزينة في عيني سمير عبد الباقي الخضراوين، وقال: قضي علينا بأن نموت مرتين.

فأيد عيسى رأيه قائلا: هذا هو الواقع، ولذلك فنحن نتغذى بالسمك!

ورأوا ماسح الأحذية يدق صندوقه حيالهم فاختبئوا في الصمت حتى ذهب، وضحك سمير عبد الباقي ضحكة عالية استدعت تساؤلهم، فقال: أذكر أنني أوشكت يوما أن أدخل المدرسة الحربية!

فضحكوا معا حتى قال إبراهيم خيرت: ما رأيكم في أنني أتفاءل عند اشتداد الظلمات؟

فقال عيسى لنفسه ليس المعزي كالثاكل. وغادر القهوة حوالي العاشرة مساء وهو يحبك المعطف حول جسمه، ونظر إلى السماء فرأى آلاف النجوم وهي تومض وتنشق في الجو الصافي عبير الشتاء غب المطر، وعكست الأرض المغسولة لونا سنجابيا لامعا، غير أن هواء باردا لفح وجهه في هبات متقطعة منعشة كالدعابات القاسية، وعاوده الإحساس بالغرابة، فمضى يطمئن نفسه بمرتب العامين الكامل ورصيده في البنك المحصل من العمد.

وفي جروبي جلس إلى عبد الحليم باشا شكري والشيخ عبد الستار السلهوبي، الذي كان يهمس بآخر نكتة، وسألاه عن الأخبار بطريقة آلية، وانتظر أن يفاتحه الباشا بنتيجة مسعاه في إيجاد عمل له، ولكن الشيخ السلهوبي سأله متهكما: ألا تزال فرحا بإلغاء المعاهدة؟

فأدرك أن الشيخ قد أصيب حقا بعقدة المعاهدة الملغاة التي يرجع إليها في جميع الأرزاء التي نزلت بهم، وقال عبد الحليم شكري: الأحداث تنقض على زملائنا كالصواعق!

ثم تساءل في قلق: هل يجيء دورنا؟!

وراح عيسى يحتسي الشاي وهو يرمق الوجوه الرائقة بحسن التغذية، وإذا بعبد الحليم شكري يميل نحوه قائلا: كل آت قريب!

فاشتعل باطنه بالغضب، وقال لنفسه: ما من أحد منهم إلا وقد قصده قديما في خدمة قضيت، فما بالهم يتنكرون له؟!

وندت عن حسناء ضحكة بارعة كلحن جنسي وهو يغادر المحل. وفي الطريق دهمته الآلام التي هصرته حال إغلاق التليفون في وجهه فكاد رغم البرد ينصهر، وهو الذي أحبها دون أن تثبت جدارتها بحبه لحظة واحدة، كلاهما قبل صاحبه أول الأمر لمزايا تهمه لا علاقة لها بالحب، ولكنه أحبها بعد ذلك بصدق، أما هي فما أسرع أن أغلقت التليفون، ولعله من حسن الحظ أنه تلقى ضربة القلب وهو فريسة لضربة السياسية، فلم تستأثر به وحدها. وجعل ضيقه بكل شيء يستفحل حتى لم يترك في النفس متسعا لأي قيمة، كيف توهم نفسك بأنك تريد عملا كما توهم الآخرين؟! العمل هو آخر ما تريد، فليعلم ذلك جميع السكارى، وابغ قبل ذلك عشرات الحماقات، واستمتع بنقاهة أطول من الموت، وليكن ما يكون.

11

وجاء حسن ابن عمه لزيارته، وقال عيسى: إن الذي تقبل عليه الدنيا لا يزور أحدا أدبرت عنه، فلماذا جاء؟ وتذكر عمه فثار باطنه وتوثب للتحدي، غير أنه استقبله بترحاب كلفه جهدا جهيدا، ومذ جمعهما المركز شعر برغبة في الاختفاء كمجرم ولكنه أطلق من ذاته المكدودة مرحا مسرحيا ... وتبدت حيوية حسن في أوجها وجرت في ملامحه البارزة الحسنة دماء الثقة والنجاح. لم يعد الناقد الحاقد المغلوب على أمره وعما قليل سيجود بمكارم عطفه! وثمة شعور باطني أثار اهتمام الأم بالزيارة فكفت عن غمغمة التسبيح لتسمع كل كلمة تقال، وسأل حسن - وهو يتمطق أثر حسوة شاي - عن الحال، فأجاب عيسى بضحكة ولم يقل شيئا، فعاد الآخر يسأل مرة أخرى، فقال: ألا ترى أني أعيش كالأعيان؟

فقال بجد: آن لك أن تعمل.

ورمشت الأم في أمل، وأمنت على قوله بحرارة، فاغتاظ عيسى من اندفاعها وتساءل في ارتياب عن سر الزيارة، وأقسم ألا يقبل الزواج من بنت عمه ولو مات جوعا، ثم قال بثقة زائفة: لو أردت العمل لوجدته.

فسأله الآخر برزانة أخوية: ولم لم ترده؟ - لأني أريد راحة طويلة، زهاء عامين أو أكثر! - أنت تمزح بلا شك؟ - بل لا أجد داعيا للعجلة.

ثم بامتعاض شديد: وبخاصة وأن الخطبة قد فسخت.

فنظر حسن إلى الشجرة الجامدة وراء زجاج النافذة ليتجنب عيني صاحبه، ولم ينبس، فسأله عيسى باهتمام: هل علمت بالخبر؟

فقال بلهجة دلت على أنه يخوض الحديث مكرها: نعم، في مقابلة عابرة مع علي بك ...

ثم مستدركا بلهجة انتقادية: موقف يدعو إلى الأسف الشديد!

فقال عيسى بحدة: لقد أعطيته درسا لا ينسى! - استنتجت هذا في اللقاء العابر رغم أنه لم يشر إليه بكلمة، ولكن دعنا من ذلك، فلعل الخير فيما اختار الله.

ثم حدجه بنظرة ودية وقال: ثمة مكان لك في شركة محترمة!

فأعرب عن تساؤله بتقطيبة طارئة، فقال حسن: شركة جديدة للإنتاج والتوزيع السينمائي، وقد اخترت أنا نائبا للمدير، ولكننا في حاجة إلى مدير حسابات كفء.

وهتفت الأم: فيك الخير كل الخير يا حسن.

وقال عيسى لنفسه: وضحت الصورة، موظف تحت رياسته وزوج لأخته، ودون ذلك فليأت الموت إذا شاء، وقال بوضوح: إني أهنئك وأشكرك.

ثم وهو يبتسم كالآسف: ولكني أعتذر!

فارتسمت الخيبة في الوجه الفياض بالحيوية وتساءل: ألا تفكر في الأمر؟ - أكرر الشكر والاعتذار.

وردد بصره بينه وبين الأم الذاهلة، وقال: إنها وظيفة محترمة جدا. - بدليل أنك اخترتها لي، ولكنني مصمم على القيام بإجازة طويلة.

فتريث قليلا ثم قال: ليست مجرد وظيفة، ولكنها في الوقت نفسه فرصة للاندماج في الحياة الجديدة، إذ إن الغرض من تكوين الشركة هو خدمة أغراض الدولة.

فقال بتصميم: الراحة الآن أهم من أي غرض في الحياة.

من موظف صغير إلى نائب مدير شركة! واشتد جنون رغبته في الإضراب عن العمل، وتوطد نزوعه نحو تدمير نفسه، ووقف حيال محاولات الآخر بكل عناد حتى اضطر هذا إلى أن ينصرف دون نتيجة، مخلفا في نفس عيسى مسرة عمياء وإحساسا وهميا بالانتصار.

وتأوهت الأم قائلة: أنا لا أفهم شيئا.

فقال ساخرا: ولا أنا ...

فقالت بمرارة: أنت لا تحب ابن عمك! - ولا هو يحبني! - لكنه في الوقت المناسب لم ينس أصله! - لا لوجه الله.

فقالت بإصرار: ولو، بنت عمك خير من سلوى، هل نسيت؟! ليتك تفكر في الأمر.

فقال بغموض، وبصره معلق بالسحب المتراصة في الأفق من خلال أغصان الشجرة: إني أفكر حقا في هجر القاهرة.

12

وصارع التردد أشهرا، ويوما قال لأمه: إني أفكر حقا في السفر إلى الإسكندرية.

وكانت الأم تزداد اعتيادا لغرابة أطواره كما تزداد ذبولا ونحولا، فقالت بهدوء: ولكن الصيف انتهى. - أريد الإقامة لا التصييف.

فاختلج جفناها قلقا، فاستطرد قائلا: أعني لفترة من الزمن.

أود أن أقيم في مكان لا يعرفني فيه أحد ولا أعرف فيه أحدا.

فقالت في امتعاض شديد: حالك لا يعجبني، والإنسان يجب أن يواجه الصعوبات بصورة أخرى، وما زالت أمامك فرصة لم تضع عند ابن عمك.

وعندما وجدت منه إصرارا استعانت بأخواته الثلاث فسارعن إلى الدقي، وهن جميعا متزوجات ويحملن في وجوههن طابع الأسرة الممثل في هيئة الوجه المثلثة والأعين المستديرة وجميعهن يكنن لعيسى حبا صادقا، لا لأنه كان شخصية لامعة يعتززن بها فحسب، ولكن أيضا لأنه صاحب الفضل الأول على أزواجهن في العلاوات والترقيات على عهد نفوذه، وأجمعن على المعارضة في سفره، كما أجمعن على وجوب الموافقة على اقتراح ابن عمه. - ما معنى أن تقيم في بلد كالغريب؟ - ألا يكفي أن أجد في ذلك راحة؟ - ومستقبلك؟

فقال بحدة: مستقبلي أصبح ماضيا! - بل أمامك فرصة لاستعادة كل ما فقدته!

ورفع يده يدعوهن إلى الكف بحركة حاسمة، ثم قال بهدوء: لا جدوى من هذا الكلام المعاد، المهم والجديد هو أنني قررت الانتقال من هذا المسكن!

وبهتت الأم حزنا فقال كالمعتذر: لم يعد من الحكمة أن أتحمل نفقاته الباهظة. - ألهذا علاقة برغبتك في السفر؟

فقال متجهما: كلا، إني أعتبر السفر علاجا ضروريا.

فقالت الأم في توسل: لا تشمت أعداءك بك، يمكنك ولا شك الاحتفاظ بمسكنك الجميل وكل مظاهر حياتك إذا أنت وافقت على ما عرضه عليك ابن عمك.

فأغمض جفنيه دون كلام رافضا الاستمرار في مناقشة عقيمة فقالت الأم بمرارة: أنت ابني وأنا أعرفك، أنت عنيد جدا، ودائما كنت عنيدا، أنت تختار الكبرياء ولو كلفك الكثير، ولم تكن تجد بعنادك عندنا إلا المحبة والتسامح، ولكن الدنيا ليست أمك ولا أخواتك!

فقال بإصرار وهو يهز منكبيه استهانة: سأفترض أنني لم أسمع شيئا.

فقالت بمزيد من التوسل: يجب أن تمتثل أمر ربنا، الملك ملكه يفعل به ما يشاء، والمستقبل بيده، وتستطيع أن تكون سعيدا دون أن تكون وكيل وزارة أو وزيرا.

حول عينيه إلى أخواته متسائلا: أين يحسن أن تقيم الوالدة حتى أرجع؟

وعدلن عن المناقشة، واقترحت كل واحدة منهن أن تقيم الأم عندها، ولكن الأم قالت: سأرجع إلى البيت القديم بالوايلية.

وهتفت وهيبة وهي أبرهن بأمها: لن تقيمي وحدك أبدا. - أم شلبي لن تفارقني وآمل ألا تنقطعن عن زيارتي.

وتذكر عيسى البيت القديم الذي شهد مولدهم جميعا، وبخاصة حوشه الواسع وأرضه الرملية القاحلة، ولم يدر كيف يعرب عن استيائه، ولكنه سأل أمه: أليس الأوفق أن تقيمي عند إحدى أخواتي؟

فقالت بعصبية: كلا، أنا أيضا عنيدة، ومن خير الجميع أن أعيش في البيت القديم.

وأكدت كل أخت من بناتها أنها ستسعد بإقامتها عندها ولكنها لم تبالهن، وامتلأ إحساس عيسى بالمسكن الجميل الذي قال فيه كلمته الأخيرة، ونظر إلى الأشجار خارج الشرفة، وهي تهتز في رقة بالغة في إطار من جو الخريف الأبيض الموحي بالشجن، وقال لنفسه: «ألا لعنة الله على التاريخ.»

وإذا بوهيبة تقول: البيت القديم غير صالح للسكنى لمن اعتاد الإقامة هنا!

وخيل إلى عيسى وهو يرى خلجات جفني أمه وشفتيها أنها ستبكي، ولكنها قالت بصوت متهدج: هو صالح تماما، وفيه ولدنا جميعا.

13

جميع ما يحيط بنا يعد براحة كالموت، ومن أضناه الألم خليق بأن يرحب بالمسكن وإن يكن سما، وهذه الشقة الصغيرة المفروشة دليل على أن الحضارة لا تخلو أحيانا من نقطة رحمة، وها هو البحر يترامى في عظمة كونية حتى يغوص في الأفق ولكنه يستمد من حلم أكتوبر حكمة ودماثة، وجدران الحجرات محلاة بصورة الأسرة اليونانية صاحبة الشقة، وكلما نظرت إلى الخارج رأيت الوجوه اليونانية في الشرفات والنوافذ وعلى قارعة الطريق، غريبا في موطن غرباء، وتلك مزية الإبراهيمية، والمقهى المرصع طواره بالأشجار وسوق الخضار بألوانه النضرة والحوانيت الأنيقة تحفل بالوجوه اليونانية وتتردد في جنباتها - بعد زوال الموسم - لغتهم الأجنبية فخيل إليك أنك هاجرت حقا وتنهل من الغربة حتى تسكر، وهؤلاء الأجانب الذين طالما أسأت بهم الظن أنت اليوم تحبهم أكثر من مواطنيك وتلتمس عندهم العزاء، إذ إن جميعكم غرباء في بلد غريب. واختيار شقة في الدور الثامن دليل آخر على الرغبة في الإمعان في السفر، وعن بعد ترى البحر من فوق قطاعات متلاحقة من الأبنية المنخفضة تمتد حتى الكورنيش. ترى البحر وقد سحره أكتوبر فأخلد إلى أحلام اليقظة وترى أيضا أسراب السمان تتهاوى إلى مصير محتوم عقب رحلة شاقة مليئة بالبطولة الخيالية، القاهرة الآن ذكرى مغلفة بالحزن، والوحدة تجربة مرة، ولكنها ضرورية لتجنب النظر إلى الوجوه المثيرة للقلق والأرق ... ومعالم المجد المحرضة على الحسرة، جرب الوحدة ورفقاء الوحدة - الراديو والكتاب والأحلام - وانظر هل يمكن أن تنسى لغة الكلام؟ وتتتابع اللحظات بلا ضابط يضبطها، فأنت لا تعرف الوقت ولا تكاد تعرف اليوم؛ ولذلك ترفع بصرك في دهشة نحو قرص الشمس الماسي الهادئ كما يبدو خلف سحب الخريف الصريحة، وها هي الحياة تغازلك رغم الكمد وكأنك ترى الدنيا والناس لأول مرة بعد أن أفقت من حمي العراك والمطامع. وقيمتها الذاتية تتكشف معلنة عن بهجة الإبداع، ولم يكن مسير الشمس قبل ذلك إلا بشيرا بتقديم مذكرة أو نذيرا بمقابلة السفير ... وقد دفنتنا الأحداث ونحن أحياء، وما هذه الآلام في الحقيقة إلا أضغاث أحلام تحترق في رأس ميت عفن، أما في هذه الشقة اليونانية فثمة وحدة حقيقية وقلب نابض، وركن البوديجا لا يسلى عن القلب، ولكن ما أقبح عواطفه المتناقضة، فأنا أحبهما - عباس صديق وإبراهيم خيرت - وأبغضهما في آن، أحب جانبهما الذي عاش قبل الثورة، وأكره وسائلهما التي عاشا بها بعد الثورة، وعندي الآن فرصة لتصفية هذه العقد الصفراء، والهموم كالجبال، والعقل علاه الصدأ، ولكن سبيل العزاء المحفوف بالحماقات ممهد أمام مالك الحرام وأحلام يقظتك التي ينتهي فيها العذاب بالانتصار. ونظرة من عل إلى هذا الخلاء الذي لا يحد تهب النفس راحة ورفعة فوق كل شيء، ولم يا ربي لا تلهمنا ومضة عن معنى هذه الرحلة الشاقة المخضبة بالدماء؟ ولم لا ينطبق هذا البحر الذي شهد الصراع منذ الأبدية؟! ولم تأكل هذه الأرض الأم أبناءها عند المساء؟ وكيف يكون للحجر دور في المسرحية، وللحشرة دور، وللمحكوم عليه في الجبل دور، وأنا لا دور لي؟

ومضى ذات صباح إلى جليم؛ تلبية لرسالة تلقاها من سمير عبد الباقي، لم يكن رآه منذ انتقاله إلى الإسكندرية في منتصف سبتمبر، ولم يكن رأى كازينو الفردوس منذ صيف 1951، وكان الساحل خاليا والكازينو شبه خال كحاله في الأيام الأخيرة من أكتوبر. على عهد النفوذ كان يذهب إلى الفردوس في مجال من الخيلاء ، ترمقه الأعين باهتمام، فيشق طريقه إلى مائدته المحجوزة بين أصدقاء وأعداء من الباشوات في تلك الدنيا الزائلة. والحفل الذي أقيم في الفردوس منذ عامين هل يمكن أن ينسى؟ الصوت الملائكي والبهجة الشاملة والهتافات المدوية، ومجيئه هو في ركاب الزفة ليشرب ويطرب ويسهر، ولم يكن يرى على مدى الآفاق إلا آمالا واعدة بالفوز المبين.

وجلس بمجلسه القديم على يمين المدخل الجواني، بين مقاعد شاغرة، وعلى مائدة متفرقة بضعة من معمري الباشوات الذين يستميتون في التصييف حتى اللحظة الأخيرة، وثمة امرأتان وحيدتان؛ عجوز وأخرى في منتصف العمر، وأحاط بالمكان سكون رهيب، واسترق إلى العجوز نظرة، وقال لنفسه: إن سلوى ستلقى نفس المصير في يوم من الأيام، كالمجد والعزة وشتى الآمال، وأعجب بانبساط الماء ودماثته وزرقته الصافية، كما أعجب بالسحب الحبالى بماء الورد الأبيض، جاء سمير عبد الباقي في ميعاده فتعانقا بحرارة، وبدا سمير ناحلا أكثر مما تركه، ولكنه أحسن صحة وأصفى عينا، وقال: جئت أنا وزوجتي لتعود أمها، وسنسافر غدا.

فسأله عن ركن البوديجا، فأجابه بأنه لا جديد، ثم قال: أما أنا فبعت نصيبي في بيت قديم وشاركت خالي، وهو تاجر أثاث، أنا في الواقع مدير أعماله وحساباته وشريك صغير له.

فهنأه عيسى، وأخبره بأنه لا رغبة له في العمل في الآونة الحاضرة، ونظر سمير فيما حوله في دهشة، ثم قال: انظر إلى الإسكندرية، كم هي خيالية! - الدنيا كلها خيالية، ما هذا بيمينك؟

فناوله كتابا قرأ على غلافه «الرسالة القشيرية» ثم حدجه بنظرة متسائلة، فقال سمير: ألم تسمع عن التصوف؟

فضحك ضحكة مختزلة وقال: لم أعرف فيك اهتماما به من قبل! - هذا صحيح، ولكني سمعت أحمد باشا زهران وهو يتحدث عنه بجدية حقيقية، وقد أهداني في مناسبات مختلفة بعض الكتب عن الموضوع، فوجدتني أبحث عنها في الأيام الأخيرة.

وقال عيسى، ووجهه لم يتخلص بعد من ذيول ضحكته: وهل أنت جاد فيه أو المسألة مجرد تسلية؟!

فقال وهو يفرغ زجاجة الكوكاكولا في الكوب: أكثر من تسلية، فيه راحة حقيقية للقلب.

ثم بعد شربة أتت على نصف الكوب: وكونك لا تبحث عنه إلا تحت ضغط ظروف معينة لا يجحد فضله فقد لا نذهب إلى أسوان شتاء إلا لمعالجة مرض ولكن هذا لا يطعن في فائدة أسوان للمريض والصحيح على السواء.

فقال عيسى ساخرا: ولكن يوجد - ولا شك - فارق بين أن نتصوف حيال أزمة سياسية وبين أن نتصوف لوجه الله والدنيا مقبلة علينا.

فابتسم سمير في صبر، وتجلت شفافية عينيه الخضراوين أصفى من السحب الناصعة البياض، وقال: نعم، ثمة فارق، ولكن العبرة بالنتيجة، وأحيانا تدهمنا كارثة لتهدينا سواء السبيل!

ولكن هب الدنيا ...

وانقطع عن الحديث فجأة - كأنه عثر في الصمت - بسبب نظرة طويلة تبودلت بينه وبين المرأة النصف المصاحبة للعجوز، ثم رجع إلى صاحبه، وقال لنفسه: لو سارت الأمور كما يشتهي لكانت سلوى زوجة له منذ عام على الأقل، لو؟! وسأل سمير: ما رأي التصوف في حرف «لو»؟!

ولم يدرك سمير مرماه، فأجاب هو: «لو» حرف لوعة يطمح بحماقة إلى توهم القدرة على تغيير التاريخ.

فقال سمير ببساطة: من هذه الناحية فهو إنكار لإرادة الله المتجلية في التاريخ، من شأنه أن يضفي عليه عبثا ولا معقولية.

سلوى لم تتزحزح من قلبك، رغم احتقارك لشخصيتها، وقد يقرر العقل مواصفات للمرأة المثالية ولكن الحب في صميمه سلوك لا معقول، كالموت وكالقدر وكالحظ. وما أشبه سلوى بالدنيا في المعاملة، ولكنك ستظل في حاجة إلى امرأة، فهي مسكن طيب للآلام يفوق التصوف على الأرجح. وتذكر السؤال الذي قطعه، فقال بنغمة اعتذار: هب الدنيا وعدتنا مرة أخرى بالوزارة، فماذا تصنع بالتصوف؟

فضحك سمير حتى لمعت أسنانه النضيدة، وقال: غير مستعص أن أمارس الاثنين معا، هكذا فعل أحمد باشا زهران أكثر من مرة، وها أنا أجمع بين التصوف والتجارة، وهو لا يخمد النشاط، ولكنه ينقيه من الشوائب!

فقال عيسى بحزن: وهو على أي حال خير من الانتحار!

وأشرقت الشمس مقدار ثوان ثم توارت، وسأله سمير عما ينوي أن يفعل، فسأله بدوره: هل انتهينا حقا؟

فهز رأسه في حيرة قائلا: هو الأرجح ، فليس الأمر كالانقلابات الماضية.

فسكت عيسى مليا كأنما يصغي إلى الصمت الشامل، ثم قال: ما أشبهنا بساحل الإسكندرية في الخريف! - لذلك أقول لك إنه لا بد أن نعمل. - ومع أي عمل سنتخذه سنظل بلا عمل؛ لأننا بلا دور، وهذا سر إحساسنا بالنفي، كالزائدة الدودية.

ثم وهو يبتسم: ولا أخفي عليك أن لي تصوفي الذي يشاغلني في الوحدة.

فتطلع إليه باهتمام، فقال الآخر ببساطة: إني أفكر في احتراف الجريمة.

فضحك سمير طويلا، ثم قال: يا له من تصوف بديع! - غير أنك لا تقتل فيه جسدك أنت، ولكن أجساد الآخرين. - أقترح عليك أن تنتقي نوعا من الجرائم الجنسية.

وضحكا معا حتى قال سمير: نحمد الله، فلا زالت لدينا القدرة على الضحك. - وسنزداد ضحكا كلما رأينا التاريخ وهو يصنع لنا دون أن نشارك فيه كأننا الأغوات.

وهبت نسمة لطيفة، وبدا الباشوات كالنيام ولغير ما سبب تذكر أول خطبة له في بيت الأمة وهو طالب بالجامعة، قال بأسى: تاريخنا نفسه مهدد بالإبادة. - التاريخ واسع الصدر، وسيدافع عن نفسه بعد انقراض المتخاصمين جميعا.

ومر بهما مدير المحل الرومي، فابتسم إلى عيسى وسأله عن الصحة وعن الحال، فأدرك من توه المغزى السياسي لسؤاله، وقال باسما: هي كما ترى.

وعندما رجع إلى عمارته شاهقة الارتفاع القريبة من محطة الترام، كان يجتر حزنا على فراق سمير، ولعن - وهو يخوض عتمة المدخل الطويل - سلوى، وقال لنفسه وهو يدخل إلى المصعد: «ما أحوجني إلى مسكن!»

14

وحده مع كأسه في الطرقة الشاحبة الضوء التي تصل بين معرض الحلوى في الخارج وصالة الرقص في الداخل بالتريانون الصغير، وعشرات من الآلات العازفة تبعث بالأنغام الراقصة والأجساد المتعانقة تتراقص في حركات خفيفة رشيقة تنفض بها عن ذواتها متاعب ضوء الشمس. وهؤلاء الحسان ينسبن إلى بيوت لا إلى الشوارع كما كان الحال قبل الحرب وفي أثنائها، وقد أدرك هو جانبا من ذلك التاريخ على عهدي مراهقته وشبابه، أما النسوة فقد أثرين في زمان الحرب وترفعن عن العرض الرخيص فاختفين من الميدان، وقال عيسى لنفسه: «الميدان خال اليوم لمن يروم عملا سهلا مريحا من منبوذي السياسة!»، وهزته نغمة فتاق إلى الرقص الذي يجيده بدرجة لا بأس بها ولكن أين الحسناء؟ ونهل من الكونياك الذي يحبه باعتدال، وشعر بأنه في مخبأ فازداد طمأنينة، وقال إن مدخره من مال العمد سيمده بالضروري لارتكاب الحماقات الفاتنة، وقال أيضا إنه لولا إحساسنا المرضي بالمستقبل لما أزعجنا شيء! ولكنه لم ينعم بوحدته في المخبأ طويلا إذ ما لبث أن اقتحمه صوت مباغت قائلا: ما رأيك في الدنيا؟

ارتعد لوقع المباغتة وأجال عينيه في الطرقة المقوسة فلم ير أثرا لإنسان. الصوت صوت كهل مخمور يغلي في درجة الهذيان، ولكن أين هو؟! وإذا بالصوت يقول ضاحكا: هل جربت الشرب في الظلام؟

ثمة شجرة متوسطة - طبيعية أو صناعية - في أصيص ضخم عند نهاية قوس الطرقة المفضي إلى محل الحلوى، وكان المحل فيما يلي الشجرة غارقا في الظلمة، إذ يغلق أبوابه حوالي الثامنة مساء. واستنتج أن الرجل كان يجلس في الطرقة، ولسبب ما تزحزح بمقعده إلى الظلام حيث يمارس مزاحه السخيف. وأهمله وهو يلعنه في سره، ولكن الآخر عاد يسأل دون أن يظهر في منطقة الضوء الخافت: هل جربت الشرب في الظلام؟

فتجنب محادثته لعله يسكت، ولكنه قال: الشرب في الظلام يهبك قدرة على التركيز، وهذا هو السبب في أنني أفكر في حال الدنيا، فهل هي سائرة حقا إلى الخراب؟

راح يشاهد الرقص - ولو بنصف انتباه - ويعجب بالوجوه والصدور والبشرات الوردية، ولكن السكران لم يعتقه فقال: السؤال يهمني حقا، فإذا كانت سائرة إلى الخراب فأنا أشرب الكونياك، أما إن كان ثمة أمل في النجاة فإني أفضل الويسكي، وإن أكن في الحالتين أهلك نفسي لأني مصاب بثلاثة أمراض جليلة الشأن، ألا وهي الضغط والكبد والبواسير.

وعلى رغمه ابتسم. النشوة حلوة على أي حال، أما ما انقض على رءوس رجالنا من محن فأمر محزن حتى الموت، وكأنك تتلقى على يافوخك أنقاض العالم القديم الذي يتقوض، والأدهى من كل شيء أنك وإن كرهت العهد الجديد بقلبك فإنك لا تستطيع أن ترفضه بعقلك، لا أنت ولا مدخرك من مال العمد! - وليس الخراب بالشيء الجديد على العالم فإن يكن مكتوبا على الجبين فمن الخير أن يعجل.

فسأله وهو لا يدري تقريبا: ولم تريده على أن يعجل؟

فضحك ضحكة مقرقرة وقال: لأن خير البر عاجله.

ورثى عيسى إلى ضحايا التاريخ من قلب متأوه، وأفرغ الثمالة ثم غادر المحل، وسار على مهل في شارع سعد زغلول؛ أحب شوارع الإسكندرية إلى نفسه وبخاصة بعد الثورة، إنه شارعه الخاص على وجه ما، ويحب كثيرا أن يقطعه ولو مرة كل يوم جيئة وذهابا، ليناجي فيض الذكريات، واقترب الوقت من نصف الليل وشاعت في الجو برودة رقيقة منعشة وبدا المجال كله ملفعا بالهجران، وألقى نظرة إلى ظهر التمثال المحدق في البحر وطوح برأسه إلى الوراء على طريقة الباشا الذي حلا له قديما محاكاته، واستقل الترام إلى الإبراهيمية ثم ذهب إلى الكورنيش ليسلي أعصابه بالمشي الوئيد. وفاقت ملاحة الجو خيال رأسه الدائر بالشراب، وومضت النجوم في الثغرات الواسعة بين السحاب، واستكان البحر كالنائم تحت الظلام، وعلى البعد امتد سياج من الأضواء الثابتة فوق مراكب الصيد، وخلا الطريق من الأحياء فعادت تلح صورة الهجران، وجلس على أريكة حجرية ينعم بالصمت والحنان. إنه لا يعود إلى مسكنه الخالي حتى يقنعه النعاس. ومنذ قدومه إلى الإسكندرية وهو يعيش غير خاضع لإنسان أو لعادة ولكنه يطيع مطالب شخصه الطبيعية في حرية مطلقة، فينام إذا حل سلطان النوم ويستيقظ إذا مل الرقاد، ويأكل عند الجوع ويخرج لدى الملل، هذه الحرية التي لم ينعم بها من قبل، وشعر بشيء يلفت رأسه إلى اليسار، كان إغراء يراسل حاسة أو أكثر من حواسه، رأى شبحا يتجه من بعيد نحو مجلسه، وعندما اقترب من ضوء المصباح العملاق وضحت معالمه، فتاة من بنات الليل، الفستان الكستور الرخيص والنظرة المقتحمة بلا أدنى تحفظ أو كبرياء والانفراد المريب بالليل، كل أولئك يقطع بأنها من بنات الكورنيش. وتفحصها وهي تمر أمامه في الممشى الضيق الفاصل بين الأريكة وسور الكورنيش فوضح له شبابها ووسامة لا بأس بها في عارضها وابتذال نظراتها وجو التأهب لتلبية الإشارة الذي يغلفها كأنها كلب مهجور يلتمس عابرا ليتبعه. سارت حتى بلغت الأريكة التالية ثم جلست عليها مسددة الوجه ناحيته، أتعس بنات الهوى درجة ولكن ما أشد انطواء الإسكندرية على نفسها في غير أيام المصيف حتى لتبدو مغلقة الأبواب في وجه الغريب، وانبعث من أعماقه تأفف ولكن في نبضة رغبة جنونية، من المحقق أن الأستاذ مدير مكتب الوزير المتطلع إلى الوزارة قد مات ولم يبق في هذه اللحظة إلا ثمل منغرز في الوحدة والظلام، تزحف غرائزه في الظلام كالحشرات الليلية وكأن دفعة قوية نحو التمرغ في التراب تنفخ في محركاته، ولوح لها بذراعه كأقصى ما يمكن أن يجود في مغازلتها، ولوح مرة أخرى فقامت من مجلسها وجعلت تقترب منه حتى توقفت على بعد ذراع فأشار لها بالجلوس فجلست وهي تضحك ضحكة خافتة جدا كخرير الموج الهامس أسفل الكورنيش، تفرس في وجهها فهالته طفولتها وسألها في دهشة: كم عمرك؟

فضحكت ولم تجب فأعاد السؤال باهتمام، فقالت: خمن. - لعلك في الخامسة عشرة!

قالت في مباهاة: لا، لست قاصرة على أي حال فاطمئن.

مائلة للبياض، مستديرة الوجه، ممتلئة الوجنتين، ذات جسم صغير ممتلئ، مقصوصة الشعر كغلام، ولم تكف عن العبث بأظافرها التي بهتت صبغتها: من أين أنت آتية في هذه الساعة؟

فأشارت إلى الوراء بميل قائلة: من القهوة.

لاحت القهوة لعينه بابا مضاء يكتنفه الظلام والصمت فقال: لم أرها في سيري! - يراها عادة من يقصدها.

ثم وهي تضحك: سيجارة؟

وأشعلا سيجارتين، ولم يجد شيئا يقوله فهمس: بنا ...

وسارا جنبا إلى جنب في الطريق المتفرع عن الكورنيش وتأبطت ذراعه، فعبس في الظلام، وتذكر سلوى فاستفحلت عبوسته، وقال لنفسه: «فليحتكموا إلى انتخابات حرة إن كانوا صادقين!»

15

استيقظ حوالي الظهر فنظر إلى النائمة إلى جانبه باستغراب ثم سرعان ما أطبقت عليه ذكريات الليلة الماضية، وقال إنه ما دام هنالك نسيان وعادة فكل شيء ممكن، وتفحصها وهي شبه عارية بنظرة باردة وقلب خامد وازدراء لكل شيء، شفتاها ممتلئتان ومنفرجتان عن أسنان دقيقة مرسومة بعناية، وقد مال رأسها إلى كتفها الأيمن، وفضح النوم حقيقة شعرها فبرز جفافه وخشونته وتمرده، ومن التناقض الغريب حقا أن جمع كائنها بين أهداب مسترسلة فاتنة وبين كعبين متشققين كضفدعتين، وتزحزح إلى الأرض ثم ذهب إلى الحمام، ولدى عودته وجدها جالسة في الفراش وهي تتثاءب ثم رفعت إليه عينين ثقيلتين جميلتين فعزم على أن يتخلص منها في أقرب فرصة، فقال: عندي ميعاد ويجب أن أذهب.

فحدجته بنظرة مترددة ثم غادرت الغرفة، وفتح باب الشرفة فتدفق هواء قوي ولكنه لطيف مشبع برائحة البحر ودفء الشمس الساطعة في كبد السماء، وراح يرتدي ملابسه وهو يرنو إلى البحر الذي دبت فيه حركة مليئة بالاندفاع، وانتشرت على مدى سطحه خطوط الرغاوى كأفواه ضاحكة. وطال الوقت وهي في الحمام - كما ظن - فخرج إلى الصالة ليفتح الراديو، فوجدها عاكفة على تنظيف البيت وترتيبه بهمة عالية، فقال لها: أشكرك، ولكن دعي هذا للبواب؛ لأنه آن لي أذهب.

فقالت ويداها لا تمسكان عن العمل: تفضل! - ولكن .. متى ترتدين ملابسك؟

فجلست على مقعد كبير في الصالة وابتسمت. - أنت كسلانة، ولكن عندي موعد!

فسألته برقة: أتقيم وحدك؟ - نعم .. ولكن هيا بنا!

فراحت تمشط شعرها وتقول بحياء حقيقي لأول مرة: قلت لنفسي ربما كان في حاجة إلى أنس وخدمة.

فقال بدهشة: شكرا، لست في حاجة إلى شيء من هذا، أليس لك بيت؟ - كلا. - أين كنت تعيشين؟

فقالت بهوان: عند صاحبة القهوة أحيانا، وأحيانا أبيت في القهوة! - لكنك تكسبين بلا شك. - لا نجد عملا في الشتاء، وكان الصيف الماضي كالشتاء!

فقال بضجر: على أي حال ستجدين حلا في الخارج.

فوقفت في إذعان وقالت بصوت منخفض: لم أدخر شيئا للشتاء، وأنت في حاجة إلى خدمة!

وأتى إلحاحها بنتيجة عكسية فازداد عنادا، غير أنه سألها: لم لا تهاجرين شتاء إلى القاهرة؟

فرمقته بنظرة دهشة، كأن الفكرة ليست مما يخطر بالبال ببساطة: أنا من هنا. - أليس لك أهل؟ - طبعا، ولكن لا يمكن الرجوع إليهم! - ألا تخشين أن يراك أحد منهم؟ - هم في طنطا، أنا في الأصل من طنطا.

فقال في ضجر، وكأنما قد ندم على الاسترسال في الحديث: من فضلك، وقتي ضيق.

ومضت إلى الحجرة لترتدي ملابسها، وقال لنفسه إن ثمة أوجه شبه تجمع بينه وبين هذه البنت، فكلاهما ملوث وطريد، أما هي فقد تولاها حال عبث لدى يأسها من استعطافه، فنظرت إلى صورة للأسرة اليونانية بالجدار وسألته: عائلة حضرتك؟

فابتسم على رغمه، وقال: أرأيت أنك شيطانة؟!

فضحكت أكثر من المنتظر، ثم سألته جادة: من الإسكندرية؟ - كلا. - إذن فأنت موظف هنا؟! - تقريبا. - تقريبا؟!

فهتف بها: أنت وكيلة نيابة .. هيا!

وطلبت أجرتها فأعطاها، وكانت دون ما قدر بكثير، فرق لها لأول مرة منذ استيقاظه، وغادرا الشقة معا، ثم افترقا عند مدخل العمارة، وقصد من توه مطعما ليشبع جوعه.

ودخل أول سينما صادفته ليمضي الفترة ما بين الثالثة والسادسة، ثم جلس في التريانون الكبير يشرب القهوة ويطالع جريدة المساء، وحوالي التاسعة مضى إلى مجلسه المعتم بطرقة التريانون الصغير، استمع إلى الموسيقى وتسلى بمشاهدة الراقصين، وشرب من الكونياك حتى انتشى، وفي لحظة ما تمنى لو يرتفع صوت رجل الأمس من وراء الشجر ليسب الدنيا، وقال مخاطبا سمير عبد الباقي: أنا أيضا طالب تصوف، لا أنت وحدك.

وابتسم في رثاء، ثم قال مخاطبا نفسه: لا تفكر في المستقبل. - أجل أنت ما زلت في شهر العسل، ويلزمك فراغ طويل عريض. - ولا تحزن لتفاهتك، فهي تفاهة تاريخية.

وقبيل منتصف الليل بقليل غادر المحل. وهو يقترب من مدخل العمارة، رأى البنت جالسة في القهوة اليونانية على أقرب كرسي من مدخل العمارة، فحدق في وجهها المبتسم في ترحيب بدهشة، ونهضت بخفة لتلقاه أمام المدخل، فتوقف في حيرة، فقالت في مرح: لم تتأخر عن ميعادك!

وسبقته إلى الداخل، فتردد لحظة ثم تبعها متسائلا: ماذا تفعلين؟

فقالت وهي تتأبط ذراعه: كنت أنتظرك .. وقلت لنفسي سيكون من حسن حظي إذا جاء وحيدا.

ورغم إدراكه القاسي للموقف، ارتاح لتملقها، وفي المصعد سألها: ما اسمك؟ - ريري.

ضاحكا: يبدو أنه اسم طنطاوي قح! - هو كذلك في الإسكندرية.

ثم بعد صمت قصير: قلبي يحدثني بأنك ستقبلني في ضيافتك.

16

وسمح لها بالإقامة في شقته كما تمنت، وأفهمها منذ اللحظة الأولى أنه رجل حر، وأن عليها أن تلتزم حدودها حتى لو جاء كل ليلة بامرأة، وقالت له: سمعا وطاعة، ولم ينكر بعد ذلك أنها أكسبت الشقة أنسا ونظافة وأطلقت في جوها البارد أنفاسا حارة، وأنها تبدت في الثياب الجديدة التي ابتاعها لها مقبولة حقا، وبالغت دائما في العناية بمظهرها، ولعبت دورها بلباقة، وهو دور فوق مرتبة الخادمة ودون مرتبة السيدة، وتجنبت أن تثقل عليه بأية صورة من الصور. وكانت تشاركه الطعام والتدخين والشراب ولم تطالبه فوق ذلك بمليم. ولم يشجعها على التودد العاطفي إليه ولا على استعمال التعبيرات العذبة، وقال لها: أنا رجل سيئ الظن بكل شيء، هكذا أصبحت، فاحذري أن تذكريني بالكذب.

وعندما استحكم الشتاء وأمسى الجو كالغيب لا أمان له، اضطر إلى قضاء الليالي الطوال معها في الشقة يستمعان إلى الراديو، أو ينفرد هو بضع ساعات بالقراءة أو يريح النفس المكدودة بأحاديثها التافهة، وأسوأ ما يمر به معها أن تدهمه أحيانا كمركز للهوان الذي تدهور إليه في الحياة، وعند ذاك يتجنبها ويتوثب للإساءة إليها عند أول فرصة، وعند الإساءة ينقبض وجهها المستدير الممتلئ فيلحظ خفية الجهد الذي تبذله لشكم غضبها والتنفيس عن استعدادها العدواني المكبوت المكتسب من حياة الأرصفة بمعركة باطنية تفتضح آثارها في خديها وشفتيها ونظرتها وانقلاب سحنتها، ورغم أنها كانت أمية إلا أنها كانت على ثقافة في عالمي السينما والراديو فهي تحفظ أسماء وصور النجوم والكواكب كما تعرف الأفلام والأغاني والبرامج ولا تشبع من أحاديثها، وسألته: ألا تراني صالحة للسينما؟

فأجابها بأنه لا خبرة له في هذا الميدان، وعجب للغرور البشري الذي يفوق قوة الذرة، وقصت قصصا عن نجوم وكواكب، لا يدري من أين جاءتها لتثبت له أنها جديرة بالأضواء، وأن المسألة مسألة حظ، لا أكثر ولا أقل! وقال لها ضاحكا: كان ينبغي أن تبحثي عن شقة منتج أو مخرج لكي تشاركيه فيها!

ولأن ليل الشتاء طويل، ولأنه يأبى أن ينام قبل الفجر، فقد علمته ألوانا من لعب الورق، وقامرته كثيرا، وربحت منه بعض النقود، وهي النقود الوحيدة التي استقرت في جيبها منه، وخطر له أن يسأل نفسه مرة ماذا تعرف البنت عن السياسية - السياسة التي ازدردته بطلا ولفظته جثة - فسألها عن أسماء وأحداث، ولكنها هزت منكبيها ولم تعن بالإجابة، وعجب كيف يوجد مخلوق لا اكتراث له بدنيا السياسة، وسألها ساخرا: ماذا تعرفين عن الدستور؟

فلم تبن عيناها عن أي فهم، فعاد يسأل: ورأيك في الاستقلال؟

فلم تتغير نظرتها، فأوضح كلامه قائلا: أعني خروج الإنجليز!

فهتفت: آه، فليخرجوا إذا شئت، ولكني سمعت الكثير عن أيامهم الحلوة، أبلتي صاحبة القهوة فتحت قهوتها من نقودهم.

وقال لنفسه: إن استقلالها الحقيقي هو أن تتحرر من الحاجة إلي أنا وأمثالي.

وفتحت له قلبها، فحدثته عن ماضيها بصراحة غريبة: لي أم وخالة وأخوات، والرجل الوحيد الباقي لي عم في التسعين من عمره، لذلك لا أتوقع الذبح.

وكانت شيطانة منذ الصغر، وقد مات أبوها وهي في العاشرة فعجزت أمها عن تأديبها وتهذيبها ولم تستطع صدها عن الصبيان، ولم يجد معها الزجر ولا الضرب. - وعشقت شابا وأنا دون البلوغ حتى ضربت القرية بي المثل.

ثم وقعت الواقعة كالمتوقع. - وضربتني أمي، ولطمت خديها حتى سقطت على الأرض كالميتة.

ثم هربت مع شاب إلى الإسكندرية حيث ذهب لإتمام تعليمه، وسرعان ما تخلص منها بعد أشهر فوجدت نفسها وحيدة، ثم بدأت هذه الحياة، وقال باسما: أنت بنت صغيرة، ولكنك شيطانة كبيرة.

فقالت في مباهاة: وعشقني في الأزاريطة خواجا عجوز فاتخذني خادمة في الظاهر، وكانت له امرأة عجوز قعيدة الفراش! - لكنك لم تحسني الانتفاع بالفرص كأبلتك صاحبة القهوة!

فقالت ببساطة: أنا لا أطلب إلا الستر!

فضحك ضحكة عالية وقال لنفسه لعله من المفيد أن نصادف ما يقنعنا بأننا لسنا أبأس مخلوقات الله، وسألها: وما تنتظرين من المستقبل؟

فرفعت حاجبيها لحظات ثم غمغمت: ربنا كبير. - الظاهر أنك متدينة!

وابتسمت لنبرة السخرية في قوله ولاذت بالصمت، فقال: لكنك عفريتة باعترافك.

فأغرقت في الضحك وقالت: جاء وقت النوم، وهو خير من إتعاب الرأس بلا فائدة.

وازداد إيمانا بأوجه الشبه التي تجمعه بهذه البنت، وسلم بأنها ضرورة لا غنى عنها في وحدته، وبخاصة عندما فظعت الملمات، فقد هوت المعاول على الزعماء، وانقضت المحاكمات، فانقبض قلبه خوفا كموزع المخدرات إذا دهمته أنباء القبض على المعلمين الكبار، وأنكر الدنيا فلم يعد يعرفها، ولم يعد يدهش لأيام الشتاء العاصفة حين يغلق البوغاز، وتتطاير أمواج الغضب من البحر الصارخ فتجتاح الكورنيش، وتكفهر السحب كقطع الليل، ويشتد البرق كالصواريخ، وتنهل الأمطار ككائنات هاربة من غضب السماء، وبدت الغربة حمقاء عمياء، ففاض حنينه إلى القاهرة، وإلى ركن البوديجا الدافئ، وقالت له: ترى أين أنت الآن؟ إنك لست معي، ولا أنت في الدنيا كلها!

فعاد الحضور إلى نظرته المتعبة من التسكع في الغيب، وابتسم في فتور دون أن ينبس، فقالت: وهكذا أنت منذ أيام!

فقال في ضجر: نعم، أما أنت فلا تسمعين في الراديو إلا الأغاني!

فتساءلت في نبرة تطفل مستحيية: أنت من الأعيان؟

فضحك ضحكة جافة، وقال: أو عاطل من العاطلين! - أنت؟! كلا، ولكنك سر من الأسرار! - إنهم يفشون الأسرار. - خبرني حتى متى تبقى كما أنت؟ - دعيني أسألك نفس السؤال ... - أنا حياتي ليست بيدي. - ولا أنا ...

ثم وهو يبتسم: وعندما يأتي الربيع سيذهب كلانا إلى سبيله.

فقالت بحرارة غير متوقعة: أنا لن أذهب حتى تأمر بطردي.

لعنة الله على العواطف الكاذبة والصادقة على السواء، وأحدث توددها في نفسه أثرا عكسيا أوشك أن ينقلب غضبا، فركز انتباهه في أغنية تذاع، ثم أعلن المذيع عن برنامج اقتصادي تناقشه مجموعة من رجال الاقتصاد، سمع عند تعدد أسمائهم اسم الأستاذ «حسن الدباغ»، فسرعان ما وثب إلى الراديو فأغلقه، وسألته عن سر ضيقه فقال لها بحدة: قلت إنك لا تسمعين إلا الأغاني!

وفي الأيام الصافية من الشتاء كان يجوب الأماكن المحبوبة في شتى الأنحاء بالإسكندرية، ولم يصحبها معه ولا مرة واحدة، ولكنه لم يمنعها من ممارستها حريتها الكاملة في الحركة، وقرأ في عينيها رغبة في مصاحبته ولو خطوات على الكورنيش، ولكنه كره مجرد التفكير في تحقيقها، وسألته: ألا ترى أنك تعاملني كما لو كنت ...

فقاطعها بحزم: لا تفتشي عن أسباب للنكد!

ثم رق لوجهها الذي تورد في تأثر واضح، فداعب شعرها القصير، وقال بلهجة حانية: لا تفتشي عن أسباب للنكد.

ولم تعد تفصح عن مشاعرها بالكلمات، ولكن بالجهد المبذول في خدمته ورعاية راحته. ولاقى جهدها بامتنان مشوب بسوء الظن، وقال: إنه عما قليل يولي الشتاء فيتحرر من هذه العلاقة التي اقتحمت عليه شقته، حتى سلوى لم يكد يبقى من تجربتها إلا جرح سطحي، لعله من الكبرياء لا من الحب، وأدرك أن الفراغ الذي تركته السياسة في قلبه سيحتاج في سده إلى مغامرات قد تشق على النفس، ثم أدهشته فيما تلا ذلك من أيام أن يرى صحة البنت وهي تسوء بشكل ملحوظ، أجل الشحوب والإعياء والفتور والسحنة المنفرة، كيف يأتي هذا وهي تحظى بما لم تحلم به يوما من الغذاء وراحة البال؟! وظن ما بها بردا ولكنه خلا في الحقيقة من أعراض البرد، ولازمها بإصرار أقلقه وشغله، وسألها: ماذا بك؟ هل سبق أن عانيت هذه الحال من قبل؟

أجابت بالنفي، وتهربت من ملاحقته، وإذا بها ترقد على الفراش في استسلام قهري، ووقف يتفحصها بعينين قلقتين وضيق، ثم قال: إذن يجب أن أدعو طبيبا.

فلوحت بيدها رفضا وقالت: كلا، مجرد ضعف من الرطوبة.

واغرورقت عيناها، فبدت طفلة بلا تجربة ... وساوره خوف لم يدر سببه، فقال: لديك ما تقولينه بلا شك ...

أغمضت عينيها في يأس، ثم أشارت إلى بطنها ولم تنبس، ودق قلبه بعنف لم يجربه إلا عند الابتلاء بخطير الأحداث التي هصرته، وانقلب خوفه ضيقا خالصا، الهرة الماكرة قد وضح هدفها، وصاح بها: حية سامة، هذا جزاء إيوائي لك؟!

فولولت قائلة: لم أعرف إلا بعد فوات الوقت. - تدعين السذاجة يا شيطانة؟! - أبدا، ولكنه وقع رغم الحذر. - كذابة، وحتى لو صدقتك، فلم لم تخبريني؟ - الخوف! .. لم أستطع من الخوف!

فصاح: العفاريت تخاف مثيلاتك، وماذا تنتظرين! .. متى تفعلين شيئا؟

قالت بلهوجة، وهي تشهق: لم أنس صديقة ماتت وهي تفعل ذلك. - وإذن؟

واحتبس صوته من الغضب، ثم صرخ: وإذن؟! أفصحي عن مكرك! اسمعي ...

ثم وهو ينذرها بسبابته: لا تريني وجهك، من الآن وإلى الأبد!

فتوسلت إليه قائلة: لم تضع الفرصة، ولكن كن أحسن من ذلك.

فقال بإصرار جهنمي: الآن ... الآن أنا فاهمك، ولكن الآن وإلى الأبد.

17

اشتدت وطأة الوحدة عليه فلم يعد يتحمل الرجوع إلى الشقة إلا آخر الليل، ولكن خوفه من البنت فاق جميع عذاباته، وجعل يتساءل؛ ترى هل تتخذ الخطوات التي تقذف به إلى صميم الفضيحة العلنية؟ هل يقف قريبا موقف الذل أمام النيابة؟ كما سيحلو التشهير به عند الصحف! وكم سيكون ذلك فرصة طيبة للتشهير بالآخرين وبعهد بأكمله! وطوقه القلق في وحدته كالبعوض في مستنقع، ولكن تتابعت الأيام دون أن يتحقق شيء من مخاوفه أو يجيئه من البنت تعب، وثمة أسباب كثيرة أقنعته بوجوب العودة إلى القاهرة ولكنه تشبث بالبقاء في الإسكندرية بلا سبب معقول، وكلما اطمأن من ناحية البنت زاد تشبثه بعذابه، ولم تعد العواطف تزعجه بقدر ما تفتنه، والوحدة تغازله بسحر غامض قاتل، أما جو الأجانب ذو العبير الغريب ففجر في نفسه أحلاما بالهجرة الأبدية إلى قمم الجبال المنقوشة بالمراعي الخضر حيث ينقضي العمر بعيدا عن الكدر، وأحب ميدان الرمل حبا جما، فهو مسرح دائم لحاملات الأناقة والشعور الذهبية الملفعات بمعاطف المطر، وكلما جاء ترام انطلقت أسراب الحسن تبهج الخاطر وتسكر اللب وتعزف بسيقانها مختلف الألحان، ورآه ضابط بوليس وهو يحملق في حسناء ويهم بمتابعتها فالتقت عيناهما وابتسم الضابط، فتراجع عيسى من فوره وهو يتفكر ما كان له من رهبة في نفوس جميع الرتب من ضباط البوليس، واتخذ وراء الزجاج مجلسا في «على كيفك» المشرف على الميدان، وتيار البشر يتلاطم بلا انقطاع فيعيش فيه ما شاء بلا ملل، الماضي المشحون بالطموح لم يسمح بجلسة كهذه وإن تكن جلسة منبوذ كالزبد الذي يخلفه الموج فوق الساحل حتى يجمعه عمال البلدية، وأين الأعزاء الكبار الذين أجبروا على الاختفاء ومتى تجف الدموع عليهم! واللهو في تلك الأيام لم يؤخذ إلا خطفا وبلا تذوق ودون علاقة إنسانية حقيقية، وعندما أذن الزمان بإنشاء علاقة إنسانية هب الإعصار فاجتاح كل قائم، وها هو الجو يكفهر وتبتلع قوة مجهولة الضياء وتتكدس السحب فيلوح الآدميون المولون كالأطياف. يا إسكندرية الشتاء المتقلبة كامرأة! وهب الهواء عنيفا كأنباء السوء فحبكت الأيدي البضة المعاطف، وأغلق باعة الصحف معارضهم وأمسى الاحتماء بزجاج «على كيفك» واحتساء الشاي الساخن نعمة النعم، وجعجع الرعد فشرد القلب وهطل المطر بقوة ورشاقة حتى وثق ما بين السماء والأرض بأسلاك مكهربة، وخلا الميدان وتكتل البشر تحت مظلات الأسمنت فبعث منظر تلاصقهم الدفء فارتاحت نفسه وطابت.

وسمع نحنحة خفيفة فالتفت إلى يساره فرأى ريري مستقرة على كرسي لا يفصلها عنه سوى ترابيزة واحدة! حول رأسه إلى الميدان بسرعة ولكنه لم يعد يرى إلا صورتها في المعطف البرتقالي القديم في مزيج من أفكاره المضطربة، لقد التقت العينان لحظة قصيرة جدا ولكنها مليئة بتعبير مأساوي باسم، أهي تتبعه عن قصد أم رماه بها التسكع وحده؟! وهل تنتهي الجلسة بسلام أو تنفجر في ذروة من الفضيحة؟ وهل تخلصت من الشيء أو ما زالت مصرة على الاحتفاظ به؟ وقرر أن يغادر المكان، لكنه انتبه إلى الميدان فرأى العاصفة تتمادى في هياجها وسلم بأنه سيظل حبيسا داخل المحل على رغمه، وقرر أيضا أن يغادر الإسكندرية في أول فرصة، غدا لو أمكن، ثم تظاهر باللامبالاة وأسند خده إلى قبضته كالمتأمل الحالم! وخطر له خاطر سيئ جدا، وهو أن حضورها ما هو إلا جزء من خطة متفق عليها مع البوليس للقبض عليه، وأنه آن له أن ينضم إلى ركب أبناء جيله البارزين الذين يقذف بهم تباعا خارج الأسوار، وقد يسوق ذلك إلى ما هو أدهى، إذ إنه لا شك في أنهم مطلعون على رصيده في البنك وأنهم قد يطلقون عليه هذا السؤال: «من أين لك هذا؟» في أي لحظة، وما يدري إلا والبنت تجلس إلى ترابيزته وهي تقول: قلت أدعو نفسي ما دام لا يريد أن يدعوني!

حدجها بنظرة جامدة تخفي وراءها ذعره ولم ينبس، فقالت: لا تزعل، سنجلس معا بعض الوقت كما يليق بالأصدقاء القدامى.

وقال لنفسه هذه هي الخطوة الأولى في المكيدة، ولعل المتآمرين الآخرين يترقبون، وصمم على الدفاع عن نفسه حتى الموت، فقال بصوت يسمعه القريبون منهما: عم تتحدثين؟ .. أنا لا أفهم شيئا!

فأخذت بتجاهله وانطفأت المداعبة في عينيها وتمتمت: أنت تقول هذا!

فبسط يسراه متظاهرا بالحيرة، فقالت بتعجب: إذن فأنت لا تعرفني! - أنا آسف جدا، لعلك أخطأت في الشبه!

ولفتها الخيبة بصورة محزنة، ثم أطبقت شفتيها في غضب أحال سحنتها نذيرا بالشر حتى توقع كارثة أمام الجلوس، ولكنها قامت وهي تقول في سخرية وتحد: يخلق من الشبه أربعين.

وشعر لشدة انفعاله بدوار، ولم يصدق أن المعركة ستقف عند هذا الحد، وكلما تذكر سحنتها المنقلبة ارتعد وأيقن أنها تخفي نمرة تحت جلد البنت المرحة، ولبث في ذهوله لا يدري كم لبث حتى انتبه إلى أن المطر قد كف عن الهطول، وأن فرجة تتسع في الأفق ينبثق منها شعاع وان مغسول. ونهض بلا تردد، فارتدى معطفه ومضى دون أن يلتفت ناحيتها، وعندما رجع إلى العمارة بعد منتصف الليل وجد في انتظاره برقية مرسلة من العائلة لتنبئه بوفاة والدته.

18

تقرر تشييع الجنازة من القبة الفداوية عصر اليوم التالي، وقد سبق عيسى إلى هناك ليستقبل المشيعين، فصادف وصوله قدوم حسن ابن عمه في سيارته المرسيدس، ولم يدهش للسيارة بطبيعة الحال، ولكن منظرها أثاره، وعجب للتحسن الواضح الذي طرأ على صحة ابن عمه، والاستعلاء الذي شد قامته، والسيادة المطلقة من عينية، وتصافحا ووقفا ينتظران تحت ظل الشجرة، وجعل حسن يتفحصه ويقول: ليست صحتك كما كنت أنتظر!

فقال عيسى وهو يستعرض أحزانه في لفتة خاطفة: لعل الجو لم يناسبني!

فقال الشاب بلهجة تقريرية قاطعة: رحلة لا معنى لها، ولكنك رجل عنيد!

وقال عيسى إنه لم يعدل عن حلمه القديم في تزويجه من أخته ، ثم جاء الأصدقاء سمير عبد الباقي وإبراهيم خيرت وعباس صديق، وبعض الشيوخ والنواب السابقين، وجاءت أفواج من الناس لا حصر لهم لتعزية حسن، فاكتظ بهم السرادق على سعته، وكانت لحظة حرجة حين هبط علي سليمان من سيارته. وقد استقبله حسن، ولم ير عيسى بدا من استقباله، فتصافحا وتلقى تعزيته دون أن يتبادلا نظرة واحدة، وتتابعت الخطوات التقليدية واحدة بعد أخرى، ولم يخرج عيسى عن رزانته إلا ساعة الدفن، فاغرورقت عيناه رغم ما بذل من جهد صادق لضبط مشاعره، وقد أشرف على جميع الإجراءات بنفسه. ولم يستطع أن يقاوم الإغراء الأبدي، فألقى بنظرة طويلة إلى جوف القبر، وشعر برغبة في الخلو بنفسه ليقول لها أشياء هامة، ثم وثب إلى مخيلته موقف الوداع الأخير بينه وبين أمه في البيت القديم وقد لثمت جبينه، وقالت: افعل ما تشاء، وليحرسك المولى أينما تكون، أما أنا فسأحبس دموعي حتى تذهب بالسلامة!

ولا يكاد يذكر تعابير وجهها، لأنه لم ينعم فيه بالنظر، ولكن كانت يدها باردة منتفضة، وانتحى جانبا عندما بدأت التلاوة الجماعية، وتبادل وأصحابه نظرات متعاطفة أكثر من مرة، وسأل نفسه بتأنيب «لم تحزن أكثر مما ينبغي؟» ثم قال لنفسه أيضا بحماس مريح لم يخل من شماتة: «هذا هو المصير الأخير، لكل مسكين ولكل جبار، أجل ولكل جبار!»

واقتصر العزاء في البيت ليلا على الأهل والأصدقاء الثلاثة، أما علي سليمان فلم يحضر، وتجنب عيسى الانتقال إلى الحريم كي لا يرى آل عمه، ولكنه تساءل باهتمام: هل حضرت سوسن هانم وسلوى؟ وفي الحجرة التي جمعته مع سمير وعباس وإبراهيم وحسن، شهد صورة أقرب ما تكون إلى الفكاهة، إذ لم يجرؤ أحد من أصدقائه على الإفصاح عن مشاعره السياسية في حضور حسن، ولما كانت السياسة جزءا لا يمكن إهماله في أي اجتماع فلم يروا بدا من النفاق، فنوهوا بالأعمال التاريخية المذهلة، كإلغاء النظام الملكي والقضاء على الإقطاع والجلاء، وبخاصة الجلاء؛ ذلك الحلم القديم. ولم يشترك عيسى في الحديث إلا قليلا للغاية؛ لغلبة الإعياء عليه، ولشعوره بالفراغ والحزن ، ودارى سخريته من الموقف بالتظاهر بالإصغاء إلى تلاوة القرآن المنبعثة من الصالة، حيث تربع مقرئ من الدرجة الثالثة. وقال لنفسه إن حسن بات ركنا خطيرا، يعمل له ألف حساب، ألا يبدو هذا مضحكا؟! واستسلم للشعور العجيب بأن أمه لم تمت، أو أنها لا تزال حية بطريقة ما، أو أن روحها لم تغادر البيت بعد. ثم ذكر بدهشة حلم الجلاء القديم، وكيف أصغى إلى أنباء إعلانه بارتياح فاتر مشوب بالغيظ لا لشيء إلا لأنه لم يتحقق على يد حزبه، وما تمالك أن قال: الحقيقة أن الجلاء ثمرة للماضي!

ولم يعلق أحد من الأصدقاء بكلمة، على حين نشط حسن للبرهنة على فساد هذه الفكرة، وإذا بإبراهيم خيرت يقول: الحقيقة أن جميع ثوراتنا القديمة ثورات بلا نتائج حاسمة، ثم جاءت هذه الثورة لتحقق رسالات الثورات القديمة، بالإضافة إلى أهدافها الذاتية.

وتواصل الحديث حتى خلا البيت، وحين مضى ليوصل ابن عمه إلى الباب الخارجي، توقف فجأة، ثم ابتسم إليه في تودد قائلا: كان سفرك خطأ ويجب أن تعيد النظر في موقفك.

فابتسم عيسى بلا أدنى رغبة في الحديث، فعاد الآخر يقول: خبرني عن أمل واحد من آمالك الماضية لا يتحقق اليوم .. فيجب أن تلحق بالقطار.

وهز رأسه هزة غامضة، ثم تصافحا وحسن يقول: عندما تغير رأيك ستجدني رهن إشارتك.

فشكره عيسى بنبرة امتنان واضحة، والحق أنه تأثر كثيرا لحسن مجاملته، ولكنه أبى أن يفكر في زحزحة الجدار الذي يصده عنه، وكثيرا ما يسلم بمنطق خصمه، ويعترف بهزيمته الخفية أمامه، ولكن كلما ازداد عقله اقتناعا، غاص قلبه في الامتعاض الآسن، وخلا بعد ذلك بأم شلبي التي حيت مقدمه بالبكاء على الراحلة، انتظر حتى سكتت ثم سألها: كيف كان حالها؟

فقالت وهي تجفف عينيها: لم ترقد يوما واحدا. - إذن فجأة؟ - نعم، وبين يدي من حسن الحظ. - هل كانت تطول وحدتها بالبيت؟ - أبدا، كل يوم كانت تزورها ست من أخواتك. - الليلة ألم تحضر سوسن هانم؟ - نعم، يا سيدي، حضرت.

وبعد تردد قصير، سألها: وسلوى؟ - لم تحضر يا سيدي.

ورمشت بعينيها ثم استطردت: كتبوا كتابها على سي حسن ابن عمك.

انتفضت عيناه المتعبتان في نظرة يقظة دهشة، ثم تساءل: سلوى وحسن؟ - نعم يا سيدي. - متى؟ - في الشهر الماضي.

مد ساقيه بلا مبالاة، وألقى برأسه على مسند المقعد، فرأى السقف القديم الباهت القائم على أعمدة أفقية، ثم استقرت عيناه على برص كبير في أعلى الجدار، تراءى في وضعه الجامد كالمصلوب.

19

في جو يونيو المشبع بالدفء يحلو المجلس على طوار البوديجا، وبخاصة عندما يحمل المساء نسمة لطيفة، وقد يسود الصمت عند مرور حسناء ولكنهم لا يشبعون بحال من حديث السياسة، وبالرغم من المركز الذي يشغله عباس صديق في الحكومة والمكانة التي يحتلها إبراهيم خيرت كمحام وكاتب من كتاب الثورة فإن موقفهما لم يختلف في شيء عن موقف عيسى أو حتى سمير عبد الباقي الجانح إلى الهدوء، وقد لخص إبراهيم خيرت شعورهم العام بكلمة من كلماته إذ قال: تكون في فمك وتقسم لغيرك.

وطبعهم الاستسلام بطابعه، ولكن الأمل في معجزة ليست في الحسبان لم يمت، ومن أتفه الأحداث يتلقفون أحيانا ما يبعث في موات نفوسهم نفضة حياة غامضة، ومن عجب أن إبراهيم خيرت وعباس صديق يثبتان بصورة مستمرة أنهما أشد تذمرا من عيسى نفسه وقد قال لهما ضاحكا: أنت كاتب كبير وأنت موظف كبير فماذا تريدان؟

فقال عباس بصوته الرنان المنسجم تماما مع جحوظ عينيه وبريقهما: الحالة الخاصة مستكنة ولا شك، ولكنها لا تتغير من النظرة العامة.

وقال إبراهيم خيرت: الحقيقة أنه لا قيمة لإنسان اليوم مهما علا شأنه، نحن بلد الفقاقيع.

فقال عباس: كنت وأنا في الدرجة السادسة لا غير في حكم وزارة بأكملها.

وقال سمير عبد الباقي باستسلام مريح: لم يعد يهمني شيء البتة! - يمكن أن يعتبر موقفك أشد تطرفا منا جميعا!

فسارع إلى إصلاح رأيه قائلا: أعني لم تعد تعذبني الحسرة على ما فات، وأحيانا أدعو لهم بالتوفيق، ولا تهمني غربتي لأنني اخترتها.

فداعبه عيسى قائلا: قل إنها فرضت عليك. - ولكنني اخترتها في نفس الوقت، ولتكن مشيئة الله .

وربت إبراهيم على كتف عيسى قائلا: وأنت لم لا تتكلم؟ ألا جديد عندك؟

فقال عيسى ببساطة: علقت منذ أيام إعلانا على باب بيت المرحومة الوالدة «للبيع». - بيت قديم لكنه صقع!

فقال عيسى بسرور: سيمكنني نصيبي منه من أن أعيش حياة الأعيان التي أحياها أطول مدة ممكنة. - هل تجدها حياة موفقة؟ - لعل فيها الشفاء من انقسام الشخصية الذي أعانيه.

فتساءل عباس صديق: مرض جديد؟!

فقال عيسى بعد تأمل: الحقيقة أن عقلي يقتنع أحيانا بالثورة، ولكن قلبي دائما مع الماضي، والمسألة هل يمكن التوفيق بين عقلي وقلبي؟!

فقال إبراهيم خيرت: المسألة ليست مسألة مبادئ يقتنع بها العقل، ولكن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تتقرر بطريقة خفية كما في الحب، ويمكن أن نقول إن أظفر الحكام بقلوب المحكومين هو أعظمهم احتراما لإنسانيتهم، وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان!

فقال عيسى بحزن: ولذلك فحتى لو حظيت بعشرات الأعمال فسوف أظل بلا عمل.

فقال عباس صديق: أهو العقل أم القلب الذي يتكلم؟!

فقال سمير عبد الباقي باسما: للقلب «عندنا» معنى مختلف كل الاختلاف.

تساءل عيسى: لم نضحك والحياة مأساة بكل معنى الكلمة؟

فقال إبراهيم خيرت: نحن نعتبر الموت ذروة المأساة، ومع ذلك فموت الأحياء أفظع ألف مرة من موت الأموات.

فضحك عباس صديق ضحكة كالفرقعة وقال: ما أنسب أن يسوقنا الحديث عن الموت إلى حديث الذرة مثلا!

فقال عيسى ولم يكن قد خرج تماما من حزنه المفاجئ: التهديد بالذرة من شأنه أن يخفف من متاعب الحياة، أعني حياتنا.

فتساءل عباس صديق في سخرية: والحضارة؟ ألا تخشى على الحضارة؟ - من حسن الحظ أننا لم ندخل الحضارة بعد، فما خوفنا من البلل؟

فقال إبراهيم خيرت: ليكن عهد كعهد الطوفان ليطهر العالم.

فسأله عباس صديق: هل سمعت عن ذلك من مصدر مسئول؟

فقال سمير عبد الباقي: فلنعترف بأنه لولا الموت لما كان للحياة قيمة. - ما أكثر الكلام عن الموت!

وتذكر عيسى موت أمه، وزواج سلوى من حسن، والقسوة التي عامل بها ريري. وقال لنفسه إن السمر مع هؤلاء الأصدقاء تسلية شاقة، أما حديث حسن فإنه يزيد انقسام شخصيته حدة، ومال سمير نحوه قائلا: مشكلتك تعتبر يسيرة بالقياس إلى مشكلة العالم، أنت يلزمك عمل وزوجة.

فقال عيسى دون مناسبة ظاهرة: لذلك فأنا أحب أفلام الرعب.

فقال عباس صديق: عيب هذه الأفلام أنها خيالية.

فقال عيسى: بل عيبها أنها واقعية أكثر مما يجب.

وانطلقت صفارة الأمان خطأ، واستمر انطلاقها نصف دقيقة، وقال عيسى إنه سيجد نفسه في النهاية باحثا عن عمل وعن امرأة، ولكن ذلك لن يقع حتى يسلم بالهزيمة ويخرج نهائيا من التاريخ.

20

حياة آخر الليل حادة اللذة، ولكنها لا تدوم فضلا عن فداحة ثمنها، وللأريزونا جمال خاص عند منتصف الليل، فالرقص يدور مع حسناوات من أمم شتى، والشراب ممزوج بندى الفجر، ثم إنك تستطيع أن تقتنع بالكذب، وفي الحديقة الخلفية لا يوجد إلا العشق والعشاق وضوء القمر أو ضوء النجوم، النقود لا قيمة لها البتة والعواطف تهرق بلا حساب، وقال إنه لا جديد في الصورة، غير أنه يمارس أكاذيبه في الحياة اليومية في جو شديد الجفاف، أما هنا فهي تمزج مع الأغاني في جو من الطرب، وسلوى قد عرفت التفاهة ولكنها لم تعرف الطرب، وخطر له أن يسأل صديقته الإيطالية في الحديقة: أنت طوفت بلادا كثيرة، فما رأيك في الناس؟

وكانت متعة الحواس الخمس، فأجابت: أنا ألقاهم عادة عندما يكون السرور مطلبهم، فهم طيبون جدا. - ولكن ذلك كله كذب! - في الأقل فهم يرغبون في بصدق. - مجرد انفعال عابر. - وهكذا كل شيء!

فضحك، وتردد قليلا، ثم قال: ولكن حتى هذا الانفعال العابر لا تجدينه في نفسك.

فقالت في دعابة: إذن فأنت لا تصدق أنني أحبك؟

فسألها باهتمام: كيف لم يتأت لمثلك أن تنعم بالاستقرار؟

فغنت أغنية إيطالية، ومرت به لحظة تأثر بجمالها فحزن لامتهانه، ولكنه قال إن قيما ثمينة غير الجمال تلقى نفس المصير؛ كالحرية والآدمية وحتى الدين، يتاجر به أناس بلا حياء، وإنها في الحقيقة مأساة واحدة، وهو نفسه وقع في نفس العبث في ماضيه، فهضم ألوانا من الفساد وشارك فيه، ولا يزال رصيده في البنك شاهدا على ذلك، فلم لا يسود النقاء؟ وما الذي حال دون ذلك طوال القرون؟ وهل يوجد في مكان ما من الأرض إنسان يعيش بلا خوف ولا رذائل؟

وجعل يتسلى بتعقب الفتيات في شوارع القاهرة، وبخاصة الصغيرات منهن، كأن قوة تدفعه إلى منابع السذاجة، ولكنها لم تكن إلا رحلات عابثة غامضة وبلا نتائج، وكلما اشتدت العواصف السياسية وأطاحت بمعنى أو برجل من ماضيه ترنح من هول الصدمة، حتى تمنى يوما لو كان للمصريين - كما لغيرهم - جالية في أمريكا الجنوبية ليهاجر إليها. وقال ساخطا: إن المصريين زواحف لا طيور، وراوده حلم بتغيير جذري في حياته، ولكنه لم يكن يفعل سوى العبث، وقد شكا إلى صديقه سمير عبد الباقي، فقال له: أين شراعك؟ .. أنت زورق بلا شراع!

وعند الرابعة من مساء يوم، جاء سمسار الوايلية وهو يقول: بعضهم يرغب في مشاهدة البيت.

ودخلت سيدتان؛ عجوز في السبعين وابنتها - من الشبه بينهما استنتج ذلك - في الأربعين أو دون ذلك بقليل، تقدمهما من حجرة إلى حجرة وهو يجيب على أسئلتهما، وكانت العجوز نحيلة، بيضاء البشرة، رمادية العينين، ذات جفون ثقال ونظرة تدل على الخبرة والثقة بالنفس، أما ابنتها فمتوسطة الطول، ممتلئة الجسم والوجه، ولها عينا بقرة وهدوءها، وقد لاحظ دهشتهما من التناقض الواضح بين قدم البيت وفخامة الأثاث وعصريته، فضايقه ذلك، وأهاج إحساسه الراسخ بالمطاردة. وبعد أن ألقيا نظرة على الحوش الكبير دعاهما إلى الجلوس في حجرة الاستقبال وقدم لهما القهوة، وشهد المجلس السمسار بجلبابه الأبيض، ورأسه العاري، وهو يتفحص الجميع بعينيه الضيقتين ويقول: البيت عبارة عن مساحة كبيرة تصلح لإقامة عمارة على ناصيتين، ميدان الكومي وشارع الجلال بحرية غربية، موقع نادر المثال، والحي فيما حوله يتجدد بسرعة كما رأيتما، فخمس عمارات جديدة تشيد في وقت واحد، وهو ما يزيد من قيمته.

فقالت الابنة التي وضح لعيسى سواد عينيها وفخامة ملبسها: ولكن البيت قديم جدا ولا يصلح للسكنى.

فقال عيسى: طبيعي أن الذي يشتري بيتا كهذا لا يشتريه للسكنى ، ولكن للبناء كما قال الحاج حسنين، والأرض صقع، والبيع بأجر المثل، ويمكن حضرتك أن تسألي عنه بنفسك.

فقال الحاج حسين: هذا عن الحاضر، أما المستقبل فالحي كله مضمون، وما من حي في الدنيا مثله في موقعه أو ازدحامه بالسكان أو مواصلاته الكثيرة.

وسألت الابنة عيسى عن المساحة، بصوت حلقي مليء كوجهها ولكنه مثير في الوقت نفسه، وقد كون عنها فكرة أولية بأنها امرأة جديرة بالاحترام لفخامة مظهرها، وقد تشتهى أيضا لفترة ما، وأجاب: ألف متر مربع، ولعل الحاج أبلغكما بالثمن المطلوب.

فتساءلت العجوز: عشرة آلاف جنيه؟! أين تجد القادر على دفع هذا المبلغ؟

فأشار عيسى إليهما ضاحكا وهو يقول: هنا أجده.

وقال الحاج حسنين بتوكيد: فرصة لا تجود الدنيا بمثلها مرتين، والله شهيد.

ورفض عيسى أن يخفض الثمن قرشا واحدا، واستمرت المساومة طويلا ولكنها كانت تصطدم بإصراره، وفي أثناء ذلك تبادل عيسى والابنة نظرات غير تجارية، على سبيل الاستطلاع، فغلب على ظنه أنها غير متزوجة، وقال لنفسه: إنها غنية ومقبولة، أجل ليست من الطراز الذي يحبه، ولا السن التي تناسبه، ولكنها غنية وهادئة وعلى خلق فيما بدا له، ولم تكن إلا خواطر عابرة من وحي المجلس، ولكن خيل إليه أن العجوز تتابع خواطره.

وانتهت الجلسة بلا تراجع من ناحيته، ولا قبول من ناحيتها.

21

ونصحه السمسار بأن يتساهل بعض الشيء، ولكنه رفض بعناد؛ لحاجته الماسة إلى تأمين مستقبله، ولسوف يضمن - إذا قبض نصيبه من ثمن البيت - مستوى من المعيشة كمستواه الحالي لعشرة أعوام على الأقل، وقد تتفتح له أبواب عمل مناسب في أثناء هذه الفترة الطويلة، ولم تعارض موقفه أخت من أخواته الثلاث، وتركن له مطلق الحرية في القبول أو الرفض ومضت أيام حتى أدركه الجزع، ولكن السمسار جاءه ليزف إليه بشرى قبول السيدة للثمن المطلوب، ومن ثرثرة السمسار عرف أن عنايات هانم أرملة مأمور بوليس، ولكن الثروة ورثتها عن أبيها، وأن ابنتها قدرية هي وحيدتها، مطلقة منذ خمس سنوات ولم تنجب أطفالا، وقد مضى إلى زيارة السيدة في مسكنها بعمارة تمتلكها بميدان السكاكيني، ودل أثاث المسكن الكلاسيكي الفاخر على عراقة حقيقية في الجاه، وتم الاتفاق على الإجراءات في جلسة ودية، وقال عيسى بلباقة وهو يشير إلى صورة المرحوم: أنا أعرف المرحوم، سمعت عنه أول عهدي بالعمل، ما أقنعني بشهامته ووطنيته.

وأحدث كلامه أثرا طيبا جدا في نفس المرأتين ... ودعته عنايات هانم للبقاء بعض الوقت، وما لبث أن جاءت خادم بالشاي والحلوى الفاخرة، وأعربت العجوز عن سعادتها إذ مكنتها المصادفات من استضافة شخص من المعجبين بالمرحوم، ولكن عيسى لم يأنس منها أريحية تبرر هذا الكرم، وحدس أن الدعوة موجهة لحساب الابنة التي جلست في هدوء، تملأ فراغ المقعد بجدارة، وترمقه بين حين وآخر بنظرة ناعسة، وقالت عنايات: وأيام الخدمة بالأقاليم لا تنسى، أيام مليئة بالخير، ونال المرحوم تقدير سعد زغلول فنقله إلى الداخلية عام 1923، ولكنه تعرض لأسوأ أنواع المعاملات في عهود الانقلاب.

ثم أثنت على صدق فراسته، واستشهدت على ذلك قائلة: عندما تقدم زوج قدرية لخطبتها أعرب المرحوم عن عدم ارتياحه له، ولكني تشبثت به، فكنت المسئولة عن سوء حظ ابنتي!

تلقى عيسى الفكرة بارتياح، ثم تساءل: ترى كيف كان ذلك؟ - كان من أسرة، ولكنه ذو خلق منحرف، ابنتي طيبة، وست بيت، وكريمة الأخلاق، فلم تقبل بطبيعة الحال أن يجعل من بيتها خمارة وملعبا للقمار!

فتأسف عيسى قائلا: يا للحظ السيئ، ولكن ربنا يعوض صبرها خيرا.

ومضى وقت غير قصير في ثرثرة هادفة، وجعل عيسى يتساءل عن مدى قدرته على استساغة امرأة كقدرية، يمكن أن يعتبرها نوعا من التأمين مدى الحياة، وسوف يجدها بلا ريب حظا طيبا إذا قدرت على ضوء ما عاناه من تقلب الدهر، وعندما غادر البيت اطمأن إلى أنه قد استأثر باهتمام المرأتين لدرجة لا بأس بها، وقال لنفسه في غير قليل من الأسى: قدرية في حاجة إلى رجل، وأنا في حاجة إلى امرأة. ورسم خطة للتحري عن قدرية كالعادة.

وقررت التحريات أنها تزوجت ثلاث مرات لا مرة واحدة، الأولى لم تستغرق إلا شهرا، إذ كتب كتابها على قريب لوالدها، وقبل أن تتم الدخلة وضح لهم طمعه في مالها ونفعيته المفضوحة فحمله أبوها على تطليقها، والثانية استهلكت أربعة أعوام أو خمسة، ولم تقبل الأم أن تهبها من مالها شيئا رغم مطالبة الزوج بذلك وإلحاحه عليه، لاقتناعها بأنه يستطيع أن ينهض بمسئولياته دون مساعدة منها، وأن مطالبه غير معقولة وناطقة بسوء نية، فانتهى النزاع بالطلاق، والثالثة استمرت أعواما ستة، وبشرت بالدوام، وبخاصة بعد أن غيرت الأم سياستها وأغدقت على ابنتها من مالها ما كفاها وأكثر، ولكن الزوج كان يرغب في إنجاب أطفال، ولم تسعفه قدرية في ذلك ولا وعدت به، قياسا على حياتها الزوجية السابقة، فتزوج الرجل سرا، ثم انكشف سره فاعترى الحياة تنغيص لم يستطع تحمله إلى ما لا نهاية، فكان الطلاق الثالث.

هذه هي قصة قدرية، غير أن عيسى لم يعرضها بتفاصيلها في ركن البوديجا، ولكنه قال: امرأة لا بأس بها ترغب في الزواج مني!

فتحولت إليه الأعين، كأنها بوصلات تنجذب إلى قطب، فقال بارتياح ممزوج بزهو: من أسرة عريقة وغنية.

فقال عباس صديق بصوته الرنان، كأنما يعلن الخبر على الملأ: الصفقة الأخيرة هي المطلوبة!

وقال إبراهيم خيرت باسما ليداري انفعالا بالحسد: مبارك، من الخير أن نرمم بيتنا الآيل للسقوط بفعل أعاصير السياسة!

واغتاظ عيسى من هذه الملاحظة، فردها قائلا: وبخاصة وأنني لا قلم لي أستغله في التقرب من الأعداء!

وضحكوا جميعا، وانهالت عليه الأسئلة من كل لون، وجعل يجيب بحذر حتى تراكمت أكاذيبه، ولم يفض بذات نفسه إلا لسمير عبد الباقي وهما يسيران منفردين بشارع سليمان باشا، صارحه بالحقيقة بلا رتوش، فسأله سمير: ألا يهمك إنجاب الذرية؟

فأجاب بامتعاض: يهمني أن أجد رفيقا في وحدتي، وهذه امرأة لا بأس بها، مستعدة لأن تتقبلني بعيبي، فلم لا أقبلها بعيبها؟ وأين هي الفتاة الكريمة التي ترضى بي بحالتي الراهنة؟!

وزار عنايات هانم ليطلب منها يد قدرية، فوجد منها استعدادا طيبا لقبوله، وقال: سأصدقك القول، فإن الكذب هو عدو الزواج، لي رصيد في البنك لا بأس به ومنه نصيبي من البيت الذي آل إليك، ولي أيضا معاش صغير، وليس لي عمل في الوقت الحاضر، ولكن من الممكن أن أجد عملا محترما في المستقبل، وقد أخرجت من الحكومة لا لسبب يمس الشرف، ولكن للتعصب السياسي الأعمى، ولم يكن من الممكن أن يبقي العهد الحاضر على شخص مثلي، يعده في غاية الخطورة!

فقالت العجوز: جميل .. جميل، نحن لا تهمنا الثروة، ولا نفضل العمل إلا لأن الفراغ غير مستحب، ولا أشك في شرفك، فقد قاسى المرحوم زوجي كما تقاسي، وقلبي يحدثني بأنك ستكون خير زوج لابنتي.

ولم تفاتحه عن زيحات ابنتها المتعاقبة، ولا عن عقمها، فارتاح لذلك، إذ إنه رأى أن اطلاعه على عيوب العروس مقدما لن يترك له فرصة في المستقبل لتمثيل دور الزوج المخلص الذي خاب أمله، وهو دور مهم جدا لتعزيز مكانته وسيطرته!

22

وسافر إلى رأس البر لقضاء شهر العسل في عشة عنايات هانم، ونمت العلاقات بين الأطراف الثلاثة على وجه يبشر بالخير، وقد أراد أن يكون منذ البدء «رجلا» بمعنى الكلمة، فلم يلن في موقف يندم عليه مستقبلا، ولذلك رفض أن يقيم في مسكن الأم كما اقترحت، وأصر على السكن مع زوجه بعيدا في الدقي، حي الذكريات التي لا تنسى، وصارح الأم بشجاعة غريبة، على حد وصفها لها، بأنهما - هو وزوجته - يجب أن يتمتعا بمالها في حياتها ليدعوا لها بقلب خالص بطول العمر! كان يقف وراء مطالبه حتى تنفذ بحذافيرها، وهو يقول لنفسه إن الذي أضاع حزبه الجبار لم يكن سوى التساهل في أواخر عمره الحافل بالعناد والإصرار!

وكان يرى رأس البر لأول مرة في حياته، فأعجب بطابعها الخاص الجامع لمحاسن المدينة والريف والساحل، وفتنة ملتقى النيل والبحر، والهدوء الشامل كحلم سعيد، والوجوه النضرة، والهواء اللذيذ الجاف الذي يستبيح عصمة البيوت من جدرانها المضيافة، ولم يجد أحدا من أصدقائه في المصيف، فوهب وقته كله لأسرته، وصادف الزواج توفيقا بديعا، وشعر بأنه سيطر على زوجه بقوة واقتدار، ولأول مرة آلمته البطالة، إذ وجد الحياة في البيت تدور على محور غير محوره، وأن شخصيته وحب زوجه له ومجاراة حماته لرغبته، كل أولئك لم يدفع عنه ذلك الإحساس المؤلم، وقديما كان يمارس حياة الأعيان أمام الناس بماله، اليوم تتعلق الأبصار بزوجه وأموالها، ولن يصدق أحد أنه سيواصل إلى الأبد حياته المرفهة بنصيبه في البيت المباع أو بمعاشه. وجعل يداري أفكاره بالتظاهر بالبساطة والثقة والضحكات العالية، ولكنه أيقن أن حياته لن تدوم على هذا المنوال، وأن عليه أن يستثير همته النائمة ليبدأ عملا حرا جديرا به.

وأكملت المعاشرة معرفته بزوجته، فقد تكشف له عن أستاذة في المائدة والملبس، سواء من ناحية الذوق أو الصنعة، فأتخمته بألوان الطعام التي تقدمها، وبخاصة الحلوى التي تتفنن في تأليفها، وهي أكولة لحد الإفراط، وتغري من يؤاكلها بالإفراط كذلك، وهي مسلية جدا، لإتقانها الألعاب البريئة؛ كالنرد والكونكان، ومولعة بالسينما والمسرح الفكاهي، وإن يكن تعليمها الابتدائي قد محي من ذاكرتها تقريبا، ولم يبق لها منه إلا قدرة ضعيفة على القراءة أو كتابة رسالة ركيكة، وهي امرأة بكل معنى الكلمة، متأججة العواطف، فلم تدع له مجالا للشكوى من هذه الناحية، غير أنه توجس خوفا من توثبها إلى ازدراده كلما أمكن ذلك، ورغبتها غير الواعية في أن تجعل منه زوجا وأبا وابنا في آن، ولعل لذلك صلة بتطلعها الدافق الحزين إلى الأطفال، وإعرابها عن مشاعرها المكبوتة بالسهوم والنظرة القلقة والحركات العصبية الطارئة التي لا تنسجم مع كيانها المليء الرزين. وقال عيسى لنفسه: إن التعاسة تبدو قاسما مشتركا أعظم بين الناس جميعا، فما أحقر المظاهر! وتساءل عن السر الخفي المسئول عن هذا العبث، وقال أيضا إنه من حسن الحظ أننا نستطيع أن نخفي أفكارنا عن الآخرين، وترى أي أفكار عنه تدور في رأسها الصغير الغزير الشعر؟ وهل تزعجها - مثلا - الأسباب الحقيقية التي أوجبت فصله من وظيفته؟!

وتذكر سلوى والجرح الذي حفرته في قلبه فازداد تنغيصا، وتذكر ريري أيضا فقطب بمرارة، ودهمته لحظة سوداوية فشعر بتفاهته إلى غير حد، ولذلك ذكر كيف كانت تزلزل الوزارة وهو يغادر صباحا السيارة الشيفروليه الحكومية، وذكر أيضا يوم أراد أن يرشح نفسه في دائرة الوايلي فنصحه عبد الحليم باشا شكري بتأجيل ذلك إلى انتخابات قادمة، لاعتقاده بأنه سيرشح عما قريب وكيلا للوزارة.

وفاجأه الراديو يوما بقرار تأميم شركة قناة السويس! ارتفعت حرارة اهتمامه الخامد لدرجة الغليان، لهث في لهفة كأيام زمان. وما لبث أن أغرقه مد الحماس الذي اجتاح الجميع، وافتقد بألم شديد الأصدقاء الغائبين لحاجته إلى تبادل الرأي معهم، واعترف بذهول أنه عمل كبير حقا لدرجة أنه لا يصدق، بذلك أقر عقله، أما قلبه فغاص في صدره كالمريض وأكله الحسد، إنه ينذعر كلما قامت قمة في الحاضر تضاهي القمم التاريخية التي يعيش على ذكراها، وشعر بألم التمزق في منطقة الجذب والشد الفاصلة بين شطري شخصيته المنقسمة، وتساءل عن العواقب، وحاول أن يسأل نفسه عن موقفه بين هذه العواقب، وسرعان ما هرب من معركته الداخلية بإشراك زوجه وأمها في الحدث، ولكنه لم يجد له صدى في نفسيهما، فهرع إلى الفريجدير ليتناول بضع كاسات مريحة.

وعاد إلى القاهرة في منتصف سبتمبر، متخم الحواس، قد زاد وزنه زيادة ملحوظة، وكان يمر أمام بيته القديم وهو في طريقه إلى مسكنه الجديد بالدقي فتنثال عليه الذكريات الحزينة، وراح يتبادل الزيارات مع أصحابه، وقد كان لكل منهم زوجة شابة متعلمة، ولكن قدرية قد احتلت بينهم مكانا مرموقا لجاهها ومالها، ولما سأله سمير عبد الباقي: وكيف وجدت الزواج؟

أجاب بعد تأمل دبلوماسي: عال، ولكن ... - ولكن؟! - ولكن أشك في أن إنسانا يهضمه بلا عمل وبلا أطفال.

وهجم اليهود على سينا، بذلك لطمته الصحف ذات صباح وزلزله الخبر. وجالس الراديو يتابع الأنباء بانتباه منصهر، انفعل بالنبأ لحد الهذيان، ودار رأسه بالأفكار حتى أصابه الدوار. أجل، تأرجح مصير الثورة في الميزان، ولكن انفجر شعوره الوطني فطغى على كل شيء، غضب الغضبة الجديرة بالوطني القديم الذي كاد يدركه الموت. الوطني القديم الذي تعذب بالرغم من تلوثه من أجل مصر، تشبثت قدماه بحافة الهاوية التي تهدد وطنه بالضياع، وأبعد عن ذكره الثورة ومصيرها ليحفظ بمشاعره في أوج انفعالها، ومحا بقوة إرادته المشاعر المتناقضة التي تدب تحت تيار وعيه المتدفق، وحانت منه التفاتة إلى زوجه، فهاله عدم اكتراثها وانكبابها على روتين حياتها اليومية، ولم تخرج عن ذلك إلا حين تساءلت بازدراء: حرب وغارات مرة أخرى؟!

ورأى الأمر دعابة، فأحب أن يعابثها ليروح عن نفسه، قال: أنت مهتمة جدا بإعداد الطعام، خبريني عن حال الدنيا لو فعل كل إنسان مثلك؟

فقالت ببساطة: كانت تبطل الحروب؟

فضحك رغم همه وغمه، وقال مدفوعا بالرغبة في الدعابة: أنت يا قدرية لا تهتمين بالشئون العامة، أعني الناس والوطن. - حسبي اهتمامي بك وببيتك! - ألا تحبين مصر؟ - طبعا. - ألا تودين أن ينتصر جيشنا؟ - طبعا، ليعود الأمان إلينا. - ولكن ألا تحبين أن تشغلي عقلك به؟ - عندي ما يكفيني من المشاغل. - خبريني عن مشاعرك لو كان مقصد اليهود أن يستولوا على أملاك الست الوالدة؟

فضحكت قائلة: يا خبر أسود! وهل قتلنا لهم قتيلا؟!

ووجد في ذلك كله مزاحا يخفف من حدة مشاعره المتوترة، ورغم تجهم اليوم، ذهبا لزيارة عنايات هانم في السكاكيني، فتناولا عندها الغداء، ثم غادرا البيت قبيل المغرب، ووقفا في الميدان يتصيدان تاكسي عندما انطلقت زمارة الإنذار، وشدت بيدها على ذراعه وهمست بصوت متهدج: لنرجع.

عادا إلى العمارة، وهما يرقيان السلم انطلق مدفع مضاد فارتعدت، كما دق قلبه بعنف، واجتمعوا في حجرة مغلقة الشيش، وراحت عنايات هانم تقول محتجة: ضاع العمر من حرب لحرب لحرب، صفارات إنذار وقنابل مدافع وقنابل طيارات، ألا يحسن أن نبحث لنا عن مأوى غير هذه الأرض؟!

ولبثوا في الظلام بحلوق جافة، ودوت أربعة مدافع متباعدة، وعادت الأم تقول: سيدخل هذا الجيل الجنة بغير حساب!

وساءل عيسى نفسه في حيرة حقيقية: كيف تجرأ اليهود على مهاجمة مصر بعد أن صنعت لنفسها جيشا قويا بكل معنى الكلمة؟!

23

وهرع إلى البوديجا مساء اليوم التالي ممتلئ الرأس بأخبار الصحف المطمئنة والمشجعة، وتقاربت رءوسهم حول مائدة على الطوار في جو بديع حقا، تلاصقت أنفسهم بفعل قوة حارة عميقة يؤرقها الشعور بالخطر والأمل، وجعل إبراهيم خيرت يشب بقامته القصيرة وهو يتساءل في انفعال: أتحسبون أن إسرائيل تقدم على هذه الخطوة وحدها؟

وتبادلوا نظرات غريبة، نطقت فيها بواطنهم كأنما تذهلهم سكرة، فعاد إبراهيم خيرت يقول: وراء إسرائيل تلبد فرنسا وإنجلترا وأمريكا!

وتساءل عيسى في جزع كيف يحدد موقفه وسط هذه العواصف من الأفكار والعواطف؟!

وقال سمير عبد الباقي: يبدو أن جيشنا سيقضي عليها قبل أن يعلن حلفاؤها عن أنفسهم.

ندت ضحكات ساخرة، وكان المساء يهبط بالهدوء والخفاء، وأخفض إبراهيم خيرت من صوته وهو يقول: الآن وضح الأمر في النهاية!

وتشربت قلوبهم المعنى المقصود بفرحة عصبية، لم تخل عند البعض من شعور بالإثم، ورفع عباس صديق فاه عن النارجيلة، وقال وعيناه الجاحظتان تلمعان بشدة: هم أيضا وراءهم من يسندهم!

فقال إبراهيم خيرت بازدراء: لا يوجد مجنون يفكر جادا في إشعال حرب عالمية من أجل نقطة لا تكاد ترى فوق خريطة العالم.

وجد عيسى في مشاعرهم تعبيرا سافرا عن جانب من نفسه، فقرر أن ينطق الجانب الآخر، فقال: أتودون حقا أن يهزمنا اليهود؟

فقال إبراهيم خيرت: سوف تكون هزيمة سطحية، تخلصنا من جيش الاحتلال الجديد، ثم تجبر إسرائيل على التراجع، وربما الاكتفاء بالاستيلاء على سينا وعقد صلح مع العرب، ثم تتدخل إنجلترا وفرنسا لتسوية المسائل المعلقة بالشرق الأوسط، وإعادة الحالة في مصر إلى طبيعتها.

فتساءل عيسى: ألا يعني هذا الرجوع إلى النفوذ الغربي؟! - هو على أي حال خير مما نحن فيه.

وقال عيسى، وكأنما يخاطب نفسه: أي مصيدة وقعنا فيها! إنه التخبط والتمزق والعذاب، إما أن نخون الوطن أو نخون أنفسنا، ولكن الهزيمة في هذه المعركة تعني بالنسبة لي شيئا هو أفظع من الموت.

فقال عباس صديق: أنت رومانتيكي جدا.

وقال إبراهيم خيرت: علام تحزن؟ لم يبق ما نحزن عليه، وفي نظر الميت تعد أي حياة خيرا من الموت.

فقال عيسى: أحيانا أقول لنفسي إن الموت أهون من الرجوع إلى الوراء، وأحيانا أقول لنفسي: لأن نبقى بلا دور في بلد له دور خير من أن يكون لنا دور في بلد لا دور له.

فقال إبراهيم خيرت باسما: إنك باعترافك منقسم الشخصية، ونحن لا يهمنا رأي القسم المتكلم، وحسبنا رأي القسم الصامت.

وضحكوا عاليا والليل يجثم، ثم التفت إبراهيم خيرت إلى سمير عبد الباقي بنظرة تحثه على الخروج من صمته، فقال: أود أن يعيش كل مواطن متمتعا بالكرامة البشرية.

فقال إبراهيم خيرت: إذن فأنت من رأينا؟

فقال باختصار: كلمتي تحمل معنى أعمق! - إذن فأنت تعارض رأينا؟

فعاد يقول: كلمتي تحمل معنى أعمق!

وغاص عيسى في نفسه القلقة، يجب أن ينصره شطره المتكلم على شطره الصامت، وأن يحتقر المهاجمين بلا حياء؛ إعرابا عن احتقاره لشطره الصامت، ماذا أدى بنا إلى هذه الحال المحزنة حقا؟ وألا من سبيل إلى نسيان الهزائم الشخصية؟ إن المرض متفش في الوطن. ودوت صفارة الإنذار كأنها جدار انقض عليهم بغتة، واختفى النور من الدنيا، وشملت الطريق حركة فرار من الظلام، واقترح سمير أن يدخلوا القهوة، ولكن الفكرة لم تلق تشجيعا من أحد، وتذكر عيسى زوجته في وحدتها بالدقي مع أم شلبي، فأشفق عليها، وإذا بأصوات انفجارات بعيدة تتتابع بغزارة فبعثت الرعب في نفوسهم، وفي لحظة قصيرة أسرعوا إلى ركنهم الشتوي داخل المقهى، ثم توالى الضرب البعيد في نظام مخيف، واختلطت التخمينات عن الأماكن التي ينهال عليها؛ شبرا؟ مصر الجديدة؟ حلوان؟ - من أين لليهود بهذه القوة؟ - وأين طياراتنا؟!

ولم يتوقف الضرب مما قطع بقيام غارة حقيقية لعل البلاد لم تشهد مثلها طيلة أيام الحرب العالمية، فاضطربت الأعصاب أيما اضطراب، وجاء رجل من الخارج مهرولا وهو يقول بصوت سمعته القهوة المظلمة: طيارات بريطانية التي تقذف بالقنابل!

فهتفت عشرات الحناجر: غير معقول!

فأكد الخبر قائلا: سمعت هذا من محطة الشرق الأدنى.

وانفجرت التعليقات في شبه هلوسة، ثم سكت الضرب، ومضت دقائق توقع في صمت ورهبة، ثم انطلقت صفارة الأمان واستردوا أنفسهم من قبضة التوتر وتبادلوا في الضوء العائد نظرات ذابلة كأنها ترى بعد نعاس طويل. وفاضلوا بين البقاء والذهاب، ولكن صفارة الإنذار لم تمهلهم طويلا فعادت تعوي من جديد، وما لبثت الانفجارات أن تتابعت حتى همس إبراهيم خيرت: الظاهر أن النهاية أقرب مما نتصور.

فهمس سمير عبد الباقي: ادع الله ألا نكون ضمن النهاية!

وبعد ساعة من العذاب انطلقت صفارة الأمان فسرعان ما غادروا القهوة، واستقلوا سيارة إبراهيم خيرت. وما كادت السيارة تصل إلى جسر أبي العلاء حتى دوت زمارة الإنذار الثالثة فتوقفت السيارة قرب الطوار، ولم يكن هنالك مخابئ فقد فضلوا البقاء في السيارة، وقال إبراهيم خيرت وهو يضحك ضحكة عصبية: يجب أن نعيش إذ إن أسعار حياتنا آخذة في الصعود!

وبعد حوالي الساعة انطلقت صفارة الأمان فأسرعت الفورد بهم عبر الجسر، ثم عبرت جسر الزمالك مائلة إلى شارع النيل، وعند أوله دوت صفارة الإنذار الرابعة فوقفت السيارة لصق أرض فضاء، وتوالى الضرب بشدة، وقال عيسى ليطمئن نفسه: لعلهم يضربون الأهداف!

فقال سمير في إشفاق: وربما جاء دور الضرب الأعمى!

فقال عباس صديق بصوت كأنما قد أصيب بشظية: إن ضرب المدنيين مسئولية خطيرة قبل العالم!

فقال إبراهيم خيرت: جميل جدا أن نطمئن أنفسنا!

ودوت صفارة الأمان بعد نصف ساعة فانطلقت السيارة بأقصى سرعة لعلها توصلهم قبل أن تدركهم الصفارة التالية.

24

سماء القاهرة معبر للطيارات ليل نهار. وأعجب شيء أن الحياة اليومية واصلت مألوفها في البيت والديوان والدكان والسوق بالرغم من أن أزيز الطيارات لا ينقطع، ولا تسكت الانفجارات، ورددت الخواطر أن القنابل لا تسقط جزافا، ولكن همسات كثيرة جرت بأنباء الضحايا، ولم يغير الناس من سلوكهم المألوف، ولكن الموت أطل عليهم من نافذة قريبة، وتطايرت نذره إلى آذانهم فاقتحم الأفكار والقلوب، وانقلبت القاهرة إلى معسكر، واخترقت شوارعها قوافل من العربات المصفحة واللوريات، فغرقت الحياة العادية في بحر من الظنون والهواجس.

وانتقلت عنايات هانم لتعيش مع ابنتها في الدقي حتى تستقر الأمور، وفي الليل بدت الدنيا كما كانت تبدو قبل التاريخ، فانكمشوا في البيت حول الراديو، يستمدون الري لجفاف حلوقهم من أصوات المذيعين والأناشيد الوطنية.

وباتت الانفجارات والمدافع المضادة كنداء الباعة، حتى زاغ بصر الأم العجوز وبهت لون عينيها، وقبضت راحتها على المسبحة كأنها مانعة صواعق، ولم تكن قدرية دون أمها تهافتا، ولم تنفعها بدانتها، أما عيناها الناعستان فقد تولى عنهما جلال الخمول، ومناقشات هيئة الأمم ومجلس الأمن تنفذ من الراديو كالهواء للمختنق، وأساطير بورسعيد تتلى والقلوب تتوجع، وفي حال من أحوال الذعر تساءلت قدرية: هل نحن كفء للإنجليز والفرنسيين؟

فأجاب عيسى بوجوم: بورسعيد تقوم، والعالم ثائر! - هم يتكلمون ونحن نضرب. - نعم، وما العمل؟

فهتفت بنرفزة: لكن لا بد أنه يوجد حل، أي حل، وإلا تحطمت أعصابي.

وأعصابه أيضا على أبواب التلف؛ الحزن والظلام والسجن. وألهمه الظلام بالاندفاع نحو أمل النصر. أشياء كثيرة ذابت في الظلمة فنسي الماضي والمستقبل وتركز في نشدان النصر، ولعل تعذر مغادرة البيت ليلا أتاح له فرصة أكبر لتأمل الموقف وللتشبع بالخطر، والحنين للنصر، وإسكات شطره الخفي، فتحرك في أعماقه نبع للحماس أوشك أن يدفعه إلى التضحية. وعند تسكعه نهارا قرأ في مئات الوجوه مشاعر كالتي تشده إلى الحياة رغم الغبار والفناء وشائعات الأنانية، أمسى كالغريق لا يفكر إلا في النجاة، وخيل إليه أن الحاجز القائم بينه وبين الثورة يذوب بسرعة لم تخطر ببال من قبل.

وزاره إبراهيم خيرت عصر يوم في طريقه إلى مكتبه في المدينة. بدا شديد الثقة بنفسه، جادا، وقال: إن هي إلا ساعات ثم تنتهي المأساة.

فحدجه بنظرة ذاهلة من عينيه المستديرتين، فقال الآخر مقطبا بدافع من إحساس بالسيادة: بعض رجالنا يقابلون المسئولين في هذه اللحظة ليقنعوهم بالتسليم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

خيل إليه أنه يرى موكب المندوب السامي كما كان يراه في الماضي، وتساءل: ماذا سيبقى ليمكن إنقاذه؟ - لا تغال في التشاؤم.

ثم استدرك حانقا: أتعس الناس الذين يستوي لديهم الموت والحياة.

فقال عيسى في غم: كأشباح الكابوس.

فقال إبراهيم خيرت بحدة: نحن في حال تهون معها الهزيمة. - سنتعب كثيرا إذا حاولنا إحصاء متاعب البشر، وإني لأتساءل: هل الحياة صالحة حقا للبشر؟

فهز إبراهيم خيرت منكبيه في استهانة، فعاد الآخر يقول: ربما كان التعلق بالحياة رغم آلامها نوعا من الحماقة، ولكن ما دمنا أحياء فيجب أن نحارب كافة السخافات بلا توان.

فسأله إبراهيم خيرت: خبرني هل تغيرت حقا؟

فلم يجب بحرف، ودلت تقلصات وجهه على منتهى القرف.

ولكن بارتفاع الأزمة إلى ذروتها اندفعت إلى دوامتها عوامل جديدة. العالم أصدر قراره، وتوالت الإنذارات، وأجبر العدو على ازدراء كبريائه والإذعان لواقع لا قبل له به، وانفجرت فرحة أقوى من أي قنبلة.

ورجعت إلى ركن البوديجا الحياة، فاجتمع الأصحاب. ابتسامة باهتة ونظرة خامدة عمياء لا ترى مستقبلا، وقال إبراهيم خيرت متهكما: ثمة أمل في أن يزيد وزننا كالمحكوم عليهم بالإعدام!

ولوح عباس صديق بخرطوم النارجيلة قائلا: هذا حظ أندر مليون مرة من ربح الصفر في الروليت.

وحتى سمير عبد الباقي لم تخل عينه الخضراء من خيبة في أعماقها. الأعجب من ذلك أن عيسى نفسه - بعد أن ابتل ريقه بالنصر - فسرعان ما تهاوى في فتور عميق كتل من رماد، انقلب فكره إلى ذاته، وغاص مرة أخرى في الظلمات.

25

لكل إنسان عمل وهو بلا عمل، ولكل زوج ذرية وهو بلا ذرية، ولكل مواطن مستقر وهو منفي في وطنه. وماذا بعد الدورات الهروبية المعادة؟ تسكع في الصباح ما بين قهوة وقهوة، ومجلس البوديجا مساء المركز في الاجترار، وزيارات مملة في محيط الأسرة ... ماذا بعد الدورات الهروبية المعادة؟! ويعاني آلاما قاسية، ووحشة ومللا، ويتساءل في جزع: إلام تمتد هذه الحياة الكئيبة؟

ها هو جالس يتشمس وراء زجاج النافذة في جو قارص البرودة بلا عمل وبلا أمل، وها هي قدرية عاكفة على قطعة من الكانفاه، لم تعد تبدد له وحشة، وبشعر مشعث وقسمات منتفخة أعلنت عن إهمال مألوف، وقد ازدادت شحما ولحما، ونطق وجهها الطبيعي بتنكره الحاسم لرواء الشباب.

واسترد نظرات الأسى من وجهها ليتصفح الجرائد ويقرأ العناوين، إذ لم يعد يهتم بالاطلاع على الأخبار، ثم استسلم لحديث النفس، وما أكثر ما حدث نفسه في الأعوام الأخيرة. ليست قدرية بالزوجة المطلوبة، وستظل حسرته على سلوى حية في القلب رغم موت حبها، ولولا الخمر ما طاق الاستسلام إلى ذراعي قدرية ، ولولا اليأس ما احتمل التعريضات التي تطوقه بسبب ثروتها، وهو نفسه يتألم كثيرا كلما تذكر أنها تنفق مالها على بيتها، وأنه لا ينفق مليما من معاشه إلا على نفسه، وحتى رصيده لم تنتفع به حياته الزوجية شيئا، فماذا تعني هذه البلطجة؟!

ويوما أثبتت له أنها تفكر فيما وراء المائدة والكانفاه، قالت: عيسى، أنت تشرد كثيرا وتلوح في وجهك الكآبة أحيانا، وأنا أتألم لذلك جدا.

فأبدى أسفه لتألمها، وقال: أنا بخير فلا تهتمي لذلك. - ولكن هناك أسبابا تسيء إلى الرجل. - مثال ذلك؟ - أن يكون بلا عمل وهو قادر عليه.

فابتسم وهو متضايق جدا، وقال: لعله يضايقك أن تجدي زوجك عاطلا!

فقالت بتوكيد: أنا لا يهمني إلا أثر ذلك عليك أنت. - وماذا تقترحين أن أعمل؟ - أنت أدرى يا عزيزي.

فقال ببساطة: لا توجد وظيفة خالية.

وضحكا بلا روح البتة، ولكنها عادت تقول برجاء: فكر في ذلك جديا، أرجوك.

وقال لنفسه: إنها على حق، وإن رأسها البليد لا يخلو أحيانا من فكرة صائبة، وهو نفسه يؤمن بضرورة العمل، ولكن ما بال همته خائرة؟ ... هل أصاب إرادته مرض؟ ... لم لا يفتح مكتبا أو حتى يشارك في مكتب؟

كان يفكر في العمل، ولكنه يعيش بلا عمل، وبلا إقدام جدي على الخطوة المطلوبة، وكان على درجة من الطمأنينة برصيده، ثم زاد من طمأنينته زواجه الدسم، وفضلا عن ذلك فإن معاشه يتكفل بنثريات حياته اليومية، فأذعن للكسل والكبرياء، وتعزز نفوره الأبدي من أن يبدأ من أول الخط، وجرى وراء التسلية بأي سبيل سواء في البيت أو الخارج، في رأس البر أو الإسكندرية، ولم ينتبه باهتمام إلى مرور الأيام.

وقال له سمير عبد الباقي: وزنك يزيد باستمرار فانتبه لنفسك.

حقا، إنه يكثر من الطعام والحلوى منه بصفة خاصة، ولا تخلو وجبة له من كأس أو كأسين، وقال: أعلم ذلك، وسيقول الناس إن زوجتي تعلفني بسخاء.

فقال سمير بحياء: لم أفكر إلا في صحتك. - نعم، ولكني أقرأ أحيانا في أعين كثيرين ...

فقال سمير مقطبا: أنت وحدك المسئول عن ذلك بكسلك، وإني أتساءل في دهشة: أين عيسى زمان الذي كان يغادر الوزارة بعد منتصف الليل من كل يوم تقريبا، فضلا عن نشاطه المأثور في الحزب والنادي؟!

وأعلن المعلن يوما عن غزو الفضاء، وافتتاح عصر جديد، استيقظ من سباته، ودب الاهتمام في روحه الخامدة، وعاد يقرأ الجريدة بشغف ويستمع إلى الراديو بيقظة. ووجد في ركن البوديجا حديثا غير حديث الحسرات السياسية ومضغ الشائعات: وعلق عباس صديق على ذلك قائلا: ما أجمل أن تطالعنا الصحف كل صباح بإثارة كهذه!

وقال إبراهيم خيرت بحقد: هذا بشير بأفول نجم الساسة، فلينزلوا عن مكانتهم للعلماء وليذهبوا في داهية.

وقال سمير عبد الباقي: آن لنا أن ننظر برجاء من جديد إلى السماء.

ورفع عيسى رأسه إلى سقف الحجرة كأنه يتطلع إلى السماء، وتخيل الكواكب والنجوم برغبة طفل في الهرب الخيالي الساحر، ثم تمتم: ما أجمل أن نهجر الأرض إلى الأبد.

ثم شاكيا: الأرض أمست مملة لدرجة المرض!

وتساءل: ألا يمكن أن يؤكد انتسابه إلى الإنسان ويتناسى انتسابه الجبري إلى هذا الوطن؟!

26

وجمعهم الصيف على غير عادة في رأس البر، حتى عباس صديق مدمن الإسكندرية. وأعد إبراهيم خيرت في عشته غرفة للقمار والشراب، كانوا يرجعون إليها بعد الرياضة المألوفة على شاطئ النيل. ثم انضم إليهم الشيخ عبد التواب السلهوبي الذي تصادف وجوده بالمصيف. وانزلقت رجل عيسى إلى البوكر بسهولة جدا، وبسبب القمار وما يدفع إليه من سهر حتى الفجر نشب أول خلاف جدي بينه وبين قدرية، ووجدها عند الخلاف عنيدة كالبغل، ولكنه لم يبالها وأصر على سلوكه باستهتار، وعندما اتخذ مجلسه على المائدة سأله إبراهيم خيرت وهو يملأ له كأسه من الكونياك: كيف حال الشئون الداخلية؟

فأجاب باقتضاب: قطران!

فقال عباس صديق: زوجاتنا أكثر تسامحا من قدرية هانم، فالرقابة يجب أن تتوقف بعض الشيء في منفى جميل كرأس البر.

ونظر عيسى في ورقه، فبهره منظر زوج الآس، فدخل الدور بقلب قوي، ثم واتاه الحظ بزوج ثمانية، فربح ستين قرشا، حتى قال الشيخ عبد التواب السلهوبي باسما: واظب على الربح تتحسن شئونك الداخلية.

ولكن عباس صديق تداركه قائلا: حرمه لا يهمها المال.

ومع أن الملاحظة بدرت تلقائية إلا أن عيسى تألم لها كثيرا، وبخاصة وأنه كان بصفة عامة سيئ الحظ على المائدة حتى اضطر إلى سحب مائة جنيه من فرع البنك لتعويض خسارته.

وسأل إبراهيم الشيخ السلهوبي عن عبد الحليم باشا شكري، فأجاب: سافر إلى الخارج في الوقت المناسب وبالعذر المناسب، ولن يعود طبعا.

فقال سمير عبد الباقي: الخارج ليس أفضل من الداخل، وما أشبه صفحة السياسة الخارجية بصفحة الوفيات!

فقال عباس صديق: إذن فالعالم مهدد بالفناء حقا.

فقال عيسى وهو يوزع الورق: هو مهدد بالفناء، سواء بالحرب أو بالسلم!

فقال الشيخ السلهوبي ضاحكا: أنت لا تتفلسف إلا عندما تتدهور روحك إلى الحضيض، فلعل طوفان حظك أن ينحسر.

فلما خسر عيسى الدور رغم حوزه ثلاث عشرات، قال للشيخ متغيظا: كلمة منك تنحس بلدا.

فقال السلهوبي ضاحكا: كلام فارغ، ها أنا ألاحق العهد الحاضر بكلماتي المباركة منذ مولده، فماذا حصل له؟!

وانهمك في اللعب بمجامع روحه، واستمتع بالحرارة والحماس والأمل والاندماج في حيوية فاترة، ونسي كل شيء حتى التاريخ نفسه ونحسه، وعايش اللذة في جنونها، وتجمع على المائدة مبلغ لا يقل عن سبعة جنيهات، وتعلق أمله بفردة آس، وسحب ورقة فإذا الآس يضحك بين يديه بوجهه الأحمر، فول آس، ولكن إبراهيم خيرت رمى بكاريه كالصاعقة، وسرت تقلصات عدة في جهازه العصبي، كيوم أعلن حل الأحزاب، وتساءل: ماذا تصنع زوجه في هذه اللحظة؟ هل يدور الكلام بينها وبين أمها؟ لعل العجوز تقول لها: رضينا بالهم، والهم لا يرضى بنا. وستقول أيضا: عاطل ومرفوت لسوء السمعة ولا يحمد ربنا، الويل لها إذا تحدته، امرأة مزواجة وعاقر. بحكم الطبيعة هي عاقر وبحكم السن. أنسيت أنك تكبرينني بعشرة أعوام على الأقل!

وانتبه من غيبوبته إلى حديث يستطرد فيه الشيخ السلهوبي قائلا: لذلك فنحن في عصر مبادئ، كالحال أيام الصراع بين الديانات الكبرى.

فتساءل سمير عبد الباقي: والأمم الصغيرة أي أمل لها في الحياة إن لم تختلف الأمم الكبرى؟

فقال الشيخ بيقين: الذرة هي الطوفان، فإما توجه حقيقي لله ذي الجلال وإما الهلاك المبين.

وحاول عيسى أن يتذكر متى ارتطم بهذه الفكرة - فكرة الطوفان - من قبل؟ ثم أهمل التذكر حين وجد بين يديه كاريه عشرات! توثب لتعويض خسارة الليل الطويل، وفتح بخمسة وعشرين قرشا ليجرهم إلى الاشتراك في الدور، ولكنهم انسحبوا تباعا لعقم الورق بين أيديهم، ودار رأسه، ثم كشف عن الكاريه السعيد. وصارح إبراهيم خيرت: حظك في الربح أسوأ منه في الخسارة.

وقال الشيخ السلهوبي: أنت سعيد في الحب بلا شك.

وأوشك أن يثور، وقال لنفسه إن القمار يتحول في النهاية إلى حمى مميتة، وبدأ يعمل حسابا للأزمة التي تتربص له في البيت، وكف الجميع عن اللعب والفجر يقترب.

وتساءل عباس صديق وهو ينهض قائما: ما طعم رأس البر بلا قمار؟

وخرج عيسى إلى الطريق كشمعة لم يبق منها إلا عقب فتيلة، وسار عباس صديق وسمير عبد الباقي في طريق، ومضى هو بصحبة الشيخ عبد التواب في طريق آخر، وهب هواء مشبع بالطل في صمت خاشع ... وترددت أنفاس النوم السعيد في ظلمة لا ضوء فيها إلا ضوء النجوم وهلال آخر الشهر الصاعد. ومن بعيد رجع الأفق هدير البحر.

وتأوه الشيخ عبد التواب متثائبا وهو يهتف «الله»، ثم غمغم: ما أجمل هذه الساعة!

فضحك عيسى قائلا: وخاصة للرابحين!

فضحك الشيخ قائلا: لقد خرجت من السهرة لا علي ولا لي، عباس صديق هو نار الله الموقدة.

ثم بعد هنيهة صمت: أنت مقامر خطير يا عيسى!

فقال بنبرة ذات معنى: لقد خسرنا رغم الكاريه الذي كان في يدنا.

وأدرك ما يعنيه، فقال بحزن: هذا هو حال الدنيا، هل نستحق ما حاق بنا؟ فلنسلم بأن لنا أخطاءنا، ولكن من يخلو من الأخطاء؟ وكيف نسينا هذا الشعب المارق؟ كيف نسي الذين عاملوه معاملة الأم الرءوم لابنها الوحيد؟

وفاض الحزن بعيسى، وسلست إرادة كبريائه فاستجابت نفسه لرغبة طارئة في الاعتراف، فقال: كنا حزب المثل الأعلى، حزب التضحية والفداء، حزب النزاهة المطلقة، حزب «كلا ثم كلا» أمام كافة المغريات والتهديدات، كنا كذلك حتى قبيل 1936، فكيف أدركت روحنا الطاهرة الشيخوخة؟ كيف تدهورنا رويدا رويدا حتى فقدنا جميل مزايانا؟ وها نحن نقلب أيدينا في الظلام يملؤنا الشجن والشعور بالإثم، فواحسرتاه!

فقال الشيخ بإصرار: كنا خير الجميع حتى آخر لحظة.

فقال بقسوة موجهة في الحقيقة إلى ذاته: هذا حكم نسبي لا ترتضيه طبائع الأشياء، ولا تقتنع به الأمم المتوثبة للحياة، فواحسرتاه!

وودعه عند منعطف، وجعل ينظر إليه وهو يسير متمهلا والهواء ينفخ في جبته الفضفاضة، وقال لنفسه بحزن: بدأ حياته بالاعتقال في طنطا، قبض عليه الجنود الأستراليون وهو يهتف: «يحيا الوطن ... يحيا سعد»، ثم انتهى عام 1942 بالاتجار في الوظائف الخالية، كما انتهيت أنا بالرصيد رقم 33123 ببنك مصر.

وأجال بصره في الكون، الهلال الصاعد في أبهى رواء، والنجوم المتألقة واللانهائية المسيطرة على كل شيء، ثم تساءل بصوت مسموع: «خبرني يا سيدي، ما معنى هذا كله؟ خبرني فقد احتار دليلي!»

وضغط على جرس الباب فرن بقوة في صمت الليل، وانتظر مليا ثم أعاد الكرة، وانتظر ثم أعاد، وضغط على الجرس بإصرار مستمر ودون توقف ولا مجيب.

وقال بحنق: إنها قررت ألا تفتح له الباب.

وضرب الأرض بقدمه، ثم ولى الباب ظهره وذهب.

27

بات ليلته عند إبراهيم خيرت، ثم استأجر في اليوم التالي حجرة بفندق جراند أوتيل على النيل، وعقب أسبوع اضطر إلى سحب مائة جنيه أخرى لتغطية خسائره المتتابعة ولمواجهة تكاليف الحياة اليومية، وذهبت زوجة إبراهيم خيرت بإيعاز من زوجها لزيارة قدرية للاعتذار لها عن الدور غير المقصود الذي لعبه إبراهيم في نزاعها مع زوجها، ثم حاولت الإصلاح ولكنها لم تلق استجابة ... وتمادى عيسى في القمار بلا أدنى تقدير للعواقب، وقاطع سمير السهرة تقززا من حال التدهور التي آل إليها صاحبه، وقال له سمير يوما: يجب أن تعيد النظر في موقفك كله.

كانا يجلسان في كازينو سبرانو أمام البحر عند الظهيرة، وهو الوقت الذي يستيقظ فيه عادة. وكان عيسى يتابع بعينيه المستديرتين جموع السابحات، وأهمل التعليق على صاحبه مستسلما للذة المتابعة، ولما كرر الآخر قوله، قال عيسى بنبرة اشتياق: كم أود أن أمارس تجربة لم تتح لي في وقتها؛ وهي أن أغازل فتاة جميلة وأتعرف بها ثم أخطبها، وفي أثناء ذلك نتبادل الهدايا والمكالمات التليفونية والمواعيد.

فسأله سمير: أتريد حقا أن تتزوج مرة أخرى؟

فنظر إلى سحابة تسير ببطء راسمة صورة جمل، ثم تساءل: انظر إلى هذه السحابة وخبرني، أمن الجائز أن تكون حياتنا قد خلقت كما خلقت هذه الصورة؟

فابتسم سمير قائلا: حتى هذه الصورة الزائلة حتمية ونتيجة لمئات من عوامل الجو والطبيعة، ولكن خبرني، أتريد أن تتزوج؟

فضحك عيسى وأكمل الاسباتس وهو يقول: خاطرة حلم ليس إلا، ما بال المتصوفين يصدقون كل شيء؟

فقال سمير بضجر: إذن لنتحدث عن موقفك.

فقال بنبرة الروح نفسها: تصور أنني قابلت وأنا قادم من الفندق سامي باشا عبد الرحمن الحر الدستوري القديم، أنا شخصيا شعرت نحوه بعطف ما لانتسابه معي إلى الجيل الزائل، وتصافحنا ووقفنا نتكلم، ومن عجب أن قال لي في ختام حديثه: «لولا سعد زغلول ما وصلنا إلى هذه الحال!»

وضحك سمير بقوة لفتت إليهما عشرات الأعين حولهما. وإذا بعيسى يقول بنبرة جديدة: أكبر خازوق شربته هو مؤخر الصداق، العجوز الداهية بعيدة النظر!

فقال سمير بأسف: قدرية هانم ست معقولة جدا يا عيسى، أنت في حالة قمار جنونية.

فنفخ عيسى بضيق متمتما: الملل أجارك الله!

فربت سمير على يده قائلا: العمل ... العمل، نصيحتي الأولى والأخيرة لك.

وفي أول السهرة الليلية وعيسى منهمك في اللعب جاءه سمير يدعوه للقيام معه لأمر هام عاجل ... وأراد عيسى أن يتجاهل الدعوة ويستمر في اللعب، ولكن سمير انتزعه من المائدة رغم احتجاجه الصاخب، والاحتجاج الصامت المحدق به.

وفي عشة سمير وجد نفسه أمام إحسان زوجة سمير وقدرية زوجته التي جلست على مقعد كبير خافضة الرأس، ورحبت به إحسان وأجلسته إلى جانبها على كنبة طويلة شبه مستديرة كثيرة الزخارف، وهي تقول: نحن نشكر لك تفضلك بالحضور.

ثم وهي تشير إلى قدرية ضاحكة: أقدم لك قدرية هانم، صديقة عزيزة، وحرم رجل عظيم من المفقودين في الحرب.

وتجهم وجه عيسى، واحمر وجه قدرية، وابتلت رموش عينيها، ولما لاحظ سمير ذلك، قال: علامة طيبة تبشر بالخير، ما قولك؟

ولم تكف الألسنة عن الكلام لحظة واحدة، وقالت إحسان: لكل مشكلة حل بلا جدال.

وخاطب سمير قدرية وهو يبتسم: الأمور تعالج برفق، زوجك رجل عنيد، وقد تعرض فيما مضى لألوان من الإرهاب والتعذيب ولكنه لم يتحول عن رأي.

وتساءلت قدرية: هل ترضيكم هذه الحال؟ .. تكلموا.

وقدمت صينية فضية بقوالب الكاساتا وفطائر بلدية من السوق، فكانت هدنة استمتعوا فيها بأكلة ظريفة.

وقال سمير: الحق أن جميع البشر في حاجة إلى جرعات من التصوف، وبغير ذلك لا تصفو الحياة.

فقال عيسى: نحن في حاجة إلى أن نعود للحياة مرارا حتى نتقنها.

فقالت قدرية، وكانت تخاطبه لأول مرة: أرجو ألا تؤجل حسن معاملتك لي إلى حياة أخرى.

فقال سمير وهو يمسح بطرف منديل مبلل بالماء نقطة من الفراولة الذائبة سقطت على ثنية بنطلونه عند الركبة: لنتكلم عن المستقبل، أرجوكم.

فقالت قدرية: أنا مؤمنة بأنه لن ينقذه شيء من متاعبه سوى العمل، وفي سبيل ذلك أنا مستعدة لأي تضحية!

فقال سمير: أوافقك كل الموافقة، ولكن حتى ينفذ هذه الفكرة الوجيهة يجب أن يبتعد عن رأس البر، حسبكما منها شهر أغسطس، فاذهبا إلى الإسكندرية لإتمام التصييف هناك، هذا ضروري جدا وعاجل.

فقالت قدرية: سنسافر غدا إذا وافق على ذلك.

وقال سمير، وهو يوصلهما إلى باب العشة الخارجي: وسوف تجد في الإسكندرية متسعا للتفكير، ولدى عودتك إلى القاهرة في أكتوبر تبدأ العمل فورا.

سارا جنبا إلى جنب في طريق شبه خال، ونصف القمر مرشوق فوق الأفق كابتسامة كونية في سماء صافية، وخطر له خاطر وهو أن هذا الجمال المنتشر في نظامه البديع ما هو إلا قوة مجهولة ساخرة تجبر الإنسان على الشعور بحدة تعاسته وفوضاها.

وغمغمت قدرية: اكتشفت أن عندي ضغط دم، وأنت السبب! - حقا؟! - نعم، كشف علي دكتور، وكتب لي دواء ورجيما، وسترى ذلك بنفسك.

وربت على ظهرها قائلا برقة بالغة: ستشفين سريعا بإذن الله.

وشعر بأنه لا يتقدم خطوة في طريق السعادة.

زواج بلا حب، حياة بلا أمل، ومهما وفق إلى عمل فسيظل بلا عمل.

28

سافرا إلى الإسكندرية وحدهما، وبقيت الأم في رأس البر، وأقاما أياما في فندق اللوفر حتى عثر عيسى على شقة في سيدي جابر بالدور السابع من عمارة مطلة على البحر، وكان المصيف على وشك الوداع، حف به صخب الشباب، واستقبلت السماء أسراب السحائب البيضاء، وتهيأ الجو للهدوء والتأمل، وقدرية بدت سعيدة حقا رغم توعكها، وواظبت على العلاج والرجيم على ولعها المأثور بالطعام، وقالت: إذا كان ذلك سيخفف من وزنها فبها ونعمت، وتحمس عيسى للمشي وتجنب الدهنيات ما أمكن ليسترد رشاقته، واتفق الرأي بينهما على أن يشرع في العمل حال عودته إلى القاهرة. وقد استقر الرأي على فتح مكتب، وإن لم يبد ارتياحه لذلك، قال: شد ما أتمنى حياة أخرى.

فحملقت بعينيها البقريتين في وجهه متسائلة، فبادر يقول: لا تقلقي، هذا مجرد حلم، أود أن أعيش في الريف بعيدا عن القاهرة، فلا أراها إلا في المناسبات، وأن أقضي نهاري في عملي بالحقل وليلي في شرفة مطلة على الفضاء والصمت.

فقالت بقلق: ولكن لا علاقة لنا بالريف. - إنه مجرد حلم.

ومرت الأيام في ضجر، ولم يجن من الشواطئ شبه الخالية إلا الوحشة، وبخاصة وأن قدرية آثرت البقاء في البيت أكثر الوقت بسبب صحتها، وكان يمشي حتى تكل قدماه، ويجلس إذا جلس في فردوس جليم تعلقا بالذكريات، وقال لنفسه إن عصره قد انتهى وإنه لن يندمج في الحياة مرة أخرى بنفس الحال التي كان عليها من قبل، وإنه يرتبط بامرأة ليسرقها لا ليحبها. وتساءل: متى يندثر العالم؟ وتساءل أيضا: ألا توجد أفكار من نوع آخر تفتح للصدر الحياة؟!

ووجد أمامه رجلا من قراء الكف في زي هندي، يحدق في وجهه بعينين براقتين وهو بمجلسه التقليدي بالفردوس، وبسط للرجل كفه فسحب هذا مقعدا وجلس أمامه وعكف في الحال على قراءة خطوط راحته، وراح ينتظر صوت الغيب في استسلام باسم، وارتفع صوت الرجل قائلا: عمرك طويل وستنجو من مرض خطير.

ثم بعد تأمل: وستتزوج مرتين وتنجب ذرية.

فانتبه باهتمام، فاستطرد الرجل قائلا: وفي حياتك تقلبات كثيرة، ولكن لا خوف عليك بفضل إرادتك الحديدية، ولكنك ستتعرض لخطر الغرق في البحر! - البحر؟! - هكذا يقول الكف، وأنت رجل طموح بلا هوادة، وستجد دائما رزقك موفورا، ولكن عصبيتك تفسد عليك صفو حياتك في كثير من الأحايين.

وقام الرجل وهو يحني له رأسه تحية، وعندما هم بالابتعاد سأله بلا وعي: وما المخرج؟

فالتفت إليه الرجل متسائلا، فاستسخف عيسى نفسه، ولوح له بيده شاكرا.

وعند المساء مضى يتمشى على الكورنيش حتى بلغ كامب شيزار، وعند سلسلة من المقاهي والدكاكين ملتصقة بطول الطوار في مهرجان من الأنوار، وقعت عيناه على وجه ريري! توقف عن السير على الكورنيش وهو يحد بصره بانتباه الخائف، فتوكد لديه أنها ريري دون غيرها، جلست على كرسي المديرة أو المالكة وراء صندوق الماركات بمحل صغير لبيع الدندرمة وشطائر الفول والطعمية، وأسند ظهره إلى سور الكورنيش في موضع بعيد عن الضوء، وراح يمعن النظر في وجهها بدهشة، وهو لا يخلو من ضيق لذكرى سلوكه معها الذي دهمه بقسوة ونبوه عن الذوق، ريري .. ريري دون غيرها ... ولكنها لم تعد البنت الصغيرة، كلا، إنها امرأة بكل معنى الكلمة، وذات شخصية يستشعرها النادل الذي يتحرك باستمرار بالطلبات بينها وبين الزبائن، امرأة جادة ومديرة حقا، ومن عجب أن تمشي بهذه الناحية طوال عشرين يوما متتابعة دون أن يلتفت إلى هذا المحل الصغير الذي قرأ اسمه الآن بوضوح «خذ واشكر»، وفي المرات القلائل التي صيف فيها في الإسكندرية كان يتذكرها ويخاف فكرة مقابلتها، سواء وحده أو مع زوجه وأصدقائه، ولكنه لم ير لها أثرا حتى ظنها قد رحلت عن البلدة أو عن الدنيا جميعا. وكيف تأتى لها أن تجلس هذا المجلس، وهل خمسة أعوام تكفي - بلا حرب عالمية - لبلوغ هذه الدرجة؟ لا شك أن أبلتها في الإبراهيمية تحسدها على هذا التقدم السريع الذي لا تحلم به قريناتها! وقف في شبه الظلام لا يحول عنها عينيه، ويستحضر في ذهنه علاقتهما القديمة التي طويت في زوايا النسيان إلى الأبد، ويتعجب من زيف العلاقات البشرية. وقال إننا نجرب الموت - ونحن لا ندري - مرات ومرات في أثناء حياتنا قبل أن يدركنا الموت النهائي، وما أشبه ريري في مجلسها بالمحل بالنادي السعدي حين يمر أمامه أحيانا أو ببيت الأمة، جميعها حيوات قضي عليها بالموت المبكر ولا يجني منها إلا الحسرات.

ودخلت المحل امرأة في هيئة الخدم، ممسكة بيمناها بنتا صغيرة، ثم اتجهت إلى ريري تحادثها باهتمام، على حين وثبت الصغيرة إلى حجر ريري وراحت تعبث بعقد يطوق عنقها بألفة واطمئنان، وعند ذاك خطر له خاطر، دق له قلبه حتى غطى على هدير البحر وراء ظهره، وتصلب جسده وتركز في الصغيرة حتى فقد الوعي بما حوله، ولكن لا .. لا .. لم تدور أفكاره في هذا المدار؟! أي وهم سخيف ومخيف معا! ووجه الصغيرة متوجه إلى أمها فلم يره، وقال لنفسه: قد تمر اللحظة بسلام، وسيضحك من نفسه طويلا فيما بعد، ولكن قد تزلزل الأرض وتخرب كل قائم، إذن فليهرب، لن يعود إلى كامب شيزار، لن يعود إلى الإسكندرية، ولكنه لم يتزحزح عن موقفه ذرة واحدة، كيف دهمته هذه الأفكار السخيفة؟!

وتخلصت ريري من البنت فقبلتها وأنزلتها إلى الأرض، فتناولت الخادم يدها ومضت بها خارج المحل مائلة إلى شارع جانبي يصعد إلى الداخل، وبدل أن يهرب، عبر الطريق نحو الشارع الجانبي وهو يوسع خطاه حتى كاد أن يلحق بالخادم والصغيرة، وارتفع صوت البنت بكلمات غير مفهومة أو لم يفهم منها سوى «شيكولاطة» في نبرة كزقزقة العصافير، ووقفا أمام دكان لبيع الحلوى واللعب عند منعطف الطريق المقاطع، فاتخذ مكانه إلى جانبهما تحت ضوء ساطع، وطلب علبة سجائر، وراح يلتهم وجه البنت بغرابة ونهم، ألا يستوي هذا الوجه على هيئة مثلث؟ والعينان المستديرتان؟ إن ملامح من أمه وأخواته الثلاث يختلطن في صفحته، ويغبن ثم يظهرن، أهو وهم؟ ... أهو الخوف؟ ... أهي الحقيقة؟ ... إنه يكاد يسقط إعياء، خفق بسرعة باعثا موجات من الدهشة والتقزز والرهبة والحزن والحنان والرغبة في الموت.

وذهبت بها الخادم إلى عمارة قائمة أمام الدكان في جانب الطريق الآخر، فظل يتبعهما عينيه حتى اختفتا، ونظر إلى السماء وهو يتنفس بصعوبة ثم تمتم: «الرحمة ... الرحمة ...»

29

وجلس في قهوة النسر، وهي المجاورة لمحل ريري، متجنبا مجال عينيها، وأسف كثيرا لأنه لم يحدث الخادم ولا الصغيرة، ولم يخرج لحظة عن الشلل الذي دهمه، ثم أليست الطفلة لطيفة ونشيطة وخفيفة وسنها متوافق جدا مع ذلك التاريخ المحزن؟ وما عسى أن يفعل الآن؟ لا يجوز أن يؤجل الجواب، ماضيه يزداد مقتا وما أبغض فكرة الرجوع إلى قدرية، وقد عدل بصفة حاسمة عن التفكير في الهرب. ولقد اعتاد أن يهرب مرات في اليوم الواحد، ولكنه لن يهرب أمام هذه الحقيقة الجديدة التي اجتاحت مستنقع حياته الراكدة فتفجر عن ينابيع حارة، لعلها دعوة أخيرة يائسة إلى حياة ذات معنى، معنى في حياة أعياه أن يجد لها معنى، لن يهرب، وليس في مقدوره أن يهرب، وسيواجه الحقيقة بوجه متحد، وبأي ثمن، أجل بأي ثمن، وسيرحب بذلك أيما ترحيب. ولن يعجز قدرية أن تجد لها رجلا آخر يعيش في كنفها، حق أنها تستحق العطف، ولكن حياته الكاذبة معها لا تستحق عطفا، عبث أن يواصل حياة كاذبة يجتر فيها أوهاما ماضية ولا مستقبل لها. إن قلبه لا يخفق بحب شيء، وها هي فرصة سانحة لكي يخفق حتى الموت، والبنت ابنته، وسيعرف اليقين بعد دقائق، ولن يقضى عليها باليتم الذي قضى التاريخ به عليه، وسوف تنفجر بها في حياته قنبلة من التعليقات والأقاويل والظنون، ويمسي مضغة في الأفواه، لكنه سيصمد للمحنة، ويتألم، ويكفر، ثم يحيا، وأخيرا سيجد للحياة معنى، وإذا تيسر له أن ينضم إلى أسرته الحقيقية فسيبقى في الإسكندرية، ويستثمر ماله في المحل الصغير، ويبدأ حياة جديدة. افترس الخجل والكبرياء والعناد وواجه الحياة بشجاعة.

انتظر حتى فات الليل منتصفه، وخلا الكورنيش أو كاد، وولى الجالسون، وآنس في محل ريري حركة شاملة تنذر بالنهاية، فغادر مجلسه إلى الشارع الجانبي الصاعد إلى الداخل، ووقف عند المنعطف المواجه للعمارة، وظهر شبح في أول الطريق الصاعدة، ها هي ريري قادمة، وتقدم خطوة إلى ما تحت المصباح لتتجلى معالمه، واقتربت منه ولكنها لم تلق إلى الواقف بالا. لم تعد تعبأ بالمتسكعين وهذا حسن جدا، وعندما شرعت في المرور به، قال بصوت رقيق متهدج: ريري!

التفت نحوه متوقفة عن السير وهي تتساءل: من؟

اقترب منها خطوة وهي تتفحصه دون أن يبين في وجهها أي انفعال، حتى قال في قلق: أنا عيسى.

تبدو حقا قوية ومحتشمة وجذابة، ولا شك أنها تذكرته، فهكذا تقول الدهشة والتقطيب واختلاج الشفتين والتقزز، وهمت بالسير، فاعترض سبيلها، فهتفت بغضب: من أنت؟ .. وماذا تريد؟ - أنا عيسى كما تعلمين.

فقالت بحدة وهي تعاني شتى الانفعالات: أنا لا أعرفك!

فقال بحرارة: بل تعرفينني ... لا داعي للإنكار!

ثم مستدركا بنفس الحرارة: لا أمل عندي في قبول أي عذر، ولكن لدينا ما نتحدث عنه. - أنا لا أعرف ودعني أمر.

فقال بائسا: يجب أن نتحدث، هذا أمر لا بد منه، وأنا أتعس مما تتصورين!

فقالت بغضب: اذهب ... اختف ... هذا خير ما تفعل. - ولكني أكاد أجن، من الطفلة يا ريري؟! - أي طفلة؟ - الطفلة التي جلست على حجرك منذ ساعات، ثم دخلت هذه العمارة مع خادمتها، رأيتك مصادفة، ثم رأيتها، وتبعتها حتى دخلت العمارة، أؤكد لك أنني أتعس مما تتصورين.

فقالت بإصرار: لا أدري شيئا عما تتحدث عنه. اذهب، فهذا خير ما تفعل. - إني أكاد أجن، يجب أن تتكلمي، هي ابنتي يا ريري. يجب أن تتكلمي.

فصاحت به في الشارع الصامت: ابعد عن وجهي، أنت أعمى ومجنون، ويجب أن تختفي. - ولكن قلبي حدثني بكل شيء. - إنه كذاب مثلك، هذا كل ما في الأمر. - لا بد أن تتكلمي، الجنون يعصف برأسي، أنا أعلم مدى نذالتي، ولكن يجب أن تتكلمي، قولي إن البنت هي ابنتي! - ليس عندي ما أقوله لك سوى أن تذهب وأن تختفي. - أنا أعلم أنني أستحق عذاب الجحيم ، ولكن لدي فرصة لصنع شيء طيب فلا تضيعيها علي.

فصاحت به كالزوبعة: اذهب ولا ترني وجهك. - ريري، أصغي إلي، ألا ترين أنني سأطالبك بالكلام ولو مت موتا!

30

رجع إلى مسكنه قبيل الفجر بعد أن هام على وجهه طويلا في الكورنيش ولا ثاني له. لم يسمع هدير البحر ولم ير نجما واحدا، ووجد قدرية ساهرة في انتظاره على غاية من القلق والاستياء، أوشك أن يعترف لها بكل شيء، ولو كان آنس من ريري بادرة تشجيع واحدة لاعترف، لكنه لم ير بدا من أن يقول لها إن مقاومة عادته السيئة تدفعه إلى التسكع على الكورنيش حتى الفجر. وقال لنفسه وهو يستلقي على الفراش: اللعنة ... اللعنة ... يجب أن تقتلع هذه الحياة الكاذبة من جذورها، إما حياة جديدة أو لا مناص من الردة إلى القمار والكونياك وأحاديث العجائز بركن البوديجا.

وفي مساء اليوم التالي صحبها كارها إلى سينما ريو، ثم تناولا العشاء في تافرنا ثم أوصلها إلى البيت ثم مضى وهو يقول: نامي يا عزيزتي واشبعي نوما ودعيني أعالج نفسي.

وحام طويلا حول محل ريري وأمام العمارة لعله يرى الطفلة، ولكنه لم يوفق، فجلس في قهوة النسر. ورغم فشل الأمس داعبه أمل غامض كنشوة اليأس، فاعتقد أن كافة مشاكل العالم ستحل الليلة بلا عناء. ونظر إلى السماء المتوارية وراء ظلمات السحب وقال: إن الخريف في الإسكندرية روح من أرواح الجنة، وهو مغسل لجميع الأحزان، وإن جميع الأحزان ما هي إلا أوهام وإن الموت هو حارس السعادة الأبدي وقال لنفسه بصوت مهموس: ما أجمل أن يسكر بلا خمر!

وإذا بماسح أحذية يقف أمامه وهو يرمقه بنظرة استجداء، وقرأ في نظرته أكثر من معنى، فأشار إليه أن يجلس ثم سلم إليه قدميه، وأراد أن يتأكد من ظنه على سبيل التسلية فسأله: هل توجد شقة خالية؟

فابتسم قائلا: في هذا الوقت الشقق أكثر من الهم على القلب. - أقصد غرفة خالية! - في بنسيون؟ - أفضل أن تكون في عائلة. - العائلات أيضا أكثر من الهم على القلب.

وضحك عيسى في ارتياح، وإذ بخاطر يخطر، فأشار نحو محل ريري متسائلا: ماذا عن صاحبة «خذ واشكر»؟!

فتغيرت سحنة الرجل وقال بلهجة جادة: لا .. لا .. هذه ست بمعنى الكلمة.

فحدجه بنظرة كأنما تقول له: «اطلع!» فقال الرجل: لا تضع وقتك .. أنا لا شأن لي بها. - أنت لم تفهمني، فنظرة واحدة إليها تقنع بما تقول، ولها طفلة لطيفة جدا. - نعم، نعمات بنت حلال!

فابتسم عيسى متظاهرا بعدم الاكتراث، ثم تساءل: ولكن أحدا لا يرى أباها، أليست الست متزوجة؟ - طبعا .. وزوجها هو صاحب المحل. - وما له لا يدير محله بنفسه؟

قال الرجل بعد تردد: في السجن ولا مؤاخذة! - لأي سبب؟ - مخدرات .. مظلوم والله! - ربنا يفرج عنه، ولكن أنت متأكد أنه والد الطفلة؟

فلمعت في عينيه نظرة حذر، وقال: طبعا!

فقال عيسى بجرأة وثبات: كلا!

ثم وهو يضحك: أنت تعرف الحقيقة وتنكرها أو أنني أعرف أكثر منك. - ماذا تعرف؟ - أحب أن أسمع منك وإلا فكيف سنتعامل معا ما دمت تبدأ بالكذب علي!

فقال باستسلام وهو يشبع الحذاء بالورنيش: يقال إنه كتبها باسمه في شهادة الميلاد، الرجل الطيب! - ولكن لم؟ - عجوز وطيب ولا ولد له، وأحب الست وتزوجها على سنة الله ورسوله.

فقال عيسى وهو يزدرد ريقه بصعوبة: رجل طيب حقا ولا يستحق السجن. - ولذلك فهي تعمل مكانه وتنتظره بصبر وإخلاص. - يستحق ذلك وأكثر.

وأعطاه عشرة قروش، وأمله خيرا فيما سيأتي من أيام.

وانتظر عقب منتصف الليل، ولما لمحته وهي آتية قطبت في غضب وابتعدت عن موقفه، ولكنه قال لها بتوسل: أنا منتظر ومعذب ولا بد أن نتكلم.

وسارت دون أن تحييه، فاعترض طريقها قائلا: هي ابنتي، قولي لي ذلك على الأقل.

قالت بحدة: سأنادي البوليس! - هي ابنتي، عرفت الحقيقة كلها! - سأنادي البوليس، ألا تسمع؟! - بل ناد الرحمة والصفح.

فهددته بسبابتها قائلة: أنت تستحق الحرق لا الصفح. - لنبحث عن طريقة لننسى الماضي كله. - نسيته كله، فاختف معه. - اسمعي يا ريري، أنت تنتظرين عبثا، ستنالين حريتك ثم ...

فقاطعته صارخة: يا لك من وغد كما كنت دائما، لا تتصور الخير أبدا!

تقبض وجهه من الألم، ثم أن قائلا: الواقع أنني في غاية من العذاب.

فقالت بحدة قاسية: لا شأن لي بعذابك! - البنت ابنتي ولا علاقة لها بالرجل الذي في السجن.

قلبت عينيها في وجهه بدهشة، ثم سرعان ما استردت قوتها وهي تقول: هي ابنته، تبناها بأخلاقه فملكها إلى الأبد، وأنا مثلها.

اشتد تقبض وجهه فقالت منذرة: احذر أن تلقاني بعد الآن، إني أحذرك. - يا ريري، أنت تغلقين باب الرحمة. - أنت الذي أغلقته، فاذهب.

قال بنبرة باكية: ابنتي!

فصرخت وهي تندفع في سبيلها: لست أبا، أنت جبان ولا يمكن أن تكون أبا.

31

وقف متواريا وراء ضلع كابين بساحل كامب شيزار يسترق النظر إلى أسرته الطبيعية، كانت ريري تجلس تحت مظلة شابكة ذراعيها على صدرها وعلى بعد أمتار منها عكفت نعمات الصغيرة على الرمال تحفر حفرة بدأب واهتمام، والصباح كان صحوا والشمس تغمر القلة المتفرقة على الساحل، شمس ناعمة ملاطفة أضاءت جوا منعشا، توارى عن عينيها حتى لا تظن بمقدمه الظنون، وذابت روحه في نظرته المركزة على الطفلة يود أن يقبلها قبلة حارة ثم يذهب إلى الأبد. جسمها صغير لكنه متناسق، ويرسم هيئة امرأة بصورة مصغرة. وساقاها الملونتان بالشمس وفخذها وشعرها المرسل المبتل الأهداب وضلعاها البارزان العاريان ولبس البحر النصف برتقالي وانهماكها الشديد، وكل أولئك بديع جميل وهي سعيدة حقا. هي ثمرة الملل من ناحيته والخوف من ناحية أمها، ولكن الحياة قد خلقت من هاتين الصفتين المرذولتين مخلوقة جذابة مفعمة بالصحة والهناء، هكذا اقتضت إرادة القوة الخفية وهكذا انهارت العراقيل أمام الوثبة الأبدية الغامضة، هذه الصغيرة شاهد على سخف كثير من المخاوف، شاهد الطبيعة عندما تضرب لنا المثل على إمكان التغلب على المفاسد، الآن ألا تستطيع أن تقلد الطبيعة ولو مرة؟ ألا تستطيع أن تخلق من أحزانك وخسائرك وهزائمك نصرا ولو بسيطا؟ وما هو بالنادر ولا بالجديد، فهذا البحر الذي احتفظ بصورته ملايين السنين قد شهد أمثلة على ذلك لا حصر لها، كذلك هذه السماء الزرقاء الصافية.

وأخيرا خرج من مكمنه نحو الطفلة، غير مبال بقومة ريري المتحفزة، وهوى نحوها، فطبع على خدها - رغم انزعاجها للمباغتة - قبلة حارة طويلة ثم ذهب مغمغما: «الوداع»، ولم يلتفت وراءه مرة واحدة.

وعندما جاء وقت الغداء لم يجد رغبة في الرجوع إلى البيت، فتناول غداءه في «على كيفك»، وذهب إلى سينما الساعة الثالثة، ثم دخل سينما أخرى الساعة السادسة، ثم عاد إلى «على كيفك» ليتناول العشاء ويشرب الكونياك، وطال المجلس فانتشى رأسه بنفثات الخمر وهو يتسلى بالنظر والأحلام، وقبيل منتصف الليل رأى شخصا قادما نحو المطعم جذب انتباهه فيما يشبه الصدمة الكهربائية، فارع الطول، مفتول العضل، داكن السمرة، يرتدي بنطلونا رماديا وقميصا أبيض يكشف عن ساعديه، وبين أصبعي يسراه وردة حمراء، اقترب خطوات قوية رشيقة تلمع في عينيه نظرة جريئة نافذة، التقت عيناهما وهو يدخل المحل، فحدجه القادم بنظرة قوية أدرك منها أنه تذكره، ثم حول عنه وجهه المستطيل المتناسق وهو يكاد يبتسم، ثم مضى نحو ركن عصير الفاكهة، هو هو دون غيره، أيام الحرب الكالحة، ليلة قبض على الشاب فشهد هو التحقيق معه - بصفته الرسمية والحزبية - حتى مطلع الفجر. وكان الشاب جريئا وعنيفا ولم ينته التحقيق معه إلى إدانة، ولكنه أرسل إلى المعتقل ولبث فيه حتى إقالة الوزارة. ترى ماذا يفعل الآن؟ وهل يحظى في العهد الجديد بمنزلة سامية؟ أم لا يزال ثائرا؟ ولم يبتسم؟ ومن المؤكد أنه تذكره، فهل يتوقع من ناحيته مفاجأة سيئة؟ وقرر أن يطرده عن خاطره، ولكنه التفت نحو ركن الفاكهة بدافع لم يستطع مقاومته، فرآه واقفا متجها إلى داخل المحل قابضا على كوب من عصير المانجو، ويرنو إليه بنظرة استطلاع وتأمل، وفي عينيه شبه ابتسامة ساخرة. وأعاد رأسه إلى الخارج وهو من الضيق في غاية، وكأن الماضي من خلال هذه النظرة يطارده، وما لبث أن قام ثم غادر المحل ماضيا إلى الكورنيش رأسا، ولم يخطر له أن يعود إلى البيت، بل وخيل إليه أنه لم يعد له بيت على الإطلاق، ومال بعد مشية غير قصيرة إلى الميدان، ثم جلس على أريكة تحت تمثال سعد زغلول، أغلب الأرائك خالية، والهواء البارد في غير قسوة يتجول في الرحبة الفسيحة لاعبا بالنخيل، والنجوم تومض في القبة الهائلة، والليل راسخ كالأبدية، ولم يكن قد نجا بعد من ذكريات الشاب الناشبة في مخيلته، ولكنه صمم على أن يرسم للمستقبل خطة، ولم يكد يستغرق في أحلامه حتى شعر بشخص يجلس إلى جانبه، فالتفت نحوه في غيظ مكبوت، فرأى الشاب المقتحم، واضطرب في خوف، وقال إنه لا شك قد تبعه خطوة فخطوة وأنه يضمر له شرا! وتوثب للدفاع ولكنه خجل في ذات الوقت من فكرة الانسحاب. وجاءه صوت حلقي يقول في لطف: مساء الخير يا أستاذ عيسى، أو صباح الخير فقد انتصف الليل منذ دقائق!

رمقه بنظرة باردة على ضوء غير قريب، وقال: صباح الخير، من حضرتك؟! - لا شك أنك تذكرني!

فقال عيسى مصطنعا الدهشة: آسف جدا، من حضرتك؟!

فضحك ضحكة كأنها تقول: «أنت عارف وأنا عارف»، ثم قال: الخصم هو آخر من تنسى! - لا أفهم شيئا! - بل تذكر التحقيق الذي استمر حتى الصبح، واعتقالي بعد ذلك، حتى أنتم كنتم تعتقلون الأحرار ويا للأسف!

فقال عيسى بنبرة متقهقرة: لا أدري عما تتحدث بالضبط، ولكني أذكر أيام الحرب بلا شك كما أذكر ظروفها القاسية التي اضطرتنا كثيرا إلى ما نكره. - هذا هو الاعتذار التقليدي، ما علينا، ما فات فات.

ولم يعلق عيسى بكلمة ونظر إلى الأمام معلنا رغبته في الانفصال لعل الآخر يذهب أو يتركه في سلام، ولكنه عاد يقول برقة: وتغيرت الدنيا، لا تظنني شامتا، أبدا والله، بل إنني في كثير من الأحيان لا أخلو من عطف.

فقاطعه قائلا بشيء من الحدة: لست في حاجة إلى عطفك. - لا تغضب، ولا تسئ فهم تطفلي عليك، إنني أرغب مخلصا في تبادل الرأي. - عن أي شيء؟ - الدنيا من حولنا!

وشعر عيسى بأنه ما زال ثملا، ولكنه قال: لم يعد يهمني شيء.

فقال الشاب بدهشة: أما أنا ففي الطرف الآخر، كل شيء يهمني وأفكر في كل شيء. - فلتطب لك الدنيا كما تشاء! - أليس هذا بخير من الجلوس في الظلام تحت تمثال سعد زغلول؟! - هكذا هي تطيب لي فلا تشغل بالك بأمري. - أنت لم تقرر بعد أن تفتح قلبك لي. - ولم ذلك! ألا ترى أن الدنيا كلها مملة؟ - ليس عندي وقت للملل! - ماذا تفعل إذن؟ - أعابث المتاعب التي ألفتها وأنظر إلى الأمام بوجه مبتسم، بوجه مبتسم رغم كل شيء، حتى ظن بي البله. - وما الذي يدعوك إلى الابتسام؟

فقال الشاب بلهجة أكثر جدية: أحلام عجيبة، ما رأيك في أن نختار مكانا أنسب للحديث؟

فقال عيسى بسرعة: آسف، الحق أني شربت كأسين وأرغب في الراحة.

فقال الآخر بأسف: أنت تود أن تجلس في الظلام تحت تمثال سعد زغلول.

ولم يجب عيسى بكلمة، فقام الآخر وهو يقول: أنت لا ترغب في حديثي فلا يجوز أن أزعجك أكثر من ذلك.

وتحول عنه ماضيا نحو المدينة.

وتابعه بعينيه وهو يبتعد، يا له من شاب غريب! ترى ماذا يفعل اليوم؟ وهل رحمته المتاعب؟ ولماذا ينظر إلى الأمام بوجه مبتسم؟

وظل يتابعه بعينيه حتى بلغ آخر الميدان. لم يكن سيئ النية كما توهم، ولم يقصده بسوء، فلم لم يشجعه على الحديث؟ ألم يكن من الممكن أن يستعين به على مغالبة الملل في هذه الساعة من الليل؟ وألم يكن من المحتمل أن يجرهما الحديث إلى شيء مشترك تطيب به السهرة؟

ورآه وهو يختفي متجها نحو شارع صفية زغلول، وقال لنفسه أستطيع أن ألحق به على شرط ألا أضيع ثانية في التردد.

وانتفض قائما في نشوة حماس مفاجئة، ومضى في طريق الشاب بخطى واسعة، تاركا وراء ظهره مجلسه الغارق في الوحدة والظلام.

Unknown page