بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: حمدًا لله الذي ما خاب من اكتفى به، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الذي اختاره لنفسه واصطفاه من أحبابه، وعلى آله وأصحابه. فهذه نبذة من الاكتفاء، غزيرة المنال، قليلة المثال، كانت أزاهر في رياض الأدب منثورة فجمعتها، وجواهر لا يعرف لها قيمة فاستخرجتها من معادنها النفسية ونظمتها شعرًا: بكلِّ معنى بديعٍ لو يمرُّ على ... الفهمِ السقيم ولو في نومه شَفِيا وكلما أبصرَتْهُ عينُ ذي أدبٍ ... إلا وراحَ بذَاكَ الدُّرِ مكتفيا وسميتها (الشفاء في بديع الاكتفاء)، ورتبتها على ثلاثة أبواب، والله أسأل أن يهديني إلى طريق الصواب، فهو حسبي وبه أكتفي، وأسأله المزيد مما في الدنيا والآخرة.

1 / 19

الباب الأول: في حده ورسمه عرف ابن رشيق القيرواني بأن قال. الاكتفاء هو أن يدخل موجود الكلام على محذوفه. واعترضه الشيخ بدر الدين بن الصاحب تبعًا للشيخ صفي الدين الحلي، بدخول الحذف فيه نحو قوله تعالى: (أنَا أُنَبِئُكُمْ بِتَأوِيلِهِ فَأرْسِلُونِ. يُوسُفُ أَيَّها الصِّدِّيقُ). واعترض ابن الصاحب أيضًا على من مثل الاكتفاء يقول الشاعر (وهو من البحر الكامل): إني لأذكُركُمْ وقد بَلَغ الظَمَأ ... مني فأشرقُ بالزلالِ الباردِ وأقولُ ليتَ أحبتي عاينتُهم ... قبلَ المماتِ ولو بيومٍ واحدِ أي وقد بلغ الظمأ غايته أو حده. قال: وهو أيضًا الحذف لا من الاكتفاء. وليس مراد بدر الدين الحذف المصطلح عليه في فن

1 / 23

البديع، الذي هو عبارة عن أن يتجنب المتكلم في كلامه حرفًا أو حروفًا من حروف الهجاء أو جميع الحروف المعجمة أو المهملة؛ كما فعل الحريري في المقامة السمرقندية، حيث أتى فيها بخطبة بديعة كلها عاطلة، فإن ذلك لا ينطبق عليه حد الاكتفاء بل هو قريب منه، وإنما مراده إيجاز الحذف كما صرح به الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعتيه، فإن الإيجاز على ضربين: إيجاز قصر، وهو اختصار الألفاظ بدون حذف، والإتيان بمعان بألفاظ يسيرة، كقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةُ). وإيجاز حذف. قال ابن أبي الإصبع: وتبعه عليه الحلي وهو حذف بعض الألفاظ لدلالة الباقي عليه؛ كقوله تعالى: (وأسألِ القَرْيَةَ) أي أهل القرية وقول الشاعر: ورأيتُ زوجَك في الوغَى ... متقلدًا سيفًا ورمحَا أي ومعتقلًا رمحًا. وقول عبيد الراعي النميري:

1 / 24

إذا ما الغانياتُ برزنَ يومًا ... وزَجحَن الحواجبَ والعيونَا أي وكحلن العيونا، وقول الآخر: أعلفتها تبنًا وماءً باردًا أي سقيتها على أحد التأويلين في جميع الأمثلة. ثم قال الشيخ بدر الدين: والحق أنه عبارة عن أن يأتي الشاعر ببيت من الشعر وقافيته متعلقة بمحذوف، ويتغاضى ذكره ليفهم المعنى فلا يذكره لدلالة ما في لفظ البيت عليه، ويكتفي بما هو معلوم في الذهن مما يقتضي تمام المعنى كقوله: واللهِ لا خَطر السلُّ بخاطري ... ما دمتُ في قيدِ الحياةِ ولا إذا فمن المعلوم أن تمامه: ولا إذا مت. قلت أما البيت فللصاحب جمال الدين بن مطروح والتمثيل به صحيح، وأما الحد فهو للشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعتيه. ولا يخفى ما فيه من العلاقة والحشو والتطويل والإخلال، فإنه صريح في تقييده بالشعر وكونه في القافية، وقد صرح علماء البديع بأنه لا يتقيد بواحد منهما وأمثلتهم ناطقة بذلك، وصرح هو أيضًا - أعني ابن الصاحب - لوقوعه في شرح الحريري في قوله: بوركَ فيه من طَلا ... كما بورك في لاَ ولاَ

1 / 25

وفي شرح القاضي الفاضل في قوله: وقد صدق والله المتنبي عليك إذ يقول: إنك الرجلُ الذي تضرب به الأمثالُ ... والمهذبُ الذي لا يقال مَعَه ومثل وقوعه أيضًا في شرح السراج الوراق، وفي شرح عن القافية بل قال إنه ظفر به في الكتاب العزيز كما سيأتي بيانه، على أنك إذا تأملت حد الشيخ بدر الدين وجدته راجعًا في المعنى إلى حد ابن رشيق، وأورد عليه ما أورده هو على ابن رشيق مع قصوره وتقييده مما لا يليق فافهم ذلك، على أن في حد ابن رشيق تسامحًا من جهة أخرى، وهو أن الاكتفاء ليس نفس الدلالة، وإنما هو الحذف والاستغناء لها عن المحذوف، فينبغي أن يقال: هو أن يحذف بعض الكلام ويستغني بدلالة الموجود عليه. وأما الجواب عن دخول الحذف فيه وكون البيتين بعده من الحذف لا من الاكتفاء فسيأتي الكلام ليه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى.

1 / 26