- أ - مقدمة الشارح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الذي أنزل على عبده الكتاب ليكون للعالمين نذيرا. والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله، الذي أرسله الله تعالى رحمة للناس، وآتاه الحكمة وجوامع الكلم، وعلمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيما، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فإن السنة هي المصدر التشريعي الثاني - من المصادر المتفق عليها لدى المسلمين - بعد كتاب الله ﷿، فهي أصل من أصول الدين، ومنها خصيب للتشريع، ودليل أساسي من أدلة الأحكام، تعرفنا حكم الله ﷾ في كل كبير وصغير، فهي جامعة مانعة، عامة شاملة، لا تفوتها شاردة ولا واردة إلا وقد أعطتها حكما شرعيا، فيها بيان لما كان وما سيكون، وفيها تنظيم عملي رائع لشؤون الحياة، مستوحى عن الله تعالى خالق الحياة ومن يحيا، ومرتبط بمالك الملك والملكوت، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. فقلما تحدث حادثة أو تنزل نازلة إلا ونجد في السنة المطهرة الحكم الشافي والبيان الوافي لها. وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ هو المبلغ عن ربه: ﴿يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ /المائدة: ٦٧/. وهو المبين مراد الله ﷿ فيما أنزل: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم﴾ /النحل: ٤٤/. فالسنة المطهرة تأكيد لما بين كتاب الله من أحكام، وتفصيل لما أجمل، وتقييد لما أطلق، وتخصيص لما هو عام، أو تشريع لما سكت عنه القرآن، ولكنه تطبيق لقواعده العامة، وأصوله المقررة، ومستمد منه.

المقدمة / 1

- ب - ورسول الله ﷺ هو المظهر العملي لشريعة الله تعالى، فهو المكلف الأول: ﴿وأنا أول المسلمين﴾ /الأنعام: ١٦٣/. ﴿وأنا أول المؤمنين﴾ /الأعراف: ١٤٣/. وهو القدوة الصالحة: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حسنة﴾ /الأحزاب: ٢١/. وهو الذي يتلقى الوحي من السماء: ﴿وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾ /النجم: ٣ - ٤/. وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وهو الذي قذف الله النور في قلبه، وأجرى الحق على لسانه، وجعل طاعته من طاعته، ومعصيته معصية له سبحانه: ﴿ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا﴾ /النساء: ٨٠/. لهذا كله كانت السنة المطهرة، في مجمل أحكامها وتشريعاتها - من حيث وحوب العمل بها - بمنزلة كتاب الله تعالى، فما ثبت فيها فهو ثابت بوحي من الله سبحانه، وأمر منه وتكليف: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ /الحشر: ٧/. وعليه فالسنة حجة على المسلمين بلا خلاف، وقد أجمع علماء الأمة على أن من أنكر حجتيها عموما فهو كافر مرتد عن الإسلام. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد للمسلمين من الرجوع إلى ما نقل عنه ﷺ من قول أو فعل أو تقرير، والأخذ بما ثبت منه، ليعمل به. ولقد بذل السلف الصالح من العلماء جهودا مشكورة في خدمة دين الله ﷿، فدونوا لنا أحاديث رسول الله ﷺ في مصنفات، تنوعت أساليبها واختلف شروطها، وكان من أفضها وأصحها [الجامع الصحيح] لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، الذي تلقته الأمة بالقبول، وأولته عناية الدراسة والتقرير، وتناولته بالشرح تارة والاختصار تارة أخرى. واقبل عليه طلاب العلم يقرؤون متنه، ويحفظونه عن ظهر قلب. ولا غرابة، فهو المرجع الثاني - بعد كتاب الله ﷿ في دين الله تعالى، وهكذا نجد المدارس والجامعات في العالم الإسلامي، ما زالت تعنى به دراسة وحفظا، وبعضها تقرره في مناهجها، ليقرأ من أوله إلى آخره في مختلف صفوفها. واسم صحيح البخاري كما سماه مصنفه: (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه). وهذا الكتاب على مكانته وأهميته، واحتياج كل مسلم إليه - ولا نبالغ في القول إذا قلنا: يجب أن توجد في كل بيت مسلم نسخة منه على الأقل - هذا الكتاب لا نزال نجد أكثر طبعاته، إذا لم نقل جميعها، على النمط القديم، خالية من المزاي الفنية للطباعة الحديثة، تحشى الصفحة بالأبواب والأحاديث، الواحد تلو الآخر، دون

المقدمة / 2

- ج - فواصل أو ترقيم، أو بداءة متميزة، مما يجعل القارئ يجد صعوبة في مطالعته أو الرجوع إليه. أضف إلى ذلك: أنه قلما توجد لهذه الطبعات فهارس فيها شيء من التفصيل، رغم ما يمتاز به هذا الكتاب من كثرة الأبواب - إذ يغلب أن يجعل البخاري كل حديث بابا مستقلا يترجم له بعنوان - وهذا من شأنه أن يوقع طالب العلم والباحث في حرج ومشقة، عندما يحتاج أن يراجع حديثا في موضوع من المواضيع أو بحث من البحوث، لا سيما إذا لاحظنا ما يمتاز به البخاري في صحيحه، من تكرار للحديث في أبواب متعددة ومناسبات مختلفة، بل ربما أتى بالحديث في الباب لأقل مناسبة. وهذه الصعوبة قد لمستها بنفسي وشعرت بها، حينما أردت أن أتقدم برسالتي في الفقه وأصوله، التي أعددتها لنيل درجة الدكتوراة من الجامعة الأزهرية في القاهرة - عام ١٣٩٣ هـ، ١٩٧٣ م (^١) - وذلك أن رسالتي تحتوي على الكثير من الأحاديث، التي يحتج بها الفقهاء على ما قروره من أحكام في المسائل الفقهية التي أوردتها في أبحاث الرسالة، فكنت أجد كل الصعوبة عندما أبحث عن الحديث في صحيح البخاري، للملاحظات التي ذكرتها آنفا، وهذا ما جعلني أفكر بالقيام بعمل، أخدم فيه الإسلام والمسلمين، بخدمة هذا الكتاب العظيم الأهمية. وحفزني على التفكير جديا بهذا العمل أكثر فأكثر ما لمسته لدى غيري من طلاب العلم والباحثين، عندما كنت أشكو لهم ما أجد من عناء لدى مراجعتي هذا الكتاب، فكانوا يبثون إلي شكواهم بمثل ما أجد، وبعضهم يظهر أسفه لعزوفه عن هذا الكتاب الجليل القدر، وعدم الاستفادة منه، بسبب تلك الصعوبة التي يجدها في الرجوع إليه. ولقد عزمت على القيام يتنفيذ ما فكرت فيه، وبدأت العمل بعون الله تعالى وتوفيقه، بعد أن انتهيت من مناقشة رسالتي ونلت الدكتوراة بفضل الله جلا وعلا، وتهيأت لي الأسباب. وشجعنى على الإقدام على ذلك إخوة لي ناصحون، وزملاء لي في البحث العلمي مجربون، وأعجبهم ذلك ووافق رغبة في نفوسهم. وبعد أن أنجزت جزءا من _________ (^١) وقد طبعت هذه الرسالة لأول مرة عام - ١٤٠٠ هـ، ١٩٨٠ م - وموضوعها [أثر الأدلة المختلف فيها - مصادر التشريع التبعية - في الفقه الإسلامي] وتطبع الآن الطبعة الثانية

المقدمة / 3

- د - العمل عرضته على بعض أساتذتي، ذوي الفضل علي من كبار علماء هذا البلد العاملين، فسروا بذلك سرورا بلغيا، وأقروا منهجي، ودعوا لي بالتوفيق. وها أنا اليوم، أقدم للمسلمين في بقاع الأرض هذا الكتاب الذي أحبوه وأكبروه، وأحلوه من نفوسهم المكان اللائق به، موشحا بما وفقني الله تعالى إليه من خدمة له. وعملي في هذا الكتاب متواضع واضح، ألخصه بما يلي: ١ - ترقيم الصحيح كتبا وأبوابا وأحاديث، على النحو التالي: أ - ترقيم الكتب ترقيما متسلسلا، بدءا من بدء الوحي، الذي اعتبرته كتابا وأعطيته رقم (١) وختاما بكتاب التوحيد، وكان رقمه (١٠٠). وربما أعطيت رقما لمجموعة أبواب في كتاب، إذا كانت ذات موضوع واحد، وأفردت في بعض نسخ الصحيح بعنوان: أبواب كذا، كما هو الحال في: أبواب الوتر، وأبواب العمرة، ونحو ذلك. وربما خالفت في تقسيم الكتب بعض نسخ البخاري المشهورة، مستندا إلى ما يذكره الشراح فيما اعتمدته ورجحته. ب - ترقيم الأبواب ضمن كل كتاب، فكل كتاب أو مجموعة أبواب يرقم ما فيه من الأبواب ترقيما متسلسلا يبدأ من الواحد وحتى آخر باب منه. وألفت النظر هنا إلى أنني قد حذفت من النسخة التي اعتمدتها كلمة [باب] حيث لم تذكر بعدها ترجمة، معتمدا على ما يذكره الشراح أحيانا مما يرجح حذفها. جـ - ترقيم الأحاديث ترقيما متسلسلا، من أول حديث في الصحيح وحتى آخر حديث منه، حتى ولو كان الحديث متكررا، فإنه يأخذ رقما جديدا متسلسلا مع ما قبله وما بعده، كلما تكرر. ويراعى في هذا الترقيم: أن يبدأ كل كتاب أو مجموعة أبواب ذات رقم، أول صفحة، وأن يكون عنوان كل باب سطرا مستقلا، وأما الأحاديث فيبدأ كل منها من أول السطر. ٢ - وضع علامات الترقيم، من فواصل ونقاط وأقواس وإشارات استفهام ونحو ذلك، وقد راعيت أن يكون كلام رسول الله ﷺ بالذات بين قوسين بهذا الشكل: (). وأن تكون الآيات الواردات في الصحيح بين أربعة أقواس بهذا الشكل: ﴿﴾.

المقدمة / 4

- هـ - ٣ - الإشارة إلى المواطن التي تكرر ذكر الحديث فيها، وذلك بذكر أرقامه في تلك المواطن بعد ذكره أول مرة، وتوضع هذه الأرقام في المتن بعد نص الحديث بين معكوفين بهذا الشكل: []. وكلما تكرر الحديث وضعت بعد ذكره حرف [ر:] فعل أمر من رأى، أي انظر، وذكرت الرقم الذي ورد به أول مرة. وأذكر مثالا للتوضيح أول حديث جاء في البخاري، قال: ١ - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأنصاري قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيممي: أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ﵁ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ ينكحها، فهجرته إلى ما جاهر إليه). [٥٤، ٢٣٢٩، ٣٦٨٥، ٤٧٨٣، ٦٣١١، ٦٥٥٣]. وهكذا نجد أن البخاري ذكر هذا الحديث في مواطن ستة غير هذا الموطن، ذكرت أرقامها هنا، فإذا رجعت إلى تلك المواطن وجدت الحديث، ولكنك لا تجد هذه الأرقام، وإنما تجد بعد ذكر الحديث: [ر: ١]. وآتيك بالموطن الذي ذكر به ثانية برقم: (٥٤) زيادة في الإيضاح، فقد جاء في: ٢ - كتاب الإيمان، ٣٩ - مَا جَاءَ إِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ، وَلِكُلِّ امرئ ما نوى. قال: ٥٤ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ عمر: إن رسول الله ﷺ قَالَ: (الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدنيا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هاجر إليه). [ر: ١]. وهذا العمل كما ترى يسهل على الباحث أن يجمع أطراف الحديث، لا سيما وأن البخاري رحمه الله تعالى قد يذكر جزءا من الحديث في موطن، وجزءا آخر منه في موطن غيره، وقد يذكره كاملا في أحد المواطن دون غيرها، وهكذا، فبالإشارة إلى مواطنه يستطيع الباحث أن يحصل على الرواية المتكاملة. أضف إلى ذلك: أنه يتعرف على طرق الحديث

المقدمة / 5