بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

- 4 - رسالة التوقيف على شارع النجاة باختصار الطريق

قال الشيخ الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه :

الحمد لله رب العالمين كثيرا ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله ، وسلم تسليما وبالله نستعين على كل ما يقرب منه ، أما بعد فإن خطابك اتصل بي فيما شاهدته من انقسام أهل عصرنا قسمين : فطائفة اتبعت علوم الأوائل وأصحاب تلك العلوم ، وطائفة اتبعت علم ما جاءت به النبوة ، ورغبتك في أن أبين لك وجه الحق في ذلك بغاية الاختصار ، لئلا ينسي آخر الكلام أوله ، وبنهاية ( 1 ) البيان ، ليفهمه كل من قرأه ، بلا كلفة ، وأن يكون عليه من البرهان ما يصححه لئلا يصير دعوى كسائر الدعاوي ، فسارعت إلى ذلك متأيدا بالله عز وجل لوجوب نصيحة الناس والسعي في استنقاذهم من الهلكة ، وحسبنا الله تعالى :

1 - اعلم - وفقنا الله وإياك لما يرضيه - أن علوم الأوائل هي : الفلسفة وحدود المنطق التي تكلم فيها أفلاطون وتلميذه أرسطاطاليس والإسكندر ( 2 ) ومن قفا قفوهم ، وهذا علم حسن رفيع لأنه فيه معرفة العالم كله ، بكل ما فيه من أجناسه إلى أنواعه إلى أشخاص جواهره وأعراضه ، والوقوف على البرهان الذي لا يصح شيء إلا به ، وتمييزه مما يظن من جهل ( 3 ) أنه برهان ، وليس برهانا ، ومنفعة هذا العلم عظيمة في تمييز الحقائق مما سواها .

Page 131

2 - وعلم العدد الذي تكلم فيه أندروماخش ( 1 ) مؤلف كتاب الأرثماطيقي في طبائع العدد ، ومن نحا نحوه ، وهو علم حسن صحيح برهاني . إلا أن المنفعة به إنما هي في الدنيا فقط : في قسمة الأموال على أصحابها ونحو هذا ، وكل ما لا نفع ( 2 ) له إلا [ 142 ب ] في الدنيا فهي منفعة قليلة وتحة ( 3 ) لسرعة خروجنا من هذه الدار ولامتناع ( 4 ) البقاء فيها ، وكل ما ينقضي فكأنه لم يكن ، وكما يقول يحيى ( 5 ) : ( 6 ) وما هذه الدنيا سوى كر لحظة . . . يعد بها الماضي وما لم يحن بعد هي الزمن الموجود لا شيء غيره . . . ( 7 ) وما مر والآتي عديمان يا دعد

3 - وعلم المساحة التي تكلم فيها جامع كتاب أقليدس ( 8 ) ومن نهج نهجه ، وهو علم حسن برهاني ، وأصله معرفة نسبة الخطوط والأشكال بعضها من بعض ، ومعرفة ذلك في شيئين : أحدهما فهم صفة هيئة الأفلاك والأرض ، والثاني في رفع الأثقال ( 9 ) والبناء وقسمة الأرضين ونحو ذلك . إلا أن هذا القسم منفعته في الدنيا فقط . وقد قلنا إن ما لا نفع له إلا في الدنيا فمنفعته قليلة لسرعة انقطاعها ، ولأنه قد يبقى المرء في دنياه - طول مدته فيها - عاريا من هذين العلمين ، ولا يعظم ضرره بجهلهما ( 10 ) لا في عاجل ولا في آجل .

4 - وعلم الهيئة : الذي تكلم فيه بطليموس ، ولونخس ( 11 ) قبله ، ومن سلك

Page 132

مسلكهما ، أو سلكا مسلكه ، ممن كان قبلهما من أهل الهند والنبط والقبط ، وهو علم برهاني حسي حسن ، وهو معرفة الأفلاك ومدارها وتقاطعها ومراكزها وأبعادها ، ومعرفة الكواكب وانتقالها وأعظامها وأبعادها وأفلاك تداويرها ، ومنفعة هذا العلم إنما هو في الوقوف على أحكام الصنعة وعظيم حكمة الصانع ( 1 ) وقدرته وقصده واختياره ، وهذه منفعة جليلة جدا لا سيما في الآجل .

5 - وأما القضاء بالكواكب فباطل لتعريه من البرهان ، وإنما هو دعوى فقط ، ولا نحصى كم شاهدنا من كذب قضاياهم المحققة ، وإن أردت الوقوف على ذلك فجرب ، تجد كذبها أضعاف صدقها كالراقي والمتكهن سواء سواء ولا فرق .

6 - وعلم الطب الذي تكلم فيه [ 143 / أ ] أبقراط وجالينوس وذياسقوريدس ( 2 ) ومن جرى مجراهم ، وهو علم مداواة الأجسام من أمراضها مدة مقامها في الدنيا ، وهو ( 3 ) علم حسن برهاني ؛ إلا أن منفعته إنما هي في الدنيا فقط ، ثم ليست أيضا صناعة عامة ، لأننا قد شاهدنا سكان البوادي وأكثر البلاد يبرأون من عللهم بلا طبيب ، وتصح أجسامهم بلا معالجة كصحة المتعالجين وأكثر ، ويبلغون من الأعمار كالذي يبلغه أهل التداوي في القصر والطول ، وفيهم من يرتاض ومن يخدم ولا يرتاض ، ومن لا يرتاض ولا يخدم كأهل اليسار منهم والدعة من الرجال والنساء . فان قيل : إن لهم علاجات يستعملونها ( 4 ) قلنا تلك العلاجات ليست جاريات ( 5 ) على قوانين الطب بل هي مذمومة عند أهل العلم بالطب ، واكثر ما يقدمون عليه بالرقي ولا مدخل له عند أهل الطب .

7 - فاعلم الآن أن كل علم قلت منفعته ، ولم تكن مع قلتها إلا دنياوية وعاش من جهله كعيش من علمه - مدة كونهما ( 6 ) في الدنيا - فإن العاقل الناصح لنفسه لا يجعله وكده ، ولا يفني فيه عمره ، لأنه ينفق أيام حياته ، التي لا يستعيض في الدنيا منها ( 7 ) فيما لا ضرورة به إليه ولا كثير حاجة تدعوه نحوه

Page 133

8 - ووجدنا ما جاءت به النبوة ومنفعته في ثلاثة أشياء : أحدها : إصلاح الأخلاق النفسية وإيجاب التزام حسنها : كالعدل والجود والعفة والصدق والنجدة في موضعها ، والصبر والحلم والرحمة ، واجتناب سيئها كأضداد هذه التي ذكرنا . وهذه منفعة عظيمة لا غنى لساكني الدنيا عنها ، ولا شك في العقل في أن صلاح النفس ومداواتها من فسادها ، أنفع من مداواة الجسد وإصلاحه ، لأن مداواة الجسد تابعة لمداواة النفس . إذ في مداواة النفس إيجاب ألا يدخل الإنسان على جسده ما يؤلمه بالمرض ، فيقطع به عن مصالحه [ 143 ب ] . وما عم إصلاح النفس والجسد معا أفضل وأولى بالاهتبال به مما خص إصلاح الجسد فقط - هذا برهان عقلي ضروري حسي .

9 - ولا يمكن ألبتة إصلاح أخلاق النفس بالفلسفة دون النبوة ، إذ طاعة غير الخالق - عز وجل - لا تلزم . وأهل العقول مختلفون في تصويب هذه الأخلاق ، فذو القوة الغضبية التي هي غالبة ( 1 ) على نفسه لا يرى من ذلك ما يراه ذو القوة النباتية ( 2 ) الغالبة على نفسه ، وكلاهما لا يرى من ذلك ما يرى ذو القوة الناطقة الغالبة على نفسه ( 3 ) .

10 - والوجه الثاني من منافع ما جاءت به النبوة : دفع مظالم الناس الذين لم تصلحهم الموعظة ولا سارعوا إلى الحقائق ، وحياطة الدنيا والأبشار والفروج والأموال ، والأمن على كل ذلك من التعدي والغلبة وكفاية من ضاع ولم يقدر على القيام بنفسه . وهذه منفعة عظيمة جلليلة ، لا بقاء لأحد في هذه الدنيا ، ولا صلاح لأهلها إلا بها . وإلا فالهلاك لازم والبوار واجب . وليست كذلك منفعة العلوم التي قدمنا قبل ، وقد قدمنا أنه لا سبيل إلى منع التظالم ولا إلى إيجاد التعاطف بغير النبوة أصلا ، لما ذكرنا من أن طاعة غير الخالق تعالى لم يقم برهان بوجوبها ، ولأن الفسوق ومختلفة الأهواء لا ينقاد بعضها إلى بعض .

11 - والوجه الثالث من منافع ما جاءت به النبوة هو التقدم لنجاة النفس فيما بعد خروجها من هذه الدار ، من الهلكة التي ليس معها ولا بعدها شيء من الخير ، لا ما قل ولا ما كثر ، ولا سبيل ألبتة إلى معرفة حقيقة مراد الخالق منها ولا إلى معرفة

Page 134

طريق خلاصنا إلا بالنبوة ، وأما بالعلوم الفلسفية التي قدمنا فلا - أصلا - ومن ادعى ذلك فقد ادعى الكذب ، لأنه يقول ذلك بلا برهان ألبتة ، وما كان هكذا فهو باطل ، ولا يعجز أحد عن الدعوى ، وليست [ 144 / أ ] دعوى أحد أولى من دعوى غيره بلا ( 1 ) برهان . ثم البرهان قائم على بطلان هذه الدعوى ، لأن الفلاسفة الذين إليهم يستند هذا المدعي يختلفون في أديانهم كاختلاف غيرهم سواء سواء ، فوجب طلب الحقيقة في ذلك عند من قام البرهان على انه إنما يخبر عن خالق العالم ومدبره - عز وجل - . وهذا مكان يلزم العاقل الناصح لنفسه ألا يجعل كده ولا اجتهاده إلا في الوقوف على حقيقته ، وإلا فهو موبق لنفسه ، ولا يشتغل عن ذلك بعلم من العلوم تقل منفعته ، ومن فعل هذا فهو ضعيف العقل ، فاسد التمييز ، سيئ الاختيار ، مستحق للذم ، جان على نفسه عظيم الجنايات .

12 - فأول ذلك أن ينظر : هذا العالم محدث كما قالت الأنبياء - عليهم السلام - وأكثر علماء الأوائل والفلاسفة ، أم لم يزل كما قال غيرهم . ومعرفة حقيقة ذلك قريبة جدا لصحة البرهان الحسي الضروري المشاهد على تناهي عدد الأشخاص النامية من كل نوع من أنواع الحيوان والنبات ، فإن أشخاص نوعين منها اكثر عددا بلا ( 2 ) شك من أشخاص أحد ذينك النوعين . فإذ لا شك في هذا عند أحد ، فقد ثبت المبدأ في وجود كل عدد متناه ، فقد وجب لها المبدأ ضرورة - ولا بد - وإن زمان وجود الفلك الكلي - بكل ما فيه - يزيد عدد ساعاته بما يأتي منه ، وبالضرورة يدري كل أحد ( 3 ) أن ما قبل الزيادة ، فإن النقص موجود فيه قبل تلك الزيادة ، عما صار إليه بتلك الزيادة . ولا شك في [ أن ] الزيادة والنقص لا يمكن وجودهما إلا في ذي نهاية ومبدأ . فصح المبدأ للعالم ضرورة ، وصح أنه محدث مبتدأ ( 4 ) ، والله أعلم .

13 - وأيضا فإن الزمان كله يوم ثم يوم - هكذا مدة وجوده - وكل يوم فله مبدأ ونهاية بالمشاهدة . فإذ كل جزء من أجزاء الزمان ذو مبدأ ونهاية - والزمان ليس هو شيئا غير أجزائه التي هي أيامه [ 144 ب ] - فالزمان ذو مبدأ ونهاية - ولابد - ضرورة ، ومن ادعى مدة غير الزمان فقد ادعى الباطل وما لا يقوم به برهان أبدا . ومن أراد إيقاع الزمان على الباري تعالى فقد تناقض بالباطل ، لأن الزمان - كما بينا - ذو مبدأ ، والباري

Page 135