مقدمة ... رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب: لأبي الحسن الأشعري (ت/ ٣٢٤ هـ) تحقيق ودراسة: عبد الله شاكر محمد الجنيدي شكر وتقدير الحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا محمد الداعي إلى مكافأة صانع الجميل .. وبعد: فقد وفقني الله ﷿ ومنَّ عليَّ بالانتهاء من إعداد هذه الرسالة وأرى من الواجب عليَّ أن أعترف بالفضل لأهله، لذا أتقدم بخالص شكري وتقديري لفضيلة أستاذي الدكتور/ علي ابن محمد ناصر فقيهي .. المشرف على هذه الرسالة، والذي لم يدخر وسعًا في توجيهي، وإبداء ملاحظته حول ما أكتب فجزاه الله أحسن الجزاء. كما أقدم خالص شكري وتقديري لفضيلة الأستاذ الشيخ حماد بن محمد الأنصاري الذي تفضل مشكورًا فقرأ كثيرًا من هذه الرسالة، وفتح لي بيته ومكتبته في أي وقت أريد. كما أقدم خالص شكري وتقديري لكل من قدم لي عونًا أيًا كان من الأساتذة والزملاء، ولكل من ساهم في إخراج هذا البحث. وفي الختام أتوجه إلى الله جل ذكره وأسأله أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل عملنا خالصًا لوجهه والدار الآخرة.

1 / 3

المقدمة إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ . ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ . ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ . وبعد: فمن نعمة الله على هذه الأمة أن أرسل فيها النبي العربي ﷺ، وأنزل عليه الكتاب الكريم الهادي إلى صراط الله المستقيم، وأكمل الله ﷿ لهذه الأمة دينها ولم يقبض نبيه إليه إلا بعد ما بلّغ البلاغ المبين التام، وترك رجالًا فقهوا الكتاب والسنة وتمسكوا بهما، وكانوا جميعًا على عقيدة صحيحة واضحة ربطت بينهم وجمعتهم على كلمة واحدة، وقد خلف هذا الجيل جيل التابعين الذين كانوا خير خلف لأعظم سلف ورثوا الكتاب والسنة وساروا على هدى النبوة. وقد كان الصحابة، والتابعون يجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمته ونشر دينه، وتم لهم فتح كثير من البلدان والأقاليم، ودخل معظم أبناء هذه البلاد في دين الإسلام، وقد كانت هذه الأقاليم المفتوحة عامرة بالديانات والمذاهب الباطلة، وكان دخول الإسلام فيها على حساب هذه المذاهب والديانات، مما أثار بغض أصحاب النفوس الضعيفة من أهل هذه البلاد للإسلام وأهله، فدخلوا فيه ومعهم معتقداتهم الباطلة، وقاموا بنشرها بين صفوف المسلمين بالخداع والتمويه، فظهرت الفرق الكلامية المختلفة، كما برز دعاة الباطنية وأرادوا القضاء على الإسلام وأهله، ونشأ بسبب ذلك الاختلاف والتفرق بين صفوف الأمة، وكثر الجدل في المسائل الاعتقادية كالكلام في القدر والصحابة ومرتكب

1 / 5

الكبيرة، والذات الإلهية وما ينبغي لها من الصفات وسائر الأمور الغيبية، وكان أصحاب العقيدة الصحيحة في صراع مستمر مع هذه الفرق كلها، وقاموا بالرد عليهم، وألفوا الكتب الكثيرة لتوضيح وشرح عقيدة سلف هذه الأمة على ضوء القرآن والسنة، وبذلوا في سبيل ذلك جهودًا مضنية، ولم يسلموا من أذى الناس وتعذيب الحكام. ومن الفرق التي برزت في هذا الوقت الجهمية المعطلة لأسماء الله وصفاته، ثم خرجت المعتزلة وأساتذة علم الفلسفة، وعلم الكلام واستبدوا بالرأي والهوى دون نصوص الوحي والهدى، وكانت لهم شوكة ومنعة، ووقف بجانبهم بعض خلفاء العباسيين، وتطاولت ألسنتهم وأيديهم على أئمة أهل السنة والحديث من السلف كالإمام أحمد - رحمه الله تعالى - ثم جاء أبو الحسن الأشعري ونشأ على مذهب المعتزلة في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري، وتتلمذ على يد إمام المعتزلة في عصره وهو: أبو علي الجبائي زوج أمه، وبرع الأشعري في علم الكلام على مذهب الاعتزال إلى أن هداه الله ﷿ فخرج عليهم وأعلن براءته منهم، وسلك أولًا الطريقة الكلابية وهي طريقة عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان الذي كان يثبت الصفات العقلية كالإرادة والقدرة والسمع والبصر، ويؤوِّل الصفات الخبرية كالوجه واليد والاستواء ثم ختم الله لأبي الحسن الأشعري بالخير فرجع إلى مذهب السلف وقال بقولهم، وانتسب إلى الإمام أحمد بن حنبل، وسيأتي بيان ذلك بتفصيل - إن شاء الله تعالى - في الفصل الثاني من الباب الأول من هذه الرسالة. ويظهر أن رجوع الأشعري عن الاعتزال في هذا الوقت، ووقوفه ضدهم ناصرًا ومؤيدًا مذهب السلف الصالح في الوقت الذي شاع فيه مذهب الاعتزال أدى إلى رفع شأنه وعلو منزلته بين الناس، فسرعان ما انتشر أمره وكثر أتباعه في الآفاق، وأرسل إليه الناس من معظم الأقطار يسألونه عن دين الله الحق وعن معتقد السلف الصالح. وظل الأشعري - بعد رجوعه إلى عقيدة السلف - يدافع عن دين الله الحق ويكتب ويؤلف في الرد على أهل الأهواء، والبدع المخالفين لمذهب السلف إلى أن توفاه الله تعالى، والأشعري كغيره من العلماء المشهورين له أتباع كثيرون، وهؤلاء الأتباع لم يرجعوا كما رجع إمامهم إلى عقيدة السلف في طوره الأخير، بل خالفوا إمامهم الأشعري في كثير من الأمور الاعتقادية، ولم يأخذوا بالمنهج الذي سلكه إمامهم في نهاية حياته بعد رجوعه إلى مذهب السلف، بل بقوا على طريقة عبد الله بن سعيد بن كلاب التي سلكها

1 / 6

الأشعري بعد خروجه على الاعتزال وقبل أن يمحص عقيدته بالرجوع الكامل إلى مذهب السلف - وسيأتي الكلام حول ذلك بتفصيل إن شاء الله تعالى. وظل أتباعه إلى يومنا هذا يسلكون منهجًا مخالفًا لمنهج الأشعري الجديد مع انتسابهم إليه، وظنوا في أنفسهم كما ظن بهم غيرهم أنهم حقًا هم أهل السنة والجماعة، والواقع يرفض ذلك، وإن كتب الأشعري التي كتبها على طريقة السلف وكتب أتباعه المخالفة لعقيدة السلف والمشهورة لخير دليل على ما نقول. وكان الأحرى والأولى بالمنتسبين إلى الأشعري أن يقفوا على منهجه بدقة، ويقولوا بقوله الذي لقي الله عليه، أو يتركوا الانتساب إليه إحقاقًا للحق ووضعًا للأمور في نصابها، وحتى لا تخدع العامة بهم فيأخذوا قولهم على أنه قول أهل السنة والجماعة والأمر ليس كذلك.. ولتوضيح هذه الحقيقة اخترت كتابًا من كتب الأشعري لتحقيقه والتعليق عليه، ولبيان مدى موافقة الأشعري فيه لمنهج السلف ومعتقدهم، ومن ثم يظهر لنا مدى مخالفة الأشعريين الذين انتسبوا إلى الأشعري لإمامهم وأستاذهم. وليس لي هدف من وراء ذلك إلا إنصاف الأشعري، ودعوة أتباعه إلى سلوك طريقته ومنهجه الذي لقي الله عليه، مع الوقوف التام على مذهب السلف أهل السنة والحديث كالإمام البخاري وأحمد بن حنبل والدارمي وغيرهم، ولهم - ولله مزيد الحمد والفضل - في كل عصر ومصر أتباع يقولون بقولهم ويعتقدون بعقيدتهم، وهم حقًا أهل السنة والجماعة. أصحاب الحديث والأثر وأعلام السلف. ويجب على جميع الجماعات الإسلامية الجامعات كذلك أن تقف عند عقيدتها وتفحصها لترى مدى مطابقتها لمذهب السلف في أصول الدين أم لا، وخاصة في العصر الذي نعيش فيه اليوم، حيث جهل معظم الناس العقيدة السلفية الصحيحة، واتبعوا أهل الأهواء والبدع وسلكوا طريقة الفلاسفة والمتكلمين، وتركوا طريقة سيد المرسلين ﷺ. ولقد ذكر ذلك الدكتور «سامي النشار» و«جمعة طالبي» في مقدمة كتاب «عقائد السلف» فقال: "إن المؤسسات الثقافية الكبرى عندنا كالأزهر وبقية الجامعات لم تولها أيَّ اهتمام ولا اعتبار في مناهجها ودراستها ذلك أن الدارسين اعتمدوا على كتب المتأخرين

1 / 7

المشوبة بكثير من الأنظار الغربية، وآراء عهد انحطاط الحضارة الإسلامية، مع أن المنهج العلمي التاريخي الصحيح يقتضي أن ترجع إلى الأصول الأولى في كل شيء"١. وختامًا أتوجه بدعوة كل أشعري ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري أن يجرد نفسه من كل عصبية، ويقف على مذهب شيخه كما جاء في كتبه كالمقالات والإبانة ورسالة أهل الثغر، ويلزم منهج شيخه الأخير الذي رجع فيه إلى مذهب السلف، وقال بقول الإمام «أحمد بن حنبل» كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه الإبانة، والله من وراء القصد وهو ولينا ونعم النصير. _________ ١ انظر: كتاب عقائد السلف للنشار وطالبي ص٥.
الباب الأول: التعريف بالمؤلف الفصل الأول: عصر المؤلف المبحث الأول: الناحية السياسية ... المبحث الأول الناحية السياسية عاش الأشعري ﵀ في الفترة الواقعة ما بين عام ستين ومائتين حيث كانت ولادته، وعام أربعة وعشرين وثلاثمائة حيث كانت وفاته، وفي هذه الفترة بدأ الضعف يشق طريقه في الدولة العباسية، وبدأ معظم أطرافها يقوم بحركات انفصالية عنها بجانب الثورات الكثيرة التي كانت تقع، وظهرت القرامطة بسواد الكوفة١، وهم قوم خوارج زنادقة، مارقة من الدين، وكان ذلك في عام ثمانية وسبعين مائتين، كما ظهر بالبحرين أبو سعيد الجنابي القرمطي٢، وقويت شوكته، وعاث في الأرض فسادًا وتبعه خلق كثير، كما حاصر أحد أتباعه وهو يحيى بن ذكرويه دمشق، ودخل أخوه حلب وقتل فيها تسعة آلاف٣، واستمروا يغزون هذه البلاد حتى دخلوا البصرة وفعلوا فيها أكثر ما فعلوا في دمشق. كما ظهر العبيديون في مصر وملكوا جيزة الفسطاط في عام ثمانية وثلاثمائة٤، كما ظهر الديلم في بلاد الريّ، وأخذت الروم سميساط واستباحوها وضربوا الناقوس في الجامع٥. وخلاصة ما يمكن أن يقال عن وضع الدولة في هذا الوقت ما ذكره أحمد أمين في قوله: "أهم مظهر يأخذ بالأبصار في ذلك العصر ما حصل للدولة الإسلامية من الانقسام، فقد كانت المملكة الإسلامية كلها في العصر العباسي الأول - إذا استثنينا الأندلس وبعض بلاد المغرب - تكون كتلة واحدة تخضع خضوعًا تامًا للخليفة في بغداد، هو الذي يعين ولاتها، وإليه يجبى خراجها وإليه يرجع في إدارتها وقضائها وجندها وحل مشاكلها، ويدعى له على المنابر وتضرب السكة باسمه، ونحو ذلك من مظاهر السلطان، ثم أخذ هذا السلطان يقل شيئًا فشيئًا، وأخذ يخشى ولاتها وأمراؤها بعضهم بأس بعض، ويضرب بعضهم بعضًا، فصارت المملكة الإسلامية عبارة عن دول متعددة مستقلة، علاقة بعضها بالبعض الآخر علاقة محالفة أحيانًا، وعداء غالبًا، وأصبح لكل دولة مالها وجندها وإدارتها وقضاؤها وسكتها وأميرها، إن اعترف بعضها بالخليفة في بغداد حينًا من الزمن فاعتراف ظاهري ليس له أثر فعلي، وسودت صحف التاريخ بالقتال المستمر بين هذه الدول، وشغلوا بقتال أنفسهم عن قتال عدوهم، ومن أجل هذا طمع فيهم الروم يغزونهم كل حين، ويستولون على بلادهم شيئًا فشيئًا، حتى الزنج والحبشة كانوا يعتدون على الدولة الفينة بعد الفينة، فينهبون ويسلبون، ولم تعد المملكة الإسلامية مخشية الجانب كما كانت أيام وحدتها، ففي سنة ٣٢٤هـ (وهي السنة التي مات فيها الأشعري) كانت البصرة في يد ابن رائق، وفارس في يد علي بن بوية، وأصبهان والريّ والجبل في يد أبي علي الحسين بن بوية، والموصل وديار بكر وربيعة في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد الأخشيديين، وأفريقية والمغرب في يد الفاطميين، وخراسان وما وراء النهر في يد السامانيين، وطبرستان وجرجان في يد ديلم، وخوزستان بيد البريدى، والبحرين واليمامة وهجر بيد القرامطة، ولم يبق للخليفة إلا بغداد وما حولها، وحتى هذه لم يكن فيها إلا الاسم"١. _________ ١ انظر: كتابه ظهر الإسلام ١/٩٠. ١ انظر: البداية والنهاية ١١/٢٦١، وشذرات الذهب ٢/١٧٢. ٢ انظر: شذرات الذهب ٢/١٩٠. ٣ انظر: شذرات الذهب ٢/٢٠٢. ٤ انظر: شذرات الذهب ٢/٢٥٢. ٥ انظر: شذرات الذهب ٢/٢٦٩.

1 / 11