ـ[عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية]ـ المؤلف: أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (المتوفى: ٦٦٥ هـ) المحقق: إبراهيم الزيبق الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت الطبعة: الأولى، ١٤١٨ هـ/ ١٩٩٧ م عدد الأجزاء: ٥ [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

1 / 1

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه رب الْعَالمين الْحَمد لله الَّذِي بِلُطْفِهِ تصلح الْأَعْمَال وبكرمه وجوده تدْرك الآمال وعَلى وفْق مَشِيئَته تتصرف الْأَفْعَال وبإرادته تَتَغَيَّر الْأَحْوَال وَإِلَيْهِ الْمصير والمرجع والمآل سُبْحَانَهُ هُوَ الْبَاقِي بِلَا زَوَال المنزه عَن الْحُلُول والانتقال عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْكَبِير المتعال ذُو الْعَرْش والمعارج والطول وَالْإِكْرَام والجلال نحمده على مَا أَسْبغ من الإنعام والإفضال وَمن بِهِ من الْإِحْسَان والنوال حمدا لَا توازنه الْجبَال ملْء السَّمَوَات وَالْأَرْض وعَلى كل حَال وَنُصَلِّي على رَسُوله وَنبيه وَخيرته من خلقه وَصفيه وخليله ووليه وحبيبه المفضال سيدنَا أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن عبد الله ذِي الشّرف الباذخ وَالْعلم الراسخ وَالْفضل الشامخ وَالْجمال والكمال صلى الله عَلَيْهِ وعَلى الْمَلَائِكَة المقربين والأنبياء وَالْمُرْسلِينَ وعترتهم الطيبين مَا أفل كَوْكَب وطلع هِلَال وعَلى آل مُحَمَّد وَصَحبه خير صحب وَأكْرم آل وعَلى تابعيهم بِإِحْسَان وَجَمِيع الْأَوْلِيَاء والأبدال وَعَفا عَن الْمُقَصِّرِينَ من أمته أولي الكسل والملال وحشرنا فِي زمرته مُتَمَسِّكِينَ بشرعته مقتدين بسنته متعظين بِمَا ضرب من الْأَمْثَال مزدحمين تَحت لوائه فِي جملَة أوليائه يَوْم لَا بيع فِيهِ وَلَا خلال

1 / 21

أما بعد فَإِنَّهُ بعد أَن صرفت جلّ عمري ومعظم فكري فِي اقتباس الْفَوَائِد الشَّرْعِيَّة واقتناص الفرائد الأدبية عَن لى أَن أصرف إِلَى علم التَّارِيخ بعضه فأحوز بذلك سنة الْعلم وفرضه اقْتِدَاء بسيرة من مضى من كل عَالم مرتضى فَقل إِمَام من الْأَئِمَّة إِلَّا ويحكى عَنهُ من أَخْبَار من سلف فَوَائِد جمة مِنْهُم إمامنا أَبُو عبد الله الشَّافِعِي رضى الله عَنهُ قَالَ مُصعب الزبيرِي مَا رَأَيْت أحدا أعلم بأيام النَّاس من الشَّافِعِي ويروى عَنهُ أَنه قَامَ على تعلم أَيَّام النَّاس وَالْأَدب عشْرين سنة وَقَالَ مَا أردْت بذلك إِلَّا الِاسْتِعَانَة على الْفِقْه قلت وَذَلِكَ عَظِيم الْفَائِدَة جليل العائدة وَفِي كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله ﷺ من أَخْبَار الْأُمَم السالفة وأنباء الْقُرُون الخالفة مَا فِيهِ عبر لذوى البصائر واستعداد ليَوْم تبلى السرائر قَالَ الله ﷿ وَهُوَ أصدق الْقَائِلين ﴿وَكُلًاّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أنباء الرسُل مَا نُثَبِّت بِهِ فُؤَادَك وَجَاءَكَ فِي هَذِه الْحق وموعظة وذكرى للْمُؤْمِنين﴾ وَقَالَ سُبْحَانَهُ ﴿وَلَقَدْ جَاءَهم من الأنْبَاء مَاِ فِيهِ مزدجر حِكْمَة بَالِغَة فَمَا تغن النّذر﴾ وَحدث النَّبِي ﷺ بِحَدِيث أم زرع وَغَيره مِمَّا جرى فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْأَيَّام الإسرائيلية وَحكى عجائب مَا رَآهُ لَيْلَة أسرِي بِهِ وعرج وَقَالَ (حدثوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج) وَفِي صَحِيح مُسلم عَن سماك بن

1 / 22

حَرْب قَالَ قلت لجَابِر بن سمُره أَكنت تجَالس رَسُول الله ﷺ قَالَ نعم كثيرا كَانَ لَا يقوم من مُصَلَّاهُ الَّذِي صلى فِيهِ الصُّبْح أَو الْغَدَاة حَتَّى تطلع الشَّمْس فَإِذا طلعت قَامَ وَكَانُوا يتحدثون فَيَأْخُذُونَ فِي أَمر الْجَاهِلِيَّة فيضحكون ويبتسم ﷺ وَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن عبد الله بن عَمْرو رضى الله عَنْهُمَا قَالَ كَانَ نَبِي الله ﷺ يحدثنا عَن بني إِسْرَائِيل حَتَّى يصبح مَا يقوم إِلَّا إِلَى عُظم صَلَاة قلت وَلم يزل الصَّحَابَة والتابعون فَمن بعدهمْ يتفاوضون فِي حَدِيث من مضى ويتذاكرون مَا سبقهمْ من الْأَخْبَار وانقضى ويستنشدون الْأَشْعَار ويتطلبون الْآثَار وَالْأَخْبَار وَذَلِكَ بَين من أفعالهم لمن اطلع على أَحْوَالهم وهم السَّادة الْقدْوَة فلنا بهم أُسْوَة فاعتنيت بذلك وتصفحته وبحثت عَنهُ مُدَّة وتطلبته فوقفت وَالْحَمْد لله على جملَة كَبِيرَة من أَحْوَال الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين من الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْخُلَفَاء والسلاطين وَالْفُقَهَاء والمحدثين والأولياء وَالصَّالِحِينَ وَالشعرَاء والنحويين وأصناف الْخلق البَاقِينَ وَرَأَيْت أَن المطلع على أَخْبَار الْمُتَقَدِّمين كَأَنَّهُ قد عاصرهم أَجْمَعِينَ وَأَنه عِنْدَمَا يفكر فِي أَحْوَالهم أَو يذكرهم كَأَنَّهُ مُشاهدهم ومحاضرهم فَهُوَ قَائِم لَهُ مقَام طول الْحَيَاة وَإِن كَانَ متعجل الْوَفَاة قَالَ

1 / 23

نعيم بن حَمَّاد كَانَ عبد الله بن الْمُبَارك يكثر الْجُلُوس فِي بَيته فَقيل لَهُ أَلا تستوحش قَالَ كَيفَ استوحش وَأَنا مَعَ النَّبِي ﷺ وَأَصْحَابه وَفِي رِوَايَة قَالَ قيل لِابْنِ الْمُبَارك يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن تكْثر الْقعُود فِي الْبَيْت وَحدك فَقَالَ أَنا وحدي أَنا مَعَ النَّبِي ﷺ وَأَصْحَابه يَعْنِي النّظر فِي الحَدِيث وَفِي رِوَايَة أُخْرَى وَأَنا مَعَ النَّبِي ﷺ وَأَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان قلت وَقد أنشدت لبَعض الْفُضَلَاء (كتاب أطالعه مؤنس ... أحب إِلَيّ من الآنسه) (وأدرسه فيريني الْقُرُون ... حضورا وأعظمهم دارسه) وَقد اخْتَار الله سُبْحَانَهُ لنا أَن نَكُون آخر الْأُمَم وأطلعنا على أنباء من تقدم لنَّتعظ بِمَا جرى على الْقُرُون الخلية ﴿وتَعِيَها أذنٌ واعِيَة﴾ ﴿فَهَل تَرَى لَهُمْ من بَاقِيَة﴾ ولنقتدي بِمن تقدمنا من الْأَنْبِيَاء وَالْأَئِمَّة الصلحاء وَنَرْجُو بِتَوْفِيق الله ﷿ أَن نَجْتَمِع بِمن يدْخل الْجنَّة مِنْهُم ونذاكرهم بِمَا نقل إِلَيْنَا عَنْهُم وَذَلِكَ على رغم أنف من عدم الْأَدَب وَلم يكن لَهُ فِي هَذَا الْعلم أرب بل أَقَامَ على غية وأكب والمرء مَعَ من أحب هَذَا وَإِن الْجَاهِل بِعلم التَّارِيخ راكبُ عمياء خابط خبط عشواء ينْسب إِلَى من تقدم أَخْبَار من تَأَخّر ويعكس ذَلِك وَلَا يتدبر وَإِن رد عَلَيْهِ وهمه لَا يتأثر وَإِن ذكر فلجهله لَا يتَذَكَّر لَا يفرق بَين صَحَابِيّ وتابعي وحنفي ومالكي وشافعي وَلَا بَين خَليفَة وأمير وسلطان ووزير وَلَا يعرف من سيرة نبيه ﷺ أَكثر من أَنه نَبِي مُرْسل فَكيف لَهُ بِمَعْرِفَة أَصْحَابه وَذَلِكَ الصَّدْر

1 / 24