بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية المتعزز بعظمة الربوبية القائم على نفوس العالم بآجالها والعالم بتقلبها وأحوالها المان عليهم بتواتر آلائه المتفضل عليهم بسوابغ نعمائه الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير فمضت فيهم بقدرته مشيئته ونفذت فيهم بعزته إرادته فألهمهم حسن الإطلاق وركب فيهم تشعب الأخلاق فهم على طبقات أقدارهم يمشون وعلى تشعب أخلاقهم يدورون وفيما قضى وقدر عليهم يهيمون و(٢٣ ٥٣ ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾) وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر السموات العلا ومنشيء الأرضين والثرى لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه (٢١ ٢٣ ﴿لا يُسْأَلُ عما يفعل وهم يسألون﴾) وأشهد أن محمدا عبده المجتبى ورسوله المرتضى بعثه بالنور المضي والأمر المرضي على حين فترة من الرسل ودروس من السبل فدمغ به الطغيان وأكمل به الإيمان وأظهره على كل الأديان وقمع به أهل الأوثان ف ﷺ مَا دار في السماء فلك وما سبح في الملكوت ملك وعلى آله أجمعين ٠ أما بعد فإن الزمان قد تبين للعاقل تغيره ولاح للبيب تبدله حيث يبس ضرعه بعد الغزارة وذبل فرعه بعد النضارة ونحل عوده بعد الرطوبة وبشع مذاقه بعد العذوبة فنبع فيه أقوام يدعون التمكن من العقل باستعمال ضد مَا يوجب العقل من شهوات صدورهم وترك مَا يوجبه نفس العقل بهجسات

1 / 14

قلوبهم جعلوا أساس العقل الذي يعقدون عَلَيْهِ عند المعضلات النفاق والمداهنة وفروعه عند ورود النائبات حسن اللباس والفصاحة وزعموا أن من أحكم هذه الأشياء الأربع فهو العاقل الذي يجب الاقتداء به ومن تخلف عَن إحكامها فهو الأنوك الذي يجب الإزورار عنه ٠ فلما رأيت الرعاع من العالم يغترون بأفعالهم والهمج من الناس يقتدون بأمثالهم دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف يشتمل متضمنه على معنى لطيف مما يحتاج إليه العقلاء في أيامهم من معرفة الأحوال في أوقاتهم ليكون كالتذكرة لدوي الحجى عند حضرتهم وكالمعين لأولى النهى عند غيبتهم يفوق العالم به أقارنه والحافظ له أترابه يكون النديم الصادق للعاقل في الخلوات والمؤنس الحافظ له في الفلوات إن خص به من يجب من إخوانه لم يفتقده من ديوانه وإن استبد به دون أوليائه فاق به على نظرائه ٠ أبين فيه مَا يحسن للعاقل استعماله من الخصال المحمودة ويقبح به إتيانه من الخلال المذمومة مع القصد في لزوم الاقتصار وترك الإمعان في الإكثار ليخف على حامله وتعيه أذن مستمعه لأن فنون الأخبار وأنواع الأشعار إذا استقصى المجتهد في إطالتها فليس يرجو النهاية إلى غايتها ومن لم يرج التمكن من الكمال في الإكثار كان حقيقا أن يقنع بالاختصار ٠ والله الموفق للسداد والهادي إلى الرشاد وإياه أسأل إصلاح بالأسرار وترك المعاقبة على الأوزار إنه جواد كريم رءوف رحيم ٠

1 / 15

ذكر الحث على لزوم العقل وصفة العاقل اللبيب حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مَطَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبُّوَيْهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا قال أَبُو حاتم لست أحفظ عَن النَّبِيّ ﷺ خبرا صحيحا في العقل لأن أبان بن أبي عياش وسلمة بْن وردان وعمير بن عمران وعلي ابن زيد والحسن بْن دينار وعباد بن كثير ومسيرة بن عبد ربه وداود ابن المحبر ومنصور بن صفر وذويهم ليسوا ممن أحتج بأخبارهم فأخرج مَا عندهم من الأحاديث في العقل ٠ وإن محبة المرء المكارم من الأخلاق وكراهته سفسافها هو نفس العقل ٠ فالعقل به يكون الحظ ويؤنس الغربة وينفي الفاقة ولا مال أفضل منه ولا يتم دين أحد حتى يتم عقله ٠ والعقل اسم يقع على المعرفة بسلوك الصواب والعلم باجتناب الخطأ فإذا كان المرء في أول درجته يسمى أديبا ثم أريبا ثم لبيبا ثم عاقلا كما أن الرجل إذا دخل في أول حد الدهاء قِيلَ له شيطان فإذا عتا في الطغيان قِيلَ مارد فإذا زاد على ذلك قِيلَ عبقري فإذا جمع إلى خبثه شدة شر قِيلَ عفريت

1 / 16

وكذلك الجاهل يقال له في أول درجته المائق ثم الرقيع ثم الأنوك ثم الأحمق ٠ وأفضل مواهب اللَّه لعباده العقل ولقد أحسن الذي يقول ... وأفضل قسم اللَّه للمرء عقله ... فليس من الخيرات شيء يقاربه إذا أكمل الرحمن للمرء عقله ... فقد كملت أخلاقه ومآربه يعيش الفتى في الناس بالعقل إنه ... على العقل يجري علمه وتجاربه يزيد الفتى في الناس جودة عقله ... وإن كان محظورا عَلَيْهِ مكاسبه ... أخبرنا مُحَمَّد بْن سليمان بْن فارس حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سيار حَدَّثَنَا حبيب الجلاب قَالَ قِيلَ لابن المبارك مَا خير مَا أعطى الرجل قَالَ غريزة عقل قِيلَ فإن لم يكن قَالَ أدب حسن قِيلَ فإن لم يكن قَالَ أخ صالح يستشيره قِيلَ فإن لم يكن قَالَ صمت طويل قِيلَ فإن لم يكن قَالَ موت عاجل أخبرنا مُحَمَّد بْن داود الرازي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حميد حَدَّثَنَا ابن المبارك قَالَ سئل عقيل مَا أفضل مَا أعطي العبد قَالَ غريزة عقل قَالَ فإن لم يكن قَالَ فأدب حسن قَالَ فإن لم يكن قَالَ فأخ شقيق يستشيره قال فإن لم يكون فطول الصمت قَالَ فإن لم يكن قَالَ فموت عاجل قال أَبُو حاتم العقل نوعان مطبوع ومسموع فالمطبوع منهما كالأرض والمسموع كالبذر والماء ولا سبيل للعقل المطبوع أن يخلص له عمل محصول دون أن يرد عَلَيْهِ العقل المسموع فينبهه من رقدته ويطلقه من مكامنه يستخرج البذر والماء مَا في قعور الأرض من كثرة الربع فالعقل الطبيعي من باطن الإنسان بموضع عروق الشجرة من الأرض والعقل المسموع من ظاهره كتدلي ثمرة الشجرة من فروعها ٠ أنشدني مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن حبيب الواسطي

1 / 17

.. رأيت العقل نوعين ... فمطبوع ومسموع ولا ينفع المسموع ... إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع ... أخبرنا القطان بالرقة حَدَّثَنَا موسى بْن مروان حَدَّثَنَا بقية عَن عَبْد اللَّه بْن حسان حدثني ابن عامر قَالَ قلت لعطاء بْن أَبِي رباح يا أبا مُحَمَّد مَا أفضل مَا أعطي العبد قَالَ العقل عَن الله أنشدني أحمد بن عبد الله الصنعاني لعبد اللَّه بْن عكراش ... يزين الفتى في الناس صحة عقله ... وإن كان محظورا عَلَيْهِ مكاسبه يشين الفتى في الناس خفة عقله ... وإن كرمت أعراقه ومناسبه ... قال أَبُو حاتم فالواجب على العاقل أن يكون بما أحيا عقله من الحكمة أكلف منه بما أحيا جسده من القوت لأن قوت الأجساد المطاعم وقوت العقل الحكم فكما أن الأجساد تموت عند فقد الطعام والشراب وكذلك العقول إذا فقدت قوتها من الحكمة ماتت ٠ والتقلب في الأمصار والاعتبار بخلق اللَّه مما يزيد المرء عقلا وإن عدم المال في تقلبه ٠ أنشدني عَبْد الرحمن بْن مُحَمَّد المقاتلي ... إن ذا العقل يرى غنما له ... عدم المال إذا مَا العقل صح ما على المرء بعدم سبة ... إن وفا العقل وإن دين صلح ... أخبرنا مُحَمَّد بْن المسيب حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِسْمَاعِيل المدني قَالَ سمعت حاتم ابن إِسْمَاعِيل يقول مَا استودع اللَّه عقلا عبدا إلا استنقذه به يوما مَا قال أَبُو حاتم العقل دواء القلوب ومطية المجتهدين وبذر حراثة الآخرة

1 / 18