المنزلة الثالثة: وإذ انتهيت إلى هذا المقام، فللنسخ شرائط أمهاتها ستة: الأول: أن يكون شرعيا غير عقلي، فإن الموت لا ينسخ التكليف مثلا. الثاني: أن يكون منفصلا غير متصل، ونحن نعلم أنه لما قال: ﴿ثم أتموا الصيام إلى الليل﴾ لم يكن نسخا. فلا خلاف فيه إذا كانت الغاية معلومة كما قدمنا. فإن كانت مجهولة كقوله تعالى: ﴿حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا﴾، فاختلف الناس فيه: هل هو نسخ او لا؟ والصحيح أنه نسخ، لأن معاني النسخ فيه موجودة وقد بيناه في الأصول. الثالث: أن يكون المقتضى بالمنسوخ غير المقتضى بالناسخ حتى لا يكون منه البدل، ولذلك قال كثير من علمائنا: إن النسخ هو النص (الدال) على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل (في الاستقبال) على وجه لولاه لثبت. وقال "أبو المعالي": النسخ ظهور ما ينافي شرط استمرار الحكم، فقوله: افعل، طلب إلا أنه مشروط في المعنى بأن لا ينهى عنه. وحقيقة النسخ إنما تصادف (الظاهر) في اعتقادنا، فأما (عند الله) فالأمر أولا وآخرا على ما ظهر. الرابع: أن يكون الجمع بين الدليلين غير ممكن. الخامس: أن يكون الناسخ في العلم والعمل مثل المنسوخ، وذلك مما اختلف الأوائل فيه، وسنبينه (في موضعه) إن شاء الله تعالى. السادس: معرفة (المتقدم من المتأخر).

2 / 1

المنزلة الرابعة: وكذلك ليس من شرطه أن يكون إلى بدل، خلافا لما ظنه قوم من المقصرين في ذلك لقول الله تعالى (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها). فإن ذلك مفهوم (حسب) ما يأتي، إذ ترك البدل (كثير) فقد نسخ الله ترك تقديم الصدقة في النجوى (ونسخ التربص حولا كاملا بالنص) على أربعة أشهر وعشرا. كل ذلك إلى غير بدل. ولكنه قد يكون النسخ إلى بدل وهي: المنزلة الخامسة: وهو على خمسة أوجه: الأول: أن الله تعالى نسخ وجوب ثبوت العشرة للمائة في القتال، إلى ثبوت الواحد للأثنين، وبقي ثبوت العشرة ندبا، أو مباحا، أو ممنوعا، على ما يأتي بيانه إن شاء الله. الثاني: نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس على قول، أو (وضع) الندب موضع الوجوب على (آخر). الثالث: نسخ التخيير (بالإلزام) في الصوم.

2 / 2

الرابع: نسخ القبلة بالقبلة. الخامس: نسخ التحريم بالإباحة في المباشرة من بعد النوم، والفطر إلى الفطر الآخر، وكذلك زيارة القبور بعد المنع من زيارتها لقوله ﷺ: "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فالآن زوروها ولا تقولوا هجرا" وكذلك بإباحة لحوم الأضاحي مدخرة، بعد النهي عن ادخارها. وليس من شرطه وهي: المنزلة السادسة: أن يعلم أن الأخف قد نسخ بالأشد، لما يعلم الله ذلك، فإن قيل: وكيف هذا؟ قلنا قد ينسخ التخيير في الصوم بالإلزام. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ قلنا: اعتراض على الله الذي لا يُسأل عما يفعل. فإن قيل: إنما هو سؤال إيضاح مشكل، وتأليف متعارض، قلنا: إلزام الصوم لا حرج فيه، والتخيير دونه، فانتقل عما لاحرج فيه إلى ما لا حرج فيه. المنزلة السابعة: إذا انتهى بدء التنزيل إلى هذه المنزلة فلا بد من معرفة الناسخ بعد معرفة النسخ، والناسخ فاعل من نسخ، وذلك بالحقيقة لله وحده. زكون كلامه ناسخا مجاز ثان للحقيقة، وكون الشيء المخبر عن الكلام ناسخا مجاز ثالث لهما وجاز إطلاقه على غير الله مع معرفة الحقيقة، قصدا إلى تعريف البيان، وإذا عرفتم فأقسامه أربعة: الأول: كتاب ينسخ كتابا. الثاني: سنة تنسخ سنة. الثالث: كتاب ينسخ سنة. الرابع: سنة تنسخ كتابا.

2 / 3

والكل من عند الله ينسخ بعضه بعضا. وقيل عن قوم "إنه لا ينسخ الكتاب إلا الكتاب، ولا تنسخ السنة إلا السنة، إذ لا ينسخ الشيء إلا بمثله". وأجل من حُكِيَ عنه ذلك الشافعي في صحيح أقواله، وغاية متعلقهم شيئان: أحدهما أن الرسول ﷺ كان له أن يجتهد واجتهاده واجب الإتباع. فلا يجوز أن يبين الرسول باجتهاده ما يخالف الكتاب. أما الثاني (في) قوله أن الكتاب لا ينسخ السنة فإن فيه تقرير الرسول ﷺ على الخطأ ما بين العمل بالسنة ثم ورود الكتاب بعدها. وهذا ضعيف جدا. إنما الكل من عند الله (وقد) استوت في العلم، فالعمل بها واجب (وإن اختلفوا في) خبر الواحد (كأن) يأتي خبر الواحد بخلافه فإن الاجماع قد انعقد على أن القرآن لا ينسخ به (...) وقد ظن قوم أن السنة نسخت القرآن في الوصية

2 / 4

للوالدين والأقربين. نسختها السنة. قلنا: ما نسختها غلا آية المواريث على ما نبينه. وكذلك قالوا: الامساك في البيوت قرآن نسختها الرجم سنة، وقد قال قوم: نسختها آية الرجم ثم نسخ لفظها وبقي حكمها، كما قال عمر ﵁، وكذلك قوله تعالى: ﴿وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم﴾، مثله، على ما يأتي بيانه إن شاء الله. ونسخ الإجماع من هذا القبيل فإن الإجماع إما أن يكون عن خبر أو عن نظر، والنظر لا يرفع النص والخبر قد يظهر وقد يطمسه الإجماع. المنزلة الثامنة: فإذا تقرر النسخ فقد ينسخ الحكم مع بقاء التلاوة، ويجوز نسخ التلاوة ويقاء الحكم، ومنعته المعتزلة، وقالوا: كيف ينسخ الأصل ويبقى الفرع؟ قلنا: الحكم وإن ثبت بالتلاوة، إذا استقر ساوى كل حكم ثبت بغير نص، ومنها نسخ الحكم مع بقاء التلاوة ومنها نسخ ما ليس متلوا بما ليس بمتلو، كقول عائشة ﵂ (كان مما أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس رضعات معلومات) إلى أقسام كثيرة أعدادها نضعها في مواضعها. وقد ينسخ الأمر أصلا فلا يبقى له ذكر لا في اللفظ ولا في المعنى. فقد روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: إن سورة نحوا من التوبة نزلت ثم رفعت. فهذه منازل النسخ الثمانية التي يتنزل المرء فيها، وتعرض بعد هذا مغالطات نبهنا عليها في كتب الأصول، أمهاتها خمس:

2 / 5