أبو الطيب المتنبي، وماله وما عليه هو - وإن كان كوفي المولد - شامي المنشأ. وبها تخرج، ومنها خرج. نادرة الفلك، وواسطة عقد الدهر، في صناعة الشعر، ثم هو شاعر سيف الدولة المنسوب إليه، المشهور به، إذ هو الذي هو الذي جذب بضبعه رفع من قدره، ونفق سعر، وألقى عليه شعاع سعادته، حتى سار ذكره مسير الشمس والقمر، وسافر كلامه في البدو والحضر، وكادت الليالي تنشده، والأيام تحفظه، كما قال وأحسن ما شاء (من الطويل): وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعرا اصبح الدهر منشدا فسار به من لا يسير مشمرا ... وغنى به من لا يغني مغردا وكما قال (من المتقارب): ولي فيك ما لم يقل قائل ... وما لم يسر قمر حيث سارا وعندي لك الشرد السائرات ... لا يختصصن من الأرض دارا إذا سرن من مقول مرة ... وثبن الجبال وخضن البحارا هذا من أحسن ما قيل في وصف الشعر السائر، وأبلغ منه قول علي بن الجهم حيث قال (من الطويل): ولكن إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلى ما قلت من الشعر

1 / 30

فسار مسير الشمس في كل بلدة ... وهب هبوب الريح في البر والبحر فليس اليوم مجالس الدرس، أعمر بشعر أبي الطيب من مجالس الأنس. ولا أقلام كتاب الرسائل، أجرى به من ألسن الخطباء في المحافل، ولا لحون المغنين والقوالين، أشغل به من كتب المؤلفين والمصنفين، وقد ألفت الكتب في تفسيره، وحل مشكله وعويصه، وكسرت الدفاتر على ذكر جيده ورديئه. وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه، والإفضاح عن أبكار كلامه وعونه وتفرقوا فرقا في مدحه والقدح فبه والنضح عنه، وتفرده عن أهل زمانه، بملك رقاب القوافي، ورق المعاني، فالكامل من عدت سقطاته، والسعيد من حسبت هفواته وما زالت الأملاك تهجى وتمدح وأنا مورد في هذا الباب ذكر محاسنه ومقابحه، وما يرتضي وما يستهجن من مذاهبه في الشعر وطرائقه. وتفضيل الكلام في نقد شعره، والتنبيه على عيونه وعيوبه، والإشارة إلى غرره وعرره، وترتيب المختار من قلائده وبدائعه، بعد الأخذ بطرف من طرق أخبار ومتصرفات أحواله، وما تكثر فوائده وتحلو ثمرته، ويتميز هذا الباب به سائر أبواب الكتاب كتميزه عن أصحابها بعلو الشأن، في شعر الزمان، والقبول التام، عند أكثر الخاص والعام. ذكر ابتداء أمره ذكرت الرواة أنه ولد بالكوفة في كنده سنة ثلاث وثلاثمائة، وأن أباه

1 / 31

سافر إلى بلاد الشام، فلم يزل ينقله من باديتها إلى حضرها، ومن مدرها إلى وبرها، ويسلمه في المكاتب، ويردده في القبائل. ومخايله نواطق الحسنى عنه. وضوامن النجح فيه، حتى توفي أبوه وقد ترعرع أبو الطيب وشعر وبرع. وبلغ من كبر نفسه وبعد همته أن دعا إلى بيعته قوما من رائشي نبله على الحداثة من سنه والغضاضة من عوده، وحين كاد يتم له أمر دعوته تأدى خبره إلى والى البلدة، ورفع إليه ما هم به من الخروج. فأمر بحبسه وتقيده، وهو القائل في الحبس قصيدته التي أولها (من المتقارب): أيا خدد الله ورد الخدود ... وقد قدود الحسان القدود ومنها استعطافه ذلك الأمير والتنصل مما قذف به: أمالك رقي، ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد دعوتك عند انقطاع الرجا ... ء، والموت منى كحبل الوريد دعوتك لما براني البلى ... وأوهن رجلي ثقل الحديد ومنها: وقد كان مشيهما في النعال ... فقد صار مشيهما في القيود وكنت من الناس في محفل ... فها أنا في محفل من قرود تعجل في وجوب الحدود ... وحدي قبل وجوب السجود! أي: إنما تجب الحدود على البالغ، وأنا صبي لم تجب على الصلاة بعد، ويجوز أن يكون قد صغر سنه وأمر نفسه عند الوالي، لأن من كان صبيًا لم يظن به اجتماع الناس إليه للشقاق والخلاف

1 / 32

ونم شعره في الحبس ما كتب به إلى صديق له قد كان أنفذ إليه مبرة (من المسرح): أهون بطول الثواء والتلف ... والسجن والقيد، يا أبا دلف غير اختيار قبلت برك بي ... والجوع يرضي الأسود بالجيف يشبه قول أبي عيينة (من مخلع البسط): ما أنت إلا كحلم ميت ... دعا لي إلى أكله اضطرار (رجع) كن أيها السجن كيف شئت فقد ... وطنت للموت نفس معترف لو كان سكناي فيك منقصة ... لم يكن الدرسا كن الصدف ويحكي أنه تنبأ في صباه، وفتن شرذمة بقوة أدبه، وحسن كلامه. وحكى أبو الفتح عثمان بن جني قال: سمعت أبا الطيب يقول: إنما لقبت بالمتنبي لقولي (من الخفيف): أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسمام العدا وغيظ الحسود أنا في أمة تداركها الله ... وغريب كصالح في ثمود وفي هذه القصيدة يقول: ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود ومازال في برد صباه إلى أن أخلق برد شبابه، وتضاعف عقود عمره، يدور حب الولاية والرياسة في رأسه، ويظهر ما يضمر من كامن وسواسه، في الخروج على السلطان، والاستظهار بالشجعان، والاستيلاء على بعض الأطراف، ويستكثر من التصريح بذلك في مثل قوله (من البسيط): لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم لأتركن وجوه الخيل ساهمة ... والحرب أقوم من ساق على قدم

1 / 33

(والطعن يحرقها والزجر يقلقها ... حتى كأن بها ضربا من اللمم قد كلمتها العوالي فهي كالحة ... كأنما الصاب مذرور على اللجم) بكل منصلت مازال منتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم ومن قوله (من الطويل): سأطلب حقي بالقنا ومشايخ ... كانهم من طول ما التثموا مرد ثقال إذا لاقوا، خفاف إذا دعوا ... كثير إذا شدوا، قليل إذا عدوا وطعن كأن الطعن لا طعن بعده ... وضرب كأن النار من حره برد إذا شئت حفت بي على كل سابح ... رجال كأن الموت في فمها شهد وقوله (من الطويل): ولا تحسبن المجد زقًا وقينة ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر وتضريب أعناق الملوك، وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر وتركك في الدنيا دويا كأنما ... تداول سمع المرء أنملة العشر وقوله (من البسيط): وإن عمرت جعلت الحرب والدة ... والسمهري أخا، والمشرفي أبا بكل أشعث يلقي الموت مبتسمًا ... حتى كأن له في قتله أربا قح يكاد صهيل الخيل يقذفه ... من سرجه مرحًا للعز أو طربًا الموت أعذرلي، والصبر أجمل بي، ... والبر أوسع، والدنيا لمن غلبا وكان كثيرًا ما يتجشم أسفارًا بعيدة أبعد من آماله، ويمشي في مناكب الأرض، ويطوي الناهل والمراحل، ولا زاد إلا من ضرب الحراب، على

1 / 34