المقامة الأولى وتعريف بالبدوية حكى سهيل بن عبادٍ قال: مللت الحضر، وملت إلى السفر. فامتطيت ناقة تسابق الرياح، وجعلت أخترق الهضاب والبسطاح. حتى خيم الغسق، وتصرم الشفق. فدفعت إلى خيمة مضروبة، ونار مشبوبة. فقلت: من يا ترى القوم النزول ههنا ... هل بهم الخوف أم الأمن لنا؟ قد كان عن هذا الطريق لي غنى وإذا رجلٌ من وراء الحجاب، قد استضحك وأجاب: إني ميمون بني الخزام ... وهذه ليلى ابنتي أمامي نعم وهذا رجب غلامي ... من رام أن يدخل في ذمامي يأمن من بوائق الأيام قال: فسكن مني ما جاش، من الجاش. ودخلت فإذا رجل

1 / 4

أشمط الناصية، يكتنفه الغلام والجارية. فحييت تحية ملتاح، وجثمت جثمة مرتاح. وبات الشيخ يطرفنا بحديث يشفي الأوام، ويشفي من السقام. إلى أن رق جلباب الظلماء، وانشق حجاب السماء، فنهضنا نهيم في تلك الهيماء. حتى إذا أشرفنا على فريق، يناوح الطريق. عرض لنا لصوص قد أطلقوا الأعنة، وأشرعوا الأسنة. فأخذ الشيخ القلق، وقال أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق. ولما التقت العين بالعين، على أدنى من قاب قوسين. قال: يا قوم هل أدلكم على تجارة، تقوم بحق الغارة؟ قالوا: وما عسى أن يكون ذاك؟ حياك الله وبياك! فقال: يا غلام اهبط بهم إلى مراعي الريف، وأنا أقف هنا أراعي كاللغيف. قال سهيل: فلما توارى بهم أوفض الشيخ على ناقته القلوص، حتى أتى الحي فنادى اللصوص. وطلب المراعي فانهالت في أثره الرجال، وإذا اللصوص قد ساقوا

1 / 5

قطعة من الجمال. فأطبقوا عليهم من كل جانب، وأخذوهم أسرى إلى المضارب. حتى إذا أثخنوهم شدوا الوثاق، وقد كادت أرواحهم تبلغ التراق. ثم أدخلونا إلى بيت طويل الدعائم، في صدره شيخ. كأنه قيس بن عاصم. فقال: أحسنت أيها النذير فسنوفي لك الكيل، ونعطيك ما لهؤلاء اللصوص من الأسلاب والخيل. فابتسم الشيخ من فوره، وقال: جدح جوين من سويق غيره. قال: قد رأيت ما لا يرى، فعند الصباح يحمد القوم السرى. ولما كان الغد أهاب بنا داعي الأمير، ونفحنا بصرة من الدنانير، فضممناها إلى أسلاب

1 / 6

اللصوص وخرجنا نجد المسير. ولما استوى الشيخ على القتب، أخذته هزة الطرب. فأنشأ يقول: أنا الخزامي سليل العرب ... أذهب بين الناس كل مذهب وألبس الجد ثياب اللعب ... وأستقي من كل برق خلب وأتقي باللطف كل مخلب ... وألتقي الرمح بلدن القصب ولا أبالي بالفتى المجرب ... لو أنه عمرو بن معدي كرب علي درع من نسيج الأدب ... تكل عنها ماضيات القضب ولي لسان من بقايا الحقب ... يقنص بالمكر أسود الهضب والصدق، إن ألقاك تحت العطب، ... لا خير فيه فاعتصم بالكذب بمثل هذا كان يوصيني أبي قال: فلما فرع من إنشاده، تزمل ببجاده. وقال: يا قوم اتبعوا من لا يسألكم أجرًا، ولا تستطيعون بدونه نصرًا. ثم انطلق بين أيدينا كالدليل، وهو يمزج الوخد بالذميل، إلى أن نشرت راية الأصيل. فنزلنا وارتبطنا الأنعام، وأضرمنا النار للطعام. وقال

1 / 7

الشيخ حتى دنا من ناقتي فحل العقال، وأخذ يتخطى ويتمطى ذات اليمين وذات الشمال. فنفرت الناقة في مجاهل تلك الأرض، وجعل يستوقفها زجرًا فتشتد في الركض. فبادرت أعدو إليها حتى استأنست من النفار، ورجعت بها أتنور تلك النار، وإذا الشيخ قد أخذ كل ما هناك وسار. فصفقت صفقت الأواه، وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم عمدت إلى عقال ناقتي المجفلة، وإذا طرس قد عقل به مكتوبًا فيه بعد البسملة: قل لسهيل: لست بالمغبون، ... لولاي ذقت غصة المنون فأنت والناقة في يميني ... ملك بحق ليس بالمنون لكن عفوت عنك كالمديون ... وهبته الدين لحسن الدين فقدم الشكر إلى ميمون! قال: فعجبت من أخلاقه، وأسفت على فراقه. ووددت على ما بي من الفاقة، ولو مكث واستتبع الناقة. المقامة الثانية وتعريف بالحجازية

1 / 8