[مقدمة] بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدمة الطبعة الثانية ١ لقد كان هذا الكتاب- كما قلت قبل في مقدمة الطبعة الأولى- ثمرة من ثمار كثيرة لابن قتيبة الدينَوَريّ أبى محمد عبد الله بن مسلم، وكانت تلك الثمار كلها تحمل طابع ذلك العصر الّذي عاش فيه ابن قتيبة، وهو الميل إلى التأليف الجامع لموضوعات مختلفة، ثم الاستطراد في كل موضوع، وكان مرد هذا لا شك إلى اتساع النقل إلى العربية، فلقد ترجمت في ذلك العصر، الّذي أظل ابن قتيبة، كثرة من الكتب عن اللغات الأخرى التي كان لها أثرها لا شك في ظهور مناهج جديدة في التأليف، كان منها هذا المنهج الجامع الّذي انتهجه ابن قتيبة كما انتهجه غيره من مؤلفي ذلك العصر، كالجاحظ، وابن عبد ربه. وكما تأثر كتّاب ذلك العصر بهذا تأثروا بشيء مثله، ولكنه كان له مظهر آخر، فلقد كان ذلك العصر عصر إرهاب وفوضى خرج الأمر فيه من يد الخلفاء إلى يد الموالي الأتراك، وأصبح هؤلاء الموالي هم الحاكمين حقّا، ولم تعد أمور الناس تجرى على طمأنينة وأمن، بل عاشوا حياة يسودها الفزع والخوف، الظّفر فيها لمن غلب. فلقد أصبح هؤلاء الأتراك حربا على الخلفاء، وهم الذين استجلبوا ليكونوا درعا لهم، فإذا هم يقتلون منهم من لم يستجب لما يطمعون فيه، وما كان طمعهم هذا لينتهي عند غاية، فلقد أخذوا يقتلون من غير الخلفاء من يحسون فيه الميل إليهم أو الوقوف إلى جانبهم. وأول ما كان لهم من عدوان منكر كان ذلك العدوان الّذي راح ضحيته

المقدمة / 1

المتوكل العباسي سنة ٢٤٧ هـ، وكان ابن قتيبة عندها قد جاوز الثلاثين بقليل، ثم إذا هو يعيش بعد هذا ليشهد هذه الفوضى تمتد وتستفحل ويرى بعينيه مقتل المستعين باللَّه سنة ٢٥٢ هـ، ثم مقتل المعتز باللَّه سنة ٢٥٥ هـ على أبشع صورة يدبرها قاتل لمقتول، فلقد دخل عليه الأتراك فأوسعوه ضربا وأحرقوا ثيابه ثم جروه برجليه إلى صحن الدار في العراء حيث الشمس المحرقة، وتركوه ملقى على الأرض يرفع رجلا ويضع أخرى من شدة أذى الحر. ومن بعد مصرع المعتز كان مصرع المهتدي باللَّه سنة ٢٥٦ هـ على يد الأتراك، ولقد شهده ابن قتيبة أيضا كما شهده غيره مما سبق. وكما كانت حياة الخلفاء كانت حياة الناس، وكما عاش الخلفاء على رهب وفزع عاش الناس على خوف وحذر لا يملكون أن يقولوا ولا أن يفصحوا، وكانت هذه الحياة الرهيبة المسكتة للألسن لها هذا الأثر الثاني الّذي أرادته، ولكنه كان أثرا ذا مظهر آخر كما قلت، مظهر يطوى تحته الخشية والتحرز، فلم يعد الشعراء يملكون النفوس الجريئة والعواطف المنطلقة، ولم يعد الكتّاب يملكون الأقلام المتحررة، من أجل ذلك خمدت في الشعر جذوته، ومن أجل ذلك التزم الكتّاب جانب الخشية والحذر. وقد لا نلمس ذلك واضحا مع جامعى الأخبار الأدبية، ولكنا نكاد نلمسه جليّا مع المؤرخين حين يتناولون تلك الحقبة التي عاشوها بالحديث عنها، فنرى ابن قتيبة، وهو الّذي عاش مع تلك الأحداث وأحس ألمها ومضاضتها، حين يترجم للمتوكل، ثم للمستعين باللَّه ثم للمعتز ثم للمهتدى، يوجز أخبارهم إيجازا غريبا فتكاد الترجمة لا تزيدا على السطر أو السطرين، ولا يعنينا فيها هذا الإيجاز وإنما يعنينا فيها ذلك الحديث العابر الفاتر الّذي يخلو من أية إشارة إلى ما كان، فهو لا يزيد في وصف مقتل كل منهم على كلمته المألوفة: «وقتل في سنة ...» وهذا الّذي خطه ابن قتيبة لنفسه خط مثله ابن حبيب لنفسه ولم يزد هو الآخر شيئا. هذا هو المظهر الّذي نعنيه، والّذي كان أثرا من آثار ذلك الإرهاب. والطريف أن ابن حبيب، وابن قتيبة من بعده، حين وجدا أنهما مضطران لهذا فيما وقع

المقدمة / 2

بين أيديهم وتحت أعينهم عالجوا ما قبل هذا مما لم يقع بين أيديهم وتحت أعينهم على الوتيرة نفسها حتى لا يقال إنهم أفاضوا في ناحية وأوجزوا في ناحية، وجعلوا الإيجاز في سوق الأحداث التاريخية كلها طابعهم العام حتى لا يؤخذ عليهم شيء. وهكذا كان ابن قتيبة في كتابه «المعارف» معبرا عن بيئته أصدق تعبير، عبر عنها في هذا المظهر الجامع حين فشت الكتب المترجمة تحمل مناهج جديدة، وعبّر عنها في ذلك التحرز حين كانت الخشية واجبة. وما ندري هل نلوم ابن قتيبة على وقوفه خائفا حذرا لا يملك الشجاعة في أن يعبر عما تحت حسه، ولا أن يطلق لقلمه العنان يصف ما يحدث بين يديه، أم نلتمس له فيها عذرا؟ وما ننكر أن ابن قتيبة كان حريصا على شيئين: حريصا على حياته، ثم حريصا على ألا يترك الناس من بعده يعيبون عليه خوفه وحذره. ولقد حقق لحرصه الأول ما أوحى به فأوجز هذا الإيجاز المخل، ثم حقق لحرصه الثاني ما يمليه عليه فجعل الإيجاز طابع الكتاب كله حتى لا يؤخذ عليه شيء. ولقد ظن بهذا الّذي فعل أنه نجا من اللوم، ولكنه قد فاته أن المؤرخ الّذي يسلك مثل هذا المسلك قل أن يفلت من تبعة ما فرط فيه، وإنا إن غفرنا له إيجازه فيما لم يشاهد، بحجة أن غيره سبقه إلى الكتابة فيه وأفاض، وأنه ليس عنده ما يزيد عليه، فبعيد أن نغفر له إيجازه فيما شاهد ووقع بين يديه، وكان هو أحد رواته الذين يعتمد عليهم في ذلك، مهما تكن الأحوال، ومهما تكن العواقب، وما بالعسير على الكاتب أن يحتال شيئا في سرد ما يحب فيبلغ الأمان الّذي يريد، دون أن يفرط في الواجب أو يحيد. ولكنا لا ندري على أية صورة كان ذلك الإرهاب، ولا على أية صورة كان موقف الناس منه، غير أنا نكاد ننتهي إلى أنه كان ملجما للألسنة كما قلنا، وأن كتاب المعارف كان صورة حقة لذلك في شقه التاريخي لا في شقه الأدبي، فهو إلى جانب ما فيه من إفاضة في المعرفة، جاء يمثل تلك الظاهرة الأخرى خير تمثيل، فأوجز الإيجاز كله، لذا كانت التفاتتى إليه، ولذا فكرت في نشره.

المقدمة / 3

٢ ومنذ نحو من أعوام ثمانية قدمت للمكتبة العربية هذا الكتاب «المعارف لابن قتيبة» في صورة محققة مدروسة، وكنت مسبوقا فيها بطبعتين. إحداهما في جوتنجن (سبتمبر سنة ١٨٥٠ م) بعناية المستشرق «أ. ف وستنفيلد» والثانية في القاهرة (سنة ١٩٣٤ م) . وكانت هاتان الطبعتان ينقصهما الكثير من مقومات التحقيق الحق، على الرغم مما بذل فيهما من جهد، إذ كانت ثمة مخطوطات لم يرجع إليها، كما كانتا تفتقران إلى مقدمة دارسة، وشروح مبينة، وتعقيبات موضحة، ثم فهارس جامعة شاملة. ولكن من الحق أن أذكر أن طبعة «جوتنجن» كانت أقرب الطبعتين إلى الكمال، بما التزمته من الرجوع إلى ما اعتمدت عليه من مخطوطات، وبما أضافته من كلمة قصيرة شارحة، وفهارس تعرض الرءوس لا الفروع. وكان هذا كله الّذي أحسست أن الكتاب ينقصه ليخرج في طبعة تتفق وقدره، مما حفزنى على الأخذ في تحقيقه لأستوفى ما لم يكن قد استوفى. وأظننى قد وفيت ذلك كله في طبعتى التي قدمتها للمكتبة العربية، فلم أترك مخطوطا لم أرجع إليه، ويسرت ما أمكنى التيسير على القارئ بعرض المقابلات وسرد الشروح والتعقيبات، وختمت الكتاب بفهارس بلغت أبوابها اثنى عشر بابا، تنتظمها صفحات تربى على المائة والخمسين، هذا إلى التقديم الوافي الّذي تناولت فيه البيئة التي نشأ فيها ابن قتيبة ومهدت لظهوره، ثم الحديث عن حياته الخاصة والعامة، ثم الحديث عن مؤلفاته، ثم الحديث عن هذا الكتاب- أعنى المعارف- وملابساته وما سبقه من نوعه وما لحقه، وما أفادته المكتبة العربية منه. ورأيت أن أفصل هناك بين الحواشي التي للمقابلات، وبين الحواشي التي للشروح والتعقيبات، فجعلت لهذه أرقامها المستقلة ولتلك أرقامها المستقلة، ثم فصلت بينهما فصلا يرفع اللبس، فجعلت أرقام الأولى بالإفرنجية وأرقام الثانية بالعربية.

المقدمة / 4

وذلك منهج رأيته ألزم للمحقق أن يأخذ به نفسه فيقدم النص خالصا بمقابلاته ومخالفاته ويجعل الشروح والتعقيبات في إثر ذلك مستقلة كما فعلت، ولقد رأيت المستشرقين يكتفون بإثبات المقابلات ولا يضيفون إليها شروحا وتعقيبات. ورأيت المنهج الشائع في الشرق المزج بين العملين، أي بين إثبات المقابلات وبين الشروح والتعليقات دون فصل بينهما. وما من شك في أن الأمرين مطلوبان، فنحن بإثبات المقابلات ملزمون، ثم نحن- أصحاب هذا التراث- نحس بعد هذا حاجة القارئ إلى تيسير وتوجيه وتبيين، من أجل ذلك جاوزنا الشق الّذي التزمه المستشرقون وأضفنا إليه تلك الزيادات الشارحة، ولكن ذلك يجب أن يكون على تلك الحال التي التزمتها من فصل بين الأمرين، حتى نجعل النص خالصا كما قلت والشروح بمعزل عن ذلك. وكنت في مقدمتي التي قدمت بها للكتاب في طبعته الأولى مسبوقا بمقدمات جاءت حول كتب لابن قتيبة طبعت طبعات محققة- مثل عيون الأخبار، ومشكل القرآن، والميسر والقداح- تضمنت تراجم لابن قتيبة. وأشق ما يحسه الآخذ في الترجمة لمؤلف كتاب أن يجد نفسه مسبوقا إلى ذلك بتراجم لمعاصرين نهضوا بمثل ما ينهض به لهذا المؤلف في كتب أخرى له، إذ عليه عند ذلك أن يمعن في البحث ويستقصى بعد ما استقصوا، وفرق بين أن تواجه العمل لم يسبقك إليه غيرك فتجد السبل كلها في يديك وتجد نفسك بين يدي مادة لم تمتد إليها يد فتشكل فيها حيث تشاء، وبين أن تواجه عملا قد سبقك إليه غيرك فتجد مادته قد استنفدت استقراء، وتجد أن عليك أن تنقب وتمعن في التنقيب لعل ثمة شيئا فات من سبقوك، كما تجد أن عليك أن تنظر في أعمالهم نظرة شاملة فاحصة لعل ثمة أمرا لا يستقيم لرأيك. وهكذا كان لزاما عليّ، وأنا أترجم لابن قتيبة، أن أحمل هذا العبء في الاستقصاء، وأظننى قد وفيت الأمر حقه، وقدمت مقدمة فيها هذا الشمول الّذي أردته، وفيها هذا الاستقصاء الّذي وفقت إليه، وفيها هذا التعقب لمن سبقوني. ولقد كان من أهم ما عرضت له في مقدمتي وأفضت فيه، ذاك الّذي أثير قديما- ولا يزال يثار- حول ما بين هذا الكتاب «المعارف»، وبين كتاب «المحبر» لابن

المقدمة / 5