شهريار‏

شهرزاد‏

الشيخ‏

مقهى الأمراء‏

صنعاء الجمالي‏

جمصة البلطي‏

الحمال‏

نور الدين ودنيازاد‏

مغامرات عجر الحلاق‏

أنيس الجليس‏

قوت القلوب‏

علاء الدين أبو الشامات‏

السلطان‏

طاقية الإخفاء‏

معروف الإسكافي‏

السندباد‏

البكاءون‏

شهريار‏

شهرزاد‏

الشيخ‏

مقهى الأمراء‏

صنعاء الجمالي‏

جمصة البلطي‏

الحمال‏

نور الدين ودنيازاد‏

مغامرات عجر الحلاق‏

أنيس الجليس‏

قوت القلوب‏

علاء الدين أبو الشامات‏

السلطان‏

طاقية الإخفاء‏

معروف الإسكافي‏

السندباد‏

البكاءون‏

ليالي ألف ليلة

ليالي ألف ليلة

تأليف

نجيب محفوظ

شهريار

عقب صلاة الفجر، وسحب الظلام صامدة أمام دفقة الضياء المتوثبة، دعي الوزير دندان إلى مقابلة السلطان شهريار .. تلاشت رزانة دندان، خفق قلب الأبوة بين جوانحه، غمغم وهو يرتدي ملابسه: «الآن تقرر المصير .. مصيرك يا شهرزاد!»

مضى في الطريق الصاعد إلى الجبل على برذون يتبعه نفر من الحراس ويتقدمه حامل مشعل في جو مشعشع بالندى وبرودة مستأنسة .. ثلاثة أعوام مضت بين الخوف والرجاء، بين الموت والأمل .. مضت في رواية الحكايات، وبفضل الحكايات امتد الأجل بشهرزاد ثلاثة أعوام .. غير أن للحكايات نهاية ككل شيء، وقد انتهت أمس، فأي قدر يرصدك يا ابنتي الحبيبة؟!

دخل القصر الرابض فوق الجبل .. اقتاده الحاجب إلى شرفة خلفية تطل على الحديقة المترامية .. بدا شهريار في مجلسه على ضوء قنديل واحد، سافر الرأس، غزير الشعر، أسوده، تلتمع عيناه في وجهه الطويل، وتفترش أعلى صدره لحية عريضة .. قبل دندان الأرض بين يديه .. داخلته رهبة - رغم طول المعاشرة - لرجل حفل تاريخه بالصرامة والقسوة ودماء الأبرياء .. وأشار السلطان بإطفاء القنديل الوحيد، فساد الظلام، ولاحت بوضوح نسبي أشباح الأشجار الفواحة .. تمتم شهريار: ليكن الظلام كي أرصد انبثاق الضياء.

تفاءل دندان شيئا ما وقال: متعك الله يا مولاي بأطيب ما في الليل والنهار.

صمت .. لم يستطع دندان أن يستشف ما وراء وجهه من رضا أو سخط حتى قال بهدوء: اقتضت مشيئتنا أن تبقى شهرزاد زوجة لنا.

وثب دندان واقفا، ثم انحنى على يد السلطان فلثمها بامتنان، ودمع الشكر يتحرك في أعماقه. - فليؤيد الله سلطانك إلى أبد الآبدين.

قال السلطان وكأنما تذكر ضحاياه: العدل له وسائل متباينة؛ منها السيف، ومنها العفو، ولله حكمته. - سدد الله خطاك إلى حكمته يا مولاي.

فقال بارتياح: حكاياتها السحر الحلال، تفتحت عن عوالم تدعو للتأمل.

ثمل الوزير بفرحته صامتا، فقال السلطان: وأنجبت لي وليدا فسكنت عواصف النفس الهائجة. - لتهنأ يا مولاي بالسعادة في الدارين.

تمتم السلطان باقتضاب: السعادة!

قلق دندان لسبب غامض .. ارتفع صياح الديكة .. قال السلطان وكأنما يخاطب نفسه: الوجود أغمض ما في الوجود!

غير أن نبرته تخففت من الحيرة وهو يقول: انظر!

نظر دندان نحو الأفق فرآه يتورد بالسرور المقدس.

شهرزاد

استأذن دندان في مقابلة ابنته شهرزاد .. قادته قهرمانة إلى حجرة الورد ذات السجادة والستائر الموردة .. ذات الدواوين والوسائد المشربة بالحمرة .. هناك استقبلته شهرزاد وأختها دنيازاد .. قال الرجل: ينوء ظهري بالسعادة، فالحمد لله رب العالمين.

أجلسته شهرزاد إلى جانبها على حين انسحبت دنيازاد إلى مقصورتها .. قالت شهرزاد: نجوت من المصير الدامي برحمة من ربنا.

فغمغم الرجل شاكرا، فقالت بمرارة: ليرحم الله العذارى البريئات. - ما أحكمك وما أشجعك!

فقالت هامسة: ولكنك تعلم يا أبي أني تعيسة! - حذار يا ابنتي؛ فإن الخواطر تتجسد في القصور وتنطق!

فقالت بأسى: ضحيت بنفسي لأوقف شلال الدم.

فتمتم: لله حكمته.

فقالت بحنق: وللشيطان أولياؤه.

قال بتوسل: إنه يحبك يا شهرزاد. - الكبر والحب لا يجتمعان في قلب، إنه يحب ذاته أولا وأخيرا. - للحب معجزاته أيضا. - كلما اقترب مني تنشقت رائحة الدم. - السلطان ليس كبقية البشر. - لكن الجريمة هي الجريمة .. كم من عذراء قتل، كم من تقي ورع أهلك، لم يبق في المملكة إلا المنافقون.

فقال بحزن: ثقتي بالله لم تتزعزع قط. - أما أنا فأعرف أن مقامي في الصبر كما علمني الشيخ الأكبر.

فقال دندان باسما: نعم الأستاذ ونعم التلميذة.

الشيخ

يقيم الشيخ عبد الله البلخي في دار بسيطة بالحي القديم .. تنطبع نظرته الحالمة في قلوب الكثيرين من تلاميذه القدامى والمحدثين، وتنطبع بعمق أبدي في قلوب المريدين .. العبادة الكاملة عنده مقدمة ليس إلا؛ فهو شيخ الطريق، وقد بلغ منه مقام الحب والرضا .. عندما غادر خلوته إلى حجرة الاستقبال أقبلت عليه زبيدة ابنته المراهقة والوحيدة، وقالت بسرور: المدينة فرحانة يا أبي.

فتساءل دون مبالاة: ألم يصل بعد الطبيب عبد القادر المهيني؟ - لعله في الطريق يا أبي، لكن المدينة فرحانة؛ لأن السلطان رضي بشهرزاد زوجة له، وعدل عن سفك الدماء.

لا شيء يخرجه من هدوئه .. الرضا في قلبه لا ينقص ولا يزيد .. وزبيدة ابنة وتلميذة ولكنها ما زالت في أول الطريق .. وسمعت على الباب طرقا فمضت قائلة: جاء صديقك لزيارته المعتادة.

دخل الطبيب عبد القادر المهيني، فتعانقا، ثم اقتعد شلتة إلى جانب صديقه .. ودارت المناجاة كالمعتاد على ضوء مصباح في كوة .. قال عبد القادر: عرفت - لا شك - الخبر السعيد.

فقال باسما: عرفت ما يهمني معرفته.

فقال الطبيب: الحناجر تدعو لشهرزاد بينا أنك أنت صاحب الفضل الأول.

فقال بعتاب: الفضل للمحبوب وحده. - إني مؤمن أيضا، ولكني أتابع المقدمات والنتائج، لولا أنها تتلمذت على يديك صبية ما كانت شهرزاد .. لولا كلماتك ما وجدت من الحكايات ما تصرف به السلطان عن سفك الدماء.

قال الشيخ: يا صديقي، لا عيب فيك إلا أنك تغالي في تسليمك للعقل. - إنه زينة الإنسان. - من العقل أن نعرف حدود العقل.

فقال عبد القادر: من المؤمنين من يرون أنه بلا حدود. - لقد فشلت في جذب كثيرين إلى الطريق، أنت على رأسهم. - الناس مساكين يا مولاي، في حاجة إلى من يتعامل معهم ويبصرهم بحياتهم.

فقال الشيخ بثقة: رب روح طاهرة تنقذ أمة كاملة.

فتساءل الطبيب بامتعاض: علي السلولي حاكم حينا، كيف تنقذ الحي من فساده؟!

فقال بأسى: لكن المجتهدين مراتب.

فقال بإصرار: إني طبيب، وما يصلح الدنيا هو ما يهمني.

فربت على يده برقة، فابتسم الطبيب وقال: ولكنك الخير والبركة.

فقال الشيخ: أحمد الله فلا السرور يستخفني، ولا الحزن يلمسني. - أما أنا فحزين يا صديقي العزيز .. كلما تذكرت الأتقياء الذين استشهدوا لقول الحق، واحتجاجا على سفك الدماء ونهب الأموال ازددت حزنا!

قال الشيخ: شد ما تأسرنا الأشياء!

فقال عبد القادر في رثاء: استشهد الشرفاء الأتقياء ، أسفي عليك يا مدينتي التي لا يتسلط عليك اليوم إلا المنافقون، لم يا مولاي لا يبقى في المزاود إلا شر البقر؟! - ما أكثر عشاق الأشياء الخسيسة!

وترامت إليهما من أطراف الحي أصوات زمر وطبل، فأدركا أن الأهالي يحتفلون بالخبر السعيد .. عند ذاك قرر الطبيب أن يذهب إلى مقهى الأمراء.

مقهى الأمراء

يتوسط المقهى الجانب الأيمن من الشارع التجاري الكبير .. وهو مربع الأركان واسع الساحة، يفتح مدخله على الطريق العام، وتطل نوافذه على حوار جانبية .. تقوم في جوانبه الأرائك للسادة وتستقر في دائرة من وسطه الشلت للعامة .. يقدم مشروبات شتى ساخنة وباردة تبعا للفصول، وبه أيضا أجود صنوف المنزول والحشيش .. تشهد لياليه كثيرين من السادة أمثال صنعان الجمالي وابنه فاضل، وحمدان طنيشة وكرم الأصيل وسحلول وإبراهيم العطار وابنه حسن، وجليل البزاز ونور الدين وشملول الأحدب .. كما تشهد كثيرين من العامة أمثال رجب الحمال وزميله السندباد وعجر الحلاق وابنه علاء الدين وإبراهيم السقاء ومعروف الإسكافي .. غلب المرح على الجميع في تلك الليلة السعيدة، وسرعان ما انضم الطبيب عبد القادر المهيني إلى مجلس يضم إبراهيم العطار وكرم الأصيل صاحب الملايين وسحلول تاجر المزادات والتحف .. أفاقوا ليلتهم من خوف متسلط، واطمأن كل أب لعذراء جميلة، فوعده النوم بأحلام تخلو من الأشباح المخيفة .. وترددت أصوات. - الفاتحة على أرواح الضحايا ... - من العذارى والرجال الأتقياء. - وداعا للدموع. - الحمد والشكر لله رب العالمين. - وطول العمر لدرة النساء شهرزاد. - شكرا للحكايات الجميلة. - ما هي إلا رحمة الله حلت.

تواصل المرح والحديث حتى علا صوت رجب الحمال متسائلا: أمجنون أنت يا سندباد؟

فسأل عجر الشغوف بدس أنفه في كل شيء: ماذا جننه في هذه الليلة السعيدة؟ - يبدو أنه كره عمله وضاق بالمدينة، لا يريد أن يكون حمالا بعد اليوم. - أيطمع في أن يتولى إمارة الحي؟ - ذهب إلى ربان سفينة وما زال به حتى قبله خادما بها!

فقال إبراهيم السقاء: مجنون حقا من يعرض عن رزق مضمون على البر ليجري وراء رزق مجهول فوق الماء.

فقال معروف الإسكافي: الماء الذي يستمد غذاءه من الجثث منذ قديم الزمان.

فقال السندباد بتحد: ضجرت من الأزقة والحواري، ضجرت من حمل الأثاث والنقل، لا أمل في مشهد جديد، هناك حياة أخرى؛ يتصل النهر بالبحر، يتوغل البحر في المجهول، يتمخض المجهول عن جزر وجبال وأحياء وملائكة وشياطين، ثمة نداء عجيب لا يقاوم، قلت لنفسي جرب حظك يا سندباد وألق بذاتك في أحضان الغيب.

فقال نور الدين بياع العطور: الحركة بركة.

فقال السندباد: تحية جميلة من زميل الصبا.

فسأل عجر الحلاق ساخرا: هل تتمسح في السادة يا حمال؟

فقال نور الدين: جلسنا جنبا لجنب في الزاوية نتلقى الدرس على يد مولانا عبد الله البلخي.

فقال السندباد: وقنعت بمبادئ القراءة والدين شأن الكثيرين.

فقال عجر مواصلا سخريته: لن ينقص بذهابك البر ولن يزيد البحر.

عند ذلك قال له الطبيب عبد القادر المهيني: اذهب مصحوبا برعاية الله، ولكن اشحذ حواسك، ليتك تسجل ما يصادفك من بديع المشاهدات؛ فقد أمرنا الله بذلك. متى تسافر؟

فقال متمتما: صباح الغد، أستودعكم الله الحي الباقي.

فقال رجب الحمال زميله: ما أحزنني لفراقك يا سندباد!

صنعاء الجمالي

1

الزمن يدق دقة خاصة في باطنه فيوقظه .. مد بصره نحو نافذة قريبة من الفراش فرأى من خلال خصاصها المدينة مسربلة في الظلام .. النوم سلبها الحركة والصوت فاستكنت في صمت مفعم بهدوء كوني .. انفصل من جسد أم السعد الدفيء هابطا إلى الأرض .. انغرزت قدماه في زغب سجادة فارسية .. مد ذراعه ملتمسا موقع الشمعدان، فارتطمت بكثافة صلبة فجفل متسائلا: ما هذا؟!

جاء صوت غريب، لم يطرق أذنيه مثله من قبل .. لا صوت إنسان هو، ولا صوت حيوان .. اجتاح حواسه، وكأنما انتشر في المدينة كلها .. ونطق الصوت في غضب: دست رأسي يا أعمى؟!

صرعه الخوف .. ما به من الفروسية ذرة .. ما يجيد إلا البيع والشراء والمساومة .. أكد الصوت قائلا: دست رأسي يا جاهل.

قال بنبرات مرتجفة: من أنت؟ - أنا قمقام. - قمقام؟! - عفريت من أهل المدينة.

أوشك أن يتلاشى من الرعب فانعقد لسانه. - آلمتني فحق عليك العقاب.

عجز لسانه عن أي دفاع، فواصل قمقام حديثه: سمعتك أمس يا منافق وأنت تقول إن الموت علينا حق، فما بالك تبول من الخوف؟!

نطق أخيرا بضراعة: ارحمني، أنا رب عائلة. - لن يحيق عقابي إلا بك أنت. - ما فكرت لحظة واحدة في التعرض لك. - يا لكم من مخلوقات مزعجة! لا تكفون عن الطمع في استعبادنا لتحقيق أغراضكم الدنيئة .. ألم يشبع نهمكم باستعباد الضعفاء منكم؟ - أقسم لك ...

فقاطعه: لا ثقة لي في قسم تاجر.

فقال: أسألك الرحمة والعفو. - أي سبب يدعوني لذلك؟

فقال بلهفة: قلبك الكبير. - لا تحاول خداعي كما تخدع زبائنك. - افعلها لوجه الله. - لا رحمة بلا ثمن، ولا عفو بلا ثمن.

فشرق بالأمل المباغت فقال بحرارة: إني أفعل ما تشاء. - حقا؟

فقال بلهفة: بكل ما أملك من قوة.

فقال بهدوء مخيف: اقتل علي السلولي.

غرقت الفرحة في خيبة غير متوقعة، كسلعة وردت بعد أهوال من وراء البحار، ثم تبين عند الفحص فسادها .. تساءل بذهول: علي السلولي حاكم حينا؟ - دون غيره. - لكنه حاكم، ويقيم في دار السعادة المحروسة، وما أنا إلا تاجر.

فهتف: إذن فلا رحمة ولا عفو. - سيدي .. لم لا تقتله بنفسك؟

قال بحنق: استأنسني بسحر أسود، وهو يستعين بي في قضاء مآرب لا يرضى عنها ضميري. - لكنك قوة تفوق السحر الأسود! - نحن بعد نخضع لقوانين معينة، دع المناقشة، لك أن تقبل أو أن ترفض.

قال صنعان بحرارة: أليس لك رغبات أخرى؟ لدي مال موفور وسلع من الهند والصين. - لا تبدد الوقت سدى أيها الأحمق.

اشتد به الإغراء من جديد فنطق به اليأس قائلا: إني طوع أمرك. - حذار أن تحاول خداعي. - سلمت الأمر لقدري. - ستكون في قبضتي ولو أويت إلى جبال قاف.

عند ذاك شعر صنعان بألم حاد في ساعده فصرخ صرخة جرفت أعماقه.

2

فتح صنعان عينيه على صوت أم السعد وهي تقول «ماذا أخرك في النوم؟» .. أشعلت الشمعدان فجعل ينظر فيما حولها بذهول .. إن يكن حلما فما له يمتلئ به أكثر من اليقظة نفسها؟! .. إنه حي لدرجة تجلب الذعر .. رغم ذلك ابتل ريقه برحيق النجاة فهيمن عليه هدوء وامتنان .. رد العالم إلى نظامه بعد خراب شامل ونعم بعذوبة الحياة بعد عذاب الجحيم .. تنهد قائلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

نظرت أم السعد نحوه وهي تدس خصلات مبعثرة من شعرها داخل منديل رأسها وقد طمس النوم على رونق وجهها بطبقة زيتية، فقال ثملا بالنجاة: الحمد لله الذي أنقذني من كرب عظيم. - الله يحفظنا يا أبا فاضل. - حلم فظيع يا أم السعد. - خيرا إن شاء الله.

وقادته إلى الحمام فأشعلت مصباحا في كوة، وتبعها وهو يقول: قضيت شطرا من الليل مع عفريت. - كيف وأنت الرجل التقي؟ - سأقصه على الشيخ عبد الله البلخي، اذهبي الآن بسلام لأتوضأ.

راح يتوضأ .. عندما هم بغسل ساعده اليسرى توقف مرتعدا. - رباه!

جعل ينظر بذهول إلى جرح كالعضة .. ليس وهما ما يرى؛ فمن مغارز الأنياب يبض الدم.

دار رأسه وغمغم: هذا هو المستحيل.

فزع قائما وهرول نحو المطبخ، تساءلت أم السعد وهي توقد الكانون: توضأت؟

مد إليها ساعده قائلا: انظري!

شهقت المرأة متسائلة: ماذا عضك؟ - لا أدري.

فاستحوذ عليها القلق وقالت: نمت على خير حال! - لا أدري ماذا حصل. - لو حدثت في النهار ...

قاطعها: لم تحدث في النهار.

تبادلا نظرة قلقة مضطربة بالخواطر المكتومة .. قالت بفزع: حدثني عن الحلم.

فقال بضيق: قلت إنه عفريت .. ولكنه حلم.

تبادلا النظرة مرة أخرى .. وتبادلا معاناة القلق .. قالت أم السعد بحذر: ليكن الأمر سرا.

أدرك سر مخاوفها المتجاوبة مع مخاوفه .. إذا جرى ذكر العفريت فلا يدري ماذا يحيق بسمعته كتاجر غدا، ولا ماذا تتعرض له سمعة كريمته حسنية وابنه فاضل، قد يلد الحلم خرابا شاملا .. ثم إنه ليس على يقين من شيء .. قالت أم السعد: الحلم حلم .. وسر الجرح يعلمه الله وحده.

فقال بيأس: هذا ما يجب التسليم به. - المهم الآن أن تبادر إلى العلاج، فاذهب إلى صديقك إبراهيم العطار.

كيف يهتدي إلى الحقيقة؟ .. أرهقه القلق حتى أحنقه فجاش بالغضب .. شعر بأنه يمضي من سيئ إلى أسوأ.. وجدانه جميعه يشحن بالغضب والحنق، وطبعه يسوء؛ فكأنه يخلق من جديد على حال تناقض دماثته القديمة الراسخة، ولم يعد يطيق نظرات المرأة، فكره نظراتها ومقت خواطرها ووجد رغبة في تحطيم كل قائم .. وفي غفلة من ذاته الضائعة طعنها بنظرة غاضبة حانقة مستفزة كأنما هي المسئولة عن محنته، ثم تحول عنها ذاهبا وهي تغمغم: ليس هذا بصنعان الذي كان!

وجد في الصالة فاضل وحسنية على ضوء كاب نضحت به ثقوب المشربية .. ارتسم في وجهيهما انزعاج دل على ارتفاع صوته الهائج، فازداد غضبا، وصاح بهما بلا سبب وعلى غير عادة: اغربا عن وجهي.

رد باب حجرته وراءه وراح يتفحص ساعده .. لحق به فاضل بشجاعة .. قال بقلق: لعلك بخير يا أبي.

فقال له بفظاظة: دعني وحدي. - كلب عضك؟ - من قال لك ذلك؟ - أمي.

أدرك حكمتها في إعلان ذلك فرضي، ولكن حاله لم تتحسن .. قال: أمر تافه، إني بخير، ولكن دعني وحدي. - لا بد من الذهاب إلى العطار.

فقال بضيق: لا حاجة بي إلى من يذكرني بذلك.

في الخارج قال فاضل لحسنية: شد ما تغير أبي!

3

غادر صنعان الجمالي داره دون صلاة لأول مرة في حياته مذ صار صبيا .. ذهب من توه إلى دكان إبراهيم العطار .. صديق قديم وجار في الشارع التجاري .. ولما رأى العطار ساعده قال متعجبا: أي كلب هذا؟! ولكن ما أكثر الكلاب الضالة!

وعكف على انتخاب جملة من الأعشاب، وهو يقول: عندي وصفة لا تخيب.

غلى الأعشاب حتى ترسبت مادة لزجة .. غسل الجرح بماء الورد .. غطاه بالمادة وبسطها عليه بملعقة خشبية، ثم عصب الساعد بشاش دمشقي وهو يتمتم: بالشفاء إن شاء الله.

وإذا بصنعان يقول رغما عنه: أو فليفعل الشيطان ما يريد.

تفرس إبراهيم العطار في وجه صاحبه المحتقن فعجب من تغيره وقال: لا تدع جرحا تافها ينال من طبعك الحلو.

فمضى مكفهر الوجه وهو يقول: لا تأمن لهذه الدنيا يا إبراهيم.

ما أشد جزعه! .. كأنما اغتسل بماء شطة حامية .. الشمس حارة غليظة .. وجوه العباد كئيبة .. وكان فاضل قد سبقه إلى الدكان فاستقبله بابتسامة مشرقة ضاعفت من غيظه .. لعن الجو رغم ارتياحه المعروف لجميع الأجواء .. لا يكاد يرد تحية .. ولا يرحب بأحد .. لا يستبشر بكلمة أو وجه .. لا يضحك لدعابة .. لا يتعظ بعبور جنازة .. لا يسره وجه مليح .. ماذا جرى؟ ضاعف فاضل من نشاطه ليحول ما أمكن بين أبيه والزبائن .. وأكثر من زبون سأل فاضل همسا: ما بال أبيك اليوم؟

فيقول الفتى بامتعاض: به وعكة، لا أراك الله من سوء.

4

سرعان ما تكشف حاله لرواد مقهى الأمراء .. يقصدهم متجهما، يجلس صامتا، أو يحاور محاورة الشارد .. كف عن تعليقاته الضاحكة .. يضجر سريعا فيغادر المقهى .. يقول إبراهيم العطار: عضه كلب متوحش.

فيقول جليل البزاز: لقد فقدناه تماما.

ويقول كرم الأصيل صاحب الملايين وذو وجه القرد: حاله التجارية مزدهرة جدا.

فيقول الطبيب عبد القادر المهيني: قيمة المال تتبخر عند المرض.

فيقول عجر الحلاق الوحيد بين الجالسين على الأرض الذي يدس نفسه أحيانا في أحاديث السادة، يقول متفلسفا: ما الإنسان؟ .. عضة كلب أو قرصة ذبابة.

ولكن فاضل صنعان صاح به: أبي بخير، ما هي إلا وعكة تزول قبل شروق الصبح! •••

لكنه توغل في حال يتعذر الهيمنة عليها .. وفي ليلة التهم من المنزول قدرا مجنونا وغادر المقهى متوثبا لاقتحام المجهول .. كره الذهاب إلى داره فراح يتخبط في الظلام مشعث العقل والإرادة تسوقه أخيلة معربدة .. تمنى فعلا يمتص توتره الثائر ويريحه من العذاب .. وتذكر نساء من أهله شبعن موتا فتمثلن له عاريات في أوضاع جنسية تطفح بالإغراء فأسف على أنه لم ينل من إحداهن وطرا .. ومر بعطفة الشيخ عبد الله البلخي، ففكر لحظة في زيارته والاعتراف بين يديه بما وقع له ولكنه أسرع مبتعدا .. وعلى ضوء مصباح مدلى من هامة أحد أبواب الدور رأى بنتا في العاشرة ماضية في طريقها تحمل بين يديها سلطانية .. اندفع نحوها معترضا سبيلها متسائلا: أين تذهبين يا عروس؟

فقالت ببراءة: راجعة لأمي.

فغاص في الظلام حتى فقد البصر، وقال تعالي أريك شيئا طريفا.

حملها بين ذراعيه حتى اندلق ماء المخلل على جبته الحريرية، ومضى بها إلى ما تحت سلم الكتاب .. حارت البنت في أمر حنانه الغامض، لم ترتح إليه، وقالت متشكية: أمي تنتظر.

لكنه أثار حب استطلاعها بقدر ما أثار مخاوفها .. أغراها عمره - الذي ذكرها بأبيها - بنوع من الاطمئنان .. خالط ذلك قلق مجهول، وتوقع لحلم عجيب .. وندت عنها صرخة باكية تمزق لها وجدانه، وبعثت في مخيلته المظلمة أطيافا مرعبة، فسرعان ما كتم فاها براحته المرتعشة .. لطمته إفاقة مباغتة، فعاد إلى سطح الأرض وهمس متوسلا: لا تبكي .. لا تخافي.

وزحف اليأس حتى قوض أركان العالم .. ومن الخراب الشامل تناهى إليه وقع أقدام تقترب .. وبسرعة قبض على عنقها الرقيق بيدين غريبتين عنه، وتردى في الهاوية كوحش كاسر زلت قدمه .. أدرك أنه انتهى .. انتبه إلى صوت ينادي: بسيمة .. بنت يا بسيمة.

قال لنفسه في يأس كامل: لا مفر.

وضح الآن أن الأقدام تقترب من مكمنه .. وضوء فانوس يتخايل .. دفعته رغبة للخروج حاملا الجثة .. وإذا بوجود ثقيل يقتحم وجوده المتهافت فاقتحمته ذكرى الحلم .. وسمع الصوت الذي سمعه منذ يومين يتساءل: أهذا ما تعاهدنا عليه؟

قال مستسلما: أنت حقيقة إذن ولست حلما! - أنت مجنون ولا ريب. - أوافق على ذلك ولكنك أنت السبب!

فقال الصوت بغيظ: ما طالبتك بشر قط.

فقال بحرارة: لا وقت للمناقشة، أنقذني لأفي لك بما تعاهدنا عليه. - هذا ما جئت من أجله، ولكنك لا تفهم.

شعر بأنه يتحرك في فراغ في عالم شديد الصمت حتى سمع الصوت مرة أخرى: لن يعثر لك أحد على أثر، فتح عينيك تر أنك واقف أمام باب دارك .. ادخل آمنا، إني منتظر.

5

سيطر صنعان على ذاته بقوة خارقة، لم تشعر أم السعد بأن حاله قد ساءت أكثر .. اختفى وراء جفنيه في الظلام وراح يتذكر ما فعله .. إنه شخص آخر .. القاتل المغتصب شخص آخر .. نفسه تتمخض عن كائنات وحشية لا عهد له بها .. الآن يتجرد من ماضيه ويطوي آماله ويقدم نفسه للمجهول .. لم ينم ولم تند عنه حركة تنم عن أرقه .. في الصباح الباكر ترامى إليه صوت نعي .. غابت أم السعد ساعة ثم رجعت وهي تقول: لك الله يا أم بسيمة.

غض بصره متسائلا: ماذا جرى؟ - ماذا حدث للناس يا أبا فاضل؟ البنت اغتصبت وقتلت تحت سلم الكتاب، طفلة يا ربي ولكن تحت جلد بعض الآدميين وحوشا مفترسة.

حنى رأسه حتى تشعثت لحيته فوق صدره وتمتم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. - هؤلاء الوحوش لا يعرفون ربا ولا رسولا.

وأجهشت المرأة بالبكاء.

جعل يسائل نفسه أهو العفريت؟ .. أهو المنزول؟ .. أهو صنعان الجمالي؟!

6

خواطر الحي كله هائجة .. الجريمة حديث الحي التجاري كله .. قال له إبراهيم العطار وهو يجدد له الدواء: الجرح لم يندمل ولكن زال خطره.

ثم وهو يلف ساعده بالشاش: سمعت بالجريمة؟

فقال بامتعاض: أعوذ بالله. - المجرم ليس آدميا، أبناؤنا يتزوجون في حال بلوغهم! - إنه مجنون ولا شك. - أو إنه أحد الصعاليك العاجزين عن الزواج. إنهم يزحمون الطرقات كالكلاب الضالة. - كثيرون يرددون ذلك.

فتساءل العطار متهكما: ماذا يفعل علي السلولي في دار الإمارة؟

ارتجف لدى ذكرى الاسم، وتذكر العهد المعلق كالسيف فوق رأسه، ولكنه جاراه قائلا: مشغول بمصالحه الخاصة وإحصاء الهدايا والرشاوى.

فقال العطار: فضله علينا نحن التجار غير منكور، ولكن عليه أن يتذكر واجبه الأصلي ليبقى لنا.

فذهب وهو يقول: لا تأمن لهذه الدنيا يا إبراهيم.

7

علم حاكم الحي علي السلولي بما يقال عن الأمن من كاتم سره بطيشة مرجان .. خشي أن تترامى الأقوال إلى الوزير دندان فيرفعها إلى السلطان، فاستدعى كبير الشرطة جمصة البلطي وقال له: هل أتاك ما يقال على الأمن في عهدي؟

لم يتغير هدوء كبير الشرطة الباطني لاطلاعه على أسرار رئيسه وانحرافاته وقال: عفوا يا سيدي الحاكم، ما أهملت ولا قصرت في بث العيون، ولكن الجاني لم يترك أثرا، لم نعثر على شاهد واحد، وقد حققت بنفسي مع عشرات وعشرات من الصعاليك والمتسولين، ولكنها جريمة غامضة لم أعرف لها مثيلا من قبل.

فصاح به: يا لك من جاهل! اقبض على جميع الصعاليك والمتسولين، وإنك خبير بوسائل التحقيق الفعالة.

فقال جمصة بحذر: ليس لدينا من السجون ما يتسع لهم.

فقال الحاكم محنقا: أي سجون يا هذا؟! أتريد أن تلزم بيت المال بإطعامهم؟، سقهم إلى الخلاء، استعن بالجند، وائتني بالمجرم قبل جثوم الليل.

8

انقض رجال الشرطة على الخرابات يقبضون على المتسولين والصعاليك، ثم يسوقونهم جماعات إلى الخلاء .. لم تجد شكوى ولا قسم ولم يستثن الشيوخ .. واستعمل معهم العنف حتى جأروا بالاستغاثة بالله ورسوله وآل البيت .. وراح صنعان الجمالي يتابع الأنباء بذهول وقلق .. إنه الجاني ما في ذلك من شك، ولكنه يمضي مطلق السراح مجللا بالوقار .. مئات من الأبرياء يتعذبون بفعلته النكراء، فكيف صار محور هذا الشقاء كله؟! .. وثمة مجهول يتربص به يهون بالقياس إليه جميع ما سلف .. وهو ضائع تماما ومستسلم بلا شروط .. أما صنعان القديم فقد مات واندثر .. لم يبق منه إلا ذاكرة حائرة تجتز ذكريات كالأوهام .. وانتبه على ضجة تجتاح الشارع التجاري .. ها هو علي السلولي حاكم الحي يخترق الطريق على رأس كوكبة من الفرسان .. إنه يذكر الناس بقوة الحاكم ويقظته ويتحدى البلبلة .. مضى يرد تحيات التجار عن يمين وشمال .. هذا هو الرجل الذي تعهد بقتله .. فاض قلبه بالخوف والمقت .. إنه سر عذابه .. ووقع الاختيار عليه هو ليحرر العفريت من سحره الأسود! .. هو العفريت دون سواه .. نجاته رهن بالقضاء عليه .. تسمرت عيناه في وجهه الغامق الريان ولحيته المدببة وجسمه المائل إلى القصر .. وعندما مر أمام دكان إبراهيم العطار هرع إليه المعلم إبراهيم فتصافحا بحرارة .. وعندما مر أمام دكانه حانت منه التفاتة نحوه فابتسم، فلم يجد صنعان بدا من العبور إليه والمصافحة! وإذا بالسلولي يقول له: سنراك قريبا بمشيئة الله!

رجع صنعان الجمالي إلى دكانه وهو يتساءل عما يعنيه .. هل يدعوه إلى مقابلة؟ .. لماذا؟ .. هل يجد السبيل ميسرا من حيث لم ينتظر؟ .. ربطت قشعريرة بين أعلاه وأسفله .. ردد قوله بذهول: سنراك قريبا بمشيئة الله!

9

ولما أخلد إلى النوم ليلا هيمن عليه الوجود الآخر وسمع الصوت يقول متهكما: تأكل وتشرب وتنام وعلي أنا الصبر!

فقال بتعاسة: إنها مهمة شاقة لا يدرك مشقتها من له مثل قوتك. - ولكنها أسهل من قتل البنت الصغيرة!

فتأوه قائلا: يا للخسارة ! .. طالما عددت من الصفوة الطيبة. - لا تخدعني المظاهر. - لم تكن مجرد مظاهر. - نسيت أشياء يندى لها الجبين.

فقال بارتباك: الكمال لله وحده! - لا أنكر أيضا مزاياك ولذلك رشحتك للخلاص!

فقال بجزع: لولا اقتحامك حياتي ما تورطت في الجريمة.

فقال بوضوح: لا تكذب، أنت وحدك مسئول عن جريمتك! - الحق أني لا أفهمك. - الحق أني أحسنت بك الظن أكثر مما ينبغي. - ليتك تركتني وشأني! - إني عفريت مؤمن، قلت هذا الرجل خيره أكثر من شره، أجل له علاقات مريبة مع كبير الشرطة ولم يتورع عن الاستغلال أيام الغلاء، ولكنه أشرف التجار، وذو صدقات وعبادة وذو رحمة بالفقراء؛ لذلك آثرتك بالخلاص، خلاص الحي من رأس الفساد وخلاص نفسك الآثمة، وبدلا من أن تدرك الهدف الواضح انهار بنيانك وارتكبت جريمتك البشعة.

تأوه صنعان واقعا في الصمت فواصل الصوت: الفرصة متاحة ما زالت.

فتساءل في حيرة: والجريمة؟ - الحياة تتسع للتكفير والتوبة.

فتساءل بنبرة فيها ماء الأمل: ولكن الرجل في حصن منيع.

سوف يستدعيك إلى مقابلته. - إني أعجب لذلك! - سوف يستدعيك، اطمئن واستعد.

فتفكر صنعان مليا، ثم تساءل: هل تعدني بالنجاة؟ - ما اخترتك إلا من أجل النجاة.

ومن شدة الإرهاق استغرق صنعان في نوم عميق.

10

كان يتأهب للذهاب إلى المقهى عندما قالت أم السعد: رسول من قبل الحاكم ينتظرك في المنظرة.

وجد كاتم السر بطيشة مرجان في الانتظار بعينيه البراقتين ولحيته القصيرة .. قال له: الحاكم يرغب في لقائك.

خفق قلبه .. أدرك أنه ذاهب لارتكاب أخطر جريمة في تاريخ الحي .. لعله ضايقه أن يكون بطيشة مرجان مطلعا على ملابسات الزيارة، ولكنه اطمأن إلى وعد قمقام .. قال للرجل: انتظرني حتى أرتدي ملابسي.

فقام الرجل قائلا: بل أسبقك تلافيا من لفت الأنظار.

إذن فالرجل يحرص على سرية المقابلة ميسرا بذلك مهمته .. وراح يتدهن بالمسك وأم السعد تراقبه، منطوية على قلق لم يفارقها منذ ليلة الحلم .. هيمن عليها شعور بأنها تعاشر رجلا آخر، وأن صنعان القديم تلاشى في الظلام .. وفي غفلة منها دس في جيبه خنجرا ذا مقبض من الفضة الخالصة تلقاه هدية من الهند.

11

استقبله علي السلولي في جوسقه الصيفي بحديقة الإمارة .. طالعه في جلباب فضفاض أبيض، ورأس عار، فخفف عنه رهبة السلطة .. وقامت بين يديه مائدة حفلت بالقوارير والكئوس والنقل، فبسط له المؤانسة والقرب .. أجلسه على وسادة إلى جانبه مستبقيا مرجان بطيشة، وقال: أهلا بك يا معلم صنعان، تاجر أصيل وإنسان كريم.

فتمتم صنعان مداريا ارتباكه بابتسامة: الشكر لك يا نائب السلطان.

ملأ مرجان ثلاث كئوس، ساءل صنعان نفسه: هل يبقى مرجان إلى آخر الجلسة؟ .. لعلها فرصة لا تتكرر فما العمل؟ وقال السلولي: ليلة صيف لطيفة، أتحب الصيف؟ - أحب الفصول جميعا. - إنك ممن رضي الله عنهم، ومن تمام رضاه أن نبدأ حياة جديدة مثمرة.

فقال صنعان مدفوعا بحب الاستطلاع: أسأل الله أن يتم نعمته علينا.

شربوا فتلقوا من الراح نشوة وانتعاشا .. وجعل السلولي يقول: طهرنا لكم الحي من الأوباش.

فقال بحزن دفين: نعم الحزم والعزم.

فقال بطيشة مرجان: لا نكاد نسمع الآن عن سرقة أو جريمة.

فسأل صنعان بحذر: هل اهتديتم إلى الجاني؟

فضحك السلولي قائلا: المعترفون بالجريمة فاقوا الخمسين عدا!

ضحك مرجان أيضا، ولكنه قال: الجاني الحقيقي ضمنهم ولا شك.

فقال السلولي: إنها مشكلة جمصة البلطي!

فقال بطيشة: علينا أيضا أن نضاعف المواعظ في المساجد والموالد.

أوشك صنعان أن ييأس، ولكن السلولي أشار إلى مرجان إشارة خاصة فغادر المكان .. ومع ذلك كان الحرس منتشرا في الحديقة، ولا يوجد مهرب، ولكنه لم يغفل لحظة عن وعد قمقام.

قال السلولي مغيرا لهجته: فلنطو حديث الجريمة والمجرمين.

فقال صنعان باسما: طابت ليلتك يا مولاي. - الحق أني دعوتك لأكثر من داع. - إني رهن الإشارة.

فقال بثقة: إني أرغب في الزواج من كريمتك.

دهش صنعان .. أسف لفرصة قدر لها الإحباط قبل أن تولد، ولكنه قال: هذا شرف كبير وسعادة عظمى. - وعندي أيضا بنت هدية لابنك فاضل!

فقال صنعان طاردا ذهوله: إنه شاب سعيد الحظ.

وصمت قليلا، ثم واصل: أما المطلوب الأخير فهو يتعلق بالمصلحة العامة!

فتجلت في عيني صنعان نظرة مستطلعة، فقال الحاكم : المقاول حمدان طنيشة قريبك .. أليس كذلك؟ - أجل يا مولاي. - المسألة أنني اعتزمت شق طريق بحذاء الصحراء بطول الحي كله. - مشروع رائع حقا.

فسأله بنبرة ذات مغزى: متى تجيئني به إلى هذا المكان؟

اجتاحته موجة من السخرية وهو يقول: موعدنا مساء الغد يا مولاي!

فحدقه بنظرة ثاقبة وتساءل باسما: ترى على أي حال سيجيئني؟

فقال صنعان بلباقة ودهاء: على الحال التي تتوقعها تماما.

فضحك السلولي وقال بمرح: أنت لبيب يا صنعان، ولا تنس أننا أهل!

خاف صنعان أن يباغته باستدعاء بطيشة مرجان .. قال لنفسه: «الآن .. أو تلاشت الفرصة إلى الأبد.» .. ويسر الرجل له الأمر وهو لا يدري، فمد ساقيه وانطوى على ظهره طلبا للراحة ثم أغمض عينيه .. كان صنعان يغوص في خيال الجريمة ويقذف بنفسه فيما تبقى له من مصير .. استل خنجره .. سدده نحو القلب .. طعن بقوة مستمدة من التصميم واليأس والرغبة الأخيرة في النجاة .. انتفض الحاكم انتفاضة عنيفة كأنما يصارع قوة مجهولة .. تقلص وجهه وحملق بجنون .. هم بضم ساعديه كأنما ليقبض على الخنجر ولكنه لم يستطع .. نطقت عيناه المذعورتان بكلام لم يسمع، ثم همد إلى الأبد.

12

حملق في الخنجر غائب النصل والدم المتدفق وهو يرتجف .. انتزع عينيه بمشقة ونظر نحو الباب المغلق بخوف شديد .. تمزق الصمت بنبض صدغيه .. ولأول مرة يلمح القناديل المعلقة في الأركان .. ولمح أيضا قائما خشبيا مزخرفا بالأصداف عليه مصحف كبير .. توسل بكل عذاباته إلى قمقام عفريته وقدره .. وغشيه الوجود الخفي، وسمع الصوت يقول بارتياح: أحسنت.

ثم بمرح: الآن تحرر قمقام من السحر الأسود.

قال صنعان: أنقذني؛ فقد كرهت المكان والمنظر.

فقال بهدوء وعطف: إيماني يمنعني من التدخل بعد أن ملكت حرية إرادتي ..

فقال بجزع: لا أفقه معنى لما تقول! - عيبك يا صنعان أنك لا تفكر كإنسان. - رباه! لا وقت للجدل، أتزمع تركي لشأني؟ - هذا تماما ما يقتضيه واجبي.

فصاح: يا للفظاعة! لقد خدعتني .. - بل منحتك فرصة للخلاص قلما تتاح لحي. - ألم تتدخل في حياتي وتحملني على قتل هذا الرجل؟ - كنت راغبا بحرارة في التحرر من شر السحر الأسود، فاخترتك لإيمانك، رغم تأرجحك بين الخير والشر، قدرت أنك أولى من غيرك بإنقاذ حيك ونفسك.

فقال بيأس: لكنك لم توضح لي أفكارك. - وضحتها بالقدر الكافي لمن يفكر. - مكر غير محمود .. من قال إني مسئول عن الحي؟! - إنها أمانة عامة، لا يجوز أن يتبرأ منها إنسان أمين، ولكنها منوطة أولا بأمثالك ممن لا يخلون من نوايا طيبة! - ألم تنقذني من ورطتي تحت سلم الكتاب؟ - بلى، عز علي أن تنتهي بسبب من تدخلي أسوأ نهاية لا أمل فيها لتفكير أو توبة، فارتأيت أن أمنحك فرصة جديدة. - وها قد قمت بما عاهدتك عليه فوجب عليك إنقاذي. - إذن تكون مؤامرة؛ دورك فيها دور الآلة، وتقف الجدارة والتكفير والتوبة والخلاص.

فركع على ركبتيه قائلا بتوسل: ارحمني، وأنقذني. - لا تبدد تضحيتك في الهواء. - إنه مصير أسود! - فاعل الخير لا تكربه العواقب.

هتف بذعر: لا أريد أن أكون بطلا.

فقال قمقام بأسى: كن بطلا يا صنعان، هذا قدرك!

ومضى الصوت يتلاشى وهو يقول: أستودعك الله، وأستغفره لي ولك.

ندت عن صنعان صرخة ترامت إلى بطيشة مرجان ورجال الحرس في الخارج.

جمصة البلطي

1

سبحت روح صنعان الجمالي في سماء مقهى الأمراء فغشي روادها الكدر، شهدوا محاكمته، سمعوا اعترافه الكامل، رأوا سيف شبيب رامة السياف وهو يطيح برأسه .. كانت له منزلة طيبة بين التجار والأعيان، وكان من القلة النادرة التي يحبها الفقراء، وأمام أولئك وهؤلاء ضربت عنقه، وشردت أسرته .. ذاعت قصته على كل لسان، هزت أفئدة الحي والمدينة، استعادها السلطان شهريار مرات ومرات .. وفي جو المقهى الملطف بطلائع الخريف، قال حمدان طنيشة المقاول: الله خالق الملك وصاحبه، المتصرف في شئونه بما يشاء، يقول للشيء كن فيكون، من منكم كان يتصور هذا المصير لصنعان الجمالي؟! صنعان يغتصب بنتا في العاشرة ويخنقها؟! صنعان يقتل حاكم الحي في أول لقاء معه؟!

فقال إبراهيم العطار: باستبعاد العفريت تصبح الحكاية لغزا من الألغاز!

فقال الطبيب عبد القادر المهيني: لعلها عضة الكلب، هي الأصل، ثم تفرع عنها خيالات مرض خبيث لم يعالج كما يجب!

فقال إبراهيم العطار محتدا: لا يوجد من هو أخبر مني بمداواة عضة الكلب، آخرهم كان معروف الإسكافي .. أليس كذلك يا معروف؟

فأجاب معروف من مجلسه في الوسط بين العامة: الحمد لله الذي أتم علي نعمة الشفاء.

فتساءل عجر الحلاق: ولم لا نصدق حكاية العفريت؟

فقال إبراهيم السقاء: إنهم يفوقون الآدميين عدا.

فقال سحلول تاجر المزادات والتحف: الموت في غنى عن الأسباب.

فقال معروف الإسكافي: لي مع العفاريت حكايات وحكايات.

عند ذلك قال شملول الأحدب، مهرج السلطان: علمنا أن العفاريت تتجنب دارك خوفا من زوجتك.

فابتسم معروف مسلما بقضائه .. ولم تلق الدعابة نجاحا في الجو الكئيب .. وقال جليل البزاز: ضاع صنعان وضاعت أسرته.

فقال كرم الأصيل، صاحب الملايين، والوجه الشبيه بالقرد: ومد يد العون لأسرته يعتبر تحديا للإمارة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

فقال إبراهيم العطار: أخوف ما أخاف أن يفر الناس من أسرته اتقاء لشر العفاريت.

فقال حسن العطار الابن: هيهات أن يغير شيء ما بيني وبين فاضل صنعان.

وعاد حمدان طنيشة المقاول يقول: يقول للشيء كن فيكون.

2

انطلق جمصة البلطي، كبير الشرطة، نحو النهر ليمارس هوايته المفضلة في الصيد - كف نفسه أربعين يوما عن هوايته حدادا على رئيسه علي السلولي - وقد حزن على القاتل أيضا - في باطنه - بحكم الجيرة والصداقة القديمة التي جعلت من الأسرتين أسرة واحدة .. رباه! هو الذي قبض عليه، هو الذي رماه في السجن، هو الذي قدمه للمحاكمة، ثم ساقه أخيرا للسياف شبيب رامة .. هو أيضا من علق رأسه بأعلى داره وصادر أمواله وطرد أسرته من الدار إلى النار .. وعلى ما عرف به من شدة وصلابة، فقد تكدر صفوه وحزن قلبه - له قلب؛ رغم أن كثيرين لا يتصورون ذلك - بل أحب هذا القلب حسنية، كريمة صنعان، وأوشك أن يطلب يدها، لولا أن دهمته الحوادث .. اليوم طاب الجو، وهامت في السماء سحائب خريف صافية، ولكن حبه دهس تحت عجلة الأحداث .. ترك بغلته مع عبد، ثم دفع القارب إلى وسط النهر، ورمى بالشبكة .. قطرات من الراحة في خضم العمل الشاق الوحشي .. ابتسم .. سرعان ما تم التفاهم بينه وبين الحاكم الجديد خليل الهمذاني .. من أين يجيء شهريار بهؤلاء الحكام؟! أسفر الرجل عن وجهه عند أول تجربة .. التجربة كانت أموال صنعان المصادرة .. استولى على نصيب منها لا يستهان به، وألقم بطيشة مرجان، كما ألقمه نصيبه .. وأضاف المتبقي إلى بيت المال .. استولى على نصيبه، بالرغم من حزنه لمصير صديقه؛ معتذرا أمام نفسه بأن الرفض يعني تحديا للحاكم الجديد .. في قلبه موضع للعواطف، وموضع للقسوة والجشع .. قال لنفسه: «من تعفف جاع في هذه المدينة.» .. وتساءل ساخرا: «ماذا يجري علينا لو تولى أمورنا حاكم عادل؟!» .. أليس السلطان نفسه هو من قتل مئات من العذارى، والعشرات من أهل الورع والتقى؟! ما أخف موازينه إذا قيس بغيره من أكابر السلطنة .. تنفس بعمق .. حقا إنه يوم جميل .. السماء منقوشة بالسحب .. الهواء معتدل، مضمخ برائحة العشب والماء، الشبكة تمتلئ بالسمك، ولكن أين حسنية؟ أأسرة صنعان تقيم اليوم بحجرة بربع؟ .. بعد الجاه والجواهر والإصطبل .. أم السعد تصنع الحلوى التي كانت تسحر بها ألباب الضيوف، وفاضل يسرح بها كبائع جوال، أما حسنية فتنتظر عريسا لن يأتي .. هل حقا سخرك عفريت يا صنعان أو أتلفتك عضة كلب؟! لن أنسى نظرتك الزائغة واستغاثتك بي: «أسرتي يا جمصة» .. هيهات أن يجرؤ إنسان على مد يده إلى أسرتك .. ابنك فاضل أيضا ولد ذو كبرياء .. ضعت يا صنعان وما كان كان .. إن يكن عفريتك مؤمنا حقا فليفعل شيئا .. عجيبة هذه السلطنة، بناسها وعفاريتها .. ترفع شعار الله، وتغوص في الدنس .. وبغتة تحول وعيه إلى يده .. ثقلت الشبكة مبشرة بالخير .. جذبها بسرور، حتى استوت فوق سطح القارب .. لم ير بها سمكة واحدة!

3

ذهل جمصة البلطي .. ثمة كرة معدنية ولا شيء سواها .. تناولها حانقا، قلبها بين يديه، ثم رمى بها في باطن القارب .. أحدثت صوتا عميقا مؤثرا .. حدث بها شيء غير ملحوظ فتمخض عن انفجار .. انطلق منها ما يشبه الغبار مدوما في الجو حتى عانق سحب الخريف .. وتلاشى الغبار تاركا وجودا خفيفا جثم عليه فملأ شعوره بحضوره الطاغي .. ارتعب جمصة على إيلافه مواقف الخطر .. أدرك بسابق علمه أنه حيال عفريت منطلق من قمقم .. ما ملك أن هتف: الأمان بحق مولانا سليمان!

فقال صوت لم يسمع له مثيلا من قبل: ما أعذب الحرية بعد جحيم السجن!

فقال البلطي متوددا بحلق جاف: خلاصك تم على يدي. - أخبرني أولا عما فعل الله بسليمان؟ - مات سيدنا سليمان منذ أكثر من ألف عام. - مباركة مشيئة الله، هي التي سلطت علينا إرادة آدمي لا يرقى ترابه إلى نارنا، وذلك الآدمي هو الذي عاقبني على هفوة من هفوات القلب يغفر الله أكبر منها برحمته.

فقال جمصة بأمل متصاعد: هنيئا لك الحرية، فانطلق واستمتع بها.

قال بسخرية: أراك تطمع في النجاة! - بما كنت وسيلة إلى خلاصك! - ما حررني إلا القدر.

فقال جمصة بلهفة: وكنت أداة القدر.

فقال بحنق: في سجني الطويل امتلأت بالحنق والرغبة في الانتقام.

فقال بضراعة: العفو عند المقدرة من شيم الكرام. - بارعون أنتم في الحفظ والاستشهاد والنفاق، وعلى قدر علمكم يجب أن يكون حسابكم، فالويل لكم.

فقال جمصة البلطي باستعطاف: نحن نخوض صراعا متواصلا مع أنفسنا والناس والحياة، وللصراع ضحايا لا يحيط بهم حصر، والأمل لا ينعدم أبدا في رحمة الرحمن.

فقال العفريت في صرامة: الرحمة لمن يستحق الرحمة، ورحاب الله مفروشة بأزاهير الفرص المتاحة لمن استمسك بالحكمة؛ لذلك لا تحق الرحمة إلا للمجتهدين وإلا أفسدت الروائح الكريهة نقاء الجو المضيء بالنور الإلهي، فلا تعتذر عن الفساد بالفساد. - نحن نؤمن بالرحمة حتى ونحن نضرب الأعناق ونجتز الرءوس. - يا لك من منافق! .. ما عملك؟ - كبير الشرطة. - يا لها من ألقاب! هل تؤدي واجبك بما يرضي الله؟

فقال جمصة بقلق: واجبي أن أنفذ الأوامر. - شعار لا يصلح لتغطية الخبائث. - لا حيلة لي في ذلك. - إذا دعيتم لخير ادعيتم العجز، وإذا دعيتم لشر بادرتم إليه باسم الواجب!

وقع جمصة في حصار محكم، وهفت عليه نذر الوعيد، فتراجع إلى حافة القارب وهو يرتعد .. في ذات الوقت شعر بنفاذ وجود جديد هيمن على المكان، فآمن بمقدم عفريت آخر وأيقن بالضياع .. قال القادم الجديد مخاطبا الأول: هنيئا لك الحرية يا سنجام. - الشكر لله يا قمقام. - لم أرك منذ أكثر من ألف عام. - ما أقصرها بالقياس إلى العمر، وما أطولها إذا انقضت في قمقم! - وقعت أنا أيضا في شباك السحر وهو يضاهي السجن في عذابه. - ما تصيبنا آفة إلا من بني آدم. - في فترة غيابك وقعت أحداث وأحداث، فلعلك يهمك أن تلم بما فاتك. - بلى، ولكني أريد أن أتخذ قرارا نحو هذا الآدمي. - دعنا منه الآن، هيهات أن يفلت من يديك إذا أردته، ولكن لا تتخذ قرارا وأنت حانق، فما هلك منا عفريت إلا فريسة لغضبه، هلم بنا إلى جبل قاف نحتفل بتحريرك.

قال سنجام مخاطبا البلطي: إلى اللقاء يا كبير الشرطة.

مضى الوجود المهيمن يخف، حتى تلاشى تماما .. استرد جمصة حرية أعضائه، ولكنه تهاوى فوق سطح القارب، خائر القوى وثملا بالأمان في آن.

4

وثب جمصة البلطي إلى الشاطئ، فاستقبله العبد منحنيا، ثم مضى يطوي الشبكة وهو يقول: ما في الشبكة سمكة واحدة.

فقال جمصة بريق جاف: أكنت تنظر نحوي وأنا في القارب؟ - طيلة الوقت يا مولاي. - ماذا رأيت؟ - رأيتك وأنت ترمي الشبكة، وأنت تنتظر، ثم وأنت تجذبها؛ لذلك أدهشني أن أجدها فارغة. - ألم تر دخانا ينتشر؟ - كلا يا مولاي. - ألم تسمع صوتا غريبا؟ - كلا. - لعلك غفوت! - أبدا يا مولاي. - ما كان بوسعه أن يشك فيما وقع له .. إنه حقيقي أكثر من الحقيقة نفسها .. وقد حفر في ذاكرته اسم قمقام بمثل القوة التي حفر بها اسم سنجام .. فذكر اعترافات صنعان في صورة جديدة، فخيل إليه أن صديقه القديم راح ضحية تعيسة .. وتساءل بقلق عما يخبئه له الغيب.

5

طوى سره في صدره .. حتى رسمية زوجته لم تعلم به .. وهو سر يثقل على الصدر والقلب، ولكن ما الحيلة؟ .. إذا فشا يوما أضر بمركزه وأفقده وظيفته .. وأرق الليل متفكرا في العواقب مصمما على الحذر .. سنجام مؤمن فيما بدا، وسيحفظ له جميل تحريره ولو صدفة .. نام عقب صلاة الفجر ساعة، ثم استيقظ على حال أفضل .. كان بطبيعته قويا يتحدى الصعاب والوساوس .. لقد استأنس السلولي والهمذاني، وليس سنجام بأشد مراسا منهما .. وقالت له رسمية وهما يشربان لبن الصباح: أمس زارتني جارتنا القديمة أم السعد.

توترت أعصابه فجأة .. قدر خطورة الزيارة تقدير شرطي عالم ببواطن الأمور، وقال بجفاء: أرملة مسكينة، ولكن ...

وتردد لحظة، ثم واصل حديثه: ولكن زيارتها لنا تضر بمركزي. - حالها تقطع القلب. - هكذا حال الدنيا يا رسمية، ولكن لندع ما لله لله! - جاءت بأمل أن تعينها على تقديم التماس للحاكم برد أملاك الأسرة.

فهتف: يا لها من جاهلة! - قالت إن الله لا يأخذ الأبناء بذنوب الآباء. - شهريار نفسه هو الذي أصدر الحكم!

ثم قال بوضوح: صنعان كان صديقي ولكن ما قدر كان، ولعل قتل البنت بعد اغتصابها لا يعد شيئا بالقياس إلى قتل حاكم الحي؛ فالسلطان يعتبر الضربة الموجهة إلى نائبه موجهة إلى شخصه، وما زال السلطان سفاكا رغم تغيره الطارئ، فلا تشجعيها على التردد عليك وإلا حلت بنا لعنة لا قبل لنا بها.

فوجمت المرأة منكسرة الفؤاد، فقال: إني في الحزن مثلك، ولكن لا حيلة لنا.

6

إنه صادق فيما قال .. حزنه على آل صنعان لم ينقشع، ومرجع ذلك ليس العشق وحده .. أحب الرجل من قبل أن يحب كريمته .. وهو لا يخلو دائما من عواطف طيبة، ومن ذكريات دينية، ولكنه لا يجد بأسا من ممارسة الانحراف في عالم منحرف .. الحق أنه لا يوجد قلب في الحي كقلبه في جمعه بين الأسود والأبيض .. لذلك دعا فاضل صنعان إلى داره في زيارة أحاطها بالكتمان .. جاء الفتى في زيه الجديد المكون من الجلباب والصندل، زي البياع الجوال .. أجلسه إلى جانبه في المنظرة، وقال: يسرني يا فاضل أنك تواجه مصيرك بشجاعة فائقة.

فقال فاضل: أحمد الله الذي أبقى علي ديني بعد ضياع الجاه والمال.

أعجب به حقا، وقال: استدعيتك احتراما لعهدنا القديم. - بارك الله فيك يا سيدي.

فنظر إليه مليا، ثم قال: لولا ذلك لأبحت لنفسي القبض عليك.

فدهش فاضل متسائلا: تقبض علي؟ .. لماذا يا سيدي؟ - لا تتظاهر بالجهل .. ألم يكفكم ما حاق بكم من شر؟! اسع لرزقك بعيدا عن مصاحبة المخربين من أعداء السلطان!

فقال فاضل بوجه شاحب: ما أنا إلا بائع جوال. - دع المناورة يا فاضل، لا شيء يغيب عن جمصة البلطي، ومهمتي الأولى كما تعلم هي مطاردة الشيعة والخوارج.

فقال فاضل بصوت منخفض: لست منهم، وقد كنت تلميذا في مطلع حياتي للشيخ عبد الله البلخي. - وكنت أنا أيضا تلميذه، من مدرسة البلخي يخرج كثيرون؛ أهل الطريق، أهل السنة، كما يخرج شياطين منحرفون عن الخط الأول. - ثق يا سيدي من أنني أبعد ما يكون عن الشياطين .. - لك رفقاء ورفقاء منهم! - لا شأن لي بعقائدهم!

فقال محذرا: في البداية رفقة بريئة ثم تجيء النكسة، وهم مجانين، يكفرون الحكام، ويغررون بالفقراء والعبيد، لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب، كأن الله اصطفاهم دون عباده، احذر مصير أبيك؛ فللشيطان طرق شتى، أما أنا فلا أعرف إلا واجبي، وقد بايعت السلطان كما بايعت حاكم الحي على إبادة المارقين.

فقال بنبرة فاترة: توكد يا سيدي من أنني أبعد ما يكون عن المارقين.

فقال جمصة: منحتك نصيحة أبوية فقدرها. - شكرا لمروءتك يا سيدي.

وجعل يتفرس في وجهه بحثا عن مواقع الشبه بينه وبين حسنية أخته، انتشى لحظات بالوجد، ثم قال: وثمة مسألة أخرى، أرجو أن تبلغ والدتك أن تقديم التماس برد أملاك الأسرة يعتبر تحديا للسلطان، فلا حول ولا قوة إلا بالله!

فقال فاضل بتسليم: هذا هو رأيي أيضا يا سيدي.

وانتهت المقابلة في سرية كما بدأت، وتساءل جمصة: ترى هل يتاح له يوما أن يستدعيه ليطلب منه يد حسنية؟!

7

لعل جريمة صنعان الجمالي هي الحدث الخطير الوحيد الذي وقع في خدمة جمصة البلطي .. ولم يحمله أحد مسئوليته خاصة بعد ما عرف من تدخل العفريت فيه .. وليس كذلك ما يقع في اليوم في الحي .. فقد تتابعت حوادث قطع طريق داخل سور الحي وخارجه بكثرة مزعجة، فنهبت أموال وسلع واعتدي على رجال .. وغضب جمصة البلطي غضب شرطي قدير حائز للثقة .. بث المخبرين في الأماكن النائية، ونشر الدوريات نهارا وليلا، وتفقد الأماكن المشبوهة بنفسه، ولكن الحوادث مضت في جريانها هازئة بنشاطه ولم يقبض على مجرم واحد.

وقال كرم الأصيل صاحب الملايين في مقهى الأمراء: كان حال الأمن أفضل على عهد المرحوم السلولي.

فقال الطبيب عبد القادر المهيني ضاحكا: لم يوجد قاطع طريق على عهده سواه!

فقال عجر الحلاق: جمصة البلطي في أسوأ أحواله.

وهو يطلع على أحوال السادة، وهو يقدم لهم خدماته - كحلاق - في دورهم. فقال إبراهيم العطار: الأمن حياة التجارة، والتجارة حياة الأمة، أقترح أن يذهب منا وفد إلى حاكم حينا الهمذاني.

8

ودعا خليل الهمذاني جمصة البلطي إلى دار الإمارة، وقال له بعنف: المدينة تخرب وأنت تغط في النوم.

فقال كبير الشرطة بصوت منهزم: ما نمت وما قصرت. - العبرة بالخواتيم. - إن يدي مغلولتان. - ماذا تريد؟ - الصعاليك الذين سبق القبض عليهم ينطلقون الآن للانتقام. - ثبت من اعتراف صنعان أنهم كانوا أبرياء. - لذلك فهم ينتقمون، ولا مفر من اعتقالهم مرة أخرى.

فقال الحاكم بحدة: لقد سخط الوزير دندان على اعتقالهم في المرة الأولى، فلن أسمح به مرة أخرى.

فقال جمصة البلطي بأسى: على أي حال، إني أخوض معركة بقوة لا تعرف الهوادة.

فقال الحاكم: لا بد من ضبط الأمن وإلا عزلتك!

هكذا غادر جمصة البلطي دار الإمارة يجر أذيال الإهانة لأول مرة في حياته.

9

غضب حيال الإهانة، فهيمنت عليه طبيعته القوية المتحدية .. غاصت نوازع الخير فتوارت في أعماق بعيدة .. تصدى للهزيمة بوحشية رجل يستبيح أي شيء في سبيل الدفاع عن سلطته .. لقد استوعبته السلطة وخلقته خلقا جديدا فتناسى الكلمات الطيبة التي تلقاها على يد الشيخ في الزاوية على عهد البراءة .. سرعان ما جمع أعوانه، فصب عليهم السيل الذي انصب عليه في بهو الإمارة، وفتح نوافذ الجحيم على مصراعيها .. وكلما وقع حادث جديد، قبض على عشرات بلا دليل أو قرينة، وعذبهم بلا رحمة .. وخفت تبعا لذلك متابعته للشيعة والخوارج، فضاعفوا من نشاطهم، وحرروا الصحائف السرية تطفح بتجريم السلطان والولاة، وتطالب بالاحتكام إلى القرآن والسنة .. وجن جنونه، فاعتقل الكثيرين حتى خيم الخوف على الحي جميعا، ومادت به الأرض .. واستفظع الهمذاني عنف الإجراءات، ولكنه أغمض عينيه طمعا في الفرج .. على ذاك كله ازدادت الحوادث عدا وعنفا.

10

انهزم جمصة البلطي، ولكنه أبى الاعتراف بالهزيمة .. وجعل يبيت ليالي عديدة في دار الشرطة، حتى تسلط الإرهاق على قوته الخارقة .. وغلبه النوم مرة في حجرة عمله، فاستسلم له كأسد جريح .. لم يفز بالراحة المنشودة، ولكنه طرح تحت ثقل وجود غليظ احتل جوارحه .. همس في حيرة: سنجام!

فجاء الصوت مقتحما وجدانه: أجل يا كبير الشرطة!

فسأله مستنكرا: ماذا دعاك إلى الحضور؟ - غباء من يدعون الذكاء! - تنور عقله فجأة، لم تجر له في خاطر، فقال: الآن عرفنا سر قطاع الطريق الذين لا يعثرون لهم على أثر! - الآن فقط؟ - من أين لي أن أخمن أنك صاحبهم؟! - اعترف - رغم غرورك - بأنك غبي.

فسأله بتحد: كيف هان عليك نهب الأموال وذكر الله يتردد على لسانك؟! - لم يصب غضبي إلا الطغمة المستغلة للعباد.

فتأوه قائلا وكأنما يحادث نفسه: سأفقد عملي من أجل ذلك.

إنك أيضا من الطغمة الفاسدة.

فقال بفخار: إني مثل أعلى في أداء الواجب. - والمال الحرام؟ - ما هو إلا فتات يتساقط من موائد الكبراء. - عذر قبيح. - إني أعيش في دنيا البشر. - ماذا تعرف عن الكبراء؟ - كل كبيرة وصغيرة، ما هم إلا لصوص أوغاد!

فقال الصوت متهكما: لكنك تحميهم بسيفك البتار، وتطارد أعداءهم الشرفاء من أهل الرأي والاجتهاد. - إني منفذ الأوامر، وطريقي واضحة. - بل تطاردك لعنة حماية المجرمين واضطهاد الشرفاء. - ما فكر رجل وهو يؤدي واجبي هذا إلا هلك. - إذن أنت أداة بلا عقل. - عقلي في خدمة واجبي فحسب. - عذر من شأنه أن يهدر إنسانية الإنسان.

ولمح في وجدانه خاطر، فتفتحت له أبواب ونوافذ، فقال بدهاء: الحق أني لست راضيا عن نفسي. - محض كذب.

فقال بحرارة: لم أفلح أبدا في اقتلاع الهواتف الشريفة، إنها دائما تحاورني في سكون الليل. - لا أجد لها أثرا في حياتك.

فقال بلباقة: تعوزني قوة تسندني عند الحاجة! - بل إنك تطارد الهواتف الشريفة كما تطارد الشرفاء.

فقال بتحد: إني أضع نفسي تحت الاختبار. - أفصح عما تريد. - اجعل قوتك في مساندتي لا في معاندتي. - ماذا تريد؟ - أهلك المجرمين، وأحكم الأمة حكما عادلا نقيا!

جلجلت ضحكة، ملأت الكون، وقال: تود أن تمكر بي لتحقيق أحلامك الدفينة في القوة والسلطان! - كوسيلة لا كغاية! - ما زال قلبك غارقا في العبودية! - جربني إذا شئت. - إني عفريت مؤمن، ولا أتجاوز حدودي أبدا ..

فقال جمصة يائسا: إذن ابتعد عن طريقي بسلام. - الحق أني فكرت بهدوء فوق جبل قاف، فاقتنعت بأنك أديت لي خدمة غير منكورة، وإن تكن غير مقصودة، فقررت أن أرد الصنيع بمثله ودون تجاوز للحدود.

فقال بحيرة: ولكنك تفعل نقيض ما تقصد؟ - يا لك من غبي!

فقال بتوسل: أوضح لي هدفك. - لك عقل وإرادة وروح! - ألق علي بصيصا من نور. - لك عقل وإرادة وروح.

هم بالتوسل إليه، ولكن الآخر أطلق ضحكة ساخرة، ثم سحب وجوده بسرعة وتلاشى.

استيقظ جمصة البلطي على نقر الباب .. دخل وكيله ليخبره بأنه مدعو إلى لقاء الحاكم الهمذاني.

11

تمنى لو ترك لنفسه ليتأمل، ولكنه لم يجد من الذهاب بدا .. ما توقع خيرا من المقابلة .. لم يعد ينتظر خيرا على الإطلاق .. اختفت بروق الآمال في سماء الخريف، وصمتت طبول النصر .. سيتأرجح طويلا بين الحاكم وعبث سنجام .. غاص في دوامة لا قرار لها فوق متن بغلته في الطريق إلى دار الإمارة .. الطريق مفعم بالحركة والصوت، تحاصره مطالب الحياة، الأعين تتابعه بازدراء .. لا سرور ولا غرور .. انقضت أيام الاختيال .. حقير يقتات على الحقارة، هذا ما أقنعه به سنجام .. عزاؤه الوحيد كان أنه سيف الدولة .. فل السيف، وتقوض الأمن، فأي وزن له؟! .. لص قاتل، حامي المجرمين، ومعذب الشرفاء .. نسي الله حتى ذكره به عفريت من الجن.

12

وجد خليل الهمذاني واقفا وسط البهو كرمح مستعد للقتال. قال جمصة بهدوء: سلام الله عليك أيها الأمير.

فصاح الحاكم بصوت متهدج من شدة الغضب: انعدم السلام بوجودك.

فقال بحزن: إني أعمل حتى الموت. - لذلك سرقت جواهر حريمي من أعماق داري!

فاق ذلك توقعه .. تساءل عما يريد سنجام .. وجم صامتا.

صاح خليل الهمذاني: ما أنت إلا حشاش أو شريك اللصوص.

قال بصوت غليظ: إني كبير الشرطة.

فصرخ: موعدنا المساء، وإلا عزلتك وضربت عنقك.

13

أي جدوى ترجى من البحث؟ ماذا يفعل رجاله حيال قوة سنجام؟ سوف يعزل ويفقد شرفه وتضرب عنقه .. إنه مصير طالما ساق الناس إليه، فكيف يتهمه؟! .. لكن جمصة لن يقبل مصيره دون دفاع، ودون دفاع شرس .. أمامه نهار واحد ولا وقت للتردد .. ها هي حياته صفحة مبسوطة أمام عينيه .. شهادة مجسدة ومرعبة .. بدأت بعهد الله وانتهت بعهد الشيطان .. عليه أن يزلزلها قبل الموت .. وخطر الشيخ على قلبه كما تخطر نسمة شاردة في جحيم القيظ .. هفت محمولة بين طيات مقطرة من حنين .. قال لنفسه: «هذا وقته» .. جذبه على أي حال من أعمق أعماقه، عندما هتكت الأحزان القشرة الصلبة الملطخة بالدماء.

وجده في حجرة الاستقبال البسيطة كأنه ينتظر .. انحنى فوق يده صامتا، وتربع على شلتة بين يديه .. تنشق الذكريات كعطر وردة محنطة، وتجسدت له في الفراغ آيات وأحاديث، ومخلفات من النوايا الطيبة كالدماء .. ارتوى من السكينة حتى غلبه الحياء، فقال بحزن: إني أقرأ شعورك نحوي يا مولاي.

فقال عبد الله البلخي بهدوئه الخالد: علم ذلك عند الله وحده، فلا تدع ما ليس لك به علم.

فقال بحزن: أنا في رأي الناس شرطي سفاح. - ترى لم يزورني السفاحون؟

فقال متشجعا: ما أعذبك يا مولاي! الحقيقة أن لدي حكاية أود أن تسمعها.

فقال بزهو: لا رغبة لي في ذلك. - يجب أن أتخذ قرارا، وهيهات أن يدرك مغزاه دون سرد الحكاية. - القرار كاف لإدراك مغزى الحكاية.

فقال بقلق: الأمر يحتاج إلى مشاورة. - كلا، إنه قرارك وحدك.

فقال بتوسل: اسمع حكايتي العجيبة.

فقال بهدوئه: كلا، يهمني أمر واحد.

فسأله بلهفة: ما هو يا مولاي؟ - أن تتخذ قرارك من أجل الله وحده.

فقال بحيرة: لذلك أحتاج إلى الرأي.

فقال الشيخ بهدوء حازم: الحكاية حكايتك وحدك، والقرار قرارك وحدك.

14

غادر دار الشيخ موزعا بين الشك واليقين .. كان الشيخ يعرف حكايته وقراره، وكأنه يبارك قراره تحت شرط أن يكون من أجل الله وحده؟! .. ألم يلعب اليأس دورا؟ ألم يلعب الدفاع عن النفس دورا آخر؟ ألم تلعب الرغبة في الانتقام دورا ثالثا؟ ترى هل يهون من شأن التوبة أن تسبق بمعصية؟! .. العبرة بالنية الأخيرة وبالإصرار عليها حتى النهاية .. إنه على أي حال، يدفن جمصة القديم ويبعث آخر جديد .. ولما قر قراره تنهد بارتياح عميق .. وتضاعف نشاطه طيلة الوقت، فزار داره، وجالس رسمية زوجته وأكرمان ابنته، فجاش صدره بعواطف حارة خفية، أشعرته بوحدته أكثر وأكثر .. حتى سنجام تركه لوحدته .. غير أن تصميمه كان نهائيا ولم يعرف التردد .. وواجه أخطر موقف في حياته بشجاعة نادرة وإقدام لا يلوي على شيء .. ورجع إلى مركز عمله فأفرج بقوته الذاتية عن الشيعة والخوارج، في ذهول كامل شمل الجنود والضحايا .. وعند مطلع المساء، مضى من توه إلى دار الإمارة .. أعرض عن النظر إلى الوجوه والأماكن في طريقه، كأنها لم تعد تعنيه .. ورأى أخيرا خليل الهمذاني ينتظر في هدوء وتصميم، فلم يشك في أنه اتخذ قراره أيضا .. ضمهما البهو في وحدة إلا من عذابات البشر المتجمعة وراء الوسائد والطنافس .. وشهود من جميع الأجيال الغابرة .. لم يتبادلا تحية، وسأله الحاكم ببرود: ماذا وراءك؟

فأجاب جمصة البلطي بثقة: كل خير!

فتساءل الرجل بتفاؤل طارئ: أقبضت على اللص؟ - من أجل ذلك جئت.

فقطب الحاكم متسائلا: أتظنه في داري؟

فأشار جمصة إليه قائلا: ها هو يتكلم بلا حياء.

ذهل خليل الهمذاني وهتف: جننت ورب الكعبة! - إنه الصدق يقال لأول مرة.

تحفز الحاكم للعمل، فامتشق جمصة سيفه وهو يقول: ستنال جزاءك الحق. - جننت، إنك لا تدري ما تفعل.

فقال بهدوء: إني أقوم بواجبي!

فقال باضطراب وذعر شامل: عد إلى رشدك، إنك تلقي بنفسك إلى النطع.

فوجه إلى عنقه ضربة قاضية، فاختلطت صرخته المذعورة بخواره، واندفع مثل نافورة.

15

ألقي القبض على جمصة البلطي وانتزع السيف من يده .. لم يحاول الهرب .. ولم يقاوم، آمن بأن مهمته قد انتهت .. لذلك حل به هدوء وصفاء ذهن، وعلت في وجدانه موجة الشجاعة الخارقة، فشعر بأنه يخطو فوق جلاديه، وبأنه لا يبالي الموت بأي قدر جاء .. وقال لنفسه: إن الإنسان أعظم مما تصور، وإن الدنايا التي اقترفها لم تكن جديرة به على الإطلاق، وإن الإذعان لسطوتها كان هوانا دفعه إليه السقوط والتنكر لطبيعته الإنسانية .. وقال أيضا: إنه يمارس الآن عبادة صافية يغسل بطهرها قذر أعوام النفاق الطويلة.

وانتشر الخبر مع هواء الخريف فصار حديث العامة والخاصة، وفجر الذهول تساؤلات لا حصر لها ولا عد .. وتضاربت النبوءات واحتدم هذيان المجاذيب فانطلق الاضطراب يجتاح الحي والمدينة ويصعد بهرجه إلى القصر السلطاني .. وما لبث أن انتقل الوزير دندان إلى دار الإمارة بالحي على رأس كوكبة من الفرسان.

16

استدعي جمصة البلطي مكبلا بالحديد للمثول أمام العرش في بهو الأحكام .. وتبدى شهريار في عباءته الحمراء التي يرتديها إذا جلس للقضاء، على رأسه عمامة عالية تتراسل في جنباتها فصوص الجواهر النادرة .. إلى يمينه وقف دندان، وإلى يساره رجال السلطنة، على حين اصطف الحرس على الجانبين، أما وراء العرش فقد مثل شبيب رامة السياف.

تجلت في عيني السلطان نظرة ثقيلة محملة بالفكر، ومضى يتفرس في وجه كبير الشرطة مليا، ثم سأله: ألا تقر بفضلي عليك يا جمصة؟

فأجاب الرجل بصوت قوي مثير للأعصاب: بلى، أيها السلطان.

فآنس السلطان منه تحديا لموقفه المكبل بالحديد، فقطب وسأل: أتعترف بأنك قتلت خليل الهمذاني نائبي في حيكم؟ - أجل أيها السلطان. - ماذا دفعك إلى ارتكاب جريمتك الشنعاء؟

فقال بوضوح ودون مبالاة بالعواقب: أن أحقق إرادة الله العادلة! - ومن أدراك بما يريد الله سبحانه؟ - هذا ما ألهمته خلال حكاية عجيبة غيرت مجرى حياتي!

انجذب وجدان السلطان نحو لفظة «حكاية» فتساءل: وما الحكاية؟

روى جمصة البلطي حكايته .. مولده من أبوين من عامة الشعب، تلمذته في الزاوية على يد الشيخ عبد الله البلخي، انفصاله عن الشيخ بعد تعلم مبادئ الدين والقراءة والكتابة، قوة بدنه التي أهلته للخدمة في الشرطة، اختياره كبيرا للشرطة لكفاءته النادرة، انحرافه خطوة فخطوة حتى انقلب مع الزمن حاميا للمنحرفين وجلادا لأصحاب الرأي والاجتهاد، ظهور سنجام في حياته، أزماته المتتابعة، وأخيرا توبته الدامية.

تابعه شهريار باهتمام .. وضح أنه انفعل بأقواله انفعالات متضاربة .. قال ببرود: سنجام جمصة، عقب قمقام صنعان الجمالي، أصبحنا في زمن العفاريت الذين لا هم لهم إلا قتل الحكام!

فقال جمصة: ما زدت على الحقيقة حرفا والله شهيد. - لعلك تحلم بأن ينقذك ذلك من العقاب؟

فقال باستهانة: إقدامي يقطع بأنني لا أبالي.

فقال شهريار بحيرة: سنجعل منك مثلا للمتمردين، فليضربن عنقك، وليعلقن رأسك فوق باب دارك، ولتصادر أموالك.

17

في سجن تحت الأرض، وفي ظلام .. كافح آلامه واستمسك بشجاعته .. أثار حنق السلطان فانتصر عليه .. تركه فوق عرشه يتعثر في هزيمته .. وتذكر بأسى رسمية وأكرمان .. وطافت بخياله حسنية .. ستلقى أسرته من الهوان ما لقيته أسرة صنعان ولكن رحمة الله أقوى من الكون .. وظن أن السهاد لن يفارقه ولكنه نام نوما عميقا لم يستيقظ منه إلا على جلبة وضوء مشاعل .. لعله الصباح، وها هم أولاء الجنود قد حضروا ليسوقوه إلى النطع .. سيكتظ الميدان بأهل الفضول وسيموج بالعواطف المتضاربة .. ليكن .. ولكن ماذا يرى؟ يرى الجنود تنهال بالركلات على جمصة البلطي، وهذا يستيقظ فزعا متأوها.. ما معنى هذا؟ أيحلم؟ إذا كان هذا هو جمصة البلطي فمن يكون هو؟! كيف لا ينتبه إليه أحد وكأنما هو غير موجود؟! ذهل وخاف أن يفقد عقله .. بل لعله فقد عقله .. إنه يرى جمصة البلطي أمامه .. الجنود تسوقه إلى الخارج .. وإنه - بخلافه - شديد الفزع والانهيار .. وجد نفسه أيضا محررا من القيد، فعزم على مغادرة السجن، وتبع الآخرين لا يلتفت إليه أحد .. رباه! .. المدينة منحشرة في ميدان العقاب .. نساء ورجال وأطفال .. في الصدر السلطان ورجال الدولة .. النطع في الوسط وشبيب رامة ونفر من المساعدين .. لم تحضر رسمية ولا أكرمان فهذا حسن .. ما أكثر الوجوه التي عرفها وتعامل مع أصحابها! إنه ينتقل من مكان إلى مكان فلا ينتبه إليه أحد .. أما جمصة البلطي فيقترب من النطع بين حراسه .. وجه واحد تراءى له كثيرا حتى عجب لشأنه هو وجه سحلول تاجر المزادات والجواهر .. وعندما هيمنت لحظة الصمت المؤثر، وخطف النطع الأبصار من جميع الجهات، خفق قلبه، وخيل إليه أنه سيلفظ روحه عقب سقوط رأس الآخر. وفي اللحظة المفعمة بالصمت ارتفع سيف شبيب رامة، ثم هوى كالصاعقة، فسقط الرأس، وختمت حكاية جمصة البلطي.

توقع جمصة البلطي الموت ولكنه مر به وذهب .. وتضاعف ذهوله وسط تيار المنصرفين حتى خلا الميدان تماما .. تساءل: «أأنا جمصة البلطي؟» وإذا بصوت سنجام يقول: كيف تشك في ذلك؟

فهتف الرجل في غاية من التأثر: سنجام؟! .. أنت صاحب المعجزة! - إنك حي، وما قتلوا إلا صورة من صنع يدي! - إني مدين لك بحياتي فلا تتخل عني.

فقال بوضوح: لا، الآن لا علي ولا لي، أستودعك الله.

فهتف مذعورا: كيف لي بالظهور أمام الناس؟!

فقال الصوت: هيهات أن يعرفك أحد، انظر في أول مرآة تصادفك.

الحمال

1

من أعلى باب الدار تدلى رأس جمصة البلطي .. الرائحون والغادون ينظرون إليه، يتوقفون قليلا ثم يذهبون، وجمصة البلطي ينظر مع الناظرين .. ينظرون بفضول أو رثاء أو شماتة .. أما هو فينظر بذهول ولم يكن أفاق من كربه حينما شهد طرد زوجته وابنته من الدار .. وقد مرا به دون اكتراث وهو متصور في صورة حبشي مفلفل الشعر خفيف اللحية ممشوق القامة .. عجبه من منظر رأسه لا ينقضي، أما حزنه على أسرته فلا نهاية له .. ويحوم حول الدار فتترامى إلى أذنيه التعليقات المتضاربة تحت الرأس المعلق .. السادة - مثل كرم الأصيل والعطار والبزاز - يلعنونه بلا رحمة، والعامة يرثون له .. وقد أشرف على مصادرة داره الحاكم الجديد يوسف الطاهر وكاتم سره بطيشة مرجان وكبير الشرطة الجديد عدنان شومة .. فتساءل عما ذهب إلى بيت المال وعما دس في الجيوب .. وظل قريبا من الرأس المعلق ينظر ويتأمل ويسمع .. ورأى عجر الحلاق وهو يقول لإبراهيم السقاء مشيرا إلى الرأس: قتلوه جزاء الفعل الخير الوحيد في حياته.

فتساءل السقاء: لم لم ينقذه عفريته المؤمن؟

فقال الحلاق محذرا: لا تخض فيما لا تعلم.

فصدق معروف الإسكافي على قوله .. ورأى سحلول تاجر المزادات والتحف وهو ينظر نحو الرأس بلا مبالاة، فتذكر نشاطه العجيب يوم الإعدام .. ولما كان التاجر وحده فقد اقترب منه وسأله: هلا نورت غريبا بحكاية صاحب الرأس؟

فحدجه سحلول بنظرة ارتجف لوقعها جسمه .. خيل إليه أنها نفذت إلى أعماقه، فازداد الرجل في نظره غموضا على غموض .. وقال له سحلول وهو يمضي عنه: لا أعرف عنه أكثر من الآخرين.

أتبعه ناظريه حتى اختفى، ثم قال لنفسه: «لعله ترفع عن محادثة حبشي غريب!» .. وتذكر تاريخه - كشرطي سابق عالم بأحوال الناس - فشهد له بأنه التاجر الكبير الوحيد الذي لم ينشئ علاقة مريبة معه أو مع الحاكم! .. ثم سرعان ما نسيه في زحمة التأملات .. ورأى رجب الحمال ينضم إلى موقف عجر وإبراهيم ومعروف، فقصده مدفوعا بخطة رسمها من قبل .. حياه وقال: إني حبشي مهاجر وأريد أن أعمل حمالا!

فتذكر رجب صديقه الأول السندباد، ولكنه قال: هلم معي والله رزاق كريم.

2

حام بروحه وجسده حول أسرته .. ما قيمة الحياة إذا ما انفصل عن أسرته ورأسه؟! وظل يتبع رسمية وأكرمان حتى استقرتا في حجرة بالربع الذي يقيم فيه آل صنعان .. ولم يتردد فاكترى لنفسه حجرة في نفس الربع، وعرف بعبد الله الحمال .. وسره في غيوم القلق أن أم السعد هي التي قادت أسرته إلى مأواها الجديد .. سره أن أم السعد لم تنس الجيرة القديمة .. ولم تنس سعي رسمية إلى مساعدتها في محنتها .. وسوف تشارك رسمية زوجته في صنع الحلوى فسيسرح بها فاضل صنعان لحساب الأسرتين .. سر بذلك أيما سرور، وسر أيضا بجيرته لهم، فيهنأ برؤيتهم، ويطمئن على أحوالهم، ويمارس ما يتاح له من زوجية وأبوة وعشق من بعيد، من موقع لا يدري به أحد .. وتوقع أن يتزوج فاضل من ابنته أكرمان كما اتفق مع صنعان، وكما حلم هو يوما من الزواج من حسنية أخت فاضل.

واصل تلك الحياة الغريبة .. يشعر أحيانا أنه حي، وأحيانا أنه ميت.

3

أجل إنه عبد الله الحي وجمصة الميت معا .. تجربة غريبة لم يمارسها إنسان من قبل .. يسعى إلى رزقه في رحاب زمالة رجب فيتذكر أنه حي .. يعبر الطريق تحت رأسه المعلق أو يرى رسمية وأكرمان فيتذكر أنه ميت .. ولم يغفل أبدا عن معجزة إنقاذه من الموت، فعزم على السير حتى النهاية، في طريق التقوى .. يجد سروره في العبادة، وينعم في وحدته بذكر الله، ويناجي رأسه المعلق فيقول: «لتبق رمزا على موت الشرير الذي عبث بروحي طويلا.» على أن صدره فاض بحنين دائم نحو شخصيته الزائلة .. تلك الشخصية التي توجت حياتها بتوبة صادقة .. مثير جدا أن يموت الإنسان وهو حي، أو يحيا وهو ميت .. فمن ذا يمكن أن يصدق أنه جمصة البلطي بجوهره الدفين؟! وهل يحتمل أن ينفرد بهذا السر وحده إلى الأبد؟! حتى رسمية وأكرمان تنظران إليه كغريب وافد من بلاد غريبة ..لذلك يشعر حيال نظرتهماغير المبالية بغربة قاسية وظلم معذب .. لم يفطنا ولو مرة واحدة إلى الحب الراسخ وراء نظرته المسترقة .. لم يعكسا لأشواقه صدى .. تطل من عينيهما نظرة تجدد تنفيذ الإعدام فيه كل صباح وكل مساء .. حتى حزنهما لذكراه لم يكن يمسه بأنامل العزاء .. ويحز في نفسه ابتعادهما الوئيد عن ذكراه فيما يغوصان فيه من هموم الحياة اليومية .. لن يصدقا الحياة الموهوبة له بمعجزة ولن يتقبلاها .. لقد تجرعتا غصص موته، وعانتا كرباتها، وعرفتا الحياة بدونه، والخروج من الوضع الجديد مزعج مثل الدخول فيه .. وهو لن يقدم على تقويض البناء الجديد ولا يستطيعه .. من مات يجب أن يستمر في الموت رحمة بمن يحب .. وعليه أن يألف موته في حياته الجديدة .. ليكن عبد الله الحمال لا جمصة البلطي .. ولتكن مسرته في العمل والعبادة .. غير أن عمله يسوقه كثيرا إلى بيوت معارفه السابقين، وإلى دور السادة والحكام .. عالم التقوى الظاهرة والفساد الكامن .. وأرجعه ذلك إلى التفكير في ذاته وفي أحوال الناس .. كدر صفو سلامه الروحي. طارده الاعوجاج كأنما اقتحم أعضاءه وأخل بوظائفها .. وقال إنه كما تنطلق الكواكب في نظام بديع فهكذا يجب أن تجري أحوال العباد .. وتساءل في قلق: هل بقيت في الحياة بمعجزة لأعمل حمالا؟!

4

جعل شهريار ينظر إلى أشباح الأشجار المتهامسة في الليل .. ربض السلطان في مجلسه بالشرفة الخلفية رغم أن الخريف كان ينسحب أمام طلائع الشتاء .. إنه أقدر على تحمل البرد منه على محاورة طوفان أفكاره .. والتفت نحو وزيره دندان متسائلا: أتكره الظلام؟

فقال الوزير بولاء: إني أحب ما يحب مولاي.

إنه يتساءل دائما: ترى هل تغير السلطان حقا أو أنها وقفة عابرة؟! ولكن مهلا .. كان في ماضيه حاسما واضحا قاسيا بليد الإحساس، الآن سرعان ما تومض في عينيه نظرة حائرة .. قال دندان: الأمة سعيدة وتلهج بالشكر.

فتمتم السلطان بخشونة: قتل علي السلولي وسرعان ما لحق به خليل الهمذاني!

فقال دندان بإشفاق: الشر والخير كالليل والنهار. - والعفاريت؟! - أمام النطع يختلق المجرم ما يستطيع.

فقال بهدوء: ولكني أتذكر حكايات شهرزاد!

فخفق قلب دندان، وقال: لا بد أن يلقى القاتل جزاءه. - الحق أني أوشكت أن أكتفي بسجن جمصة البلطي!

ثم بحنق: ولكني أعدمته جزاء وقاحته في مخاطبتي.

قال دندان لنفسه: إن مولاه لم يتغير منه إلا سطحه، ولكنه قال: على أي حال نال الشقي جزاءه.

فقال بحدة: ونلت نصيبي من الكآبة. - مولاي، لعلها وعكة طارئة. - بل حال من الأحوال، وهل حدثتني حكايات شهرزاد إلا حديث الموت؟!

فقال الوزير بجزع: الموت! - أمم تلتهمها أمم، يطرق بابها في النهاية طارق مصمم واحد هو هازم اللذات! - إنها مشيئة الله، أطال بقاءك.

فقال بصوت محايد: القلوب أسرار، والكآبة ماكرة، وقد تداوى الملوك السابقون في الليل بالتجوال وتفقد الأحوال.

فقال دندان مستمسكا بطوق النجاة: التجوال وتفقد الأحوال، يا له من إلهام!

وقال لنفسه: «كائن لا حدود لقوته، قد يتكشف عن زهرة أو يتمخض عن زلزال.»

5

عبد الله الحمال ماض في دورانه بلا توقف .. في الأزقة المسدودة والحواري الحلزونية وأحياء التجارة والحرف وطرق المراكب وميادين الرماية والصيد والإعدام والبوابات الضخمة تقوم مقام الحدود، والروائح تنتشر كالعناوين؛ رائحة العطارة النافذة والعطور المخدرة والأقمشة المدغدغة والأطعمة الفواحة والجلود العطنة .. يمر برسمية وأكرمان، وأم السعد وحسنية، يلقي التحية بلسان يتردد في هذا العالم وبقلب سكن في العالم الآخر .. وفي تجواله عرف فاضل صنعان ووثق علاقته به .. من الناس من حفظ عهده مثل حسن العطار ونور الدين، ومنهم من تجنبه تجنبا للشيطان .. وأشفق عبد الله من أن تتفشى حكاية العفريت فتقضي على مستقبل أكرمان وحسنية اللتين يؤهلهما إعدادهما لخيرة الزيجات .. وأحب فاضل صنعان لجده وتقواه وشجاعته فجعل من سلم السبيل محط راحته في نهار العمل يلتقيان فيه ويتبادلان الحديث .. وذات مرة قال له: إنك شاب تقي لا تفوتك فريضة، فلم لا تصون عفتك بالزواج؟

فقال فاضل بأسى: لا قبل لي بنفقات الزواج. - القليل يكفي! - لي حياء وكرامة.

فقال عبد الله بإغراء: بين يديك أكرمان.

التقت عيناهما في ابتسامة كاشفة عن أسرار كثيرة، وقال فاضل: وأنت يا عم عبد الله ناهزت الأربعين أو فتها دون زواج؟

فقال الحمال بوضوح: إني أرمل، وأود أيضا أن أصون عفتي! - يخيل إلي أنك في غير حاجة إلى خاطبة!

فقال بهدوء: ست رسمية أم أكرمان!

فضحك فاضل وقال: فلننتظر قليلا ثم نتقدم معا. - ولم الانتظار؟ - حتى تمحى ذكرى جمصة البلطي!

فانقبض صدره .. إنه أراد رسمية بدافع من وفائه وتقواه .. لو أطاع هواه ما اختار إلا حسنية .. ويوم تقبله رسمية سيسعد من قلبه نصف ويبكيه نصفه الآخر.

6

كلما خلا إلى نفسه تساءل: «هل بقيت في الحياة بمعجزة لأعمل حمالا؟!» .. وتساءل أيضا: «لم لم يهجرني سنجام في اللحظة الحرجة كما هجر قمقام صنعان الجمالي؟» .. وامتلأ بالحيرة كوعاء مكشوف تحت المطر، فقادته قدماه إلى دار الشيخ عبد الله البلخي. قبل يده وتربع أمامه وهو يقول: إني غريب.

فقاطعه الشيخ: كلنا غرباء. - اسمك كالزهرة يجذب إليه شوارد النحلات.

فقال الشيخ: الفعل الجميل خير من القول الجميل. - ولكن ما الفعل الجميل؟ .. هذه هي مشكلتي! - ألم يصادفك عند مجيئك رجل حائر؟ - أين يا مولاي؟

فأجاب بهدوء: بين مقامي العبادة والدم؟

فارتعد خوفا وقال لنفسه: إنه يرى ما وراء الحجاب .. وقال متنهدا: في الليلة الظلماء يفتقد البدر.

فقال الشيخ: عرفت من التلاميذ ثلاثة أنواع. - هم السعداء في جميع الأحوال. - قوم يتلقون المبادئ ويسعون في الأرض، وقوم يتوغلون في العلم ويتولون الشئون، وقوم يواصلون السير حتى مقام الحب، ولكن ما أقلهم!

فتفكر عبد الله مليا، ثم قال: ولكن العباد في حاجة إلى الرعاية.

فقال دون أن يتخلى عنه هدوءه: كل على قدر همته.

فتحدى تردده قائلا: إنما قصدتك يا مولاي ...

وعثر في الصمت كأنما ليجمع أفكاره فقال الشيخ: لا تحدثني عن مقصدك. - لماذا؟ - كل على قدر همته!

أسبل جفنيه غائبا عن اللقاء.

انتظر عبد الله أن يرفعهما مرة أخرى ولكنه لم يفعل، فانحنى لاثما يده وانصرف.

7

قال لنفسه: إن الشيخ اطلع على هواجسه فأحاله إلى ذاته .. عليه أن يسلم بذلك ما دام الإنسان قد قبل الأمانة .. سيلقى الأشرار غدا الويل بفضل عزيمة تائب ومكر شرطي خبير .. ومضى يمارس عمله وهو يتلقى صفاء وتركيزا .. ومن رحمة تنداح في قلبه استمد عقله أفكارا لا تعرف الرحمة .. حادة كنصل السيف .. سرعان ما دهمته الحياة بتناقضاتها الساخرة ومصائرها الدامية وهنائها الموعود .. وأبى التراجع؛ لأنه أبى أن يستأثر بهدية الحياة دون ثمن .. عند ذاك تراءت له حسنية كأمل يبرق في سماء عالم آخر .. وعند الأصيل آوى إلى سلم السبيل فوافاه فاضل صنعان إليه .. تبين له أن الشاب وثب فوق الزمن بأسرع مما قدر .. قال فاضل: سأطلب يد أكرمان!

فقال بدهشة: كنت تفضل الانتظار وقتا؟ - كلا، عدلت عن ذلك، وسأطلب يد ست رسمية نيابة عنك!

صمت عبد الله متفكرا .. لا شك أنها بحاجة إلى رجل في محنتها، وهيهات أن تطمع فيمن هو أفضل منه!

وقال فاضل بمرح: ما أجمل أن تتزوج الأم وابنتها في ليلة واحدة!

ولما كان قد آنس إليه فقد أنشأ يقص عليه حكايتي صنعان الجمالي وجمصة البلطي.

8

ولما انتهى من حديثه المثير قال عبد الله معلقا: يعز من يشاء ويذل من يشاء.

فتمتم فاضل صنعان: كل على قدر همته!

فاقتحمته الجملة مثل رائحة الفلفل وتساءل: ترى هل تلقاها من المصدر نفسه؟! وقال ممهدا لمجرى جديد من الحديث: ومن كمال الهمة الحذر.

ناجى كل منهما أفكاره الخاصة مليا، ثم قال عبد الله: نحن نوشك أن نصير أسرة واحدة؛ لذلك أقول لك إن الحمال يدخل الدور التي لا يتاح دخولها إلا للصفوة.

حدس فاضل أن صاحبه مقبل على الإدلاء باعتراف ما فحدجه بنظرة متسائلة، فقال عبد الله: في داري يوسف الطاهر الحاكم وعدنان شومة كبير الشرطة يدور الهمس أحيانا عن أعداء الدولة.

فقال فاضل متظاهرا باللامبالاة: إنه أقل ما ينتظر. - لا يتصور أحد أني أفقه معنى لما يدور أو أنني أمد إليه أذنا. - ولكنك رجل غير عادي يا عم عبد الله، وهذا ما أعجب له! - لا تعجب لفطنة رجل طالما تقلب بين البلدان والأحوال!

فقال فاضل بأريحية: الحق أني سعيد بك.

فمضى عبد الله في اعترافه قائلا: وهم قوم موسوسون، كلما تمادوا في الإجرام تخايلت لأعينهم أشباح الشيعة والخوارج. - أعرف ذلك تماما. - لذلك قلت إنه من كمال الهمة الحذر.

فرمقه فاضل بارتياب، وسأله: ماذا تعني؟! - إنك لبيب! - كأنك تحذرني! - لا بأس من ذلك. - ما أنا إلا بائع حلوى، هل رابك مني شيء؟

فابتسم ابتسامة غامضة وقال: إني أحب الحذر كما أحب الشيعة والخوارج!

فسأله فاضل بلهفة: من أيهما أنت؟ - لا من هؤلاء ولا من أولئك ولكني عدو الأشرار!

وجد عبد الله بين يديه دعوة مفتوحة ولكنه كشرطي سابق آثر العمل بطريقته الخاصة!

9

انطلق عبد الله الحمال كالسهم في سماء الجهاد كما تصوره .. نادى قوته القديمة وأخضعها هذه المرة لإرادته الصلبة النقية .. وفي الحال سقط بطيشة مرجان كاتم السر قتيلا .. وهو يمضي من دار الإمارة إلى داره عقب منتصف الليل، وبين حرسه، انقض من الظلام سهم فاستقر في قلبه، فهوى فوق بغلته بين الرماح والمشاعل .. اجتاح الحرس المكان وما يتشعب منه، وألقوا بالقبض على من صادفهم من المارة والمتسكعين والمكومين في الأركان .. احترقت داره حزنا، وزلزلت دار الإمارة فغادرها يوسف الطاهر كالمجنون على رأس قواته، وصعد الخبر إلى الوزير دندان فأرقه الفزع حتى الصباح .. ومنذ الصباح انتشر النبأ في الحي ثم في المدينة فماجت الأنفس وفاضت بالظنون .. حلقة جديدة في سلسلة مصرعي السلولي والهمذاني .. التحام جديد بدنيا العفاريت الغامضة .. بل إنهم الخوارج أو الشيعة .. أو لعلها حادثة فردية تكمن وراءها غيرة امرأة أو حسد رجل .. وأمطرت السماء مطرا غزيرا لم ينقطع طيلة النهار، فتراكم الوحل، وجرى الماء مغطى بالزبد في الحواري والأزقة، فأفسد نظام الجنازة والدفن، منذرا بشتاء قاس .. واندس عبد الله الحمال بين العامة في مقهى الأمراء مرهف الحواس باهتمام خفي .. استقطب الحادث الحديث كله، وتناقضت الآراء بين أفكار السادة المعلنة وهمسات العامة المتبادلة في الآذان .. ولمح عبد الله المعلم سحلول تاجر المزادات والتحف وهو ينهمك في حديث طويل مع كرم الأصيل صاحب الملايين فانقبض صدره .. إنه لم ينس نظرته النافذة تحت رأسه المعلق .. وتذكر أنه رآه يحوم حول موكب كاتم السر وهو - عبد الله - يتأهب لإطلاق السهم، فكيف لم يقبض عليه فيمن قبض عليهم؟ .. كيف غاب عن أعين الحرس؟ .. انقبض صدره وتوجس خيفة .. وعجب كيف أنه الرجل الوحيد في الح الذي لم يطلع له على سر طيلة عهده برئاسة الشرطة .. إنه مطلع على أحوال جميع السادة ما ظهر منها وما بطن إلا هذا الرجل، فهو لغز مغلق!

10

لم تخف حمى المسئولين ولا إجراءاتهم القاسية، أما بقية الناس فمضوا يألفون الحادث ويملون الخوض فيه، ثم يتناسونه .. وسرعان ما غلبت مطالب الحياة على أحداث التاريخ، فقالت أم السعد أرملة صنعان لست رسمية أرملة جمصة البلطي: ببركة الله وحكمته يرغب فاضل ابني في الزواج من أكرمان.

وتمت الموافقة في فرحة شاملة .. إنهن جميعا يعشن في واقع ولا يسمحن لحلم غابر بأن يفسده .. وقالت أيضا أم السعد: أنت أيضا يا ست رسمية!

وأعلنت لها عن رغبة عبد الله الحمال في الزواج منها .. ضحكت رسمية ضحكة فاترة لوقع المفاجأة .. ولم تسر بها ولم ترحب .. وقالت بحياء: الزواج لأكرمان وحسنية لا لنا!

ثم عقب الصمت واصلت: جمصة لم يمت، ما زالت ذكراه حية في نفسي!

وسر فاضل وعبد الله، كل بما تلقاه .. أجل، استاء عبد الله لوأد عواطفه ولكن جمصة الكامن فيه سر سرورا لا مزيد عليه .

11

احتفل بالزفاف في حجرة أم السعد .. شهدته الأسرتان، ودعي إليه عبد الله الحمال فسوغ حضوره بهدية من العنبر والبخور قدمها للعروسين، وبما بذله في النهار من كنس الفناء .. جاد بالهمة التي جاد بها ساعة تصدى لقتل بطيشة مرجان .. ثمل بعبق الأسرة الحار الذي نفث في جوارحه سكرة باقية .. جاش صدره بالأبوة والزوجية والحب خاشعا في الوقت نفسه تحت هيمنة التقوى وحب الله الرحيم .. استرد ثراء وجدان قديم ونعم بالقرب، دافنا سره في بئر مترع بالأسى.

وتطوعت حسنية لإحياء زفاف شقيقها معتمدة على إجادتها في الشعر والغناء والصوت الحسن، وعلى إيقاع الأكف أنشدت بصوت عذب:

يترجم طرفي عن لساني لتعلموا

ويبدي لكم ما كان صدري يكتم

ولما التقينا والدموع سواجم

خرست وطرفي بالهوى يتكلم

فطربوا جميعا، وطرب عبد الله حتى فاض قلبه بالدمع .. وقام ليلقي في المدفأة حطبا فسمع على باب الحجرة طرقا .. مضى ليفتح، فطالعه في الظلام البارد ثلاثة أشباح .. قال أحدهم: نحن تجار أغراب، سمعنا غناء جميلا فقلنا إن الكرام لا يصدون الغريب.

أشار فاضل إلى النساء فتوارين وراء ستارة تشطر الحجرة، ومضى نحو الأغراب قائلا: ادخلوا بسلام .. ما هو إلا زفاف قاصر على أهله البسطاء.

فقال الرجل الغريب: ما نريد إلا الأنس بالناس الطيبين.

وقال أحد الآخرين: عندكم دفء جميل.

وجاءهم فاضل بطبق البسيمة والمشبك وهو يقول: ما لدينا سوى هذا، وهو ما نتعيش منه. - نحمد الله الذي حلى ريقنا وأحلى ليلتنا.

ومال كبيرهم على أذن أحد الآخرين فغادر المكان مسرعا .. وخطف عبد الله من الكبير نظرات فخيل إليه أنه لا يراه لأول مرة، وحاول أن يتذكر أين ومتى ولكن خانته الذاكرة .. ثم رجع الرجل محملا بالسمك المقلي والمشوي فدب في الأنفس نشاط، وسعدت بلذيذ المأكل، وقال فاضل ممتنا: ما يليق مسكننا بمقامكم.

فقال الرجل مجاملا: العبرة بأهل المسكن.

ثم برجاء: أسمعونا طربا؛ فالطرب ما أسعدنا بمعرفتكم!

فذهب فاضل إلى ما وراء الستار .. وقبل أن يستقر في مجلسه مرة أخرى تهادى صوت حسنية منشدا:

لو علمنا مجيئكم لفرشنا

مهجة القلب أو سواد العيون

وفرشنا خدودنا والتقينا

ليكون المسير فوق الجفون

فطرب الجميع وهتف أحد الغرباء: تبارك الخلاق العظيم.

وسأل الكبير فاضل: كيف ملكت هذه الجارية وأنت على ما تزعم من فقر؟

فقال فاضل: ما هي إلا شقيقتي. - لها صوت مهذب ينم عن أصل كريم.

فوجم فاضل، فما كان من عبد الله الحمال إلا أن قال: وإنه لمن أصل كريم اعترضته غدرة من غدرات الزمن.

فتساءل التاجر: ما حكاية تلك الغدرة؟

فأجاب عبد الله الحمال: ما من أحد في مدينتنا إلا ويعرف حكاية التاجر صنعان الجمالي!

فصمت التاجر لحظة ثم قال: سمعنا بها فيما سمعنا من أنباء مدينتكم العجيبة.

وتساءل زميله: ولكن هل تصدقون ما روي عن العفريت؟

فتساءل فاضل بدوره: كيف لا، وقد جر علينا ما جر من كوارث؟! - ولكن الوالي لا يستطيع أن يستدعي العفريت للشهادة أو التحقيق فكيف يقيم العدل؟

فقال عبد الله الحمال: على الوالي أن يقيم العدل من البداية فلا تقتحم العفاريت علينا حياتنا!

فسأله كبير الغرباء: ترى هل تكابدون في حياتكم ظلما؟!

فأسعفه الحذر المكتسب من خبرته القديمة في الشرطة وقال: لنا سلطان عادل والحمد لله، ولكن الحياة لا تخلو من غصص.

وتواصل الحديث ساعة حتى نهض الغرباء للانصراف.

12

خاض ثلاثتهم الظلام صامتين .. التفت التاجر الثاني نحو الأول، وقال: لعل مولاي قد وجد التسلية المنشودة؟

فتمتم الآخر: فرجة في غموم القلب.

ثم بعد قليل: لم تعد جلسة الشعراء تطربني ولا تهريج شملول الأحدب يضحكني. - تولاك الله بالرعاية يا مولاي.

فقال مخاطبا نفسه: حلم قصير مذهل، لا تتخايل فيه حقيقة حتى تتلاشى.

انتظر الآخر أن يلقي السلطان ضوءا على قوله، ولكنه لزم الصمت حتى النهاية.

13

استقل فاضل وأكرمان بحجرة، فجمعت الحجرة الأخرى رسمية وأم السعد وحسنية .. على بساطة الحياة نعم الزوجان بسعادة صافية، وتمنى فاضل لحسنية خاتمة سعيدة كخاتمته .. وكان أحسن توفيقا في تناسي الماضي من النساء فهو يجد ما يشغله، وهن لا تمحى من ذاكرتهن الأيام الخوالي بعزها وأضوائها .. وتوحد مع عبد الله الحمال حتى تبادلا قراءة الأفكار وخواطر القلوب .. الرجل من معدنه، روحه أكبر منه، واهتمامه منجذب إلى هموم البشر كأنه فقيه لا حمال .. لو استمع أحد المارة إلى ما يدور بينهما من حديث فوق سلم السبيل لذهل ولظنهما رجلين خطيرين يتنكران في ثوبي بياع وحمال .. وقال له يوما: فتحت لك قلبي، ولكنك توصد قلبك حيالي.

فنفى ذلك بهزة من رأسه، فقال: في حياتك سر ولست حمالا بسيطا.

فقال يطمئنه: كان لي مرشد في وطني، لا سر وراء ذلك. - في ذلك ما يكفي. - على أي حال نحن نرتوي من منبع واحد.

فقال فاضل بجرأة: لذلك سأسألك خدمة.

فحدجه بنظرة متسائلة، فقال بنبرة ذات مغزى: إنك بحكم عملك تتردد على الدور جميعا!

فابتسم عبد الله بذكاء وصمت منتظرا، فقال: أتقبل أن تحمل الرسائل أحيانا؟

فقال باسما وهو يتذكر أكرمان بحنان: ثمة أقوام يجدون معنى حياتهم في السعي إلى المتاعب.

فتجاهل قوله، متسائلا: هل تقبل؟

فقال بهدوء: ما تشاء وأكثر.

14

أدى هذه المهمة الجانبية في يسر وأمان تامين، فلم يعتدها إضافة ذات شأن إلى مهمته الأصلية، وهمومه الشخصية - رسمية، حسنية، تردده بين الحياة والموت - لم تمح من صفحته، ولكنها لم تعد تزعجه، وتلاشت همومه العامة كما تتلاشى أمواج النهر في المحيط .. وكان الرجل الثاني في برنامجه يوسف الطاهر أو عدنان شومة أيهما أيسر، ولكنه قدم عليهما إبراهيم العطار لسبب عارض لم يخطر في باله من قبل .. ذلك أنه حمل إليه لوازم فاختلفا على الأجر فلعنه التاجر الكبير وأهانه .. واستقر السهم القاتل في قلب إبراهيم العطار وهو راجع إلى داره عقب سهرة المقهى .. وانفجر الفزع في المدينة وانهمرت ذكريات مصارع السلولي وبطيشة مرجان والهمذاني.

وجمع سلم السبيل بين عبد الله وفاضل في عنفوان الاضطراب المتفجر .. تبادلا نظرات قلقة، وعبثا حاولا كتمان ارتياحهما .. تمتم عبد الله: يا لها من أحداث مرعبة!

فحدس الآخر ظنونه، فقال ببراءة: ليس الاغتيال ضمن خطتنا!

فقال عبد الله متظاهرا بالحيرة: لعلها حادثة انتقام شخصي. - لا أظن. - لكنه لم يكن أفسد من غيره. - يعرف الخاصة أنه يدس السم في أدوية أعداء الحاكم!

قال عبد الله لنفسه: إن صاحبه يعرف من أسرار الناس ما يعرفه، وربما أكثر .. تساءل: إذا لم يكن الاغتيال ضمن خطتكم فمن فاعله؟

فقال فاضل بضيق: الله يعلم، إنه يقتل ونحن ندفع الثمن.

15

عندما أطفأ الشمعة وآوى إلى فراشه، شعر بالوجود الغريب يدهمه فارتجف قلبه، وتمتم: سنجام!

فسأله الصوت ببرود: ماذا فعلت؟ - أفعل بطريقتي ما أعتقد أنه الخير. - بل كان رد فعل لما ألحقه بك من إهانة.

فقال بحرارة: ما فعلت إلا أن قدمته، وكان دوره سيأتي عاجلا أو آجلا.

فقال سنجام: حسابك عند المطلع على ما في الصدور، فحذار يا رجل.

وتلاشى سنجام فلم يغمض له جفن.

16

فوق قبة جامع الإمام العاشر، في جلسة مفعمة بالهدوء، مترعة ببرد الشتاء، متلفعة برداء الليل، جلس قمقام وسنجام .. تحتها تدفقت قوات الشرطة مكشرة عن أنيابها، يتطاير الشرر من أعينها الثملة بالحمرة القانية. همس قمقام في أسى: يا لعذاب البشر!

فقال سنجام كالمعتذر: ما فعلت إلا أن أنقذت روح جمصة البلطي من الجحيم. - ما تدخلنا مرة في حياتهم وانتهى الأمر بما نود. - والإغضاء عنهم فوق ما نحتمل.

ومر تحتهم في تلك اللحظة المعلم سحلول تاجر المزادات والتحف، فأشار إليه قمقام قائلا: إني أغبطه على معاشرته لهم كأنه آدمي مثلهم!

فقال سنجام مشاركا: ولكنه ملاك، نائب عزرائيل في الحي، واجبه يقتضي الاختلاط بهم ليل نهار، ويحل له ما لا يحل لنا.

فقال قمقام: لندع الله أن يلهمنا الصواب.

فردد سنجام: آمين.

17

اعترضت مسيرة عبد الله الحمال عثرة ضاق بها صدره .. كان يمضي بحمل كبير من النقل والفاكهة المجففة إلى دار عدنان شومة كبير الشرطة .. ولم يكن كف عن تقييم مصرع إبراهيم العطار، ما وراءه من جهاد صادق، وما تسلل إليه من غضب ورغبة في الانتقام .. سبيل الله واضح ولا يجوز أن يخالطه غضب أو كبرياء، وإلا انهار البناء من أساسه .. وكانت دار عدنان شومة تقوم في شارع المواكب والأعياد على مبعدة يسيرة من دار الإمارة .. شارع وقور تقوم على جانبيه دور السادة والفنادق الكبرى، وبه بستان وساحة بيع الجواري .. قال لنفسه وهو يدخل الدار: «سيجيء دورك يا عدنان قريبا.» .. وعندما هم بالذهاب أوقفه عبد، ودعاه إلى مقابلة صاحب الدار .. ذهب إلى بهو الاستقبال بقلب يخفق بالقلق .. نظر إليه الرجل بوجهه المستدير الصغير وعينيه الضيقتين القاسيتين وهو يداعب لحيته، ثم سأله: من أي البلاد؟

فأجاب عبد الله بخشوع: الحبشة. - قيل لي إن سمعتك طيبة وإنه لا تفوتك فريضة!

فتلقى أول نسمة راحة وقال: بفضل الله ورحمته.

فقال بهدوء: لذلك وقع اختياري عليك.

تفشى المعنى المقصود في رأسه كما تتفشى رائحة قوية في مكان مغلق .. فكم من مرة - وهو كبير الشرطة - وجه مثل هذا القول إلى رجل إيذانا بنظمه في سلك عيونه السرية .. هو يعلم أن التملص من التكليف خليق بالقضاء عليه، وأنه لا مفر من الطاعة.

وقال الرجل: بذلك تحوز الشرف في خدمة السلطان والدين.

تظاهر بالارتياح والسعادة والزهو .. أعطاه الأمارات التي يطمئن بها .. على ذاك. قال له محذرا: احذر ما يردي الخائن في الهلاك.

فتمتم بغموض: تسرني الخدمة في رحاب الله.

فقال عدنان شومة: الدور مفتوحة لك بحكم عملك ولا ينقصك إلا بعض الإرشادات.

هي الإرشادات المدونة في دفاتر سرية منذ عهد جمصة البلطي.

18

غادر دار عدنان شومة بحمل جديد أثقل من الحمل الذي جاء به .. ولدى اجتماعه بفاضل صنعان أفضى إليه بسره الجديد .. فكر فاضل في الأمر طويلا، ثم قال: أصبحت ذا عينين، عين لنا وعين علينا.

لكن عبد الله غرق في همه، فسأله: ألا تعتبر ذلك كسبا لنا؟

فقال عبد الله بوجوم: إني مطالب بما يدل على إخلاصي في العمل!

فلاذ فاضل بالصمت متفكرا، فمضى عبد الله: أتساءل أحيانا هل دعاني الرجل لشكه في أمري؟

فبادره فاضل: إنهما أصحاب عنف فلا حاجة بهما إلى الحيلة. - أوافقك، ولكن كيف أثبت إخلاصي؟

فرجع فاضل للتفكير في الأمر، ثم قال: تقضي المصلحة أحيانا إرسال أناس منا إلى بلاد بعيدة، سأدلك على أحدهم لتبلغ عنه بحيث يفلت في الوقت المناسب «مصادفة»!

فقال عبد الله وعيناه تبرقان بالفكر: حل موفق، ولكن لا يجوز تكراره!

فقال فاضل مخاطبا نفسه: حقا إنها ورطة! - ها أنت ذا تشاركني الرأي أخيرا.

وسأل نفسه هل يستطيع الاستمرار في تنفيذ مشروعه السري؟! وتشعث تفكيره فجأة عندما رأى المعلم سحلول يعبر الطريق أمامهم مسرعا لا يلوي على شيء .. انقبض صدره كالعادة ولكز فاضل بكوعه متسائلا: ماذا تعرف عن هذا الرجل؟

فقال فاضل بنبرة طبيعية: سحلول تاجر المزادات والتحف، كان من أصدقاء أبي، ولعله التاجر الوحيد الذي يملك صحيفة بيضاء. - ماذا تعرف عنه أيضا؟ - لا شيء. - ألا يثير فضولك غموضه؟ - غموضه؟! ما هي إلا البساطة الصريحة، رجل نشيط خبير، ولا شأن له بالآخرين، ما الذي يدعوك للتساؤل؟

فتردد قليلا، ثم قال: له نظرة نافذة لم أرتح إليها. - لا أساس لظنونك تقوم عليه، إنه استثناء طاهر لقاعدة فاسدة.

تمنى أن يصدق رأيه وأن تكذب ظنونه.

19

أيقن من خبرته السابقة بأنه سيوضع تحت المراقبة أسوة بالمخبرين الجدد .. هيهات أن يجد فرصة ليقوم بمغامرة جديدة إلا إذا أزاح عدنان شومة نفسه من طريقه بضربة موفقة .. وتسلل إلى داره في لقاء سري، وقال له: عما قليل ستسقط ثمار كثيرة، الحي مليء بالكفرة، ولكني أرى أن أتجنب التردد عليكم.

فقال عدنان شومة بسرور: سأعين لك وسيطا. - هذا يكفي في الشئون العادية، أما الشئون الخطيرة فأفضل أن يقتصر الاتصال عليك. - نتفق على ذلك فيما بعد.

فقال عبد الله بحماس: خير البر عاجله.

فقال عدنان شومة بعد تفكير: إني أتواجد أحيانا ليلا خارج سور الحي، أظنه مكانا مناسبا.

وفاق تدبيره ما كان يأمل.

20

وبمعاونة فاضل صنعان قدم تقريرا عن شاب أعزب يقيم منفردا بحجرة في ربع بعطفة الدباغين .. ولما انقضت القوة على مسكنه تبين لها أنه غادره لسفر منذ دقائق! .. وغضب عدنان شومة وقال لعبد الله: أثرت ريبته دون أن تدري!

فوكد له أنه أدهى مما يتصور، ولكن الآخر صرفه غير راض عنه.

21

وزلزل دار الإمارة، والحي والمدينة، للعثور على جثة عدنان شومة خارج سور الحي .. ماج شهريار نفسه بالغضب، وتخايلت لأعين الكبراء مخاوف مجهولة تزحف من مكامنها في الظلام .. ونما إلى عبدالله من وسطه السري الرسمي أن البحث يتركز في كشف الأسباب التي دعت كبير الشرطة للخروج سرا من سور الحي .. وكان هو أول من أتيح له الاطلاع على سر ضحيته الذي كان يقصد دارا خاصة يلتقي فيها بجلنار وزهريار شقيقتي يوسف الطاهر حاكم الحي .. الحق أنه عرف سيرة المرأتين منذ عهد خدمته، ومن قبل أن يتولى يوسف الطاهر الإمارة .. لذلك دعاه كبير الشرطة إلى مقابلته في جوسق بحديقة الدار ثم صرفه، ولكنه لم يرجع إلى الحي، بل لبد له في الظلام حتى غادر الدار قبيل الفجر فتلقاه بالسهم القاتل .. الآن يتلاشى شعوره بالأمان، ولا يستبعد أن يكون بعض خاصة عدنان شومة من النساء أو الرجال قد عرف سر المقابلة بينه وبين الرجل .. قرر الهرب ولو إلى حين .. غادر الحي كله إلى ما وراء الخلاء عند النهر على كثب من اللسان الأخضر، حيث اعتاد ممارسة هواية الصيد، نفس البقعة التي التحم فيها بسنجام .. وجد نخلة فارعة فارتمى تحتها وأغرق في التفكير .. وأقبل الليل وتجلت النجوم متواضعة، واشتد البرد .. ترى هل أحسن التدبير والتفكير أو أن لهفته على تنفيذ مشروعه قد أفسدت عليه هدفه؟! ومتى وكيف يتاح له العمل مرة أخرى؟ كيف يتجنب أعداءه وكيف يتصل بصاحبه فاضل صنعان؟ وفي سكون الليل ترامى إليه صوت يقول: يا عبد الله!

نظر صوب مصدر الصوت، صوب النهر، وتساءل: من ينادي؟

فقال الصوت بنبرة تبث الأمان والطمأنينة والسلام: اقترب.

دنا من النهر يسير في حذر حتى رأى صفحته معتمة تحت ضوء النجوم، ورأى شبحا نصفه في الماء ونصفه مستند بساعديه فوق الشاطئ .. سأله: أأنت في حاجة إلى مساعدة؟ - أنت المحتاج إلى المساعدة يا عبد الله.

فسأله بقلق: من أنت، وماذا تعرف عني؟ - أنا عبد الله البحري كما أنك عبد الله البري، وقبضة الشر تتوتر للقبض على عنقك. - سيدي، ماذا يبقيك في الماء؟ .. من أي الأحياء أنت؟ - ما أنا إلا عابد في مملكة الماء اللانهائية. - تعني أنها مملكة تحيا تحت الماء؟ - نعم، تحقق بها الكمال وتلاشت المتناقضات، ولا ينغص صفوها إلا تعاسة أهل البر.

فقال عبد الله منبهرا: عجيب ما أسمع، ولكن قدرة الله لا حد لها. - كذلك رحمته، فاخلع ثيابك واغطس في الماء. - لماذا يا سيدي؟ لماذا تطالبني بذلك في الليل البارد؟ - افعل كما أقول قبل أن تطوق عنقك القبضة القاتلة.

وسرعان ما غاص عبد الله البحري في الماء تاركه لاختياره .. وبدافع من إلهام ثمل خلع ملابسه وغاص في ماء النهر حتى اختفى تماما .. وإذا بالصوت يقول له: عد إلى البر آمنا.

وما كاد يشعر بالأرض تحت قدميه حتى استقر قلبه بين ضلوعه وشعر بأنه جارحة من جوارح السماء والأرض والليل، وشعر أيضا بالدفء .. عند ذاك غلبه النوم فنام نوما عميقا هادئا، وكأنما النجوم لا تومض إلا لترعاه .. وصحا قبل انبلاج الصبح .. ونظر في مرآته على ضوء أول شعاع يهبط، فرأى وجها جديدا لم يعرفه من قبل، فهتف: مباركة العجائب إن تكن من صنع الله.

لا هو وجه جمصة البلطي ولا وجه عبد الله .. وجه قمحي، صافي البشرة، ولحية مسترسلة سوداء، وشعر غزير مفروق ينسدل حتى المنكبين، ونظرة عينين تومض بلغة النجوم .. أدرك الموت عبد الله كما أدرك جمصة البلطي من قبل .. وغاب فاضل وأكرمان، ورسمية وحسنية، وأم السعد .. ولكن ثمة أصواتا جديدة تتجسد، ومغامرات جديدة تقبل مع الشروق، ودنيا جديدة تنكشف عن عجائب مباركة.

22

طابت له الحياة في الخلاء على مقربة من اللسان الأخضر الممتد في النهر .. النخلة جليسه، وصيد النهر غذاؤه، والهواء النقي أليفه، ورواد اللسان الأخضر من أهل الصبوات والطرب مثار نقمته ومرتاد عفوه، أما راحة قلبه ففي مناجاة عبد الله البحري .. ويجيء عابرو النهر بأنباء المدينة .. علم فيما علم أن الحاكم يوسف الطاهر اختار حسام الفقي كاتما لسره وبيومي الأرمل كبيرا لشرطته .. علم أيضا أن قوات الأمن تجتاح الحي كإعصار، وأنهم يبحثون عن عبد الله الحمال، وأنهم ألقوا القبض على معارفه ، فسيق إلى السجن رجب الحمال، وفاضل صنعان وزوجته أكرمان .. هكذا سرعان ما فني أمنه وجزع قلبه فتوثب من جديد للنضال.

23

لم يذهب ليقتل ولكن ليقدم نفسه فدية عمن يحب .. لم يستشعر رهبة ولا خوفا، وسما به الإلهام فوق الوساوس .. قصد من توه بيومي الأرمل في دار الشرطة، وقال بهدوء ورزانة: جئت لأعترف بين يديك بأني قاتل عدنان شومة!

فانتبه إليه كبير الشرطة متفحصا، وسأله: من أنت؟ - عبد الله البري صياد سمك.

من منظره شك كبير الشرطة في جنونه، فأمر بتكبيله بالحديد اتقاء لخطره، ثم سأله: ولم قتلت عدنان شومة؟

فأجاب ببساطة: إنني مكلف بقتل الأشرار. - من الذي كلفك بذلك؟ - سنجام؛ ذلك العفريت المؤمن، وبوحيه قتلت خليل الهمذاني، وبطيشة مرجان، وإبراهيم العطار.

فجاراه الرجل قائلا: سبق أن اعترف بقتل الهمذاني كبير الشرطة الأسبق جمصة البلطي.

فهتف الرجل: في الأصل كنت جمصة البلطي! - رأسه معلق بباب داره! - وقد رأيته بعيني رأسي! - وتصر على أنك صاحب الرأس؟ - لا ريب في ذلك، وسوف تصدقني عندما تسمع حكايتي. - لكن كيف ومتى ركبت هذا الرأس الجديد؟ - دعني أطلب سنجام شاهدا.

فصاح الرجل: إنك جدير بالإقامة الدائمة في دار المجانين.

وأمر بإرساله من توه إلى دار المجانين، فمضوا به، وهو يصرخ: إلي يا سنجام .. إلي يا عبد الله البحري. •••

وقد عذب فاضل في السجن طويلا، ثم لم يجد الحاكم بدا من الإفراج عنه ومن معه، آمرا - في الوقت نفسه - بمضاعفة الجهد للعثور على عبد الله الحمال.

نور الدين ودنيازاد

1

غمر نور القمر أشجار البلخ بميدان الرماية، فالتمعت أزهارها البنزهيرية الناعمة .. وغمر نور القمر أيضا قمقام وسنجام المستلقيين فوق غصن من أغصان الشجرة الكبرى، في ليلة مازجت فيها أنفاس الشتاء المودع أنفاس الربيع المتحفز .. قال قمقام: ما أطيب الزمن إذا جرى تحت رضا العناية!

فقال سنجام: إذا استقرت السكينة سمعت همسات الأزهار وهي تسبح بحمد الله. - ماذا ينقص الإنسان ليحظى بنعمة الزمان والمكان؟ - هذا ما يحيرني يا أخي، ألم يوهب العقل والروح؟

وأرهف قمقام أذنيه في حذر، ثم تساءل: ثمة نذير في الجو؟

عند ذلك حط فوق غصن قريب عفريت وعفريتة ثملين بالمجون، فهمس سنجام: سخربوط وزرمباحة!

فهمس قمقام: الكفر والشر.

وضحك سخربوط ساخرا، وقال معلقا: نحن نستمتع بالكون بلا خوف.

فصاح به قمقام: لا سرور لمن خلا من الله قلبه.

فتساءلت زرمباحة ساخرة: حقا؟

وتبادلت مع رفيقها الغرام، فتطاير من عناقهما الشرر .. اختفى قمقام وسنجام فند عن حنجرتي سخربوط وزرمباحة هتاف انتصار، وقال لها: غبت عني دهرا.

فقالت ضاحكة: لعبت لعبة في معبد بالهند، وأين كنت أنت؟ - قمت برحلة فوق الجبال.

فقالت زرمباحة بإغراء: رأيت لدى عودتي فتاة جميلة بهرني جمالها والحق يقال. - أنا أيضا رأيت شابا جميلا في حي العطور لا نظير لجماله بين البشر. - إن نظرة على فتاتي ستمحو من ذاكرتك صورة فتاك. - هذه مغالاة لا مسوغ لها. - تعال وانظر بعينيك. - أين توجد فتاتك؟ - في قصر السلطان نفسه.

وفي غمضة عين كانا في جناح البهاء بقصر السلطان .. تراءت فتاة آية في الجمال وكانت تنزع عباءتها المطرزة بأسلاك من ذهب لترتدي حلة نومها المصنوعة من الحرير الدمشقي .. قالت زرمباحة: دنيازاد أخت شهرزاد زوجة السلطان. - جمالها يفوق الحياة حقا .. لم يحظى بهذا الجمال كائن سريع العطب؟ - صدقت؛ فهو ما يتألق إلا أياما معدودات ثم يعبث به الزمن. - لذلك تلذ الشماتة بهم. - لهم عقل، ولكنهم يحيون حياة الأغبياء. - لشد ما تبدو خالدة! - لعلك الآن تسلم أنها أجمل من فتاك؟

فقال سخربوط بعد تردد: لا أدري .. تعالي لتنظري بنفسك.

في أقل من لحظة كانا في دكان شاب آية في الحسن، كان يغلق الدكان ويطفئ السراج ويهم بالذهاب .. قال سخربوط: هذا نور الدين بياع العطور. - جماله فائق أيضا، من هو صاحبك؟ - بياع كما ترين، وما يهمنا أصله. - هو أليق الذكور بفتاتي وهي أليق الإناث به. - يعيشان في مدينة واحدة ويفصل بينهما ما يفصل بين السماء والأرض. - هذا هو العبث، فكيف نتهم نحن بأننا العابثون؟! - كيف لا يتنافس الخطاب في فتاتك؟ - مهلا، يتمناها كثيرون، منهم يوسف الطاهر حاكم الحي، ومنهم كرم الأصيل صاحب الملايين، ولكن من الكفء لأخت السلطانة؟! - زرمباحة، هذا الكون مثقل بالحماقة.

وهتفت زرمباحة بسرور: جاءتني فكرة. - ما هي؟ - فكرة جديرة بإبليس نفسه. - أشعلت أشواقي! - نجمع بينهما في دعابة ماكرة.

2

انبهرت عينا دنيازاد السوداوان .. إنه حفل زفاف سلطاني سيكون أحد أعاجيب الترف والأبهة .. القصر يموج بأضواء الشموع والقناديل، يتلألأ بجواهر المدعوين والمدعوات، يهزج بأغاني المطربين والمطربات .. حتى السلطان شهريار باركها، أهداها جوهرة الدخلة، قال لها: مباركة ليلتك يا دنيازاد.

وانتظرت في المخدع آخر الليل في ثوب محلى بالذهب والمرجان والزمرد .. ودعتها أمها وأختها شهرزاد، فانتظرت وحيدة في المخدع، وشرد ذهنها لا يشغلها إلا ترقبها القلق وقلبها الخفاق .. انفتح الباب .. دخل نور الدين في أبهى حلة دمشقية وعمامة عراقية ومركوب مغربي .. تقدم منها كالبدر في تمامه، وجلا القناع عن وجهها .. ركع على ركبتيه .. ضم ساقيها إلى صدره .. تنهد قائلا: ليلة العمر يا حبيبتي.

ومضى ينزع ملابسها قطعة قطعة في صمت المخدع المليء بالألحان الباطنية ..

3

فتحت دنيازاد عينيها وقد نضحت الستارة بالضياء .. وجدت نفسها مغموسة في ذكريات النبع المبارك .. شفتاها نديتان بالقبل، أذناها ثملتان بأعذب الكلمات، خيالها مفعم بحرارة التنهدات .. العناق لم يبرح جسدها ولا الحنان .. هذه هي الصباحية .. ولكن .. سرعان ما هبت عليها رياح الوعي الصارمة .. أين العريس؟ .. ما اسمه؟ .. متى تمت مقدمات الزفاف؟ .. رباه! .. لم تخطب ولم تزف ولم يجر في القصر حفل .. إنها تنتزع من الحلم كمن يساق إلى النطع .. أكان حلما حقا؟ ولكن العهد بالأحلام أن تتلاشى لا أن ترسخ وتتجسد حتى لتلمس وتشم .. ما زالت ترى العريس رؤية العين وتستشعر مسه وحنانه .. ما زالت الحجرة معبقة بأنفاسه .. وثبت إلى الأرض فاكتشفت عريها، اكتشفت حبها المسفوح .. انقضت عليها رعدة نافذة مرعبة .. هتفت في يأس: إنه الجنون.

ونظرت فيما حولها بذهول، وهتفت مرة أخرى: إنه الهلاك.

ولاح لها الجنون كوحش يطاردها.

4

أما صحوة نور الدين فكانت غاضبة ثائرة عندما رأى حجرة نومه البسيطة بمسكنه القائم فوق دكانه بحي العطور .. أكان حلما؟ .. لكنه حلم عجيب له قوة الحقيقة وثقلها .. ها هي ذي العروس بجمالها حقيقة لا يمكن أن تنسى أو تمحى من القلب .. ومتى وكيف تجرد من ملابسه؟ .. ما زال يشم الشذا الطيب الذي لا نظير له بين عطوره .. ما زال يرى المخدع الفاخر بستائره ودواوينه وسريره العجيب. - ما معنى العبث مع مؤمن صادق مثلي؟

ولم تعذبه الحقيقة وحدها ولكن أيضا عذبه الحب.

5

قهقهت زرمباحة وسألت سخربوط: ما رأيك في هذا العشق المستحيل؟ - مداعبة فريدة حقا. - لا عهد للبشر بمثلها.

فقال سخربوط مترددا: ليس دائما، إنهم مولعون بخلق الأوهام. - ولكن كيف؟ - ما أكثر الذين يتوهمون في أنفسهم الذكاء، أو الشعر أو الشجاعة!

فقالت مسترسلة في الضحك: يا لهم من حمقى!

فقال بحقد: إني أعجب لماذا فضلوا علينا؟

6

سلمت دنيازاد بأن سرها أثقل من أن تحمله وحدها .. هرعت إلى جناح شهرزاد عقب ذهاب شهريار إلى مجلس الحكم .. وما إن رأتها شهرزاد حتى قالت بقلق: ماذا بك يا أختي؟

فجلست على وسادة عند قدمي السلطانة، ورفعت إليها عينين مستغيثتين، وقالت وهي تنشج في البكاء: ليته كان مرضا أو موتا. - أعوذ بالله، افترقنا أمس على خير حال. - ثم وقع ما لا يقع في دنيا العقلاء .. - حدثيني؛ فقد بددت طمأنينة نفسي.

فأسدلت عينيها ثم قصت عليها قصتها التي بدأت بزفاف وهمي وانتهت بدم حقيقي .. تابعتها شهرزاد بقلق وريبة، ثم قالت برجاء: لا تخفي شيئا عن أختك. - أحلف لك برب الكون أني ما أضفت إلى قصتي حرفا ولا نقصت منها.

فتساءلت شهرزاد: أيكون وغدا من رجال القصر؟ - كلا .. كلا .. ما وقعت عليه عيناي من قبل. - أي عقل يقبل قصتك؟ - هذا ما أحدث به نفسي، إنها قصة شبيهة بقصصك العجيبة. - قصصي مستوحاة من عالم آخر يا دنيازاد.

فقالت متنهدة: لقد وقعت أسيرة صدق عالمك الخفي، ولكني لا أريد أن أكون ضحيته.

فقالت شهرزاد بأسى: سأعرف الحقيقة عاجلا أو آجلا، ولكني أخشى أن تدهمنا الفضيحة قبل ذلك! - هو ما يقتلني خوفا وغما. - إن عرف السلطان حكايتك استيقظت من جديد شكوكه، وارتد إلى سوء ظنه بجنسنا، وربما أرسل بي إلى الجلاد ورجع إلى سيرته الأولى.

فهتفت دنيازاد: معاذ الله أن يصيبك سوء من ورائي.

وتفكرت شهرزاد مليا، ثم قالت: فلنحفظ قصتك سرا، ولن يدري بها السلطان ولا أبي .. سأدبر ما ينبغي فعله مع أمي، ولكن يجب أن تعودي إلى دارنا بحجة الحنين إلى أهلك.

فتمتمت دنيازاد: ما أتعس حظي!

7

دعا نور الدين أمه كليلة الدمر، فجاءت عجوز متحركة الشفتين بتلاوة غير مسموعة، يحمل وجهها النحيل آثار جمال قديم .. أجلسها إلى جانبه على كنبة خراسانية، وسألها: هل زارنا غريب وأنا نائم؟

فقالت بدهشة: ما طرقنا طارق. - ألم يصدر عن حجرتي صوت؟ - أبدا، إني أنام ولا تنام حواسي، وأخفت الأصوات يوقظني، لماذا تطرح أسئلة غريبة؟

فقال بعد تردد وحياء: لعله حلم، ولكنه ليس كالأحلام. - ماذا رأيت يا بني؟ - رأيتني في حضرة فتاة جميلة!

فابتسمت كليلة، وقالت: إنها دعوة من الغيب للزواج.

فقال بحدة: كانت حقيقة ملموسة ومشمومة، لا أدري كيف أشك فيها، ولكني لا أستطيع تصديقها أيضا.

فقالت العجوز ببساطة: لا تشغل بالك وتزوج. - هل سمعت من قبل عن حقيقة تتلاشى في حلم؟ - ربنا قادر على كل شيء، ستنسى كل شيء قبل مرور ساعة.

فتنهد قائلا: نعم.

وكان يعلم أنه يكذب، وأنه لن ينسى، وأن قلبه يخفق بحب حقيقي، وأن محبوبه كائن متجسد لا ينسى ولا يمحى أثره من الوجدان.

8

فتح نور الدين دكانه وطالع الناس بوجه جديد .. عرف طيلة عمره اليافع بجماله الصافي وبحضور البديهة في المعاملة، ولكنه بدا ذلك الصباح الربيعي شارد اللب، حائر الطرف .. يتساءل الذين يستبشرون بطلعته عما غيره واستأثر بخياله .. ويتساءل هو طيلة الوقت عن حلمه العجيب الذي فاق الحقيقة في الوجود والدسامة والأثر .. وقد بلغ العشرين من دون أن يتزوج لرغبة قديمة في الزواج من حسنية أخت صديقه فاضل صنعان .. تردد قديما بين رزقه المحدود وثراء أبيها الواسع، وتردد بعد ذلك لمعارضة أمه في الزواج من ابنة رجل خالط العفريت حياتهم .. قالت العجوز: ابعد عن الشر؛ فلا ندري عن هذه الأسرار شيئا.

وأبقى على مودته لفاضل، تاركا حسنية للزمن، ولكن أين حسنية الآن؟ بل أين الدنيا وما فيها؟ لا وجود إلا لتلك الصورة الباهرة والمخدع الوثير والسرير الذي يفوق في حجمه غرفة نومه كلها .. لقد رأى رؤيا حقيقية، ومارس حبا حقيقيا، وها هو يحب حبا يتضاءل بالقياس إليه أي حب حقيقي .. ها هو يعاني فتور الحياة ووحشتها وكآبتها وحزنها الأبدي في البعد عنها .. أما شذاها فيعبق به أنفه، وأما مناجاتها فتردد مع أنفاسه .. وتذكر صباه الذي أنفقه في كنف الشيخ البلخي يتعلم القراءة والكتابة ومبادئ الدين .. عندما أخذ من ذلك كفايته وهم بتوديع الشيخ قال له الرجل: ما أجدرك بالعشق!

فهم أنه يدعوه إلى الاستمرار معه، فقال له: والدي مريض، وعلي أن أحل محله في الدكان.

فقال الشيخ: ما أقبل في صحبتي عاطلا.

فقال كالمعتذر: حسبي العبادة والتقوى.

وما أخلف الظن في ذلك وما حاد عن الصراط، وها هو يتذكر بتلقائية قول الشيخ: «ما أجدرك بالعشق!» ترى هل يجدر به أن يزور الشيخ مستنصحا؟ .. ولكنه خاف، وسلم بأن سره جدير بأن يطوى في الصدر .. راح يتابع تيار النساء المحجبات .. هل يمكن أن تكون حبيبته إحداهن؟ إنها موجودة على أي حال، ما يداخله شك في ذلك .. موجودة في مكان ما وفي هذا الزمان دون غيره .. لعل أشواقنا تهيم في جنون مجدة وراء التلاقي .. لعل الذي صنع معجزة الحلم يعد بمعجزة أخرى تأويله وتحقيقه .. لا يمكن أن يتلاشى حلم كهذا كأن لم يكن .. لا يمكن أن تشتعل أشواق بهذه القوة دونما سبب أو غاية .. لا بد أن يصل العاشق .. بالعقل أو الجنون لا بد أن يصل .. ولكن ما أضيع الباحث بلا دليل!

9

سعد الوزير دندان برجوع دنيازاد إلى داره الرحيبة، أما الأم فعانت وحدها - بعد دنيازاد - معاشرة السر الأليم .. قالت لابنتها بحزن وغضب: زلت قدمك يا دنيازاد.

فقالت دنيازاد باكية: إني مسلمة أمري لرب العالمين. - لن تكون العاقبة خيرا.

فكررت باستسلام: إني مسلمة أمري لرب العالمين.

وعندما لاحت الأمارات كالنذير، أقدمت المرأة على إجهاض ابنتها مستغفرة ربها .. وقالت بأسى: نحن نؤجل البلاء، ولكن ما العمل إذا جاء عريس؟

فهتفت دنيازاد: لا رغبة لي في الزواج. - وماذا نقول لأبيك إذا وجده كفئا؟

فرددت دنيازاد: إني مسلمة أمري لرب العالمين.

وإذ خلت إلى نفسها تناست الأخطار المحدقة بها فلم تذكر إلا حبيبها الغائب .. عند ذاك تستهين بالموت، ولا تأبه للعار، وتتساءل بوجد وعذاب: أين أنت يا حبيبي؟ كيف وصلت إلي؟ ما سرك؟ ماذا يبعدك عني؟ ألم يأسرك جمالي كما أسرني جمالك؟ ألم تلفحك النار المشتعلة في روحي؟ ألا ترق لعذابي؟ ألا تفتقد حبي وأشواقي؟

10

وعرض من الأحداث عارض اهتزت له القلوب .. فقد مضى المنادي على بغلته ينادي رعية السلطان، مذيعا نبأ هجوم ملك الروم على أحد الثغور، ونهوض الجيش للجهاد ودفع الغزاة .. جاشت الصدور بالقلق، واكتظت المساجد بالمصلين، وارتفع الدعاء للسلطان شهريار بالنصر .. وفي المساء هرع الناس إلى مقهى الأمراء فامتلأ برواده من السادة والعامة .. وجمعت أريكة واحدة بين حسن العطار بن إبراهيم العطار وفاضل صنعان ونور الدين .. لم يكن للقوم من حديث إلا الحرب .. وسمع الطبيب عبد القادر المهيني وهو يقول: إنكم لم تشهدوا غزوا للعدو، ما هو إلا عاصفة من الهلاك تجتاح المدن وأهلها.

فقال جليل البزاز: جيش الله لا يغلب.

فقال معروف الإسكافي: لله حكمته أيضا.

فقال رجب الحمال: قد تقع سفينة السندباد في الأسر!

فقال له علاء الدين بن عجر الحلاق: لا تفكر إلا في ذاتك وصاحبك!

عند ذاك قال عجر الحلاق: رأيت حلما عجيبا!

ولكن أحدا لم يسأله عن حلمه، لسوء ظنهم بصدقه، ولعلمهم بلهفته على إقحام نفسه في شئون الآخرين.

وارتعد نور الدين لذكر الحلم، وقال لصاحبيه حسن وفاضل: ليس أعجب من الحلم في حياة البشر.

فسمع صوتا يقول معلقا على قوله: صدق ما قلت يا بني.

فالتفت إلى الأريكة المجاورة، فرأى سحلول تاجر المزادات والتحف يرمقه باسما، فقال له: إنك حكيم ومجرب يا سيدي.

فقال سحلول: من ملك الحلم ملك الغد!

مال إلى مناقشته بكل قلبه ولكن فاضل - مستذكرا ما سبق أن ردده صديقه الغائب عبد الله الحمال - لكزه بكوعه خفية وهمس في أذنه: دعك منه.

فتساءل نور الدين: ولكنه ذو تجربة.

فهمس فاضل صنعان: إنه غامض أيضا كالحلم.

وسمع الطبيب عبد القادر المهيني وهو يقول: في تقديري أن جيش السلطان سينتصر ولكن البومة ستنعق في بيت المال.

11

وجعل نور الدين يتنهد في أسى متسائلا، أما لهذا الشوق من نهاية؟ .. كلت عيناه من النظر وأرهق القلب .. وراح يتجول في الطرقات، حينا في النهار، وحينا في الليل، منجذبا بصفة خاصة إلى مواقع النساء في أسواقهن الأثيرة .. وأكثر من مرة يمر أمام دار الوزير دندان في الوقت الذي تقف فيه دنيازاد وراء المشربية مستطلعة ولكنه لا يراها ولا تراه .. وتتجلى له التجربة الفريدة خارقة من الخوارق مستقرة في عزلة بعيدا عن مجال الأمل، أو تهامسه مرات كحقيقة مذهلة ستكشف له النقاب عن وجهها، وقتما تشاء رحمة الله .. ومرة أخرى رأى في آخر الليل شبحا مقبلا .. تكشف له عندما ألقي عليه ضوء فانوس معلق بأعلى باب دار عن وجه قزم .. إنه كرم الأصيل صاحب الملايين فماذا أخرجه من داره الرائعة في مثل هذه الساعة من الليل؟ ماذا يؤرقه وعم يبحث؟ .. ترى لو وقع أسير حلم مثله فهل كان يغني عنه ماله في العثور على آسره؟! وانقبض قلبه لمرآه، لغير سبب واضح.

12

كرم الأصيل يحب المشي في الليل في الطرقات الخالية .. إنه صديق الأماكن، فما يخلو مكان منه من عمارة أو بيت أو وكالة يملكها .. وله في داره الرحيبة زوجة وعشرات من الجواري ولكنه لا يملك القلوب كما يملك البشر والأشياء .. بقدرته أن يغير المصائر ولكنه عاجز عن تغيير صورته أو حجمه .. لذلك كثيرا ما تبدو له الدنيا كئيبة مثل وجهه .. تدفعه المعاملة لغشيان الناس ولكنه يحب الوحدة والليل .. لا يحب الغناء ويضيق بالسمر ويعشق المال ويعبد القوة .. لم يهنأ بقبوله نديما للسلطان، يؤدي الزكاة ولا يمارس الصدقة، يعنى بلحيته ويعجب بها؛ فهي أجمل ما فيه بثرائها وتماديها، أنجب من البنات عشرين ولم ينعم عليه بذكر واحد، وهو صاحب الملايين، وأغنى رجال الحي، بل أغنى رجال المدينة.

وهو أيضا عاشق .. ولعل ذلك ما جعل نور الدين يتابع شبحه بقلب مبهم وتأثر عميق.

13

ألقي عليه العشق عندما سقط النقاب عن وجه دنيازاد فوق الهودج في حفل عاشوراء .. خفق قلبه الغارق في هموم الأعمال كما يبرق برق في سحاب مكفهر .. ومال نحو بيومي الأرمل كبير الشرطة، وهو من عبيد جوده: من الجارية؟

فأجابه باسما: دنيازاد أخت السلطانة!

انقبض صدره وأيقن أنها لا تشترى بالمال.

هكذا يمضي في الليل في رفقة من ذكريات غير سارة .. ولما لمح نور الدين تجاهله .. إنه يحسده لجماله ويحتج غاضبا على حسده لشخص من البشر .. ومر بدار سحلول تاجر المزادات والتحف .. قال لنفسه: «سيمسي ذلك الرجل منافسا لي في الثراء». وكان يعتبره من القلة النادرة التي تلزم الآخرين باحترامها فكرهه أكثر مما يكره الآخرين .. واتجه نحو داره وهو يقول: كرم الأصيل، عبد الله البلخي، من ذا يقرأ لنا الغيب؟ كان يجب أن تكون ثروتي من السرور أضعاف أضعاف ما أحرزه!

14

قال له البواب: مولاي، حسام الفقي كاتم السر ينتظر عودتكم في البهو.

ماذا جاء به في هذه الساعة المتأخرة؟ .. مضى إليه من فوره .. تعانقا .. قال كاتم السر: سيدي يوسف الطاهر حاكم الحي ينتظرك الآن في داره. - أي أمر عاجل وراءك؟ - لا أدري إلا أنه أمر هام.

ذهبا مسرعين .. وانفرد به يوسف الطاهر وهو يقول مداعبا: على قدر أهل العزم.

فتفحصه كرم الأصيل باهتمام، فواصل الرجل: انتصر جيشنا، أنت أول رجل تزف إليه البشرى.

فتمتم في حيرة: منة من رب العالمين.

فحدجه الحاكم بنظرة طويلة، ثم قال: بيت المال تكلف فوق طاقته.

انقبض صدره وأدرك كل شيء، فقال يوسف الطاهر: السلطان في حاجة إلى قرض، يسدد عقب جمع الخراج.

فتساءل فيما يشبه الدعابة: وما شأني أنا وذاك؟

فضحك يوسف الطاهر، وقال: اختصك السلطان بذلك الشرف.

فتساءل دون ابتهاج: كم؟ - خمسة ملايين من الدنانير!

لا مفر ولا اختيار، ولكن التمعت فكرة في رأسه الخبير في المساومة .. قال: فرصة للقرب من السلطان والطموح إلى ثواب الرحمن. - أحسنت.

فقال بهدوء: ولكن ثمة رجاء لم أكن أدري كيف أفصح عنه.

فصمت يوسف الطاهر باسما، فقال كرم الأصيل: يد دنيازاد، أملي الأخير في شرف القرب.

دهش يوسف الطاهر ولكنه لم يبد دهشة .. تذكر كم تمنى دنيازاد لنفسه .. حنق على محدثه فوق ما تصور .. لكنه قال بهدوء: سيرفع الرجاء كما تشاء!

15 - وقع المحذور!

هكذا رددت الأم وهي في غاية الاضطراب، ودنيازاد كانت تتوقعه على أي حال .. قالت الأم: جاء العريس، حظي برضا السلطان وموافقة أبيك!

ترى من يكون؟! هل ادخر القدر معجزة جديدة فيها الشفاء؟ تساءلت عيناها دون أن تتفوه بكلمة، فقالت الأم: إنه كرم الأصيل صاحب الملايين!

قطبت دنيازاد وخطف اليأس دم وجنتيها، فقالت الأم: الفضيحة تدق الباب كالرعد.

فبكت دنيازاد قائلة: إني بريئة والله شهيد. - هيهات أن تجدي مصدقا لحكايتك! - الله حسبي. - عنده العفو والمغفرة. - أليس لي حق القبول أو الرفض؟

فقالت الأم مستنكرة: إنها رغبة السلطان.

فتأوهت قائلة: ليتني أهرب من هذه الدنيا. - تكون فضيحة أكبر وقد لا تسلم أختك من العواقب.

فأفحمت في البكاء حتى قالت أمها: ليت المشكلات تحل بالدموع.

فهتفت دنيازاد: لكني لا أملك إلا دموعي!

16

قال سخربوط لزرمباحة وهو يضحك بسرور: اللعبة تتمادى في التعقيد، وسوف تتمخض عن عواقب مثيرة.

فقالت زرمباحة مشاركة في سروره: تسلية نادرة. - ترى هل تنتحر الجميلة أم تقتل؟ - الأجمل أن تقتل وينتحر أبوها. - هل ثمة مجال للمزيد من العبث؟ - بل ندع الأمور تجري في مجراها ما دامت في غير حاجة لتدخلنا. - الحق أني أخاف.

فقاطعته متسائلة: مم تخاف يا حبيبي؟ - أن يتسلل الخبر من حيث لا ندري.

فقالت بازدراء: لا تكن متشائما.

فضحك سخربوط ولم ينبس.

17

انتشر نبأ خطبة كرم الأصيل لدنيازاد في الحي، ساحبا وراءه ذيلا عريضا من البهجة والتطلعات والسخريات .. حلم الفقراء بمطرة منهمرة من الصدقات من رجل لم يعرف حتى حب الصدقة .. وفرح الأعيان بهذه المصاهرة بين السلطان وحيهم .. وجرت الهمسات منذرة باقتران القرد بالملاك .. وناحت دنيازاد في وحدتها مناجية المجهول: «أين أنت يا حبيبي؟» .. «متى تجيء لإنقاذي من الدمار؟» وراح نور الدين يتخبط بين الطرقات وقد أثار نبأ القران أحزانه، مناجيا المجهول أيضا: «أين أنت يا حبيبتي؟» .. وتابع قمقام وسنجام المناجاة المتبادلة في أسى عميق، حتى قال سنجام لزميله: انظر ماذا يفعل الزمان والمكان!

فقال له قمقام: إن أنات البشر من قديم تتدفق في نهر الحسرات بين الكواكب.

ومر تحت الشجرة المعلم سحلول مهرولا، فقال قمقام بصوت مسموع: إنه ماض إلى مهمة.

فقال سحلول بحيرة: أحيانا أتلقى أوامر غير مفهومة!

ومضى في سبيله.

18

انتهى سحلول إلى سور دار المجانين ووقف في الظلماء .. همس لنفسه: لولا الإيمان لتساءلت عن معنى ذلك.

وسلط إرادته على الأرض فيما بينه وبين زنزانة جمصة البلطي فانشق نفق لا يستطيع البشر شقه في أقل من عام .. وفي ثوان كان واقفا في الظلام فوق رأس جمصة البلطي يسمع شخيره المنتظم .. هزه برفق، فاستيقظ متسائلا: من؟

فقال له: لا أهمية لذلك، جاءك الفرج، هات يدك لأنطلق بك إلى الحرية.

استسلم جمصة له غير مصدق حتى غمره هواء الربيع الرطيب .. تمتم جمصة: يا رحمة الله! من أنت أيها الغريب؟ من أرسلك؟

دفعه سحلول وهو يقول: إلى مقامك المنعزل القديم على شاطئ النهر!

19

عندما ذهب الغريب قال جمصة البلطي لنفسه: ليس هذا من عمل الإنس، تذكر ذلك يا جمصة، تذكر وتفكر.

عاش بين المجانين حتى ألف الجنون .. أدرك أنه سر مغلق وكشف مثير .. تمنى أن يغوص في أعماقه ويجابه تحدياته .. ولما أنعشه الهواء جرى قلبه إلى أكرمان ورسمية وحسنية، تمنى لو يزور الربع ويخالط أنفاس الأحبة .. لكن من يكون؟ لقد حلقوا شعر رأسه ولحيته وجلدوه مرتين، لا وجود اليوم لجمصة ولا لعبد الله .. إنه اليوم بلا هوية ولا اسم، مليء بالأشجان والنزوع إلى التقوى .. أوى إلى النخلة عند اللسان من النهر .. تذكر صديق الأحلام عبد الله البحري .. رجع يقول: كائن بلا هوية، غايته فوق الأكوان، ولكن تذكر وتفكر، فلم يجئك الفرج بغير ما سبب!

20

حملت دنيازاد إلى السراي ليحتفل بزفافها في رحاب السلطان تنفيذا لرغبته السامية .. اجتاحت رياح الرعب المثقلة بالغبار قلب العروس وشقيقتها صاحبة الحكايات .. نصحت شهرزاد أختها بادعاء المرض ورجت السلطان تأجيل الزفاف حتى تبرأ من مرضها .. واستدعي الطبيب عبد القادر المهيني فتولى العلاج، وسرعان ما ساورته شكوك .. كان فطنا أريبا ذا خبرة بالنفوس لا تقل عن خبرته بالأجساد، فرجح لديه أن العروس راغبة عن القرد، ولكنه تغابى بلباقة، متعاطفا مع رغبتها، دافنا سرها في بئر مهنته المصون، فقرر أن العلاج سيطول .. غير أن كرم الأصيل ضاق بالقرار، وساورته شكوك أيضا، فتضرع إلى مولاه أن يأذن له في عقد الزواج على أن يؤجل الزفاف لحين الشفاء .. وافق السلطان، وجيء بكبير القضاة فعقد الزواج، وبذلك باتت دنيازاد زوجة شرعية لكرم الأصيل صاحب الملايين .. وانتظر قوم بهجة الأفراح على لهفة، وتوقع آخرون سقوط الكارثة.

21

وقادت أقدام نور الدين الحائرة صاحبها ذات مساء إلى النهر، فخلا إلى نفسه عند اللسان .. في خلوة ناعمة بأنفاس الربيع، مشتعلة بألسنة الأشواق .. ترامى إليه صوت مناجاة فأيقن أنه صوت عابد، فانجذب نحوه ناشدا راحة وسلوى .. عثر على الشيخ تحت النخلة فأشفق من مقاطعته وجلس يستمع .. ولما انتهى الرجل سأله: من أنت؟ .. وماذا جاء بك؟

فأجاب نور الدين: إني معذب، وأنت؟ من هذه الناحية يا عم؟ - لا تهم النواحي من جعل قرة عينه في العبادة، ولكن ما سر عذابك؟ - لي حكاية غريبة!

دفعته رغبة قوية للاعتراف فحكى له حلمه بتفاصيله وما أعقبه من جنون، ثم سأله: هل تصدقني؟

فأجاب الرجل: المجانين لا يكذبون. - هل عندك تفسير للسر؟ - وراءك ملاك أو شيطان ولكنه حقيقة! - وكيف أبرأ من أشواقي؟

فقال بهدوء: نحن نكابد أشواقا لا حصر لها لتقودنا في النهاية إلى الشوق الذي لا شوق بعده، فاعشق الله يغنك عن كل شيء.

فقال نور الدين بعد صمت: إني مؤمن صادق العبادة، ولكنني ما زلت عاشقا لمخلوقات الله. - إذن فلا تكف عن البحث. - نال مني التعب والأرق. - العاشق لا يتعب.

فقال باهتمام : يخيل إلي أنك ذو خبرة. - عرفت رجلا لم يحرم ممن يحب فحسب، ولكنه حرم من الوجود ذاته! - بالموت؟ - بل في الحياة! - هل داخلكما شك في عقلي؟ - إنه الجنون نفسه. - والعقل أيضا.

فقال بعد تردد: إنك تغمض وتزداد غموضا.

فتساءل بنبرة باسمة: إذن ماذا تقول عن حلمك؟!

22

ورجع نور الدين إلى المدينة يخوض بحار الظلمات .. لم يبل العابد غلته أو بالكاد فعل .. فحثه على البحث ولم يعده بالظفر ولا أنذره باليأس، ثم وضح أنه من المبتلين .. لم يخلق نور الدين للزهد في الدنيا ولكنه خلق لعشق الله في الدنيا .. على ذلك فارق الشيخ عبد الله البلخي يوم فارقه .. لم يملك في تلك اللحظة إلا اليقين بأن محبوبته كائنة في مكان ما، وأنها منطبعة بأثر حبه .. بذلك حدثته نسائم الربيع الهائمة في الليل، كما حدثته ومضات النجوم الهابطة بين القباب والمآذن .. وهتف بصوت مرتفع في وحدته: خفف عذابي يا لطيفا بالعباد.

وإذا بصوت عميق يسأل: من الشاكي في هذه الساعة من الليل؟

انتبه إلى شبح رجلين يعترضان سبيله، فتساءل: أمن رجال الشرطة أنتما؟

فأجاب صاحب الصوت: نحن تاجران غريبان نتسلى عن طول ليلنا بالمشي في حيكم العريق. - أهلا بكما ومرحبا. - ماذا تشكو أيها الشاب؟

وقال زميله: الناس للناس، ولا تضيع الشكوى بين أهل المروءة.

فقال نور الدين مدفوعا بكرمه: أدعوكما إلى داري المتواضعة وهي قريبة.

وضمتهم حجرة أنيقة، وقدم لهما زلابية وقدحين من الكركديه .. حاما حول شكواه، سألهما عن موطنهما، قالا إنهما من سمرقند .. حاما حول شكواه مرة أخرى .. قال: يبوح الحائر بسره للغريب.

فقال ذو الصوت العميق: وقد يجد عنده ما لا يخطر على بال.

فقال نور الدين متنهدا: فلتمطرنا السماء مطرة غير متوقعة.

واندفع يحكي لهما حكاية حلمه العجيب حتى تلاشى صوته في صمت شامل وهو يرنو إليهما في حياء .. ثم قال ذو الصوت العميق: تعارفنا بالقلوب كما يجدر بأهل الكرم، ولكن آن لنا أن نتعارف بالأسماء، أما أنا فعز الدين السمرقندي، وهذا شريكي خير الدين الأنسي.

فقال نور الدين : نور الدين بياع الروائح العطرية. - تجارة جميلة مثل وجهك. - هل داخلكما شك في عقلي؟ - معاذ الله، الله لا يضع جماله إلا حيث يريد أن يضع رضاه. - هل صدقتماني؟

فقال عز الدين: أجل أيها الشاب، إني جواب بلدان، وقد سمعت من حكايات الأولين ما لا يخطر على قلب بشر؛ لذلك لا أشك في حقيقة حلمك.

فانتعش قلب نور الدين بالآمال، وتساءل: هل يمكن أن أبلغ المراد بالوصول إلى محبوبتي؟ - ما أشك في ذلك.

فتأوه متسائلا: ولكن كيف ومتى؟

فقال الرجل: بالصبر والإصرار يتحقق الوصول.

وسأله خير الدين الأنسي: أأنت في حاجة إلى مال؟

فقال متنهدا: لا أسأل الله إلا الوصول.

فقال عز الدين: أبشر بفرج الله القريب.

23

رأت شهرزاد السلطان منفعلا كما لم تره من قبل .. كان في الشرفة المطلة على الحديقة وقد فرغ من صلاة الصبح وراح يتناول إفطارا من الحليب والتفاح .. عما قليل سيرتدي زيه الرسمي ويذهب إلى مجلس الحكم، ولكنه يبدو في ساعته كطفل سعد باكتشاف جديد .. قال: ليلة أمس صادفت في تجوالي حكاية كأنها إحدى حكاياتك يا شهرزاد.

فقالت باسمة رغم كربها الدفين: تكرار الحكايات آية صدقها يا مولاي. - أجل، أجل .. أسرار الوجود شائقة وألذ من الخمر. - متعك الله بالوجود وأسراره يا مولاي.

فقال بعد تمهل: الحق أنني في حركة دائبة لا تتوقف ولا يهدأ القلب، يتنازعني بياض النهار وظلام الليل.

فقالت بمرح تغطي به على فتور روحها: هكذا الرجل الحي. - مهلا، جاء دوري لأحكي لك حكاية غريبة.

وقدم لها حلم نور الدين بياع الروائح العطرية .. وانتبه إلى وجهها قائلا بدهشة: ما أشد تأثرك يا شهرزاد!

فقالت كالمعتذرة: استيقظت اليوم متوعكة. - لسعة رطوبة لا تلبث أن تزول وسوف يراك الطبيب، أما أنا فأريد أن أكلف المنادين بالسير بالحكاية لأجمع بين العاشقين.

فقالت بحرارة: بل التمهل أولى بنا أن يتعرض بريئان لألسنة السوء!

ففكر مليا، ثم تساءل: ألست قادرا على حمايتهما؟!

وقالت شهرزاد لنفسها: إن هذا الرجل لم يكن يشغله إلا ضرب الأعناق، وما زال شيطانه ذا سطوة لا يستهان بها، ولكنه لم يعد يستأثر به.

24

وقالت شهرزاد لأمها المقيمة في السراي بعلة رعاية دنيازاد في مرضها: ثمة خارقة من الخوارق تطالبنا بمزيد من الحكمة.

فتنهدت الأم قائلة: لا يصلح قلبي لتلقي الحوادث الجديدة. - أمي، لقد تجلت حقيقة صاحب الحلم!

ففغرت المرأة فاها، ثم تمتمت: لا تحدثيني عن الأحلام. - ما هو إلا نور الدين بياع الروائح العطرية.

وقصت عليها مغامرة السلطان بحروفها .. عند ذاك قالت الأم بذهول: ما في وسع مثله أن يتسلل بليل إلى سراي السلطان. - لو صح ارتيابك يا أمي لهان عليها أن تهرب معه. - ولكن ما الفائدة؟ أختك زوجة شرعية لكرم الأصيل، والكارثة تقترب ساعة بعد أخرى. - وسوف ينادي المنادون بالحكاية، ولا يبعد أن تنكشف حقيقتها.

فزفرت الأم قائلة: الخطر يدهمنا. - هي الحقيقة المرعبة. - هل ننتظر كالمطروح فوق النطع؟

فقالت شهرزاد باضطراب: إني خائفة، على دنيازاد وعلى نفسي أيضا، لا أمان للسفاك، إن شر ما يبتلى به الإنسان أن يتوهم أنه إله. - إنه كالموت، لا مفر منه. - يتراءى لي أحيانا أنه يتغير. - أبوك يقول ذلك أيضا. - لكن ماذا يدور بداخله؟ .. ما زال في نظري لغزا غامضا لا أمان له.

فقالت الأم بقلق: قد تعجبه الحكاية وهي بعيدة، أما أن تقتحم داره وتتعامل معه فشيء آخر، قد تعاوده وساوسه. - وينقلب شيطانا كما كان أو أفظع. - وما ذنبك أنت؟ - أرى أن نشرك دنيازاد في همومنا. - إني أشفق من ذلك كل الإشفاق. - إلام نهرب من الحقيقة وهي تطوقنا؟

واستأذنت القهرمانة مرجان في الدخول .. قدمت لشهرزاد رسالة وهي تقول بخوف: اختفت سيدتي دنيازاد تاركة هذه الرسالة.

قرأت شهرزاد الكلمات الآتية: عفوا يا مولاي السلطان.

لا قبل لي بعصيان أمرك بالزواج من كرم الأصيل، ولا طاقة بي للزواج منه، فاخترت أن أقضي على نفسي والله غفور رحيم.

شهقت الأم وأغمي عليها.

25

راح المنادون يذيعون الحلم العجيب ويدعون العاشقين للتلاقي في رحاب السلطان .. في ذات الوقت تلقى السلطان نبأ انتحار دنيازاد بالحزن والسخط، وأصدر أمره بالعثور على جثتها في أي موضع من الأرض .. وغضب كرم الأصيل غضبا شديدا دعاه إلى الاعتكاف بعيدا عن شماتة الشامتين وسخرية الساخرين، فلم يكن يغادر داره إلا عند انتصاف الليل .. أما يوسف الطاهر - حاكم الحي - فقد تلقى الخبر في دفقة امتزج فيها السرور بالحزن العميق .. سر بتحرر دنيازاد من قبضة الرجل القرد، ولكنه حزن بعمق على موت الفتاة التي تمناها لنفسه، والتي من أجلها فكر جادا في تدبير مؤامرة لاغتيال كرم الأصيل.

26

كان المجنون يتأمل في ظلمة الليل تحت النخلة عندما انتبه إلى شبح يقترب على ضوء النجوم .. سمع صوت أنثى يحييه، وتقول: باسم الله أسألك أن ترشدني إلى سفينة تبعدني عن المدينة.

فسألها برقة: أتهربين من فعل يغضب الله؟

فقالت بحرارة: ما أغضبت الله في حياتي قط.

صوتها ذكره بأكرمان وحسنية، فمازج حنان الأرض أشواق السماء في قلبه، فقال برقة مشعشعة بالندى: عليك بالانتظار حتى مطلع الفجر، والله يتولاك برحمته. - هل أستطيع الانتظار هنا؟

فابتسم ابتسامة لم ترها، وقال: خلق العراء للهاربين! أين تذهبين؟ - أريد أن أبعد عن المدينة. - ولكنك وحيدة ولعلك جميلة!

فلاذت بالصمت، فقال: لعل الله يعينك بيدي إن شئت؟

فقالت بامتنان: ما أريد إلا أن تيسر لي السفر.

فتساءل بقلق: عهد الله إنك لم تخلفي وراءك أذى لإنسان؟

فقالت بصوت متهدج وقد اطمأنت إليه: إني مظلومة، غادرت داري لأقتل نفسي، ثم خفت أن يلقاني الله غاضبا. - لماذا يا ابنتي؟

فنشجت باكية، فهتف مخاطبا السماء: إنك أعلم أين تضع رحمتك. - بريئة ومظلومة. - ما أحب أن أتطفل على سر قلبك.

فاستسلمت قائلة: إنك من العباد الطيبين وإليك أبوح بسري.

وراحت تحكي حكايتها، فقاطعها متسائلا: أأنت صاحبة الحلم؟

فهتفت متسائلة: كيف عرفت ذلك؟ - عرفته من شريكك في نفس المكان، وسمعته بعد ذلك من المنادين. - عقلي عاجز عن متابعتك، هل تعرف شريكي في الحلم؟ - المنادون يرددون اسمه في كل مكان، إنه نور الدين بياع الروائح العطرية.

فقالت وكأنما تخاطب نفسها: المنادون؟! وراءهم السلطان! ياللعجب! نور الدين .. نور الدين .. لكني متزوجة، بل إني ميتة.

وأكملت قصتها فقال الرجل: اذهبي إلى زوجك!

فهتفت بإصرار: الموت أهون. - اذهبي إلى زوجك نور الدين!

فتساءلت بذهول: ولكنني زوجة شرعية لكرم الأصيل!

فقال بحزم: اذهبي إلى نور الدين ودعي الفجر يطلع!

27

قال سخربوط محتدا: ماذا أرى؟ .. الأمور تسير نحو حل سعيد!

فقالت زرمباحة مدارية مرارة: انتظر، مازال الطريق مليئا بالأشواك.

ولمحا تحت الشجرة سحلول يمضي مهرولا في الظلام، فتساءل سخربوط: مهمة طارئة أيها الملاك؟

وقالت زرمباحة: لعلها لنا لا علينا.

مضى سحلول دون أن يعيرهما التفاتة.

28

في الصباح الباكر غادر نور الدين داره ليفتح دكانه .. وجد عند الدكان فتاة محجبة كأنما تنتظر .. عليها رداء من القز الدمشقي يفصح عن هوية سامية .. تطلعت إليه باهتمام ثم ندت عنها آهة عميقة .. عجب لشأنها وتلقى من قلبه نبضات موحية بإلهامات غامضة .. ما لبثت أن أسفرت عن وجه مضيء ورنت إليه بثبات واستسلام وشغف .. مر دهر وهما غائبان عن الوجود وغائصان في حلم ينفث السحر والوجد .. رقت نسائم الربيع، خف وزنهما، أفعما بشذا الزرقة السماوية .. أنستهما السعادة الهابطة ذكريات العذاب والحيرة، فحل السلام بالأرض، وتلاحمت الأيدي بحركة عفوية مثل غناء الطير .. هتف: كائن وحي، حقيقة لا حلم، هنا في هذه الساعة من الزمان.

فهمست بصوت متهدج: نعم .. أنت نور الدين وأنا دنيازاد! - أي رحمة هدتك إلى مقامي؟

فتدافعت الكلمات من ثغرها تروي المأساة والفرج، فقال بنشوة: كان علينا أن نطمئن إلى أن المعجزة لا تقع عبثا. - ولكن الرعد أقوى من هديل الحمام.

فقال بإصرار: معا وإلى الأبد. - كان ذلك قدرا مقدورا. - لنذهب إلى السلطان.

فانطفأت شعلة حماسها، وهي تقول: ولكني متزوجة من كرم الأصيل.

فقال بحدة: وعد السلطان أقوى.

فقالت بأسى: والعثرات لها قوتها أيضا.

ولكنه كان من السكر في غاية.

29

انعقد المجلس السلطاني في الضحى وشهده كبار رجال الدولة .. مثل أمام العرش نور الدين بياع الروائح العطرية، ودنيازاد أخت السلطانة .. قال السلطان متجهما: دهمتنا العجائب الغامضة، وقد علمتنا الأيام والليالي بأن نخص العجائب باهتمامنا، وأن ندق باب الغموض حتى تتفتح مصاريعه عن الضياء، غير أن هذه العجيبة المتنكرة في حلم اقتحمت علي داري.

صمت السلطان فخفق قلب الوزير دندان، وشحب وجها دنيازاد ونور الدين .. قوى متضاربة تتنازع قلب السلطان ولا شك .. ما زال المارد القاسي، سحرته الحكايات ولكنها لم تغير من جوهره، وإذا به يقول ووجهه يزداد تجهما: ولكن وعد السلطان حق!

فزال الكرب عن قلوب كثيرة وأشرقت وجوه بنور الأمل .. وعند ذاك قال المفتي: ولكن السيدة دنيازاد متزوجة بحكم الشرع.

فأصدر السلطان أمره إلى دندان، قائلا: أحضر كرم الأصيل.

فقام يوسف الطاهر حاكم الحي العتيق، وقال: مولاي، وجد كرم الأصيل ميتا ليلة أمس غير بعيد من داره.

اجتاح الخبر القلوب فزلزلها، وسرعان ما تذكرت مصارع الحكام والأعيان .. وقام بيومي الأرمل كبير شرطة الحي، فقال: عثر رجالنا على المجنون الهارب يهيم على وجهه ليلا في الحي بعد بحث طويل خائب عنه فألقوا القبض عليه.

فسأله السلطان: هل تتهمونه بقتل الأصيل؟ - إنه ينسب إلى نفسه الجرائم كافة في مباهاة وعزة. - أليس هو الرجل المصر على الزعم بأنه جمصة البلطي؟ - هو نفسه وما زال مصرا على ذلك.

وهنا قال يوسف الطاهر: نستأذن مولانا في ضرب عنقه؛ فهو آمن من إرجاعه إلى دار المجانين.

فقال السلطان: حدثني وزيري دندان بأن النفق الذي هرب منه لا يمكن أن يصنعه بشر!

فقال بيومي الأرمل بتسليم: هو كذلك يا مولاي.

تردد السلطان طويلا حتى شعر المقربون بأن الخوف يساوره لأول مرة في حياته، ولما أدرك دندان ذلك، قال بلباقة: ما هو إلا مجنون يا مولاي، ولكن به سر لا يستهان به فليترك وشأنه .. وما من مملكة إلا وبها نفر من أمثاله لهم دورهم في العناية الإلهية، أرى يا مولاي أن يترك وشأنه وأن يبحث عن القاتل بين الشيعة والخوارج.

فقال السلطان، شاكرا في باطنه لوزيره لباقته: أحسنت النصيحة يا دندان.

ثم نظر إلى دنيازاد ونور الدين وقال: لكما الوعد فتزوجا، وسيكون لدنيازاد جميع مخصصاتها من بيت المال.

وتجلل المجلس بالسلامة والسعادة.

مغامرات عجر الحلاق

1

تبلبلت الخواطر لموت كرم الأصيل، ولكن عجر الحلاق شغل بنفسه عن الدنيا وما فيها، في الظروف العادية لا يشغله شيء عن الأحداث؛ فهو طفولي عريق، ينسج من الحبة قبة، ويعتبر في دكانه راوية قبل أن يكون حلاقا، ويستجلب بالأخبار والمبالغات الاهتمام والرضا .. غير أن ابتسامة أعادت خلقه من جديد، وفجرت الأماني المكتومة من قديم .. وهو قصير نحيل براق العينين، غامق السمرة، لا يخلو في الأصل من وسامة، ينطوي على نهم لا يدري به سواه .. صاحبة الابتسامة متوسطة العمر، تكبره بعام أو عامين .. لم تبسم إلى حلاق مثله؟ لعلها تحب الرجال، لعلها تغري بالأنوثة وبالجود، فما يشك أحد في فقر عجر الحلاق .. يا إلهي، إنه يحب النساء، ولولا الفقر ما بقيت فتوحة زوجته الوحيدة طيلة ذاك العمر .. لعله يحلم بالنساء كابنه اليافع علاء الدين ويحلم أيضا بالجاه والطعام والشراب .. وقد واظبت على المرور أمام دكانه أياما متتابعات حتى تصدى لها، فضربت له موعدا عند مدرسة السلطان عقب مغيب الشمس .. انتظر وهو يقول لنفسه: «جاء دورك في الحظ يا عجر» .. لأول مرة يثني على الحظ ويسجد، لأول مرة يرحب بهبوط المغيب، لأول مرة يأنس إلى الطريق وهو يقفر .. الدكاكين تغلق أبوابها، وهو يمتلئ بالانفعال والانتظار .. ولما خلا الطريق أو كاد ظهر «المجنون» بجلبابه الفضفاض ولحيته المرسلة .. على غير انتظار ظهر ليخترق الليل بأسراره .. هو المتطوع دائما بأنه مرتكب الجرائم الكبرى، والزاعم بأنه جمصة البلطي قاهر الموت الذي غزا قلب السلطان الحجري فأطلق سراحه .. وعجر يحبه كدعابة غامضة، ولكنه لم يرحب بظهوره في تلك الساعة الفاصلة .. وحدث ما أشفق منه، فاقترب منه المجنون حتى وقف بإزائه، وقال له بصوته المليء: اذهب إلى بيتك؛ فلا يخرج في الليل إلا ذو هدف.

فضحك عجر مغالبا توتره، وقال له: شعر رأسك ينمو مثل شجرة بلخ، ولحيتك تمتد طولا وعرضا كالستارة، هلا زرتني في دكاني لأهذبك؟

فنهره قائلا: عقلك فاسد فلا تطاوعه. - يا لك من مجنون ظريف!

فمضى عنه وهو يقول: جاهل من ذرية جهلاء!

لم يبق وحده أكثر من دقيقة ثم أقبلت المرأة .

2

تجربة مشتعلة، يستهان فيها بالمجهول، بعد عشرين عاما من حياة زوجية يومية .. قادته في الظلام المخفف بفوانيس الأبواب إلى دار شبه معزولة ببستان خارج السور .. آمن بأن التي تقوده من أهل الجاه والثراء والفجور فسعد بذلك درجة بعد درجة .. غاصا في مكان مظلم وشت به روائحه الزكية فأدرك أنه حديقة، ثم وجد نفسه في بهو مضاء بقناديل في الأركان، يتصدره سرير وثير يتوسطه مجلس من الوسائد حوله مائدة حفلت بالطعام والشراب .. غابت المرأة، ثم رجعت سافرة في جلباب حرير .. مكتنزة، حسنة القسمات، أكبر مما حسب، ولكنها تسيل دلالا وخلاعة .. جرى بصره على المرأة والطعام والشراب وقال لنفسه: «انظر كيف تتحقق الأحلام» .. قال وهو يتحفز: ليلتنا ليس في الليالي مثلها.

ملأت كأسين وهي تقول ضاحكة: لا ينكر النعمة إلا جاحد.

وصفقت فجاءت جارية في العشرين، حاملة عودا، تشبه المرأة فكأنها أختها وتتفوق بالشباب، وقالت المرأة: أسمعينا، لا يتم السرور إلا بالكمال.

لعب الشراب بالعقول كما لعب الوتر بالقلوب .. وبقحة عجر المعهودة أقبل على الشراب والطعام والمرأة .. وتساءل مرات: متى يتم التعارف؟ ولكن ما أهمية ذلك؟ ليحذر التسرع وليلعب دوره كما يجدر به .. إنه لا يشك في أنه بحضرة فاجرة .. لكنها فاجرة تجود وتهب ولا تستغل .. إنه حلم لا يضيره إلا أنه لا يصدق.

3

وخصته بيوم الإثنين من كل أسبوع .. طمع في المزيد ولكنها تجاهلته .. نصح نفسه بالقناعة .. تحامت أن تشير إلى هويتها فأيقن أنها من علية القوم .. لماذا لم تستقر في سراي مع كبير من الأكابر؟ لعله الفجور أو البطر فأنعم بأيهما .. والجارية الشابة شقيقتها بلا جدال .. غائصة ولا شك في الفساد .. وهي مذعنة ومطيعة للمرأة كأنها تابعة .. وهي فتنة، وهما يتبادلان استراق النظر .. سيقع حتما في شباك الصغرى كما وقع في الكبرى، وكل آت قريب .. إنه مجلس معبق بالشهوة والخيانة ولكنه يعمل للمرأة ألف حساب .. وأحب الطعام والشراب مثلما أحب المرأة .. وبمرور الأيام أحب الطعام والشراب أكثر .. يهجم على المائدة بوحشية وبلا حياء حتى بات فرجة مسلية للمرأتين .. حرص على ألا يفضحه هواه بالجارية الشابة، وشجعته هي مستخفية وراء المزيد من الحذر .. شعر في مقهى الأمراء بأنه أعلى مرتبة من الوجهاء، وأنه أسعد من يوسف الطاهر، وأنه شهريار آخر.

4

وذهب ليلة فلم يجد إلا الجارية الشابة .. البهو هو البهو ولكن المائدة خالية .. وتساءلت عيناه في حيرة دون أن ينبس، فقالت الجارية: إنها مريضة وقد كلفتني بالاعتذار.

خفق قلبه وبرقت عيناه وابتسم، فقالت: ينبغي أن أرجع مسرعة.

فقال بلهفة: إنها شديدة الثقة!

وتقدم خطوتين فاحتواها بين ذراعيه، فقالت دون أن تبدي مقاومة تذكر: من يدري؟ - ولكن الفرصة لن تفلت من يدنا. - يا لها من مغامرة! - إنك حرة مثلها .. لا شك أنك شقيقتها.

تخلصت منه بعذوبة وجاءت بالطعام والشراب .. أقبلا على الشراب بإفراط ليبددا مناخ التوتر والفكر .. وتذاوبا في رغبة متأججة .. واعتليا قمة التحدي، فغابا عن الوجود .. واستيقظ مبكرا .. قام يترنح برأس ثقيل .. أزاح الستار فتدفق ضوء المصباح .. حانت منه التفاتة إلى ذكريات الليلة الماضية ففرت من فيه آهة وجحظت عيناه .. رأى الجارية الجميلة مذبوحة! .. صفي دمها تماما، واستقر بها الموت .. متى .. من .. كيف .. هل يهرب؟ ما أثقل رأسه! .. كأنما شرب في الخمر بنجا .. التهمة معلقة فوق رأسه .. فكر سريعا .. وبلا منطق .. الحديقة .. دفن الجثة .. إزالة آثار الدماء .. هل في الدار من يراقبه؟ عليه أن يعمل وأن يسلم نفسه للمقادر .. لا وقت للتفكير .. تقوض البناء كله .. ما كان كان .. لازمه شبح المرأة الأخرى طيلة الوقت.

وعندما ألقى على المكان نظرة أخيرة، رأى عقدا ذا فص من الماس ملقى أسفل السرير، فتناوله وهو لا يدري ماذا يفعل، ودسه في جيبه .. تسلل إلى الخارج وهو يقول: ستكون معجزة إذا نجوت.

5

مضى عجر يتخبط في زنزانة كربه المقيم .. الجريمة تحاصره وتبسط قبضتها المتشنجة لتخنق عنقه .. أعاهدك يا ربي على التوبة إذا أنقذتني .. رآه ابنه علاء الدين فسر بعودته على حين كشرت فتوحة زوجته عن أنيابها، قال دون مبالاة: غلبني النعاس في غرزة.

لعنته .. الحياة بينهما تجري مكتظة بالنقار والمودة .. فتح دكانه متأخرا عن ميعاده .. استقبل الرءوس واللحى بعقل شارد يهيم في وديان الرعب .. كان ثمة شخص ثالث هو القاتل بلا ريب .. لكن لماذا قتل الشابة الجميلة؟ .. الغيرة؟ غيرة رجل مجهول أم غيرة امرأة؟ دائما تطارده صورة الأخت الكبرى .. قوية وفاجرة وقادرة على الكبائر .. هل تكتشف الجثة؟ هل علم أحد بتسلله الليلي؟ هل يساق ذات يوم إلى السياف ليضرب عنقه؟ أعاهدك يا ربي على التوبة إذا أنقذتني .. وفكر لحظات في الهرب .. العقد المستقر فوق بطنه يعد ثروة ولكن عرضه للبيع قد يوقعه في شر أعماله .. كلا .. إنه لم يقتل ولن يهرب والعناية الإلهية لا تنام .. أجل إن العناية الإلهية لا تنام، ولكن من هذا؟ نظر بصدر منقبض إلى «المجنون» وهو يدخل الدكان فيقتعد الأرض في بساطة وهو يأكل مشمشة .. وكان يشذب لحية الطبيب عبد القادر المهيني فقال للمجنون: ماذا جاء بك في النهار على غير عادة؟

فقال المجنون ببساطة: نهارك ليل يا عجر. - أعوذ بالله من شر الكلام.

وضحك الطبيب قائلا: لا تخدعني يا رجل؛ فالجنون منتهى العقل.

فقال المجنون: إني شرطي قديم. - ما زلت مصرا على أنك جمصة البلطي؟ - والشرطي إذا توجه لله لم يتخل عن مهنته القديمة!

فقال عجر بضيق: ارحمني من جنونك فلست رائق البال.

فقال المجنون بهدوء: لا يدعوني إلا أمثالك يا جاهل.

فضحك الطبيب عاليا، وقال: إنه يدعى عادة إذا عجز علمنا عن الخدمة.

ونهض المجنون فمضى وهو يقول: الله ملجأ الحي والميت، والميت الحي.

ولما غيبه الباب قال عجر للطبيب: قلبي يحدثني الآن بأن هذا المجنون قاتل خطير.

فتمتم عبد القادر المهيني: ما أكثر القتلة يا عجر!

شعر عجر بأن المجنون مطلع على سره .. ترى أهو الذي ذبح الجميلة؟! متى تنكشف الغمة يا رب السموات والأرض؟!

6

وليلة الإثنين جاءت .. موعد جلنار المنذر بالاحتمالات المبهمة .. إذا ذهب فإلى الجحيم يذهب .. وإذا لم يذهب قدم الدليل على جريمة لم يرتكبها .. مضى إلى دار الجريمة والفزع .. سلم نفسه إلى المقادر مقشعر البدن .. أخفى الحديقة من الوجود بغض البصر .. أما العنق المنزوع من الجسد الجميل فقد لازمه خطوة خطوة .. رأى جلنار والمائدة فتلقى أول نسمة في جو الصيف المشبع بالرطوبة .. عليه أن يكبح اضطرابه أن يفضحه .. عليه أن يمارس الحب فوق فراش الدم .. الجثة تملأ المكان وتغطي على المرأة النهمة .. ما أعذب الهرب! .. أقبل على الشرب بيأس .. المرأة هادئة باسمة .. أيسأل عن زهريار أم ينتظر؟ أيهما يشي بالريبة أكثر؟ لكن جلنار بادرته متسائلة: أين زهريار؟

فتساءل بدوره: ألم تحضر معك؟

فحدجته بحيرة وهي تشاربه، ثم قالت: أرسلتها إليك حاملة اعتذاري.

فقال بقلب خافق جاف: تبادلنا كلمتين ثم افترقنا. - اختفت كأنما تبخرت، يئس المجدون في البحث عنها، البيت مشتعل نارا.

فضرب كفا بكف، وتمتم: حدث عجيب حقا، هل ثمة ما يدعوها إلى الاختفاء؟ - لا أدري عن ذلك شيئا ولا أتصوره! .. البيت مشتعل نارا. - أي بيت يا جلنار؟ - بيتنا يا عجر، أحسبتنا بلا أهل؟ - وهذه الدار ما شأنها؟ - ما هي إلا استراحة لنا أوقفناها على الطرب!

فتردد، ثم تساءل ورأسه مثقل بلا نشوة: من أهلك يا جلنار؟

فقالت باسمة: ناس من الخلق، ماذا يهمك منهم؟

فغاص في الهم أكثر، وتساءل بحزن: ترى أين أنت يا زهريار؟! - أحزنك الخبر ولا شك؟

فانقبض صدره، وقال بحذر: ما أنا إلا إنسان يا جلنار.

فداعبت لحيته قائلة: وإنسان طيب يا عجر.

وانتشت بالخمر فاقتربت منه .. أطبقت الكآبة متجسدة .. ران الإحباط على الطعام والشراب وجفت ينابيع الرغبة .. جفل من المرأة بقدر ما توجس منها خيفة .. إنه كابوس ثقيل طويل ويجب أن يتلاشى.

7

في الموعد التالي ذهب وكأنما يذهب إلى النطع، ولكن لم يستجب لطرقاته على الباب أحد، ولم يفتح له بعد ذلك، فتلقى أول شعور بالراحة منذ اكتشاف الجريمة .. لعل أهلها فطنوا أخيرا إلى سلوكها السري، لعلها نفرت منه، لعلها لحقت بأختها، ليكن من أمرها ما يكون فقد انتهى قدر لا يستهان به من عذابه .. لن يقترب مرة أخرى من مقام الجريمة، وسوف يقاوم لون الدم الذي يطارده، ولن يألو أن يذكر نفسه بأنه لم يرتكب طيلة حياته جريمة قتل .. هيهات .. ولا قتل دجاجة مما يستطيعه .. وابتعدت ذكريات الطعام والشراب والغرام، فقال لنفسه المنهزمة: لعلها لم تكن حقيقة قط .. وكل يوم يمر يجود بهبة من الطمأنينة .. الخوف حق على المجرمين لا الأبرياء .. وهو بريء ما في ذلك شك .. وكلما رسخت الطمأنينة دبت الحياة في الرغبة المكبوتة .. رجع يتذكر ليالي الغرام والطعام ويتنهد .. ويتذكر العقد الثمين فوق بطنه المحروم من عرضه للبيع ويتأسف .. إنه يحمل ثروة معطلة، وله تجربة مع السعادة لا تنسى، ويتفجر في أعماقه النهم وأشواق اللذة .. وتساءل في حيرة: أليست التوبة أجدر بي؟

ولكن ليالي جلنار أشعلت في وجدانه جنون النساء .. جالت عيناه متلصصة بين الحسان، تنطلق من نار وترتد بنار أشد .. في إحدى جولاتها وقعت على حسنية بنت صنعان شقيقة فاضل، فشجعه فقرها وسمعة أبيها المتوفى على الطمع فيها .. وانتهز فرصة مجيء فاضل إلى دكانه ليشذب لحيته وشاربه فغالى في الترحيب به وسأله ببساطة عجيبة: يا سيد فاضل صنعان، هناك من يطلب شرف القرب منك.

فتساءل فاضل بعقل خال: من يا عجر؟

فقال بالبساطة نفسها: العبد لله.

صدم فاضل وكتم انفعاله .. قال لنفسه: لعل عجر أيسر في الرزق مني، ولكنه عجر وأنا فاضل، وحسنية لا تقل في التهذيب عن شهرزاد نفسها .. تساءل ليكسب مهلة للتفكير: أختي؟ - نعم.

فقال كالمعتذر: يبدو أن أحدهم سبقك يا عجر!

لاذ عجر بالصمت دون أن يصدقه .. لو سبقه سابق لعلم به. وهل يخفى عليه شيء مما يجري في الحي كله؟ وغضب عجر .. كيف لا يعتبر فاضل طلبه منة، وهو يطلب القرب من بيت حلت به لعنة الشيطان؟!

8

ازداد رغبة في الحب، ولم يكف عن التلهف على الجاه .. خاض في أجساد العذارى كالمراهقين رغم أن ابنه علاء الدين لم يتزوج بعد .. وتقلب بين الوسائد في دور سحرية على مثال الدور التي يدخلها أحيانا لخدمة أصحابها .. وكما وقع في حب حسنية تعلق قلبه بقمر أخت حسن العطار .. حب أقوى من الأول .. وزاده قوة أنه حب ميئوس منه .. حب مقضي عليه بالكتمان والأسى والعذاب .. ذهب يوما إلى دار العطار ليشذب لحية المعلم حسن، فلمح البنت الجميلة ففقد راحة البال إلى الأبد .. لكنه لم يفقد الحلم .. إنه يهيم بالدور العظيمة كدور العطار وجليل البزاز ونور الدين .. ونور الدين ما أسعده من شاب! .. من بياع عطور بسيط لا يرتفع درجة عن عجر، ولعله دون ابنه علاء الدين في الجمال والكمال، إلى عين من الأعيان، قريب وعديل للسلطان، وزوج لدنيازاد أخت شهرزاد، أليس الله بقادر على كل شيء؟

9

في قهوة الأمراء جلس كعادته كل ليلة .. عقب نهار صيف حار جاد الليل بنسمة طيبة .. وجد نفسه أقرب ما يكون من أريكة المعلم سحلول تاجر المزادات، وأنهى الراوي فصلا من سيرة عنترة فسكتت الرباب ونطق السمر .. قال عجر للمعلم سحلول وهو من زبائنه: لم تشرفنا من زمن!

فقال الرجل باسما: سأزورك على غير انتظار ذات يوم!

وجاء حسن العطار وجليل البزاز وبصحبتهما فاضل صنعان فاطمأنوا إلى مجلسهم .. حياهم عجر مغاليا في التودد والتقرب، فردوا تحيتهم بتحفظ .. إنه يلقي نفسه إلقاء على السادة، ولكنه يرد دون تشجيع، حذرا من تطفله .. إنه اليوم أعلى من فاضل ولكنهم يحفظون العهد القديم .. حلمه الدائم أن يقبل ليقدم خدماته نظير الاستمتاع بموائدهم .. يفلح مرة ويخفق عشرات المرات فيتأجج نهمه .. اليوم فاضل غريمه بعد أن رفض يده، أما حسن فيحوز النعمة التي لا أمل فيها .. سدد نحو مجلسهم أذنه على حين تظاهر بالاسترخاء والنعاس .. إنهم يتحدثون عن سهرة جميلة احتفالا بقدوم سفينة البزاز محملة من الهند .. سيكون طعام ولا طعام جلنار وسيجري الشراب .. سيملأ بياع الحلوى بطنه كالأيام الخالية. - الجو حار، نريد مكانا خارج الدور!

الصعلوك يعلن رغباته كأنه من السادة .. ويجيبه جليل: اللسان الأخضر، إنه جزيرة خضراء!

فقال حسن العطار: ودعوت شملول الأحدب!

فقال جليل: ما أجمل أن يهرج لنا مهرج السلطان!

حتى المهرج! .. أما أنت يا عجر فما إن يبتسم الحظ لك حتى يجتاحه الدم البشري .. ونظر نحو المعلم سحلول، وقال بأسف: إنك طراز وحدك في زهدك في اللهو يا معلم سحلول.

فقال المعلم بهدوء : هذا حق. - إنك رجل كريم متواضع، وما كنت تأبى أن أكون نديمك.

فابتسم ولم يجب .. وتفكر قليلا كيف يحرضه على اللهو .. ونظر نحوه مرة أخرى فوجد مكانه خاليا .. أجال بصره في المقهى فلم يعثر له على أثر .. هكذا يختفي فجأة وفي غمضة عين، فما أغربه! ولكن عجر صمم على أن يشترك في سهرة اللسان الأخضر مهما كلفه الأمر .. ولو توجت المغامرة بطرده!

10

اللسان الأخضر الممتد في عرض النهر مثل جزيرة نحيلة، ولا ضوء إلا ضوء النجوم الخافت .. وغير بعيد ينطلق شبح النخلة يقوم أسفلها مثوى المجنون .. كان عليهم أن يمدوا بساطا ويهيئوا سماطا، ويشعلوا نارا للشواء .. غير أن شبحا أقحم نفسه بينهم متطوعا للخدمة وهو يقول: خدام السيادة!

لم يحظ الصوت بارتياح أو تشجيع وصاح جليل البزاز: عجر! يا لك من طفيلي ثقيل!

فقال بثبات ويداه لا تكفان عن العمل: طفيلي أي نعم، ولكن لست ثقيلا، وكيف يطيب مجلس كهذا بلا خادم؟

فقال حسن محذرا: على شرط أن تلزق فاك بالغراء! - لن أفتحه إلا بعد إلحاح.

وارتفع صوت شملول الأحدب رفيعا كصوت طفل، وهو يقول له: كيف تدس نفسك يا صعلوك بين الأكابر؟

فحنق عليه، ولكنه انهمك في عمله مجهزا القوارير والكئوس، وراح يشعل النار .. اندفعوا في الشرب .. تناول شملول عودا يماثله في الحجم، ومضى يدندن بصوته المثير للضحك، وكان رغم ضآلته يجيش صدره بعظمة كونية .. وعقب أول كأس تستقر في جوف عجر نسي عهده فتساءل: هل سمعتم بآخر نادرة من نوادر حسام الفقي كاتم سر الحاكم يوسف الطاهر؟

فصاح به حسن العطار: لا نحب أن نسمع، فأغلق فاك!

وتمادوا في الشراب على حين ترامى صوت غير مرئي المصدر يناجي «الواحد» فاتجهت الرءوس نحو شبح النخلة .. وقال فاضل: إنه المجنون.

فتساءل جليل: ألم يجد مثوى غير ذلك ليفسد على اللسان الأخضر رواده؟

فقال حسن العطار، مخاطبا فاضل: إنه يزعم أنه حموك جمصة البلطي. - هكذا زعم، ولكن رأس جمصة المعلق يقول غير ذلك.

فقال شملول الأحدب: كل شيء جائز في هذه المدينة المجنونة!

عند ذاك قال عجر الحلاق: إن أردتم الحق ...

ولكن جليل قاطعه: لا نريد الحق ولا نحبه.

فصاح شملول: لا تذكرونا بالموت، بذلك أمر السلطان.

فسأل جليل: كيف تسامر السلطان يا شملول؟

فقال شملول بعجرفة: لست ممن يفشون الأسرار يا أحقر الخلق!

ضحك الجميع إلا حسن العطار، فقد انفجرت نشوته غضبا فصاح به: أيتها الحشرة.

وغضب الأحدب فرمى بالعود ووثب قائما .. وما يدرون إلا وهو يبول على السماط بطعامه وشرابه! .. وجموا موقنين بأن سهرتهم هدمت وتقوضت .. اشتعل السكر بالغضب ورموا الأحدب بجمرات الحقد .. انقض عليه فاضل دافعا إياه على ظهره، ثم رفعه من قدميه الصغيرتين ومشى به إلى حافة اللسان الأخضر، ثم غطسه في مياه النهر ثواني طويلة .. رفعه مرة أخرى من الماء تاركا إياه يسقط على الأرض المعشوشبة وهو يرقد من الرعب .. وقام مترنحا فتناول المجمرة ورماهم بها فتطايرت الجمرات المتقدة تلسع هذا وذاك .. بلغ منهم الحنق مداه فاجتاحوه سكارى غاضبين، وانهالوا عليه لكما وركلا حتى تهاوى فاقد الوعي .. تابعهم عجر جامدا ذاهلا .. تمتم: كفاكم يا سادة، إنه مهرج السلطان.

وانحنى فوقه في الظلام في صمت .. رفع رأسه وهمس: يا سادة، لقد قتلتم الأحدب!

تساءل جليل: واثق مما تقول؟ - انظر بنفسك يا معلم.

شحن الصمت بالرعب .. شمت بهم عجر .. قال متماديا: جريمة من لا شيء تطرق باب السلطان!

صاح حسن العطار: إنه الجنون. - أي حظ أسود؟ - أنضيع بلا سبب ولا ثمن!

وكان رأس عجر يطلق خيالات خارقة في جميع الجهات، ويثب من حلم إلى حلم .. أخيرا قال بهدوء، وهو يشعر بالسيادة لأول مرة: خذوا حوائجكم واذهبوا.

فقال جليل: كيف نذهب تاركين وراءنا هذه الجريمة؟!

فقال عجر بنبرة آمرة: اذهبوا .. سوف تختفي الجثة ولن يعثر عليها الجن نفسه. - أواثق أنت بنفسك؟ - كل الثقة، وما توفيقي إلا بالله!

قال جليل بصوت متهدج: انتظر مكافأة لم يسمع بمثلها أحد.

فقال ببرود: إنه أقل ما أنتظر! - ولكن لعل كثيرين في المقهى قد سمعوا بدعوتنا له إلى سهرتنا؟ - أجل حصل، ولكنني لحقت بكم بلا دعوة، وأستطيع أن أشهد بأنه لم يلبث معنا إلا ساعة ثم مضى وحده معتذرا بتوعكه، افهموا وتذكروا.

11

مع جثة الأحدب وحده .. تذكر زهريار والدم فارتعدت مفاصله .. لكن لا وقت للأفكار المثبطة .. ليبعد عن الأرض المزروعة .. ليبحث عن حفرة في الصحراء .. عن مكان أمين لحفظ الجثة حتى يحقق رغائبه .. لقد أهدرت جثة حظه السعيد وهاك جثة تعده باسترداد ما فقد .. السرعة والستر مطلبه .. وترامى إليه صوت هتك الصمت: أيها السائر في الظلام تخفف.

ارتعد كما لم يرتعد من قبل .. المجنون .. دائما يخترق وحدته .. ما عليه إلا أن يلف الجثة الصغيرة بطرف عباءته .. مد يده ثم سحبها بعنف كالملدوغ .. ثمة حركة أم لعلها نبضة .. ثمة نفس كالأنين .. رباه! الأحدب لم يمت .. وترامى الصوت كرة أخرى: تخفف!

اللعنة .. ما زال يطارده .. قاتل زهريار الجميلة .. لم قتلها؟ لم لم يقتل جلنار؟ حمل شملول على كتفه اليسرى وغطاه بجناح عباءته الأيمن .. همس له: اطمئن يا شملول .. صديقك عجر .. سأمضي بك إلى الأمان.

هل تضيع المكافأة؟ هل تتلاشى الرغائب؟ آه لو به قدرة على القتل! ولكن .. أجل خطرت له فكرة .. أن يخفيه في داره حتى ينال ما يشتهي .. استولت عليه الفكرة ولم يكن ممن يقلبون الأفكار على شتى وجوهها.

12

نظرت فتوحة إلى الأحدب الضئيل بلا حراك بذهول، فقال لها عجر: اسمعي وأطيعي.

فقالت ساخرة: إنه لا يصلح للطعام.

فقال بحرارة: سنعد له مكانا مريحا في العلية، ليبق أياما معدودة حتى يسترد صحته. - ولماذا لا تذهب به إلى أهله؟ - إنه نجمة الحظ التي ستجلب لنا السعادة، وتنقلنا من حال إلى حال .. قدمي له ما يحتاج إليه، وأحكمي إغلاق باب العلية، لن يطول ذلك، وسأخبرك بجميع ما ينبغي لك معرفته.

13

لم يكد ينام من ليلته ساعة .. وتوثب للعمل منذ الصباح الباكر .. إنه يوم فاصل في الحياة كلها، ويجب أن تحدث فيه جميع المعجزات بلا تأجيل .. ليكن جريئا مقتحما وبلا حياء وهو لم يكن ذا حياء قط .. ما هي إلا فرصة واحدة، وهيهات أن تتكرر، وكل شيء بمشيئة الله .. وقرر أن يبدأ بأغلى صيد، فقصد دار حسن العطار قبل موعد ذهابه إلى دكانه .. جاءه الشاب في المنظرة الوثيرة وهو يتساءل بلهفة: ماذا وراءك يا عجر؟

فأجاب بنبرة مليئة بالثقة: كل خير يا معلم، لك الأمان حتى آخر العمر.

فشد على ذراعه، وقال: موفق بإذن الله، هل قابلك المعلم جليل؟ - كلا بعد .. أردت أن أبدأ بالرأس. - إليك ألف دينار حلالا لك.

فقال بهدوء: بل عشرة آلاف يا معلم.

قطب حسن مذهولا، وتساءل: ماذا قلت؟ - عشرة آلاف دينار! - لكنها ثروة ينوء بها أكرم الأغنياء؟

فقال بالهدوء نفسه: هي قطرة من بحرك، وحياتك لا تقدر بمال قارون نفسه. - اقتنع بخمسة آلاف، وسوف يتمها جليل البزاز عشرا! - لن أفرط في درهم منها.

لاذ حسن بالصمت مليا، ثم قام متثاقلا، فغاب قليلا، ثم رجع بالآلاف المطلوبة، وهو يتمتم: لا رحمة لك.

فأقبل يدسها في جيبه وهو يقول محتجا: سامحك الله، ألم أنقذ أعناقكم من سيف شبيب رامة؟! - لكن طمعك أفتك من سيفه.

فتجاهل تعليقه قائلا: بفضل الله سيصير عجر من الأعيان ويستثمر أمواله مع الأفذاذ من أمثال المعلم سحلول .. بذلك يصير أهلا لتحقيق أحلامه الحقيقية.

فتساءل بسخرية خفية ينفس بها عن حقده: وما أحلامك الحقيقية؟

فقال بهدوء وجرأة مذهلة: أن أطلب شرف القرب منكم في يد أختكم المصونة.

انتتر قائما وهو يهتف: ماذا؟!

فقال ببرود: لا تشعرني باحتقارك، لا حق لك في ذلك، كلنا من صلب آدم، ولم يفرق بيننا فيما مضى إلا المال، ولا فرق اليوم بيننا.

فكظم حسن غيظه دفعا لسوء العاقبة، وقال متملصا من حرجه: ولكن لا بد من موافقتها كما تعلم.

فقال وهو يرمقه بنظرة ذات معنى: ستوافق من أجل إنقاذ رأس أخيها المحبوب.

فقال وهو يتنهد بعمق: طلبك يخلو من الشهامة.

فقال بيقين: الحب لا يؤمن إلا بالحب.

ساد صمت، فغاصا معا في حر اليوم المتصاعد، حتى قال حسن: فلنؤجل ذلك إلى حين.

فقال بقوة: موعدنا العصر. - العصر! - عصر اليوم للعقد ولنؤجل الزفاف.

قام منحنيا له تحية، وذهب وهو يشعر بجمرات الحقد المتطايرة من نظراته تحرق ظهره.

14

قبل أن يستدير الصباح كان قد حصل من جليل البزاز على عشرة آلاف دينار، ومضى عنه مشيعا بحقده المكتوم .. قال إن عليه أن يوثق علاقته بكبير الشرطة بيومي الأرمل اتقاء لأي غدر في المستقبل .. عليه أيضا أن يلتحم بحاكم الحي وكاتم سره كما يفعل الأثرياء، وفي ذلك ما فيه من العزة والأمان .. أما فاضل صنعان فقد خلا به في دكانه وهو يمر أمامه .. تفحصه بزراية وسأله: ماذا عندك لي جزاء إنقاذ رأسك يا فاضل؟

فضحك فاضل مرتبكا، وقال: عندي رأسي فهي أثمن ما أملك.

فقال عجر بمرارة: سبق أن رفضت يدي بإباء.

فقال فاضل معتذرا: لك علي أن أكفر عن خطئي.

فصمت لحظات، وقال: وهبني الله من هي خير منها، ولكن تذكر أنني أنقذت رأسك بلا مقابل مراعاة لفقرك!

15

وفي عصر اليوم تمت المراسيم الشرعية لزواج عجر من قمر العطار في جو أشبه ما يكون بجو المآتم .. تركز هم عجر في الاحتفاظ بشملول الأحدب في داره حتى تزف إليه العروس .. من ناحية أخرى اكترى دارا جميلة وشرع يعدها لاستقبال العروس .. ولم يكن مطمئنا للمستقبل كل الاطمئنان، فخدعته ستنكشف عاجلا أو آجلا، أكثر من ذلك ستعلم فتوحة بزواجه من قمر وتتجمع سحب المتاعب والأكدار .. غير أنه قد ينجو من السقوط إذا ضم إليه عروسه فانضم بطريقة ما إلى آل العطار، وإذا استثمر ماله فواتاه الربح الوفير والثراء المقيم .. وذهب إلى السوق فقابل المعلم سحلول، وقال له: لدي مال أريد أن أستثمره عندك فأنت خير المستثمرين.

فسأله سحلول، ولم يكن يعلن عن دهشته قط: من أين لك المال يا عجر؟ - الله يرزق من يشاء.

فقال باقتضاب: لا أشرك أحدا في مالي.

فقال برجاء: علمني؛ فالتعليم ثواب.

فابتسم سحلول قائلا: مهنتي لا تعلم يا عجر، انتظر حتى يرجع السندباد.

وتوجه من فوره إلى نور الدين عديل السلطان، فسأله الشاب في شيء من الارتياب: أتقسم لي على أن المال جاءك من الحلال؟

فاضطرب قلبه ولكنه أقسم، فقال له نور الدين: ستبحر سفينة في هذا الشهر، ارجع إلي في نهاية الأسبوع.

مضى خائفا من مغبة القسم الكاذب، ولكنه تعهد أمام ضميره بأن يكفر عن ذنوبه بالحج والصدقة والتوبة.

16

أدرك عجر أن أقدام الزمن تنذر بتحطيم آماله، وأنه لا يستطيع أن يوقفها .. ليس في وسعه أن يحتفظ بالأحدب في سجنه إلى الأبد، ولن يوجد في المدينة مستقر آمن له .. لم يبق له إلا أن يستولي على عروسه ثم يهرب بها في أول سفينة .. في بلاد بعيدة يبدأ حياة جديدة، حياة الثراء والحب والتوبة .. ودافع عن نفسه أمام نفسه فقال إنه لم يكن شريرا، ولكنه فعل ما فعل بدافع الحرمان والعجز .. أعطاه الله حظ الفقراء وشهوات الأغنياء فما ذنبه؟ وذهب عند المساء إلى مقهى الأمراء فمضى من توه - بأقدام ثابتة - إلى مجلس حسن العطار وجليل البزاز وفاضل صنعان .. أوسعوا له مرغمين .. قال لنفسه: كنت أمس محتقرا وأنا اليوم بغيض حتى الموت .. لكنه سيحسم أمره مع العطار في نهاية السهرة وينطلق من الغد إلى دنيا الأحلام الجميلة .. ورأى فاضل يحملق في مدخل المقهى بذهول داعيا صاحبيه للنظر .. اتجه نظره نحو المدخل فرأى شملول الأحدب يرميهم بنظرة حمراء ملتهبة وهو ينتفض من شدة الانفعال.

17

تخطف اليأس والرعب روحه .. اقترب منهم بخطى سريعة متقاربة حتى وقف أمامهم متحديا .. صرخ بصوته الرفيع كالصفير: الويل لكم يا غجر!

ركز أولا على عجر، وقال: تحبسني في دارك مدعيا ضيافة لم أطلبها؟!

لم ينبس عجر، فواصل الأحدب: أطلقتني امرأتك عقب ما نما إليها من نبأ زواجك، فانتظر الرعد في بيتك.

ثم راجعا إلى الثلاثة: تضربون رجل السلطان يا أوغاد! لكل قوي من هو أقوى منه وأفتك، وسوف تنالون الجزاء الحق.

وغادر المقهى مصفر الوجه من الغضب، في خطى متقاربة سريعة، مخلفا وراءه عاصفة من الضحك .. ولكن تجمدت أوجه الرجال الثلاثة، ثم اجتاحهم الخوف والغضب .. ألهبوا عجر بنظرات حاقدة وهمس حسن العطار: وغد محتال، أرجع النقود وافسخ العقد.

وقال جليل البزاز: أرجع النقود وإلا هشمنا عظامك .

قال عجر: حسبته أول الأمر ميتا والله شهيد.

قال حسن: ثم انقلبت مجرما محتالا، النقود والفسخ.

قال باستقتال: احذروا الفضيحة، سيذاع سر السكر والعربدة والعدوان، خير من ذلك أن تسترضوا الأحدب قبل أن يرفع شكواه إلى مولاه، أما ما أعطيتم من مال فاعتبروه تكفيرا عن آثام حياتكم. - الويل لك، لن تفلت بدرهم يا محتال.

نهض الرجل بغتة وغادر المكان وكأنما يفر فرارا.

18

تلاشى الأمان من دنياه .. وانطفأ سراج الأمل .. إنه زوج قمر ولكنها أبعد عنه من النجوم، وهو غني ولكن الموت يتهدده، وهو أدرى الناس بالتعاون الخفي بين العطار والبزاز من ناحية ويوسف الطاهر الحاكم وحسام الفقي كاتم السر من ناحية أخرى .. وفتوحة رابضة في الدار متلهفة على عودته لتغرز أنيابها في عنقه .. ما أضيق الدنيا! .. وهام على وجهه .. غفا ساعات فوق سلم السبيل .. انزوى في أقصى الحي النهار كله .. لا شك في أن أعداءه استرضوا الأحدب وهم عاكفون الآن على تدبير الانتقام منه .. وفي المساء وجد نفسه الهائمة في ميدان الرماية، وفجأة جذب بصره ضوء مشاعل وضوضاء غير مألوفة.

19

ماذا يجري في الميدان؟ قوة من رجال الشرطة تحيط بعدد عديد من الصعاليك وتسوقهم بعنف نحو مكان مجهول .. وصادف رجلا قريبا يقول بصوت مسموع: يا له من قرار عجيب!

لم يكن الرجل في حقيقته إلا العفريت سخربوط متنكرا في صورة إنسانية رافلا في جلباب ينطق بحسن المكانة .. سأله عجر: أي قرار يا سيدي؟

ففرح سخربوط لاستدراج عجر، وقال: فليكرم الله مولانا السلطان؛ فقد تنبأ له فلكي القصر بأن حال المملكة لن يصلح إلا إذا تولى شئونها الصعاليك، فأمر مولانا بالقبض على الصعاليك ليختار منهم شتى القيادات.

فذهل عجر وتساءل: أموقن أنت مما تقول؟

فقال سخربوط بدهشة: ألم تسمع المنادين؟

وثب قلبه من الجذل .. أي موجة من البشر تكتسح الأحزان كلها بانطلاقة واحدة؟ إنها المنقذ من العذاب واليأس، والمبشر بالنجاة والسيادة .. ماذا في وسع أعدائه أن يفعلوا إذا أطل عليهم غدا من شرفة الحكام؟ ولم يتردد دقيقة واحدة فاندس في زمرة المقبوض عليهم مستسلما لتيارهم.

20

مضى التيار نحو دار الحاكم يوسف الطاهر .. حشد المقبوض عليهم في الفناء تحت حراسة قوية وعلى ضوء المشاعل .. جاء يوسف الطاهر يتبعه حسام الفقي، فحياهما كبير الشرطة بيومي الأرمل، ثم قال: هؤلاء من أمكن القبض عليهم هذا المساء وسيجيء الآخرون تباعا.

فتساءل يوسف الطاهر: أتضمن بذلك حقا أن تنمحي الجرائم والسرقات وقطع الطرق؟

فقال بيومي الأرمل: هو المأمول يا مولاي.

وبإشارة من الحاكم راح الجنود يجردون المقبوض عليهم من ملابسهم الرثة .. وذهل عجر طيلة الوقت وأيقن من أنه ساق نفسه إلى مصيبة تخف بالقياس إليها مصائبه .. وانهالت السياط عليهم فمزق صراخه الجو من قبل أن يأتي دوره .. ولكنه نال نصيبه .. ولما أخذوا يمضون بهم إلى السجن صاح عجر مخاطبا الحاكم: يا نائب السلطان، انظر بحق الله المتعال فإني لست منهم، أنا عجر الحلاق، كبير الشرطة يعرفني، ويعرفني كاتم السر، إني صديق نور الدين عديل السلطان!

انتبه إليه بيومي الأرمل، فدهش وسأله: لكني لم أقبض عليك يا عجر.

فصاح عجر: اختلاط الأمر وفعل الشيطان.

وأمر يوسف الطاهر بإطلاق سراحه ورد ملابسه إليه، غير أنه انتبه إليه باهتمام فجأة، نحو اللفة حول وسطه فارتعد عجر وأخفاها بذراعيه .. وداخل الحاكم شيء من الريبة فأمر بنزعها وفحص ما بذراعه .. ولما رأى العقد ذا الجوهر صاح: عقد زهريار! .. ما أنت إلا لص قاتل، اقبضوا عليه.

21

بدأ اليوم التالي بالتحقيق مع عجر .. حكى الرجل حكايته وأقسم بأغلظ الأيمان على صدقها .. تطوع حسن العطار وجليل البزاز فشهدا عليه بالكذب والاحتيال .. قضى يوسف الطاهر بضرب عنقه .. واحتشد الحي ليشهد ضرب عنقه في الميدان، وقبيل الشروع في التنفيذ جاء الوزير دندان في موكب مهيب.

22

سرعان ما جمعت حجرة القضاء بدار الحاكم بين دندان ويوسف الطاهر وحسام الفقي وبيومي الأرمل وعجر الحلاق .. قال دندان: أمرني مولاي بإعادة المحاكمة.

فقال يوسف الطاهر: سمعا وطاعة أيها الوزير.

فقال دندان: وافاه «المجنون» بأخبار أراد أن يتحقق منها.

فدهش يوسف الطاهر، وقال: ذلك المجنون المصر على أنه جمصة البلطي؟ - هو بعينه. - وهل صدقه مولانا السلطان؟

فقال دندان بخشونة: إني هنا لأحقق معكم لا لتحققوا معي.

وساد صمت مجلل بالرهبة، فسأل دندان يوسف الطاهر: ألك شقيقتان، إحداهما حية والأخرى مختفية؟

فقال يوسف الطاهر: أجل يا سيدي الوزير. - وهل مارسا حياة داعرة فاجرة؟

قال يوسف الطاهر بصوت متهدج: لو عرفت ذلك ما سكت عنه.

فقال دندان: بل إنهما أسكتاك من قبل أن تتولى الإمارة بالإغداق عليك من المال الحرام!

فقال الحاكم: ما هي إلا خيالات رجل مجنون.

فالتفت دندان نحو حسام الفقي كاتم السر، وقال: يقال إنك تعرف كل شيء عن هذه القضية، فبأمر السلطان أدل بما عندك، واحذر الكذب فقد يتسبب في ضرب عنقك.

انهار حسام الفقي تماما، فقال لائذا بالنجاة ما وسعه ذلك: جميع ما قيل حق لا ريب فيه.

فسأله دندان متجهما: ماذا تعرف عن اختفاء زهريار؟ - حققت في ذلك بنفسي، فتبين لي أن أختها جلنار هي التي قتلتها بدافع الغيرة.

ودعي عجر للكلام فحكى حكايته من ساعة عشقه لجلنار حتى دس نفسه بين الصعاليك المقبوض عليهم.

23

رفعت القضية بحذافيرها إلى السلطان شهريار، فأمر بعزل يوسف الطاهر لفقدان الأهلية، وعزل حسام الفقي لتستره على رئيسه، وجلد حسن العطار وجليل البزاز وفاضل صنعان للسكر والعربدة، ومصادرة أموال عجر الحلاق وإطلاق سراحه.

وخلا دندان إلى ابنته شهرزاد فقال لها: لقد تغير السلطان، وتخلق منه شخص جديد مليء بالتقوى والعدل.

ولكن شهرزاد قالت: ما زال جانب منه غير مأمون، وما زالت يداه ملوثتين بدماء الأبرياء. •••

أما عجر فقد تناسى خسارته في فرحة النجاة .. وسرعان ما فسخ العقد بينه وبين قمر، ومضى إلى النخلة غير بعيد من اللسان الأخضر، فانحنى أمام المجنون المتربع تحتها وقال بامتنان: إني مدين لك بحياتي أيها الولي الطيب.

أنيس الجليس

1

شهريار ودندان يغوصان في الليل، يتبعهما شبيب رامة، وقد تلاشت حركة الإنسان .. على ضوء المصابيح المتباعدة لاحت الدور والحوانيت والجوامع نائمة، وخفت حرارة الصيف، وومضت النجوم في الأعالي .. تساءل شهريار: ما رأيك فيما كان؟

فقال دندان: سليمان الزيني رجل مأمول كحاكم .. كذلك كاتم سره الفضل بن خاقان. - إذا نامت الرعية نام الخير والشر، الجميع شغوفون بالسعادة ولكنها كالقمر المحجوب وراء سحب الشتاء، فإذا وفق حاكم الحي الجديد سليمان الزيني تساقطت قطرات من السماء مطهرة الجو من بعض ما ينتشر فيه من الغبار. - سيكون ذلك بفضل الله المتعال وبيد مولانا السلطان وحكمته.

فقال شهريار بعد تفكير: ولكن القسوة يجب أن تبقى ضمن وسائل السلطان!

فتفكر دندان بدوره، ثم قال بحذر: الحكمة - لا القسوة - هي ما يقصد مولاي.

فضحك السلطان ضحكة مزقت صمت الليل، وقال: ما أنت إلا منافق يا دندان، ماذا قال المجنون؟ قال إن الرأس إذا صلح صلح الجسم كله .. فالصلاح والفساد يهبطان من أعلى، غمزني بجرأة لا تكون إلا للمجانين، ولكنه عرف سر القضية .. كيف تهيأ له ذلك؟ - من أدراني يا مولاي بما يدور في رءوس المجانين؟ - زعم أنه أحاط بالأسرار مذ كان كبيرا للشرطة. - ما زال يصر على أنه جمصة البلطي، وهو ادعاء يكذبه رأس جمصة البلطي المعلق على باب داره .. لعله حقا من رجال الغيب.

فقال شهريار وكأنما يناجي نفسه: علمتني شهرزاد أن أصدق ما يكذبه منطق الإنسان، وأن أخوض بحرا من المتناقضات، وكلما جاء الليل تبين لي أني رجل فقير!

2

قالت زرمباحة لسخربوط: أخشى أن يركبنا الضجر.

فقال سخربوط مشجعا: بل ستتاح فرص وتخلق فرص يا تاج الذكاء.

وترامى صوت قمقام من أعلى الشجرة، وهو يقول: إذا تردد التذمر بينكما فهو البشرى بالرضا.

فقالت له زرمباحة ساخرة: ما أنت إلا عجوز عاجز.

فقال سنجام من مجلسه لصق قمقام: الأرض تشرق بنور ربها، ونحو النور يتطلع ليل نهار جمصة البلطي ونور الدين العاشق، حتى عجر استقر في دكانه وتاب عن تطلعاته .. أما شهريار السفاح فثمة نبضة هدى تقتحم عليه هيكله المليء بالدم المسفوك.

فقال سخربوط هازئا: ما ترى من الأشياء إلا ظلها الأخرس، وما تحت الرماد إلا جمرات نار وسيوقظك الغد من غفوة العمى.

3

بدأت الحركة بصوت ناعم كالحرير ثم انفجرت بهزيم الرعد .. في ذات ليلة بمقهى الأمراء خرج عم إبراهيم السقاء عن أدبه المعهود، وقال بصوت مرتفع دل على شدة تأثره وانفعاله: حملت في صدر النهار الماء إلى الدار الحمراء.

فسأله شملول الأحدب بصوته الرفيع: وأي جديد في هذا يا أحمق؟

فقال السقاء وهو سكران بالانفعال: لمحت صاحبة الدار، تبارك الخلاق العظيم !

ضحك الجالسون على الأرض والمتربعون على الأرائك، وقال معروف الإسكافي: انظروا إلى جنون الشيخوخة.

فقال عم إبراهيم بأسى: نظرة منها تملأ الجوف بعشرة دنان من خمر الجنون.

فقال الطبيب عبد القادر المهيني: صفها لنا يا عم إبراهيم.

فهتف الرجل: إنها لا توصف يا سيدي، ولكني أسأل الله الرحمة والغفران.

وبعد ليلتين قال عم رجب الحمال: دعيت اليوم لحمل نقل إلى الدار الحمراء.

شد الانتباه من فوره، وبدا فريسة لعاطفة قهارة، فقال: لمحت ست الدار، أعوذ بالله من عنف الجمال إذا طغى.

لنا الله .. ليس الأمر بالهزل .. انطلق أصحاب الأشواق يستطلعون .. انطلقوا إلى سوق السلاح حيث تقوم الدار الحمراء .. دار كبيرة هجرت زمنا لهلاك أصحابها في وباء .. تركت عارية وماتت حديقتها .. حتى اكترتها امرأة غريبة من بلد مجهول مصحوبة بعبد واحد .. وفي الليل العميق يترامى من وراء أسوارها غناء عذب ونغم ساحر .. قالوا لعلها غانية!

وإذا بعجر الحلاق يتحدث عنها بجنون لكل زبون يقصده .. يقول: عصفت بتوبتي وأصابتني بسهم العذاب الأبدي.

ويقول: دعتني لتهذيب خصلات شعرها وتقليم أظافرها، لو كانت سيدة محتشمة لدعت بلانة ولكنها نار الله الموقدة!

وعرف أن اسمها «أنيس الجليس» وتضاربت الأقوال في وصفها حتى أثارت الشك في عقول الواصفين، فمن قائل إنها بيضاء شقراء، ومن قائل إنها سمراء خمرية صافية، ومن منوه ببدانتها إلى متغزل في رشاقتها .. هيج ذلك مكامن الأشواق فتوثب الأعيان والموسرون لاقتحام المجهول.

4

يوسف الطاهر أول من قام بالمبادرة .. منذ عزله وهو ثري يعاني البطالة والضجر فجاءه الفرج .. مع الليل ذهب إلى الدار الحمراء وطرق الباب .. فتح له العبد، وسأله: ماذا تريد؟

فأجابه بجرأة رجل حكم الحي زمنا: غريب ينشد مأوى عند أهل الكرم.

غاب العبد وقتا، ثم رجع موسعا للقادم، وهو يقول: أهلا بالغريب في دار الغرباء.

أدخل إلى بهو مزين الجدران بالأرابيسك، مفروش بالأبسطة الفارسية، والدواوين الأنطاكية، محلى بتحف الهند والصين والأندلس، أبهة لا ترى إلا في دور الأمراء.

وهلت امرأة محجبة، تشي قامتها المتوارية في طيلسانها الدمشقي بالجلال، فجلست متسائلة: من أي البلاد يا غريب؟

فقال وهو يتلقى من الحيوية زادا كالخمر: الحق أني من عشاق الحياة. - خدعتنا وحق السلطان.

فقال بحماس: عذري أن قارئ الكف تنبأ لي بأني أعيش للجمال وأموت في سبيله.

فقالت بنبرة جادة: إني امرأة متزوجة.

فتساءل بقلق: حقا؟

فاستدركت: ولكني لا أدري متى يلحق بي زوجي؟ - يا له من قول غريب!

فتمتمت متهكمة: ليس دون قولك غرابة.

وبدلال أزاحت النقاب عن وجهها فسطع جمال قد خلق على هواه وحقق شوارد أحلامه .. تلاشى العقل فركع على ركبتيه .. أخرج من جيبه حقا عاجيا ففتحه ووضعه بين قدميها كاشفا عن جوهرة ناطقة بمثل ضوء الشمس .. همس بصوت متهدج: حتى جوهرة التاج لا تليق بقدميك.

انتظر الحكم المقرر للمصير، فقالت بنعومة: مقبولة تحيتك!

فانتفض بفرحة الأمل، أحاط ساقيها بذراعيه، وهوى رأسه فلثم قدميها.

5

كانت مبادرة يوسف الطاهر بمثابة فتح الباب لأمواج الجنون الهادرة الصاخبة التي تدفقت لتغمر الحي كالطوفان وتصيبه في أغنى أبنائه، أما الفقراء فكانت لهم الحسرة .. باتت الدار الحمراء بسوق السلاح قبلة لحسام الفقي وحسن العطار وجليل البزاز وغيرهم .. حملت الهدايا في إثر الهدايا، وسلبت القلوب والجوانح، وتاهت العقول وشردت، وسيطر الإسراف والسفه، ونحيت العواقب وتلاشى الزمن فلم تبق إلا الساعة الراهنة، ومضت الدنيا تضيع في إثر الدين .. وأنيس الجليس ساحرة فاتنة، تحب الحب، تحب المال، تحب الرجال .. لا يرتوي لها طمع ولا تكف عن طلب .. الرجال يستبقون بجنون بحكم الحب والغيرة، لا يستأثر بها أحد، ولا يزهد فيها أحد، منحدرين بقوة واحدة نحو الضياع.

6

لم يعرف المعلم سحلول النشاط كما عرفه في تلك الأيام .. إنه رجل المزادات وأول من يحضر عند حلول الإفلاس .. سقط أول من سقط حسام الفقي .. لم يهمه ضياع المال بقدر ما أهمه ضياع أنيس الجليس .. لم يكربه مصير النساء والأولاد كما أكربه الحرمان .. قال للمعلم سحلول: لا يستطيع أن يدمر الإنسان مثل نفسه.

فقال الرجل بغموض: ولا يستطيع أن ينجيه مثل نفسه.

فقال الفقي ساخرا: أفلست المواعظ من قديم.

ولحق به في السقوط جليل البزاز، ثم حسن العطار، أما يوسف الطاهر فترنح على حافة الهاوية .. وقال عجر الحلاق لسحلول معلقا على نشاطه المتصاعد: مصائب قوم!

فقال سحلول دون مبالاة: هم الجناة وهم الضحايا .

فتنهد عجر قائلا بأسى: لو رأيتها يا معلم لهفت نفسك إلى الجنون. - ما هي إلا بسمة شيطان. - إني أعجب كيف لم تقع في هواها!

فقال سحلول باسما: جرت المقادير بأن يوجد عاقل واحد في كل مدينة مجنونة.

وذات ليلة وسحلول يخوض الظلام متمهلا اعترضه قمقام وسنجام فتبادلوا تحية مقدسة، وقال قمقام: انظر إلى العبث يعصف بالمدينة.

فقال سحلول: لقد عشت ملايين من السنين فما يدهشني شيء.

فقال سنجام: ستقبض أرواحهم ذات يوم وهي تنز إثما. - وقد تسبق التوبة حلول الأجل. - لماذا لا يسمح لنا بمساندة الضعفاء؟

فقال سحلول بوضوح: وهبهم الله ما هو خير منكم؛ العقل والروح!

7

مضى حسام الفقي ثملا مترنحا إلى الدار الحمراء وطرق الباب الكبير .. فاضت كأس جنونه فساقته إلى باب النجاة، ولكن لم يفتح له أحد، فصاح في الليل غاضبا: افتح يا مفتح الأبواب.

ولكن لم يكترث بندائه أحد، فانزوى تحت السور في قهر وعناد .. وما لبث أن رأى شبحا قادما حتى رأى وجهه تحت ضوء المصباح المعلق، فعرف فيه رئيسه القديم يوسف الطاهر فاشتعل بيقظة غاضبة .. طرق الرجل الباب فسرعان ما فتح له .. اندفع حسام الفقي في أثره، ولكن العبد اعترض سبيله قائلا: معذرة يا معلم حسام.

فلطمه على وجهه بحنق، فقال له يوسف الطاهر برقة: أفق، واسلك كما يليق بك.

فتساءل بغلظة: ضاع المال والدين فماذا يبقى لي؟

تحول عنه ليمضي في سبيله، ولكن الآخر وثب عليه كنمر وطعنه في قلبه بخنجر مسموم .. عند ذاك صرخ العبد صرخة أفزعت النيام.

8

قبض على حسام الفقي الذي لم يحاول الهرب .. نظر إليه بيومي الأرمل برثاء، وقال: أسفي عليك أيها الصديق القديم!

فقال حسام بهدوء: لا تأسف يا بيومي، ما هي إلا قصة قديمة يستدفئ بها العجائز .. قصة الحب والجنون والدم.

9

وقال العبد لأنيس الجليس: حبيبتي زرمباحة، عما قليل سيشرف دارنا بيومي الأرمل كبير الشرطة.

فقالت المرأة: كما رسمنا يا سخربوط .. ونحن في الانتظار. - دعيني أقبل الرأس الحاوي للعبقرية.

10

لم تستغرق محاكمة حسام الفقي إلا ساعات ثم ضرب عنقه .. واجتمع الحاكم سليمان الزيني بكبير الشرطة وحضور كاتم السر الفضل بن خاقان والحاجب المعين بن ساوي .. قال الزيني مخاطبا بيومي الأرمل: ما هذا الذي قال الشهود؟ عشرات الرجال يفلسون .. رجلان يفقدان حياتهما بسبب امرأة غريبة داعرة .. أين كنت يا كبير الشرطة؟

فقال بيومي الأرمل: الدعارة إثم سري، ونحن منهمكون في مطاردة الشيعة والخوارج! - لا .. لا .. إنك عين الشريعة .. حقق مع المرأة .. صادر مالها الحرام، استدرك ما فاتك قبل أن تسأل أمام السلطان.

11

وقف بيومي الأرمل بين نخبة من رجاله في بهو الاستقبال بالدار الحمراء ينظر فيما حوله ويتعجب .. ترى هل تفوق سراي السلطان هذه الدار في شيء؟! وجاءت المرأة مقنعة الوجه، محتشمة الجسد. - أهلا بكبير الشرطة في دارنا المتواضعة.

فقال بخشونة: لا شك في أنك علمت بالجريمة التي ارتكبت عند مدخل دارك؟

فقالت بتأثر: لا تذكرني بها فلم يغمض لي جفن منذ ارتكابها.

فقال بحدة: لا أصدق كلمة مما تزورين، أجيبي عن أسئلتي بالصدق، ما اسمك؟ - أنيس الجليس. - اسم مريب، من أي البلاد جئت؟ - أمي من الهند وأبي من فارس وزوجي من الأندلس! - متزوجة؟ - نعم، وقد تلقيت من زوجي رسالة ينبئني فيها بقرب قدومه. - أتمارسين الدعارة بعلمه؟ - أعوذ بالله، إني امرأة شريفة.

فهز رأسه ساخرا: وما شأن الرجال الذين يترددون عليك؟ - أصدقاء من سادة البلد ممن يطيب لهم الحديث في الشريعة والأدب. - عليك اللعنة، ألذلك أفلسوا وتقاتلوا؟ - إنهم كرماء ولا ذنب لي، وما كان يصح في آدابنا أن أرفض هداياهم ، ولا أدري كيف اندس الشيطان بينهم.

فقال بنفاد صبر: لدي أمر بمصادرة مالك الحرام.

أشار إلى رجاله فانتشروا في الدار ينقبون عن الحلي والجواهر والنقود .. في أثناء ذلك لبثا وحيدين صامتين .. خطف من نقابها نظرات مستطلعة بلا ثمرة. أما هي فلم تجزع .. استسلمت للقدر أو هكذا بدت، ثم تساءلت في عتاب: هل أعيش بعد اليوم من بيع أثاث داري؟

رفع منكبيه استهانة، فأزاحت النقاب عن وجهها قائلة: معذرة، حر الصيف لا يطاق.

نظر بيومي فصعق .. لم يصدق عينيه ولكنه صعق .. التصق بصره بوجهها فلم يستطع أن يسترده .. سبح في بحر الجنون المتلاطم .. فقد القوة والوظيفة والأمل .. دفن كبير الشرطة بيديه فانبعث من قبره مائة عفريت وعفريت .. دفعته آلاف الأيدي فكاد يتهاوى لولا سماعه عربدة أعوانه في الحجرات .. الرقباء والعيون قادمون، أما بيومي الأرمل فقد ضاع إلى الأبد .. وعادت تقول متوسلة: أسألك المروءة يا كبير الشرطة.

أراد أن يجيب إجابة خشنة تناسب المقام .. أراد أن يجيب إجابة ناعمة تناسب المقام .. لكنه غرق في الصمت.

12

عند منتصف الليل فقد صبره، فطار مستخفيا إلى الدار الحمراء .. مثل بين يديها مستسلما وهو يقول لنفسه: «إنها القدر الذي لا ينفع معه حذر ولا ينتفع لديه بمثال» .. تجاهلت حاله وقالت بأسى: لم يبق لدي ما تصادره يا كبير الشرطة.

فقال بذل: لقد قمت بواجبي، ولكن ثمة جانبا للرحمة.

ورمى عند قدميها بدرة مكتنزة .. ابتسمت بعذوبة، وتمتمت: يا لك من رجل شهم!

ركع على ركبتيه في خشوع، أحاط ساقيها بذراعيه، ثم سجد لاثما قدميها.

13

تصاعدت أنات شكوى من مستحقي بيت المال، وتهامس كتاب البيت بأن المال لا يصرف في وجوهه الشرعية كما أمر الزيني .. وبلغت الأنباء الحاكم فبث العيون وشدد المراقبة .. وكلف كاتم سره الفضل بن خاقان وحاجبه المعين بن ساوي بالتحقيق السري .. وقرر أخيرا استدعاء كبير الشرطة بيومي الأرمل، وقذف في وجهه بالبيانات الصادقة .. بدا الرجل مستسلما وغير مبال، فعجب لشأنه، وسأله: أرى فيك شخصا آخر لم أعهده من قبل؟

فقال الرجل بأسى: تقوض البناء القديم يا مولاي. - ما تصورت أن تغتال أموال المسلمين.

فقال بالنبرة نفسها: اغتاله المجنون الذي حل في.

وحوكم بيومي الأرمل فضرب عنقه .. حل محله المعين بن ساوي .. صودرت أموال أنيس الجليس مرة أخرى .. ولزم حارس بابها ليمنع أي رجل من الدخول.

14

ورفع أمرها إلى المفتي، ولكنه أفتى بأنه لم تقم بينة شرعية على فسقها، وكان المعين بن ساوي يمارس عمله في مقر الشرطة عندما استأذنت امرأة في مقابلته .. نظر إلى نقابها الكثيف بلا مبالاة وسألها: من أنت؟ وماذا تريدين؟

فأجابت بعصبية: أنا أنيس الجليس المظلومة.

فانتبه الرجل إليها باهتمام وسألها بخشونة: ماذا تريدين؟

فأزاحت النقاب عن وجهها، وقالت: صادرتم مالي، أصبحت مستحقة للصدقة والزكاة فاكتبني عندك ضمن المستحقات.

لم يفقه معنى كلمة مما قالت .. نسي أشياء لا تحصى كما نسي نفسه .. عبثا حاول أن يستمد من ضميره قوة .. زلت قدمه فتردى في الهاوية .. سمع صوتها يتردد مرة أخرى من دون أن يفقه له معنى .. أخيرا سألها وهو يلهث: ماذا قلت؟

فقالت متجاهلة حاله: اكتبني عندك في المستحقات للزكاة والصدقة.

تساءل وهو يلقي بتاريخه من النافذة: متى أبعث لك بحاجتك؟

فقالت بدلال: سأنتظرك عقب صلاة العصر.

15

اشتعلت نشاطا ومقدرة .. قالت إنه يوم الفصل والنصر .. ضحكت طويلا كما ضحك سخربوط .. وفي الحال قصدت كاتم السر الفضل بن خاقان .. تكررت اللعبة والمأساة .. ضربت له موعدا عقب صلاة المغرب .. أما سليمان الزيني فكان موعده عقب صلاة العشاء .. نور الدين عاشق الروح وعديل السلطان وافق على الذهاب بعد العشاء بساعتين، وقد حرر لها رقعة لمقابلة الوزير دندان وأخرى للقاء السلطان شهريار بحجة أن تظفر بالعدل والإنصاف عند أي منهما .. هوى الرجال جميعا وتطلع كل إلى موعده وقد فقد رشده .. حتى دندان وشهريار!

16

في موعده جاء المعين بن ساوي بدقة فلكية تعكس عيناه معاناة عاشق قديم .. رمى بالبدرة في خفة طفل سعيد، لم ير من الوجود الفخم إلا كوكبه الساطع، وثمل بالنشوة حتى استقر عند قدميها .. ليس في الجلسة إلا بروق الوعود السعيدة المحتدمة ولا مكان بها للعواقب .. شرب من يد العبد تارة ومن يدها أخرى، وتمادى في أفانين الهوى حتى تجرد من ثيابه فارتد للعصر البدائي .. وهو يندفع بها نحو الفراش اندفع العبد داخلا مهرولا، وانكب على أذنيها فأسر إليها بسر خطير كما بدا .. وثبت واقفة، أسدلت على جسدها البض طيلسانها وهمست محمومة: زوجي وصل.

أفاق الرجل من سكرته بضربة قاضية فشدته من يده إلى حجرة جانبية، ثم أدخلته في صوان، أغلقته بإحكام، وهي تقول من خلال رجفة الاضطراب والذعر: ستذهب بأمان في الوقت المناسب.

فهتف الرجل: إلي بثيابي.

فقالت وهي تبتعد: إنها في الحفظ والصون، اصمت، لا صوت ولا حركة وإلا هلكنا!

17

تتابعت الرجال .. الفضل بن خاقان .. سليمان الزيني .. نور الدين .. دندان، شهريار .. استسلموا للنداء الآسر، ثملوا بالنشوات المعربدة، ثم سيقوا عرايا إلى الأصونة، وترامى إليهم صوت أنيس الجليس وهي تضحك ساخرة، فأدركوا أنهم وقعوا في شرك محكم .. قالت: غدا في السوق سأعرض الأصونة للمزاد بما فيها ..

وضحكت مرة أخرى وواصلت: سوف يشاهد شعب السوق سلطانه ورجال دولته وهم يباعون عرايا!

18

ولما رجعت إلى البهو رأت أمامها «المجنون» واقفا في هدوء .. انزعجت مرتجفة .. ماذا جاء به؟ كيف اقتحم دارها؟ هل سمع حديثها للرجال؟ سألته: كيف دخلت داري بلا دعوة ولا استئذان؟

فقال بهدوئه: رأيت الرجال يتتابعون فثار شوقي للمعرفة.

صفقت بيديها منادية العبد، فأدرك ما تريد، فقال: لقد ذهب!

فسألته غاضبة: إلى أين؟ - دعينا منه وأكرمي ضيفك.

بدا مفروق الشعر مسترسله .. غزير اللحية، حافي القدمين، في جلباب أبيض فضفاض، ينبعث من طوقه شعر صدره .. أتوقعه في شراكها؟ أقبلت ولكن في فتور .. لأول مرة لا يحدث وجهها أثره .. إنه فتنة ولكن للعقلاء لا المجانين .. اقتربت من المائدة متثنية وقالت: إن كنت تريد طعاما فكل.

فقال بازدراء: لست متسولا.

فتساءلت مدافعة اليأس: إليك الشراب. - رأسي مليء بالدنان! - لا يبدو عليك سكر. - ما أنت إلا عمياء.

فقطبت مستوحشة، وسألته: ماذا تريد؟

فسألها بدوره: كيف تعيشين في قصر مهجور خال من وسائل الحياة كافة؟

فنظرت فيما حولها بقلب منقبض وتساءلت: ألا يعجبك هذا الجمال كله؟ - لا أرى إلا جدرانا تتردد بينها أنفاس الوباء القديم.

جاء دورها لتتعرى كالآخرين .. استسلمت ضعيفة أمام جنونه المقتحم .. انهزم الإغراء كما انهزم التمويه .. ولته ظهرها لتفكر .. تحركت شفتاه بتلاوة خفيفة .. لم تسعفها المقاومة اليائسة .. وزحف عليها ما يشبه النوم الثقيل .. تراخت أعصابها .. تركت تيار التغير يتدفق .. مضت قسمات وجهها تذوب وتنداح فصارت عجينة متورمة .. تقوضت القامة الفارهة وطارت منها الملاحة والرشاقة .. بسرعة عجيبة لم يبق منها إلا نقاط منفصلة .. استحالت دخانا ثم تلاشت غير تاركة أي أثر .. في أعقابها اندثرت الأرائك والوسائد والأبسطة والتحف .. انطفأت القناديل .. فنيت، فساد الظلام .. حمل ركام ثياب الرجال فقذف بها من نافذة، ومضى نحو حجرة الأصونة.

19

قال المجنون يخاطب من في الأصونة: لن أعفيكم من العقاب، ولكني اخترت لكم عقابا ينفعكم ولا يضر العباد.

فتح الأقفال بسرعة، ثم غادر المكان.

20

تسلل الرجال من الأصونة في حذر وإعياء يترنحون من الإرهاق .. لم يفتح أحد منهم فاه من القهر والخجل .. عراة الأجساد عراة الكرامة يتخبطون في الظلام .. يفتشون عن ملابسهم، عن أي ملابس، عن أي شيء يستر العورة .. الوقت يمضي لا يرحم، والنور يقترب، والفضيحة تومض في الظلام .. جالوا في الظلام يستكشفون المكان بأذرعهم الممدودة .. لا أثر لشيء .. لا أثر لحياة .. وهم أو كابوس .. أما الفضيحة فحقيقة .. إنه الذل واليأس .. واسترشدوا بالجدران نحو الباب الخارجي ودبيب الزمن يتلاحق خلفهم .. وما إن تنفسوا هواء الطريق حتى تشهدوا وبعضهم بكي .. المدينة خالية .. فرصة وأي فرصة .. انطلقوا حفاة عرايا في ظلمة الليل .. بصقهم المجد وعلاهم الخزي، وكسا الإثم وجوههم بطبقة من القصدير المذاب.

قوت القلوب

1

كان المجنون يترنم بأوراد الفجر في مطلع الخريف عندما تناهى إليه تحت النخلة صوت ساكن الماء مناديا .. هرع إلى حافة النهر وهو يقول: أهلا بأخي عبد الله البحري ..

فقال الصوت: إني أعجب لشأنك. - لماذا؟ - طالما قتلت المنحرف لانحرافه، فما بالك تجنب الآثمين الفضيحة؟

فقال المجنون بأسى: أشفقت أن يصبح الصباح فلا تجد الرعية سلطانا ولا وزيرا ولا حاكما ولا كاتم سر ولا رجل الأمن فيأخذها أقوى الأشرار. - وهل أجدت حكمتك؟ - أراهم يعملون وقد ملأ الحياء قلوبهم وقد خبروا ضعف الإنسان.

فهمس عبد الله البحري: في مملكتنا المائية نجعل الحياء شرطا ضمن شروط عشرة يجب أن تتوافر في حكامنا.

فقال المجنون متنهدا: ويل للناس من حاكم لا حياء له.

2

تأخر الوقت برجب الحمال خارج البوابة .. ولدى عودته في الظلام رأى أشباحا تفتح مدفنا وتدخله .. وعجب لما يدعوهم لذلك قبيل الفجر، فأغراه قلبه باقتحام لغز غير يسير .. وما لبث أن تسلق السور فانبطح على بطنه وراح ينظر نحو الفناء على ضوء شمعة خافت أمسك بها شبح .. رأى نفرا من العبيد تفتح قبرا منعزلا كأنما أعد للخدم، ثم رآهم يحملون صندوقا فيودعونه القبر ويهيلون عليه التراب .. انتظر حتى فارقوا المكان .. فكر أيضا في الذهاب ولكن الصندوق ألح عليه .. ماذا يحوي؟ ولماذا دفنوه في هذه الساعة المتأخرة؟ .. ولم تعفه نفسه من المتاعب فوثب إلى الفناء .. وبهمة وإصرار فتح القبر واستخرج الصندوق .. ولولا قوته وتمرسه بحمل الأحمال ما استطاع أن يفعل .. وعالج الصندوق حتى فتحه وأشعل شمعة يحتفظ بها في رحلاته، وألقى نظرة فارتعد إشفاقا ورعبا .. ثمة جارية كالبدر في تمامه مكشوفة الوجه، في ثوب لا كفن، ميتة ولا شك ولكنها تبدو كنائمة .. أدرك أن ملابسات الدفن تومئ إلى جريمة ما .. كما أدرك أنه ورط نفسه في مأزق ما كان أغناه عنه .. وفي الحال توثب للفرار دون أن يفكر في إعادة الصندوق إلى قبره أو إغلاقه.

3

وعندما وثب إلى الخلاء وجد أمامه شبحا فتقلص قلبه، ولكنه سمع صوت المعلم سحلول تاجر المزادات يتساءل: من هنا؟

فأجاب مخفيا ارتباكه ما استطاع: رجب الحمال يا معلم سحلول.

فسأله ضاحكا: ماذا كنت تفعل في الداخل؟

فأجابه على البداهة: ربنا أمر بالستر يا معلم.

أراد أن يوحي إليه بأن وراء السور امرأة، فضحك سحلول وتساءل متهكما: ألا يوجد في هذه المدينة رجل فاضل؟!

4

استعبده الخوف .. لم يعرف من قبل المآزق الخطيرة .. لاح له النطع كمصير مظلم .. صلى الفجر بجسده، أما عقله فاستأثرت به الوساوس .. سوف تكتشف الجثة .. يشهد سحلول برؤيته وهو يثب من فوق سور المدفن .. وهو الحمال المرشح لحمل الصندوق .. فإما الهروب وإما الاعتراف بالحقيقة قبل أن تكتشف .. وهو مرتبط بالأهل والأرض .. ليس كقرينه السندباد الغائب في البحر .. وهو أيضا ممن يعطف عليهم المعين بن ساوي كبير الشرطة .. فليقصده وليعترف بين يديه بكل شيء.

5

عقب الصلاة عزم على لقاء المعين بن ساوي، ولكنه رآه مسرعا فوق بغلته وبين حرسه .. تبعه على الأثر فوجده ماضيا نحو دار الزيني ينتظر منصرفه. وكان سليمان كبير الشرطة ثائرا، وكانت داره تعاني اضطرابا شاملا .. لقي الحاكم كبير الشرطة ساخطا وقال له بغضب: ما هذا الذي جرى في دار الإمارة؟ هل رجعنا إلى أيام الفوضى؟

فوجم المعين وسأل عما جرى، فقال الحاكم: جاريتي قوت القلوب لا أثر لها، كأن الأرض ابتلعتها.

فذهل المعين وتساءل: متى حدث ذلك؟ - رأيتها أمس، والآن لا وجود لها. - ماذا قال أهل الدار؟ - يتساءلون مثلي وقد ركبهم الخوف.

تفكر المعين قليلا، ثم قال: لعلها هربت!

فاحتقن وجه سليمان الزيني بدم أسود، وصاح: كانت أسعد الجواري، عليك بالعثور عليها.

نطق بها بثورة وعيد واضحة.

6

أمام باب الدار وجد رجب الحمال في انتظاره .. تقدم منه حاني الرأس، وقال: مولاي .. لدي ما أقوله.

فقاطعه بحدة: اغرب عن وجهي .. أهذا وقت كلام يا غبي؟

فقال الحمال بإلحاح: حلمك يا سيدي .. إنها جريمة قتل .. الجثة خارج البوابة، والتأجيل حرام.

انتبه الرجل إلى قوله متسائلا: أي جريمة؟ .. وما دخلك فيها؟

فقص عليه القصة بسرعة ولهوجة والآخر يتابعه باهتمام متزايد.

7

مع أول شعاع للنور حمل الصندوق إلى بهو دار الإمارة .. أحدق به سليمان الزيني والمعين بن ساوي ورجب الحمال .. قال كبير الشرطة بحزن: اهتديت إلى مكان قوت القلوب وجئت بها، ولكنها للأسف جثة هامدة!

ارتجف سليمان الزيني رغم رزانته تحت ضغط عواطفه .. فتح المعين بن ساوي الصندوق .. انحنى فوقه الزيني بوجه يطفح بالحزن مغمغما: «إنا لله وإنا إليه راجعون» .. أغلق المعين الصندوق وهو يتمتم: أطال الله بقاءك وهون من أحزانك.

صاح سليمان: الويل للمجرم .. اكشف لي الأسرار التي أطاحت بسعادتي. - مولاي .. ما زال اللغز لغزا .. كيف غادرت الدار؟ أين قتلت؟ من قتلها؟ إليك يا مولاي شهادة تطوع بها هذا الحمال.

وروى له الشهادة، فرمى الزيني رجب بنظرات من نار، وقال له: أيها القذر، أنت أنت القاتل، أو عندك خبره.

فهتف الحمال مرتعدا: ورب السموات والأرض ما أخفيت عنكم كلمة واحدة. - اخترعت أسطورة تتستر بها على فعلتك. - لولا صدقي ما ذهبت بنفسي إلى كبير الشرطة معترفا بما شاهدت.

غير أن المعين بن ساوي فاجأه بما لا يتوقع، قائلا: في هذا كذبت يا رجل .. (ثم متلفتا إلى الحاكم) .. لقد قبض عليه في مكان الجريمة.

فذهل رجب .. لم يصدق أذنيه .. سأله: ماذا قلت؟

فكرر الرجل: لقد قبض عليك ولم تجئ بنفسك. - أنت تقول ذلك؟

فقال بازدراء مصطنع: الواجب فوق الرحمة.

فصرخ في وجهه: لن تفلت من الله يا مفتري.

فقال له الزيني: اعترف وجنب نفسك أهوال التعذيب.

فقال رجب بيأس: كبير الشرطة كذاب .. لا علم لي بشيء سوى ما قلت.

وتذكر الواقعة الوحيدة التي أخفاها فواصل: أحضروا المعلم سحلول تاجر المزادات فقد رأيته قريبا من المدفن.

8

جيء بالمعلم سحلول .. لم يغير شيء من هدوئه المألوف .. سئل عما دعاه للتواجد قرب المدفن في تلك الساعة من الليل، فقال: تستوي جميع الأمكنة والأزمنة عندي بحكم عملي.

وقص عليهم حكاية ضبطه مصادفة لرجب وهو يثب من فوق السور .. فسأله المعين: أتعتقد أنه القاتل؟

فقال بهدوء: لا بينة لدي، ثم إنه لا يوجد قاتل بلا قتيل، فأين القتيل؟ - في هذا الصندوق.

فابتسم ابتسامة غامضة، وقال: دعوني أره.

فتح المعين الصندوق ونظر سحلول إلى الجثة مليا، ثم قال: الجارية ما زالت تنبض بالحياة.

ترقرق الأمل في عيني الزيني ورجب، على حين صاح به المعين: أتسخر منا يا مجرم؟!

فقال مخاطبا الزيني: أسرع بإحضار طبيب وإلا ضاعت الفرصة.

9

جاء الطبيب عبد القادر المهيني، وفي الحال عكف على فحص «الجثة» .. رفع رأسه وقال: ما زالت حية !

ندت عن الزيني آهة سرور، على حين اصفر وجه المعين بن ساوي حتى حاكى وجوه الموتى .. وواصل عبد القادر: دس لها قدر من البنج يكفي لقتل فيل!

وراح يعالجها حتى لفظت ما في بطنها وحركت رأسها .. صاح الحمال: الحمد لله رب المظلومين.

وقال سحلول وهو يختلس من كبير الشرطة نظرة خفية: سوف تكشف لنا سر الحكاية.

10

مضت مدة مشحونة بالصمت والانفعالات، حتى عادت قوت القلوب إلى وعيها .. رأت وجه الزيني أول ما رأت فمدت له يدها مستغيثة، فقال برقة: لا تخشي شيئا يا قوت.

فهمست: إني خائفة. - إنك بين أحضان الأمان فابتسمي.

لمحت المعين بن ساوي فاضطربت هاتفة: هذا الوحش.

ساد صمت مذهل .. قالت: لا أدري كيف أخذني إلى دار خالية، هددني بالقتل إذا لم أذعن لرغباته الدنيئة، ثم لم أعد أدري شيئا حتى الساعة.

تركزت الأعين فوق كبير الشرطة .. صاح الزيني: أيها الكلب الخائن.

جرده من سيفه وخنجره، وهو يقول: ما أسرع أن يدب الفساد من جديد!

وأمر بسجنه حتى يحقق معه بنفسه، على حين أعلن براءة الحمال وتاجر المزادات، واستبقى المعلم سحلول قليلا، فقال له: إني مدين لك بالكثير يا معلم سحلول، ولكن خبرني ألك خبرة بالطب؟

فأجاب باسما: كلا يا مولاي، ولكن لي خبرة بالموت!

11

قال سليمان الزيني للمعين بن ساوي: ما تصورتك خائنا أبدا، وظننت أن المحنة التي وقعنا فيها جميعا قد طهرتنا، وأن حياتنا ستقوم على العدل والنقاء، وإذا بك تخون الأمانة وتستهين بالكرامة وتتمادى في الفسق والجريمة.

فقال المعين: لا أنكر شيئا مما تقول، لقد أعلنا توبة، ولكن الشيطان لم يتب بعد. - لا عذر لك، ولأجعلن منك عبرة لكل معتبر. - مهلا .. لست صيدا سهلا، والشر انبثق من دارك. - عليك اللعنة.

فقال بهدوء: لي شريك هي الست جميلة زوجتك.

ارتجف الرجل غاضبا، وصاح: ماذا قلت؟ - دعتني بدافع الغيرة، وأغرتني بالتخلص من جاريتك المفضلة قوت القلوب. - خائن ومفتر. - يجدر بك أن تحقق مع زوجتك أولا. - زعم باطل، لن ينجيك من النطع.

فقال الرجل بتحد: سأطالب بتحقيق عادل، وسيجري علي ما يجري عليها .. فالشريعة فوق الجميع.

12

ما بين يوم وليلة شاخ سليمان الزيني وتهدم .. ولم تتوان، فقرر ست جميلة حتى أقرت بتدبيرها .. تصدى للحقيقة بحيرة بالغة .. إعلان الحقيقة يعني القضاء على أم أولاده كما يعني القضاء على مركزه .. والحق واضح، ولكن تبين له أنه أضعف من أن يتخذ القرار الحق .. وجد نفسه منحدرا إلى العفو عن الاثنين، كي تبقى جميلة في داره كما يبقى المعين في وظيفته .. واتخذ القرار المتهالك وفقد شرفه.

غير أن قوت القلوب صارحته بأنه لا بقاء لها في داره بعد اليوم، ولا أمان لها فيها .. فاضطر إلى عتقها وتزويدها بالمال، وتركها تذهب آخذة معها قلبه.

13

خفقت قلوب بالأسى .. تناجى قمقام وسنجام، والمجنون وعبد الله البحري .. حزنوا لسقوط التائبين .. أما قوت القلوب فعاشت وحيدة في دار جميلة .. عاشت في أمان من الحاجة ولكن في غشاء من الوحشة .. ومع أن سيدها استجاب لطلبها وأكرمها، ولكنها لم تعفه من الملامة لتفريطه فيها، ومرارة الوحدة تشتعل جحيما بالحب الخائب .. وسعى إليها طلاب الزواج حبا وطمعا، فرفضتهم جميعا .. رفضت حسن العطار، كما رفضت جليل البزاز .. ورغب فيها آخرون عن بعد كالمعين بن ساوي، وتساءل رجب الحمال أليس من حق من أحيا ميتا أن يملكه؟

14

ووقعت أحداث بسيطة لم ترمش لها أعين المدينة ولكنها هزت أفئدة أصحابها .. تزوج إبراهيم السقاء من ست رسمية أرملة جمصة البلطي .. وعرض بيت المال دار جمصة البلطي للبيع فأمر سليمان الزيني بدفن رأس جمصة في مقابر الصدقة .. ولم يفت المجنون أن يشهد دفن رأسه، وقال لنفسه: إنه أول إنسان يشيع نفسه إلى دار البقاء .. وسعد بزواج أرملته من إبراهيم السقاء؛ لأن وحدتها أمست تنغص عليه صفوه .. وثقل على المعين بن ساوي الشعور بالنبذ، فبدأ صفحة جديدة في التعاون المريب مع التجار والأغنياء .. وأمطرت السماء في ذلك الخريف على غير عادة.

15

وكان ثلاثة أشباح يخترقون الظلمة صامتين .. وتحت دار قوت القلوب نادتهم أوتار عود وصوت شجي تهادى إليهم يناجي رطوبة الخريف:

من عادة الدهر إدبار وإقبال

فما يدوم له بين الورى حال

كم أحمل الضيم والأهوال يا أسفي

من عيشة كلها ضيم وأهوال!

ثقلت خطاهم حتى توقفت، وهمس أحدهم: هذا مطلبنا يا دندان!

طرق شبيب رامة السياف الباب، ففتحت جارية تسأل عن الطارق.

فقال شهريار: دراويش من رجال الله ينشدون مؤانسة شريفة.

غابت الجارية قليلا، ثم رجعت فقادتهم إلى حجرة استقبال ناعمة الوسائد والمفارش قد أسدل على ديوانها الرئيسي ستار يحجب صاحبة الدار .. تساءلت قوت القلوب: تريدون طعاما؟

فقال شهريار: بل نريد مزيدا من غناء.

فكررت الصوت على مقام جديد حتى سبح الرجال في طرب رائق .. وقال شهريار: أأنت مغنية يا هذه؟

فهمست: كلا يا رجال الله.

فقال السلطان: صوتك ينطق بحزن دفين. - وأي حي يخلو من حزن؟

فتساءل برقة: ماذا يحزنك ودارك ناطقة بالنعيم؟

فلاذت بالصمت، فعاد شهريار يقول: احكي لنا حكاياتك فصناعتنا في الحياة مداواة القلوب الكليمة.

فشكرته ثم قالت: سري لا يباح به يا رجال الله.

وأصرت على الصمت، فاستأذنوا في الانصراف والسلطان ضيق الصدر بصمتها .. ومال على أذن دندان قائلا: آتني بسر هذه المرأة الصامتة.

16

مطالب السلطان جبال ثقال، لا تنزاح عن كاهله حتى يحققها، وهو أعلم بغضبه إذا خاب له مطلب، وما زال السلطان متأرجحا بين الهدى والضلال فلا تؤمن غضبته .. لذلك استدعى حاكم الحي سليمان الزيني .. وصف له موقع دار قوت القلوب، وقال: في الدار امرأة غامضة، ذات صوت عذب، وهم خفي، يريد مولانا السلطان فؤادها صفحة مبسوطة لا خفاء فيها.

زلزلت نفس الزيني، وأدرك أنه مسوق إلى الاعتراف .. سيتحرى دندان عن الحقيقة لدى كل من يأنس عنده قدرة على كشف الأسرار من الرجال، وعلى رأسهم الفضل بن خاقان .. ستهدى إليه الحقيقة عاجلا أو آجلا، فليكن على الأقل صاحب الفضل في الاعتراف تقربا من السلطان .. وهو ذو خلق؛ فلم يطمئن قلبه لحظة بتصرفه ويفضل عنه بأي سبيل.

وأفضى إلى الوزير دندان بمكنون سره.

17

ولما تلقى شهريار الحقيقة من وزيره غضب وهتف: لا بد من ضرب عنقي المعين وجميلة زوجة الزيني.

غير أن غضبه فتر فجأة .. لعله تذكر هروبه ليلا عاريا والإثم يطارده. ولعله تذكر أن الزيني والمعين كانا من خيرة الرجال. على أنه فصل الرجلين من عملهما، وصادر أموالهما، كما أمر بجلد جميلة والمعين .. ووهب قوت القلوب عشرة آلاف دينار، وسألها بعطف: ماذا تطلبين أيضا يا جارية؟

فقالت قوت القلوب: أسألك يا مولاي العفو عن سبيل الزيني.

فتبسم السلطان وسألها: يبدو أنك ما زلت تحبينه.

فغضت بصرها حياء، ولكنه قال بحزم: لقد صدر أمرنا بتولية الرجال الجدد ولا رجوع فيه، بذلك يصبح الفضل بن خاقان حاكما، وهيكل الزعفراني كاتم سر، ودرويش عمران كبيرا للشرطة.

فشفت عيناها عن دمع يود أن ينطلق، فقال شهريار: بيدك أنت أن تعفي عنه ولعلك خير له من الإمارة!

فلثمت موطئ قدميه، وهمت بالانصراف، فسألها: ماذا نويت يا جارية؟

فأجابت ببساطة وبعينين مغرورقتين: العفو يا مولاي.

علاء الدين أبو الشامات

1

هتف جمصة البلطي في هدأة الليل تحت النخلة: «اللهم حررني من أمس .. اللهم حررني من غد».

وإذا بصوت سنجام يقول له: نحن نحب ما تحب، ولكن بيننا وبين الناس حاجز من المقادير.

ولعلعت ضحكة زرمباحة، ثم قالت: لماذا خلق الشهد والخمر؟

وكان شهريار ماضيا في جولاته الليلية مع رجليه، فقال لدندان: تمر بي هواتف متلاحقة، ولكني دائر الرأس في مقام الحيرة.

2

نحيل القوام، مشرق الوجه، ناعس الطرف، فوق كل خد شامة، يهم بولوج المراهقة في حياء .. رمقه عجر الحلاق، وقال: تعلمت ما أنت في حاجة إليه، فخذ العدة واسرح، والله يرزقك.

وتمتمت فتوحة: ربنا يكفيك شر أولاد الحرام.

وذهب الفتى نشيطا مستبشرا، فقال عجر وكأنما يخاطب نفسه: له جمال نور الدين، فاللهم أسبغ عليه حظه.

فقالت فتوحة: حجابي فوق صدره يصده عن طريق أبيه.

فرماها عجر بنظرة سامة ولكنه لم ينبس.

3

مضى يعمل في الطريق والدكاكين، وكل من تقع عليه عيناه يقول: تبارك الخلاق العظيم.

واختار سلم السبيل ساعة الراحة، فنشأت مودة سريعة بينه وبين فاضل صنعان بياع الحلاوة .. ومرة دعاه إلى مسكنه بالربع، فرأى زوجته أكرمان وأمه أم السعد وأخته حسنية .. تحركت مراهقته خفية، فارتطمت بورعه وتربيته الدينية التي تلقاها في الكتاب، فجعل يعتل بالعلل كلما دعاه فاضل إلى مسكنه .. ولمس فاضل ورعه فقال له: إنك فتى جدير بكلمات الله المستكنة في قلبك.

فغمغم علاء الدين: إنه من فضل ربي.

فسأله بحذر: ما شعورك عندما ترى المعاصي تجتاح الناس؟

فتمتم: الحزن والأسف. - وما جدوى ذلك؟

فتبدت الحيرة في عينيه وتساءل: ماذا تريد أيضا؟ - الغضب!

وكررها ثم قال: المرعى الطيب جدير بالأسد.

4

أشرق الحي بمولد سيدي الوراق .. زحفت المواكب، وتلاطمت الأعلام، وتجاوبت الدفوف والمزامير .. اجتمع أهل الخير وأهل النفاق حول جفان الثريد .. ولاح في مجالس الخاصة سحلول، وحسن العطار، وجليل البزاز، وسليمان الزيني، والمعين بن ساوي، وشملول الأحدب، وحضر أيضا فاضل صنعان، وعجر الحلاق، ومعروف الإسكافي، وإبراهيم السقاء، ورجب الحمال .. جاء أيضا - بمفرده لأول مرة - علاء الدين أبو الشامات .. أجلسه فاضل إلى جانبه، وهو يقول: لو بعث الوراق لامتشق السيف!

ابتسم علاء الدين ابتسامة من يزداد خبرة بمعرفة صاحبه .. فقال فاضل بنبرة ذات مغزى: ما دام الطيبون لا يمتشقون السيوف!

قال علاء الدين ببراءة: يتحدثون كثيرا عن توبة مولانا السلطان.

فقال فاضل بسخرية: أحيانا يتوب عن توبته، ويقينا أنه ليس أحق المسلمين بالولاية!

انجذبت عينا علاء الدين نحو الركن الأيمن، فهجر حديث صاحبه ولو إلى حين .. ثمة شيخ نحيل بهيج الوجه ذو نظرة آسرة .. خيل إليه أنه لم ينظر نحوه مصادفة .. وجد عيني الشيخ في انتظاره .. ثمة دعوة خفية من هناك واستجابة من هنا .. ارتاح إليه كما يرتاح السليم إلى بهجة الوردة المتفتحة .. ولاحظ فاضل انصرافه عن حديثه إلى الشيخ، فقال له: الشيخ عبد الله البلخي رأس الولاية.

فتساءل علاء الدين بأريحية: لماذا ينظر إلي؟

فقال فاضل بغموض: ولماذا تنظر إليه؟

فهمس: الحق أني أحببته.

فقطب فاضل ولم يجد ما يقوله.

5

غادر علاء الدين المولد وحده مترع الصدر بأصداء الأناشيد .. سبح في الظلام تحت ضوء النجوم الخافت ونسمة الخريف تلاطفه .. إذا بصوت عميق مؤثر يدركه مناديا: يا علاء الدين.

فتوقف وقلبه يناجيه أن هذا الصوت من ذاك الشيخ يصدر، لحق به الشيخ وقال له: أنت مدعو لصداقتي.

فقال بحياء: نعم الدعوة يا مولاي، ولكن كيف عرفت اسمي؟

فلم يجبه وواصل: داري معروفة لمن يريد.

فقال كالمعتذر: عملي يستغرق نهاري كله. - إنك لا تدري ما عملك. - لكني حلاق يا سيدي.

فلم يحفل بإجابته وسأله: لماذا حضرت مولد الوراق؟ - أحب الموالد من صغري. - ماذا تعرف عن الوراق؟ - إنه ولي من الصالحين. - إليك قصة رويت عن لسانه، قال: «أعطاني شيخي بعض وريقات بقصد أن أرميها في النهر، فلم يطاوعني قلبي على هذا العمل، ووضعتها في بيتي وذهبت إليه وقلت له قد أديت أمرك، فسألني وماذا رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا، فقال: لم تعمل بأمري .. ارجع فارمها في النهر، فرجعت متشككا في العلامة التي وعدني بها، ورميتها في النهر، فانشق الماء وظهر صندوق وفتح غطاؤه حتى سقطت الوريقات فيه، فقفل والتقت المياه، فرجعت إليه وأخبرته بما حصل فقال لي: الآن رميتها، فسألته أن يبين لي سر ذلك، فقال: قد كتبت كتابا في التصوف لا يمكن أن يناله إلا الكمل، فطلبه منى أخي الخضر، وقد أمر الله المياه أن تأتيه به.»

فذهل علاء الدين ولاذ بالصمت، فمضيا معا على مهل، والشيخ يقول: ومن أقواله المأثورة: «فساد العلماء من الغفلة، وفساد الأمراء من الظلم، وفساد الفقراء من النفاق.»

فتمتم علاء الدين منتشيا: ما أعذب حديثه!

فقال بصوت ارتفع درجة في هدأة الليل: فلا تكن من قرناء الشياطين.

فتساءل مدفوعا بشوق ساخن: من هم قرناء الشياطين؟

فأجابه الشيخ: أمير بلا علم، وعالم بلا عفة، وفقير بلا توكل، وفساد العالم في فسادهم.

فقال علاء الدين بحماس: أريد أن أفهم. - الصبر يا علاء الدين، ماهي إلا بداية تعارف على مشهد من النجوم، وداري معروفة لمن يريد.

6

حلم علاء الدين تلك الليلة بأن «المجنون» جاءه بجلبابه المسدول على اللحم، وقال له: أرسل لحيتك.

فعجب لطلبه، فقال المجنون: ما هي إلا شبكة للصيد.

فقال علاء الدين : ولكني حلاق لا صياد.

فصاح المجنون: خلق الإنسان ليكون صيادا.

7

على طبلية الفطور حكى لوالديه حكاية الشيخ عبد الله البلخي، ففرحت فتوحة وقالت: بركة من ربنا.

أما عجر فاستمع إليه بفتور، وقال: ما أنت إلا حلاق، وإنك لمتدين بما فيه الكفاية، فاحذر المغالاة.

وبسبب هذا الاختلاف تشاجر الزوجان وتقاذفا بكلمات قارصة.

8

وفوق سلم السبيل راح يصغي لحديث فاضل بدهشة، ثم سأله: إنك حانق على رجالنا الأجلاء.

فسأله فاضل: هل عرفتهم عن قرب؟ - أحيانا يصحبني أبي معه إلى دورهم كمساعد له، فرأيت عن قرب الفضل بن خاقان حاكم حينا، وهيكل الزعفراني كاتم السر، ودرويش عمران كبير الشرطة. - لا يعني هذا أنك عرفتهم. - رجال عظام، واحد فقط انقبض قلبي لمرآه هو حبظلم بظاظا بن درويش عمران، خيل إلي أن به شبها بالشيطان! - هل رأيت الشيطان؟ - لا تسخر منى، ما هو إلا شعور.

تنهد فاضل صنعان قائلا محادثا نفسه: الأوغاد! - كيف أسأت الظن بهم؟ - لا دخان بلا نار!

فتفكر قليلا، ثم قال: الله موجود.

فهتف فاضل: لكننا ضمن أدواته التي يصنع بها الخير أو يمحق الشر!

فنظر إليه في عينيه متسائلا: ماذا تريد يا فاضل؟

فقال بغموض: أطمع أن أجعلك صديقا وزميلا!

9

جلس في حجرة الاستقبال البسيطة بدار البلخي ينتظر دخوله .. إنها أول زيارة يقوم بها في أول الليل .. وكان سمع أباه عجر يروي حكاية عن الشيخ أكربته وأحزنته .. قال: إن درويش عمران كبير الشرطة، خطب الابنة الوحيدة للشيخ لابنه حبظلم بظاظا .. إنها ابنة تقية نقية أخذت العهد عن أبيها، وفائقة الجمال .. وتذكر صورة حبظلم بظاظا الشيطانية وما يقال عن سيرته فاستاء وتضاعف حزنه .. ومضى أبوه في روايته فقال: إن الشيخ شكر واعتذر، ولكن لا شك في أن كبير الشرطة قد غضب، وإذا غضب كبير الشرطة فلا أمان للمغضوب عليه .. وقد سأل أباه: ألا يدرك الشيخ البلخي هذه الحقيقة؟

فأجاب عجر: معروف عن الشيخ أنه لا يخشى إلا الله، ولكن هل يخشى كبير الشرطة الله؟!

وجاء لزيارته بقلب ثقيل بالحزن له .. ولكنه ما كاد يراه مقبلا مشرقا حتى نسي حزنه وأدرك أنه حقا لا يخشى إلا الله. تربع الرجل على شلتة في الصدر، وسأله: ما شعورك وأنت تزورني لأول مرة؟

فقال علاء الدين صادقا: أشعر كما لو كنت أعرفك منذ ولدت.

فقال باسما: لكل منا أب آخر والسعيد منا من يكتشفه. - وحديثك في ليلة المولد أسر قلبي. - نحن نشد إلى الطريق الأكفاء الضالين، ماذا قال أبوك؟

اضطرب علاء الدين وقال: إنه يريدني على أن أكرس قلبي لعملي.

فقال جادا: إنه نائم ويأبى أن يصحو، ولكن كيف تقيم نفسك يا علاء الدين؟

لم يدر بماذا يجيب، فسأله متبسطا: أي مسلم أنت؟ - إني مسلم صادق.

فتساءل: هل تصلي؟ - الحمد لله. - أرى أنك لم تصل قط.

فنظر إليه بدهشة، فقال الشيخ: الصلاة عندنا تؤدى بعمق فلا يشعر صاحبها بمس النار إذا أحرقته.

فصمت علاء الدين مغلوبا على أمره، فقال الشيخ: فعليك أن تقبل الإسلام من جديد لتصير مؤمنا حقا، وعندما يتم لك الإيمان تبدأ الطريق من أوله إذا شئت.

ظل علاء الدين صامتا، فقال الشيخ: لا أهون من مشقة الطريق بمعسول الكلام، فنور الخلاص ثمرة مضنون بها على غير أهلها، والله يتقبل منك ما دون ذلك، ولكل على قدر همته.

وخيم الصمت، حتى شقه علاء الدين متسائلا: أيقتضي ذلك أن أتخلى عن عملي؟

فأجاب بقوة: لكل شيخ طريقة، أما أنا فلا أقبل إلا العاملين.

فقال علاء الدين: سوف أجيء بقلبي وقدمي.

فقال: لا تجئ إلا إذا دفعتك رغبة لا تقاوم!

10

أقبل على فاضل صنعان في ملتقى السبيل شخصا جديدا .. توجس فاضل ريبة فهمس بنفاد صبر: حتى متى تتركني في مقام الأمل؟

فقال علاء الدين: إني في مقام الحيرة. - اهتديت إلى دار الشيخ؟ - أجل، كيف عرفت ذلك؟ - أعرف أثره.

ثم مستدركا: وقد طفت به طويلا! - أنت؟! - نعم. - إنه شيخ طاهر.

فحنى رأسه مسلما، وهو يقول: هو ذلك وأكثر. - لعل الصبر خانك فانقطعت؟ - تلقيت على يديه تربية لا تزول آثارها، ولكني آثرت البقاء على الفناء. - لا أفهم يا صديقي. - اصبر، الفهم لا يتيسر إلا مع الزمن، أود أن أراك من جنود الله لا من دراويشه! - حقا إني لفي حيرة.

فقال فاضل: المنطلق من الإيمان دائما وأبدا، الطريق واحد في الأول ثم ينقسم بلا مفر إلى اتجاهين .. أحدهما يؤدي إلى الحب والفناء، والآخر إلى الجهاد. أما أهل الفناء فيخلصون أنفسهم، وأما أهل الجهاد فيخلصون العباد.

وغرق علاء الدين في تفكير عميق نسي به الوقت.

11

كان درويش عمران كبير الشرطة، وابنه حبظلم بظاظا يمضيان على بغلتين من مقر الشرطة إلى دارهما والشمس تؤذن بالمغيب .. وعند منعطف ميدان الرماية طالعهما فجأة المجنون، فاعترض سبيلهما صائحا في وجه درويش عمران: زر صاحبك المعين بن ساوي وبلغه السلام!

وذهب الرجل إلى حال سبيله، فتساءل حبظلم: ماذا يريد المجنون؟

فقال كبير الشرطة: لا يحاسب مجنون على قول أو فعل.

لكنه أدرك أنه يذكره بمصير كبير الشرطة وأنه يشير إلى انحرافاته .. ابنه أيضا أدرك ذلك رغم تساؤله، بخاصة وأنه يقوم بالوساطة عادة بين التجار وأبيه .. وقال حانقا: للمجانين مكان لا يبرحونه.

فقال درويش عمران: إنه يحظى بعطف مولانا السلطان.

فقال حبظلم بازدراء: إنه يخافه فيما أرى. - احذر لسانك يا حبظلم!

فهتف الشاب: أي هوان يا أبي؟! ألم يكفنا أن الشيخ المنحرف رفض يدي.

فقطب درويش عمران دون أن ينبس.

12 «من كان سروره بغير الحق فسروره يورث الهموم، ومن لم يكن أنسه في خدمة ربه فأنسه يورث الوحشة.»

بين دروس الدين يلقيها الشيخ على علاء الدين، تفيض كأسه بنثار الكلم المضيئة كأنما يناجي بها ذاته، ولكن الفتى يتلقاها مبهورا. - كل من عليها فان إلا وجهه، ومن يفرح بالفاني فسوف ينتابه الحزن عندما يزول عنه ما يفرحه، كل شيء عبث سوى عبادته، الحزن والوحشة في العالم كله ناجم عن النظر إلى كل ما سوى الله.

وتذكر علاء الدين أحلامه وأحاديثه وأفعاله، فتبدت له الدنيا غشاء من الألغاز، وتذكر أباه وأمه فهيمن عليه الأسى. - من رزق ثلاثة أشياء مع ثلاثة أشياء فقد نجا من الآفات؛ بطن خال على قلب قانع، وفقر دائم مع زهد حاضر، وصبر كامل مع ذكر دائم.

وقال علاء الدين لنفسه: إننا نصلي للرحمن الرحيم باسم الرحمن الرحيم .. وإذا بالشيخ يسأله: فيم تفكر يا بني؟

فخرج من غفوته مورد الخدين، وقال: لن يخرجني من حيرتي إلا لطف الرحمن. - عليك قبل أن تتلقى الخمر أن تطهر الوعاء وتنقيه من الشوائب.

فقال برجاء: نعم المرشد أنت! - ولكن «الآخر» يقحم نفسه علينا وهو غائب!

فأدرك أنه يشير إلى فاضل صنعان، فتساءل: كيف تراه يا مولاي؟ - شاب نبيل عرف ما يناسبه وقنع به. - أهو على ضلال؟ - إنه يجاهد الضلال على قدر همته!

فقال علاء الدين بسرور: الآن اطمأن قلبي. - ولكن عليك أن تعرف نفسك. - إنه فقير ولكنه غني بحمل هموم البشر. - مذهب للسيف ومذهب للحب.

فصمت علاء الدين، فقال الشيخ: طوبى لمن تم له تحويل القلب من الأشياء إلى رب الأشياء، ليس يخطر الكون ببالي، وكيف يخطر الكون ببال من عرف الكون؟

واصل الشيخ بعد ذلك درسه.

13

وذات ليلة استقبله الشيخ في الحجرة نفسها، ولكنه رأى ستارة مسدولة في ركنها الأيمن، فغزته خواطر الشباب .. وقال الشيخ: اسمع يا علاء الدين.

تحركت أوتار عود من وراء الستار وأنشد صوت عذب:

ليلي بوجهك مشرق

وظلامه في الناس ساري

والناس في سدف الظلا

م ونحن في ضوء النهار

سكن الصوت ولكن صداه واصل نفاذه إلى الأعماق .. قال الشيخ: هذه زبيدة ابنتي، وإنها لمريدة صادقة.

غمغم علاء الدين منتشيا: أنعم وأكرم. - لقد رفضت أن أعطيها لابن كبير الشرطة.

ثم مواصلا بعد صمت: ولكني وهبتها لك يا علاء الدين.

فقال بنبرة مرتعشة من التأثر: ما أنا إلا حلاق متجول.

فأنشد الشيخ:

زائر نم عليه حسنه

كيف يخفي الليل بدرا طلعا؟

ثم قال: من ذل في نفسه رفع الله قدره، ومن عز في نفسه أذله الله في أعين عباده.

14

عقد لعلاء الدين على زبيدة .. انتقل الفتى إلى دار الشيخ الكبير .. شهد الوليمة البسيطة عجر وفتوحة وفاضل صنعان والمعلم سحلول وعبد القادر المهيني .. ووفد المجنون بلا دعوة فجلس إلى يمين العريس .. وعقب الوليمة مضى عجر إلى داره بصحبة نفر من خاصته، فدارت أرطال النبيذ، وراح يرقص ويغني حتى مطلع الفجر.

15

ولم تمض على ليلة الزفاف أيام حتى تكدر صفو الحي بأحداث أليمة، فزحف عليه وباء الشر بوجهه الكالح .. فقدت جوهرة نادرة من دار الإمارة، جزعت لفقدها حرم الحاكم الفضل بن خاقان، وتذكر بها الحاكم أحداث الفوضى التي تنتاب الحي بين الحين والحين من اغتيالات وسرقات تنكشف عن أبشع المؤامرات وتنتهي بقتل الحاكم أو عزله .. وصب الرجل غضبه على درويش عمران كبير الشرطة، ولكن الرجل نفى عن جهازه الغفلة، ووعد بالقبض على الفاعل والعثور على الجوهرة.

وأطلق كبير الشرطة مخبريه في كل مكان من الحي .. وبناء على ما تلقى من معلومات اقتحم دار الشيخ عبد الله البلخي غير مبال بتذمر الأهالي، وفتشها تفتيشا دقيقا، وإذا به يعثر على الجوهرة في صوان علاء الدين، كما عثر به على رسائل تقطع بتعاونه مع الخوارج، هكذا قبض على علاء الدين وألقي به في السجن، فتقررت محاكمته بصفة عاجلة.

16

في تلك الأثناء شاع الحزن في قلوب الناس .. لم يحرق الحزن زبيدة وحدها، ولا فتوحة وعجر وحدهما، ولكن القلوب تألمت لمصير الفتى الجميل، وأصرت على تبرئته مما رمي به، وأشارت إلى كبير الشرطة وابنه حبظلم بظاظا باعتبارهما المدبرين للجريمة .. وزاد من شك الناس ظهور نعمة مفاجئة على المعين بن ساوي فآمنوا بأن المدبرين استعانا بخبرته السابقة كرئيس للشرطة في تنفيذ ما بيتا .. والتمس عجر الرأفة عند الفضل بن خاقان وهيكل الزعفراني ولكنه وجد منهما الزجر والرفض .. وحث الشيخ عبد الله البلخي على السعي مستعينا بمهابته، ولكن لم تند عن الشيخ كلمة أو حركة .. وتلاحقت الإجراءات بسرعة مذهلة فحوكم علاء الدين وقضي عليه بالنطع.

17

وفي صباح يوم بارد من أيام الخريف، سيق علاء الدين إلى النطع في حراسة مشددة، وسط جمهور غفير من أهل الحي، جمع بين الرسميين والكادحين .. لم يصدق علاء الدين ما يحدث .. وكان يصيح: إني بريء والله شهيد.

زاغ بصره بين الوجوه المحملقة، المشفقة والشامتة، ورفع وجهه إلى السماء المتوارية وراء السحب مسلما أمره إلى خالقه .. تناهى إليه صراخ أمه وزوجته فارتجف قلبه .. تذكر رغم ذهوله أنه كان يأمل أن يخرج من حيرته إلى سيف الجهاد أو الحب الإلهي، ولم يخطر بباله قط سيف الجلاد .. وتطلع كثيرون إلى معجزة تقع في اللحظة الأخيرة كما حدث لعجر وغيره، ولكن السيف ارتفع أمام أعينهم في جو قاتم ثم هوى مبددا الآمال، فانفصل الرأس النبيل الجميل عن الجسد.

18

في دار الشيخ تأوه عجر هاتفا: ابني بريء.

وولولت زبيدة: بريء طاهر وحسبي الله.

وتربع الشيخ صامتا وهادئا .. لم يفعل شيئا وحتى الحزن لم يعلنه .. وقالت له ابنته: إني معذبة يا أبي.

وقال له عجر بعنف: لم تحرك ساكنا كأن الأمر لا يعنيك.

نظر إلى ابنته دون مبالاة بعجر، وقال: الصبر يا زبيدة.

ثم استطرد بعد صمت: إليك حكاية شيخ جليل قال: «سقطت في حفرة وبعد مضي ثلاثة أيام مرت علي قافلة من المسافرين فقلت أناديهم، ثم انثنيت عن عزمتي قائلا: لا، إنه ليس من الصالح أن أطلب المساعدة إلا من الله تعالى، ولما اقتربوا من الحفرة وجدوها في وسط الطريق فقالوا لنسد هذه الحفرة حتى لا يقع فيها أحد، فقلقت قلقا شديدا حتى فقدت كل رجاء، فبعد أن سدوها وسافروا دعوت الله تعالى وسلمت نفسي للموت وتركت كل رجاء في بني الإنسان، فلما جن الليل سمعت حركة على ظاهر الحفرة فأنصت لها فانفتح فم الحفرة، ورأيت حيوانا كبيرا كالتنين أرسل إلي ذيله، فعلمت أن الله قد أرسله لنجاتي، فأمسكت بذيله وسحبني، فناداني صوت من السماء: «إنا قد نجيناك من الموت بالموت».

السلطان

1

مضى الرجال الثلاثة يخوضون الظلماء في ثياب تجار غرباء، شهريار ودندان وشبيب رامة .. اقتربت منهم أشباح ثلاثة ولما حاذتهم سألهم أحدهم: ماذا تفعلون في هذه الساعة من الليل؟

فأجاب شهريار: تجار غرباء يتداوون من الضجر بأنسام الربيع.

فقال صاحب الصوت: أنتم ضيوفي يا غرباء.

فدعوا له بالبركات، ومضوا جماعة واحدة وشهريار يتساءل : ترى من يكون مضيفنا الكريم؟

فقال صاحب الصوت: صبرا يا سادة يا كرام!

2

ساروا حتى شاطئ النهر .. اتجهوا نحو سفينة تنتظر، تشع منها أضواء المصابيح كالكواكب .. تساءل شهريار: نحن مرتبطون بالسوق فهل ترومون سفرا؟

فأجاب صوت آخر: أيها الغرباء، إنكم بحضرة مولانا السلطان شهريار، فأدوا له تحية الملك، واحمدوا الله على حظكم السعيد.

عقدت الدهشة ألسنة الرجال الثلاثة .. أي سلطان؟ وأي شهريار؟ وتجمدوا في ذهولهم فلم تند عنهم حركة .. عند ذاك صاح صاحب الصوت الثاني: التحية يا غرباء.

أفاق شهريار من ذهوله .. صمم على خوض التجربة حتى نهايتها .. سرعان ما انحنى أمام السلطان المزعوم فتبعه في الحال دندان وشبيب رامة .. قال: نضر الله وجه أمير المؤمنين وأطال عمره وأدام عهده ..

تبعوه ضمن الحاشية حتى جلس على عرش تحت مظلة في أعلى السفينة، فاتخذوا مجالسهم فوق وسائد مطروحة على فسحة منبسطة فيما أمام العرش .. وأقلعت السفينة في جو ربيعي تحت بسمات النجوم الساهرة.

3

رست السفينة إلى شاطئ جزيرة .. استقبلها الحرس بالمشاعل .. همس شهريار الحقيقي في أذن دندان: إنها لمملكة جديدة ونحن نيام! - لعله الحشيش يا مولاي؟ - ولكن مم ينفقون على هذه المظاهر الباذخة؟

فقال الوزير بقلق: عما قليل تنطق الحقيقة بلسانها الخفي.

دخلوا سرادقا مثيرا، فوجدوا سماطا حافلا بالأطعمة والأشربة في انتظارهم .. تحلقه جمع غفير من رجال المملكة، فأصابوا من الطعام حتى شبعوا، ومن الشراب حتى توهجت أرواحهم بالنشوة والبهجة .. وأنشدت جارية من وراء ستار:

لسان الهوى في مهجتي لك ناطق

يخبر عني أنني لك عاشق

فهمس شهريار في أذن دندان: يا لها من مأدبة ملكية وما نحن إلا رعية ..

وعند لحظة معينة صاح السلطان الآخر: آن لنا أن نعقد المحكمة الإلهية ..

فسأل دندان مولاه: ألا نستأذن في الانصراف حتى نرسل الجند لمحاصرتهم قبل أن يتفرقوا؟

فقال شهريار: بل نبقى لأشهد بعيني ما يجري مما لم يجر لي في خاطر ..

وسرعان ما رفع قوم السماط .. وجيء بمنصة محكمة فنصبت في صدر السرادق .. جلس عليها السلطان الآخر، وقف إلى يمينه وزيره، وإلى يساره السياف .. وانبعث في الأركان الحراس شاهري السيوف .. وجلس شهريار الحقيقي وتابعاه ضمن قلة من الصفوة أذن لها بمتابعة محكمة العدل الإلهي.

4

قال السلطان الآخر من فوق المنصة مخاطبا الصفوة الحاضرة: أحمد الله الذي يسر لي التوبة بعد انغماسي في سفك الدماء البريئة ونهب أموال المسلمين، إنه سبحانه واسع الرحمة والمغفرة.

فامتقع وجه شهريار الحقيقي، ولكن لم تند عنه حركة واحدة .. وواصل السلطان الآخر حديثه قائلا: هذه المحكمة تنعقد للتحقيق في شكوى مرفوعة من رجل بسيط، لو صح ما جاء بها لكشف عن جريمة بشعة، اغتيلت فيها البراءة لحساب الخسة والدناءة والظلم، والله المستعان أولا وأخيرا، فليدخل صاحب الشكوى عجر الحلاق ..

ودخل الرجل، فوقف أمام المنصة في حذر وخشوع، فقال له السلطان: ما شكواك يا عجر؟

فقال الرجل بصوت متهدج: ابني الوحيد علاء الدين راح ضحية مؤامرة وحشية غادرة. - ما التهمة التي ضرب عنقه من أجلها؟ - التآمر ضد السلطان وسرقة جوهرة الست قمر الزمان زوجة الحاكم الفضل بن خاقان. - من المدبر للمؤامرة في رأيك؟ - حبظلم بظاظا وأبوه كبير الشرطة درويش عمران، وقد استعانا بالمعين بن ساوي المنبوذ لانحرافاته، فنجح في سرقة الجوهرة كما نجح في دسها في صوان علاء الدين مع رسائل مزورة تنطق بخيانته لمولانا السلطان. - وما الدافع وراء المؤامرة؟ - الانتقام من علاء الدين؛ لأنه تزوج زبيدة كريمة ولي الله البلخي الذي رفض أن يزوجها من حبظلم بظاظا لسوء خلقه وخلقه. - هل لديك دليل على ما تقول؟ - براءة علاء الدين فوق أي دليل، سل عنه أهل الحي جميعا، والمؤامرة حقيقية يؤمن بها الجميع، ولو كان عندي دليل واضح لأنقذت عنق البريء الطاهر، ولكني أضع أملي على عدل السلطان وتأثيره الذي لا يقاوم.

وفي الحال نحى السلطان عجر، واستدعى حاكم الحي الفضل بن خاقان، فمثل الرجل بين يديه تنطق قسمات وجهه بالرهبة والانكسار .. قال له السلطان: أيها الحاكم، لا شك عندي في أنك من الصالحين، لقد اخترتك بعد تربية وتجربة، أستحلفك بالله العظيم أن تفضي إلي بسر هذه القضية؛ فلا شك عندي في أنك عليها مطلع.

بسط الحاكم راحتيه مغمغما: اللهم فاشهد.

ثم قال مخاطبا مولاه: عقب مصرع علاء الدين نما إلي ما يتهامس به الناس من براءته وإجرام الآخرين، فانزعجت انزعاج رجل نشأ متشبعا بمبادئ الدين الحنيف، وبثثت عيوني بين الرجال والأحياء، فظفروا بالحقيقة من فم المعين بن ساوي وهو سكران، فما كان مني إلا أن هممت بالإيقاع بالمجرمين، غير أني ...

صمت الحاكم مليا، ثم قال بذل: غير أني ضعفت يا مولاي؛ فأنا الذي حاكم علاء الدين وقضى بضرب عنقه، خفت عواقب الكشف عن الحقيقة وإعلانها؛ فمن قتل نفسا فقد قتل الناس جميعا.

فقال السلطان: وخفت العواقب على سمعتك ومركزك كحاكم!

فنكس الرجل رأسه ولاذ بالصمت .. فسأله السلطان: هل علم كاتم سرك بالحقيقة؟

فقال الرجل بأسى: نعم يا مولاي.

قال السلطان مخاطبا الجميع: لله حكمته في خلقه، أما نحن فلنا الشريعة .. لذلك قضينا بضرب أعناق المعين بن ساوي، ودرويش عمران، وحبظلم بظاظا، كما قضينا بعزل الفضل بن خاقان وهيكل الزعفراني مع مصادرة أملاكهما!

5

وجيء بالنطع والمجرمين فتحرك السياف .. عند ذاك لم يتمالك شهريار الحقيقي من أن يقف قائلا بصوت جهوري: كفوا عن هذه المهزلة!

توثب الحراس، وهتف السلطان من فوق المنصة: من أذن لك بالكلام أيها الغريب المجنون؟

فنهره السلطان قائلا بحزم: أفق من جنونك أنت، إنك تخاطب السلطان شهريار.

ألجمت المفاجأة الألسنة، وقف إلى جانبي السلطان دندان وشبيب رامة شاهري سيفيهما .. أما السلطان فأخرج من جيبه خاتم الملك ولوح به في وجه الآخر .. أفاق السلطان الزائف من ذهوله فوثب من فوق المنصة، ثم سجد بين يدي السلطان، وقال بنبرة مرتعشة: عبدك إبراهيم السقاء. - ما معنى هذه المهزلة؟

فقال الرجل وهو ينتفض من الرعب: عفوا يا مولاي .. إيذن لي برواية حكايتي واغفر لي حماقتي.

6

قص إبراهيم السقاء قصته على السلطان بمجلسه الصيفي بالقصر .. قال: منذ صباي يا مولاي وأنا من المتوكلين على الله، أكدح من الفجر حتى المغيب، رزقي محدود وقلبي قنوع وسلوتي في الجوزة .. ويسر الله لي نعمة كبيرة فتزوجت من أرملة جمصة البلطي، ولم أكن أحلم بأكل اللحمة إلا في عيد الأضحي .. ولما قتل ابن صديقي عجر الحلاق انقلبت موازيني، وسمعت ما يتهامس به الناس، فهيمن علي حزن لم أعرفه من قبل وقلت إننا نحن الفقراء ليس لنا إلا الله .. وكان القدر يخبئ لي مفاجأة لا تخطر بالبال، فعثرت على كنز خارج البوابة وصرت من أغنى الأغنياء .. فكرت - وهو المألوف - أن أستأثر بالمال وحدي، ولكن حبي للفقراء دفعني إلى سبيل آخر، فصممت على إنشاء مملكة وهمية نهيم فيها جميعا يدا واحدة.

تبسم شهريار، وقال مقاطعا: الحشيش استهلك عقلك. - لا أنكر ذلك؛ فالفكرة لا تخطر إلا ببال حشاش، وتحمس الصعاليك لها أيما تحمس .. وقع اختيارنا على تلك الجزيرة المهجورة، توجت نفسي سلطانا، واخترت من الحفاة الجياع الوزراء والقادة ورجال المملكة، ولم نكن نتلاقى لتمثيل لعبتنا إلا في الليل، فننقلب من صعاليك متشردين إلى رجال مملكة عظام، نأكل ما نشتهي ونشرب ما نحب، ونتبادل الأحاديث في شئون المملكة؛ كل بحسب موقعه ودرجته .. ولما كانت المؤامرة التي أهلكت علاء الدين تلح علينا، فنعقد كل ليلة محكمة يأخذ فيها العدل مجراه بعد أن عز عليه ذلك في الدنيا.

فتساءل السلطان ساخرا: وأضعت الكنز يا حشاش؟ - لم يبق منه إلا القليل، ولكنا اشترينا به سعادة لا تقدر بمال!

7

سر شهريار بحكاية إبراهيم السقاء سرورا لا مزيد عليه، ولكنه قال لدندان: وافني بما يشاع عن مصرع علاء الدين بن عجر الحلاق.

فقال الوزير: ستجد المفتاح يا مولاي عند الفضل بن خاقان، فاستدعه ولك عليه التأثير الأكبر.

فتساءل السلطان: أترى أن نسترشد بما فعل السلطان إبراهيم السقاء؟

فقال دندان: الحق يا مولاي أنها كانت محاكمة عجيبة تقطع بأن الحشيش لم يستهلك كل عقله.

فقال شهريار: لا أخفي عنك أني أعجبت بالحكم أيضا!

هكذا جرت الأمور، فوقع الظالمون، فضربت أعناق المعين بن ساوي، ودرويش عمران، وحبظلم بظاظا، وعزل الفضل بن خاقان، وهيكل الزعفراني، وصودرت أملاكهما.

طاقية الإخفاء

1

قال سخربوط بفتور: عباس الخليجي حاكم الحي، سامي شكري كاتم السر، خليل فارس كبير الشرطة، لا يتوقع منهم انحراف قريب.

فتساءلت زرمباحة بسخرية: لماذا؟ - جاءوا في إثر تجربة مريرة أطاحت بالمنحرفين. - دعنا من الحكام حتى يفسدهم الحكم، وانظر إلى ذلك الفتى الهمام فاضل صنعان!

فقال سخربوط ساخطا: إنه مثال حي للعمل المفسد لنوايانا وخططنا. - يا له من هدف جدير حقا بمهارتنا وحيلنا!

فتسرب المرح إلى صوته وهو يقول: إنك كنز لا يفنى يا زرمباحة. - فلنفكر معا في لعبة طريفة جديرة بنا.

2

وكان فاضل صنعان يخلد إلى الراحة فوق سلم السبيل في أعقاب نهار حار من فصل الصيف .. إنه يفتقد دائما علاء الدين ويترحم عليه من قلب مكلوم .. ويتساءل في غضب متى يجيء الفرج؟ .. وانتبه إلى رجل مشرق الصورة، بسام الثغر، يقبل نحوه، فيجلس إلى جانبه .. تبادلا تحية، ولكن الرجل أولاه اهتماما كأنما جاء من أجله .. انتظر فاضل أن يفصح الرجل المشرق عن خواطره، ولما لم يفعل قال: لست من حينا فيما أعتقد؟

فقال الرجل بمودة: صدقت فراستك ولكنني اخترتك.

فحدجه بحذر، تلقنه من مطاردة المخبرين، وسأله: من أنت؟ - لا أهمية لذلك، المهم حقا أنني من رجال الأقدار، ومعي لك هدية.

فقطب فاضل في حذر أشد وهو يتساءل: من مرسلك؟ .. أفصح فإنني لا أحب الألغاز!

فقال باسما: وإني مثلك تماما، إليك الهدية ففيها الغناء عما عداها.

أخرج من جيب جلبابه طاقية مزخرفة بتهاويل ملونة لم ير مثلها من قبل، وأحكم لبسها على رأسه فسرعان ما اختفى عن الأنظار في غمضة عين. ذهل فاضل وقلقت عيناه فيما حوله بخوف .. وتساءل: أحلما أرى؟

فسمع صوت الرجل يتساءل ضاحكا: ألم تسمع عن طاقية الإخفاء؟ .. هذه هي بين يديك.

ونزع الرجل الطاقية فعاد متجسدا كما كان في مجلسه .. تتابعت ضربات قلب فاضل في عنف وانفعال، وسأله بلهفة: من أنت؟ - الهدية حقيقة ملموسة، ولا أهمية لسؤال بعد ذلك. - هل تنوي إهداءها لي حقا؟ - من أجل هذا قصدتك دون العالمين. - ولماذا أنا بالذات؟ - ولماذا يعثر إبراهيم السقاء على الكنز؟ .. ولكن لا تبدد كنزك كما بدد كنزه!

قال لنفسه: إن الدنيا تخلق من جديد، وإن العناية تخصه بهذه الهدية لإنقاذ البشر .. وسرعان ما أفعم قلبه بإلهام نبيل .. وإذا بالرجل يسأله: فيم تفكر؟ - في أشياء جميلة تسرك.

فتساءل بحذر: خبرني عما ستفعل بها؟

فقال بتألق: سأفعل ما يمليه علي ضميري.

فقال الرجل: افعل أي شيء إلا ما يمليه عليك ضميرك!

فبردت نظرة عينيه وغشيتها الخيبة والانزعاج، وسأله: ماذا قلت؟! - افعل أي شيء إلا ما يمليه عليك ضميرك، هذا هو الشرط، وأنت حر فيما تقبل أو ترفض، ولكن احذر الخداع فعنده تفقد الطاقية، وقد تفقد حياتك أيضا. - إذن فأنت تدفعني للشر يا هذا؟ - شرطي واضح، لا تفعل ما يمليه عليك ضميرك، ولك ألا ترتكب شرا أيضا. - فماذا أصنع بها؟ - بين هذا وذاك أشياء كثيرة لا تنفع ولا تضر، وأنت حر. - لقد عشت حياة كريمة. - واصلها كما تشاء ولكن بعمامتك لا بالطاقية، ثم ماذا جنيت منها؟ .. الفقر والسجن بين الحين والحين. - هذا شأني.

قام الرجل قائلا: آن لي أن أذهب، فماذا تقول؟ ..

وجب قلبه بلهفة .. إنها فرصة لا تلوح مرتين .. لم يستطع رفضها .. قال بثقة: هدية مقبولة، ولا خوف علي منها.

3

بدءا من صباح اليوم التالي انطلق فاضل صنعان مثل الهواء، يحل في أي مكان ولا يرى .. هيمنت عليه التجربة السحرية الجديدة .. جرب أن يكون روحا خفية متنقلة، فأنساه السرور كل شيء حتى سعيه اليومي في سبيل رزقه .. شعر بالاختفاء أنه يعلو ويسود، ويتساوى مع القوى الخفية، وأنه يملك زمام الأمور، وأن مجال الفعل يترامى أمامه بلا حدود .. إنها عطلة فريدة يستريح بها من جسمه وأعين الناس وقوانين البشر .. وتصور ما كان يمكن أن تيسره لوغد من الأوغاد فشكر الحظ الذي خصه بالرعاية .. ومن فرط سروره لم ينتبه لنفسه إلا حين حلول المساء .. هناك تذكر أن أكرمان وأم السعد ينتظران دراهمه المعدودة لإعداد العشاء وشراء المواد اللازمة لصنع الحلوى .. جزع وأدرك أنه لا يستطيع أن يرجع إلى مسكنه بالربع فارغ اليدين .. ومر بدكان قصاب وكان يحصي ربح يومه على حين تنحى صبيه جانبا .. قرر أن يستولي على ثلاثة دراهم هي مقدار ربحه اليومي متعهدا بردها عند الميسرة .. ولم يجد بدا من دخول الدكان وأخذ الدراهم .. وخرج إلى الطريق منقبض الصدر لتورطه لأول مرة في حياته في السرقة .. ونظر نحو الدكان فرأى القصاب ينهال بالضرب على الصبي ثم يطرده متهما إياه بالسرقة!

4

بعد العشاء فكر في التخفيف عن نفسه بزيارة مقهى الأمراء تحت الطاقية .. ثمة فرص للمداعبة البريئة مع أخذ الحيطة في ألا يتورط في فعل شائن كما تورط في دكان القصاب .. رأى الوجوه المألوفة لأول مرة من دون أن تستطيع رؤيته .. جرى بصره بسخرية على حسن العطار، وجليل البزاز، وعجر الحلاق، وشملول الأحدب، والمعلم سحلول، وإبراهيم السقاء، وسليمان الزيني، وعبد القادر المهيني، ورجب الحمال، ومعروف الإسكافي .. سمع عجر الحلاق يتساءل: ماذا أخر فاضل صنعان؟

فأجاب شملول الأحدب بصوته الرفيع ضاحكا: لعل مصيبة دهمته!

قرر أن يعاقب المهرج .. جاء النادل يحمل أقداح الكركديه، وإذا بالصينية تندلق فوق رأس الأحدب وتغمره بسوائلها .. وثب الأحدب صارخا على حين وقف النادل مبهوتا .. أخفى الرجال ضحكات ساخرة .. لطم المعلم صبيه وراح يعتذر لمهرج السلطان .. ومبالغة في الاسترضاء جاء المعلم بنفسه بالكركديه، وإذا به ينصب فوق رأس سليمان الزيني! .. انتشر الذهول والسرور الخفي، وأكثر من صوت صاح: إنه الحشيش والمنزول.

وأفلت الزمام من عجر فتناسى أحزانه وضحك ولكنه لم يهنأ بضحكة، فتلقى على قفاه صفعة مدوية .. التفت مغضبا، فرأى وراءه معروف الإسكافي، فضربه بقبضته في وجهه، وسرعان ما اشتبكا في معركة .. وساد الظلام إثر حجر أصاب الفانوس .. وفي الظلام انهالت الصفعات، فثار الغضب والتحموا في صراع في الظلام، وعلا الصراخ حتى تناثروا في الطريق على حال قبيحة من الجنون والخوف.

5

مارس حياته المألوفة مخفيا الطاقية في جيبه لحين الحاجة إليها .. قال إنه لم يجن منها حتى الآن إلا أن سرق، وارتكب سخافات لا معنى لها .. ساوره قلق وضيق .. قال إنه ما كان بوسعه أن يتجاهل فرصة نادرة مثلها .. ولم يكن لديه مجال للتأمل، ولكن ما جدوى ذلك كله؟ .. وإذا تعذر عليه صنع خير بالطاقية فما عسى أن يفعل بها؟ .. وكان يستريح على سلم السبيل بعد الغروب على مبعدة يسيرة من بياع بطيخ متجول فرأى شاور مقبلا نحو الرجل لابتياع بطيخة .. ارتعدت مفاصله لرؤيته؛ فهو سجان اشتهر بتعذيب إخوانه .. رآه يمضي بالبطيخة نحو زقاق قريب حيث يقيم فيما بدا له فتبعه .. ولما أمن المارة لبس الطاقية فتلاشى .. وكأنما نسي تعهده فاستل السكين التي يقطع بها الحلوى .. فليجرب على الأقل كيف يحول «الآخر» بينه وبين ما يود أن يفعل .. لحق بالسجان وهو عنه لاه .. وجه إلى عنقه طعنة قاتلة فسقط غارقا في دمه.

أثمله شعور بالنصر .. يستطيع أن يفعل ما يشاء .. ولم يبرح المكان ليتابع الحدث .. شاهد التجمهر على ضوء المشاعل .. جاءت الشرطة .. سمع أن السجان لفظ اسم بياع البطيخ قبل أن يلفظ أنفاسه .. رأى الشرطة وهي تقبض على البياع البريء .. تعجب فاضل من ذلك وانزعج له .. ماذا كان بين السجان والبياع مما جعله يوقع به؟ استفحل انزعاجه وقال لنفسه: لا مفر من إنقاذ الرجل البريء.

عند ذاك رأى صاحب الطاقية أمامه وهو يقول له: حذار أن تخون العهد.

فذعر فاضل متسائلا: ألم تتركني أقتل المجرم؟

فقال الآخر: كلا .. لم تقتل المجرم، ولكنك قتلت توءمه، وهو رجل طيب لا غبار عليه!

6

من السرقة للسخف ثم الجريمة .. سقط في الهاوية .. ولما ضرب عنق بياع البطيخ في اليوم التالي هيمن عليه يأس مطلق .. هام في الطرقات على وجهه كالمجنون .. كره نفسه لدرجة كره معها الدنيا وأحلامه الخالدة .. همس لنفسه: الاعتراف والجزاء الحق، هذا ما بقي لي.

فرأى أمامه الآخر وهو يقول: حذار!

فصاح به غاضبا: عليك اللعنة.

فتلاشى وهو يقول: أهذا جزاء من سلمك مفتاح القوة واللذة!

وتمطى السخط في ذاته مشعشعا بالجنون الأحمر، فراح يسكر مناديا الشياطين من مكامنها .. وتذكر خواطر مثقلة بالشهوة كانت تداعبه فيطردها بالإعراض والتقوى .. تجسدت في إشعاعات جنونه الأحمر في صورتين؛ قمر أخت حسن العطار، وقوت القلوب زوجة سليمان الزيني .. قال لنفسه ما دامت الخمر قد ألقيت في جوفي فما خوفي من السكر؟ .. لم يبق لي إلا حسن الامتثال للعنة .. فلأرفع نفسي إلى السماء ولتنطلق الشياطين من قماقمها .. وليقدم العذاب مكللا بالضحايا.

7

وتساءلت قمر العطار. - لماذا فاضل صنعان؟ .. يا له من حلم!

ولكنها لمست للحلم آثارا لا تنكر، فذهلت وقالت كأنه الشيطان. استحوذ عليها الرعب وتخايل لعينيها الموت.

وقالت قوت القلوب: إنه كابوس .. ولكن لماذا فاضل صنعان وما خطر لي في وجدان قط؟

ولكن عن الكابوس تولدت آثار حقيقية فانفجر فيها الفزع .. واكتشف سليمان الزيني سرقة نقوده .. وجاء خليل فارس كبير الشرطة .. وكتمت قوت القلوب خبر الكابوس .. وأطبقت عليها فكرة الموت.

8

حافظ على حياته اليومية نهارا، ولم يتخلف عن مقهى الأمراء .. وردد كثيرا في نفسه: رحمك الله يا فاضل صنعان .. كنت فتى طيبا مثل علاء الدين وأفضل.

وصادفه المجنون في تجواله، فقدم له بعض الحلوى كعادته معه، ولكن المجنون لم يمد يده هذه المرة ومضى لسبيله وكأنه لم يره .. ارتعب وحامت حوله المخاوف كالذباب .. المجنون لم يتغير لغير ما سبب .. لعله شعر بالشيطان وراء جلده .. غمغم: علي أن أخشى المجنون.

فرأى الآخر صاحب الطاقية يبتسم إليه مشجعا ويقول: صدقت، وليس هو الوحيد الجدير بالخشية.

فقطب صنعان وشعر بذل، ثم قال بحدة: دعني وشأني.

فقال بهدوء: اقتل المجنون، لن يشق عليك ذلك. - لا تقترح علي؛ فلا يدخل ذلك في الاتفاق. - يجب أن نصير أصدقاء؛ لذلك أنصحك أيضا بأن تقتل البلخي ذلك الشيخ المخرف. - لسنا أصدقاء، ولن أفعل شيئا إلا بمحض حريتي. - أسلم بهذا تماما، ولن تندم، إنك تتعذب بحكم تغيير العادة، ولكنك ستبلغ الحكمة الباهرة وتفهم الحياة كما ينبغي لك.

فصاح فاضل: إنك تسخر مني. - أبدا .. إني أحرضك على قتل أعدائك قبل أن يقتلوك.

فقال بقرف: دعني وشأني.

9

وقعت أحداث مثيرة للشجن .. فقد افترس مرض غامض في وقت واحد تقريبا امرأتين جميلتين فاضلتين؛ قمر العطار، وقوت القلوب امرأة سليمان الزيني .. ولم ينفع في إنقاذهما إخلاص عبد القادر المهيني وخبرته .. وبموتهما حمل الطبيب هما خفيا احتار كيف يتعامل معه .. هل يصمت صونا لسمعة أصدقائه؟ .. هل يخشى أن يغطي صمته على مجرم وجريمة؟ تفكر الرجل طويلا، ثم مضى إلى مقابلة خليل فارس كبير الشرطة .. قال له: سأطرح عليك همي لعل الله يهدينا إلى سواء السبيل.

وتنفس الرجل بعمق، ثم استطرد: ليس مرضا ما أصاب قمر شقيقة حسن العطار وقوت القلوب امرأة سليمان الزيني؛ فقد تبين لي أنهما تناولتا سما قتلهما ببطء.

تمتم كبير الشرطة باهتمام: انتحار! .. لماذا؟ .. جريمة قتل، كيف؟ - قبيل احتضار كل منهما لفظت باسم فاضل صنعان بتقزز ورعب.

فهز الرجل رأسه باهتمام متصاعد، فقال الطبيب: خلاصة ما فهمته أنهما حلمتا ذات ليلة بأنه اعتدى عليهما، ثم وضح لهما أن ثمة آثارا تقطع بأن الحلم كان حقيقة واقعة. - هذا مذهل .. هل خدرهما؟ - لا أدري. - أين وقع الحلم؟ - في فراشهما بداريهما. - هذا مذهل حقا .. وكيف تسلل إلى الدار؟ .. وكيف خدرهما حتى يقضي وطره؟ .. أله شركاء في الدارين؟ - لا أدري. - هل فاتحت حسن والزيني في الموضوع؟ - لم أجد الشجاعة الكافية. - ماذا تعرف عن فاضل صنعان؟ - شاب لا غبار عليه، وهو من خيرة الشبان. - ثمة شبهة لم يقم دليل عليها بعد، أنه من الخوارج. - لا علم لي بذلك!

فقال كبير الشرطة بحزم: سألقي القبض عليه في الحال، وأجري معه تحقيقا دقيقا.

فقام عبد القادر قائلا: لعلك تجري تحقيقك في كتمان رحمة بسمعة المرأتين.

فقال خليل فارس دون مبالاة: كشف الحقيقة هو ما يهمني في المقام الأول!

10

ألقي القبض على فاضل صنعان، وسيق من فوره إلى السجن. اهتم حاكم الحي عباس الخليجي بالقضية، واستدعى للقائه حسن العطار وسليمان الزيني، وباغتهما بالسر الذي أشفق الطبيب من قذفهما به .. كأن ضربة عنيفة أطاحت برأسيهما، وهان بالقياس إليها الموت نفسه .. أمر الرجل باستدعاء فاضل صنعان من السجن ليحقق معه بنفسه، فجاءه خليل فارس وحده وهو يقول بخزي عظيم: هرب المجرم ولا أثر له في السجن!

فثار الحاكم ثورة جائحة، وانهال على كبير الشرطة بالتقريع والاتهام، فقال الرجل بحيرة ممزقة: هروبه لغز لا حل له، كأنه عمل من أعمال السحر الأسود.

فصرخ الحاكم: بل إنه فضيحة ستزعزع أركان الثقة.

وانطلق المخبرون في كل مكان كالجراد .. وجيء بأكرمان زوجة فاضل وحسنية أخته وأم السعد والدته، ولكن التحقيق معهن لم يسفر عن شيء، وقالت أكرمان وهي تبكي: زوجي أشرف الرجال، ولا أصدق عنه كلمة سوء واحدة!

11

أدرك فاضل صنعان أنه أصبح في عداد الأموات .. لا حياة له بعد اليوم إلا تحت الطاقية كروح ملعونة هائمة في الظلام .. روح ملعونة، لا حركة لها إلا في مجال العبث أو الشر، محرومة من التوبة أو فعل الخير، صار شيطانا رجيما، تأوه من الحزن فتجسد أمامه صاحب الطاقية متسائلا: لعلك في حاجة إلي؟

فحدجه بنظرة محنقة، فقال له ملاطفا: لا حد لسلطانك ولن يعوزك شيء.

فهتف: إنه العدم.

فقال ساخرا: اسحق الأفكار القديمة وانتبه إلى حظك الكبير! - الوحدة .. الوحدة .. والظلام .. ضاعت الزوجة والأخت والأم، وضاع الأصحاب.

فقال بهدوء: أصغ إلى نصيحة مجرب، بوسعك أن تتسلى كل يوم بحدث يزلزل البشر.

12

واجتاحت الحي حوادث غامضة فأنستهم القضية والمجرم الهارب .. يدفع وجيه من فوق بغلته فيقع على الأرض .. يصيب حجر رأس سامي شكري كاتم السر فيشجه وهو بين حراسه .. تختفي جواهر ثمينة من دار الحاكم .. تشتعل النار في وكالة الأخشاب .. ينتشر العبث بالنساء في الأسواق .. يركب الرعب الخاصة والعامة .. يندفع فاضل صنعان في طريقه الوعر مخمورا باليأس والجنون.

واجتمع الحاكم عباس الخليجي بالشيخ عبد الله البلخي والطبيب عبد القادر المهيني والمفتي، وقال لهم: إنكم صفوة حينا، وأريد أن أسترشد بآرائكم فيما يقع لنا، فما تشخيصكم له وما العلاج الذي تقترحونه؟

وقال الطبيب: ما هي إلا عصابة من الأشرار تعمل بحرص ودهاء، فنحن في حاجة إلى مزيد من السهر على الأمن.

وتفكر قليلا ثم واصل: ونحن في حاجة أيضا إلى إعادة النظر في توزيع الزكاة والصدقات.

فقال الحاكم: أعتقد أن المسألة أخطر مما تفترض، ما رأيك يا شيخ عبد الله؟

فأجاب الرجل باقتضاب: ينقصنا الإيمان الصادق! - ولكن الناس مؤمنون.

فقال بأسى: كلا .. الإيمان الصادق أندر من العنقاء.

عند ذاك قال المفتي بصوت خشن: ثمة من يمارس علينا السحر الأسود، ولا أتهم إلا الشيعة والخوارج!

13

وسيق إلى السجون جميع من حامت حولهم الشبهات .. ضجت دور كثيرة بالشكوى .. ولأول مرة يفيق فاضل صنعان من يأسه .. عجب لنفسه وتساءل: أما زال في قلبه متسع للتأمل والندم؟! عاودته ذكريات قديمة كما تهفو نسائم على نار متأججة .. ومضى يفكر في توجيه عبثه إلى متجه جديد .. غير أن صاحب الطاقية تمثل له بنظرته المحذرة وهو يتساءل: ألم تشف بعد من دائك القديم؟

فاجتاحه الغيظ، ولكنه كظم نفسه بذل، وقال: إن تهريب هؤلاء سيكون قمة العبث! - تذكر اتفاقنا.

فتساءل بحدة: أي خير ثمة وراء تهريب أعداء الدين؟ - إنهم في رأيك الهداة، وما أنت إلا أحدهم، فلا تحاول العبث بي.

فقال بتصميم ورجاء: دعني أفعل ما أشاء، ثم افعل بعد ذلك ما بدا لك!

وإذا بالطاقية تنزع من فوق رأسه فيتجسد في زحمة السابلة بميدان الرماية .. فزع من وقع المفاجأة .. وقبل أن يفيق من فزعه أعاد الآخر الطاقية إلى رأسه وهو يقول: التزم بما تعاهدنا عليه لأعاملك بالمثل.

14

لكنه لم يسعد بالنجاة .. شاعت في مذاقه مرارة راسخة .. تساءل كيف يمكنه أن ينقذ أقرانه وإخوانه .. اختنق بالقبضة الحديدية التي تطوقه .. إنه عبد الطاقية وصاحبها كما أنه أسير الظلام والعدم .. كلا، إنه لا يسعد بالنجاة ويخجل منها .. وحتى اليأس مهما ارتكب من حماقات لم تستطع أن تقتلع من قلبه أنغامه القديمة .. وحن إلى بعث فاضل القديم بأي ثمن .. أجل، إن فاضل القديم مضى وانقضى، ولكن ما زال في الطريق متسع لعمل .. ومن أعماق الظلمات ومض شعاع .. انتعشت روحه لأول مرة منذ دهر .. وبث حياة في إرادته .. تفجرت شجاعته في صورة إلهام صاعد .. ورفعته موجة استهانة وتحد فوق الحياة والموت فتطلع من فوق ذروتها إلى أفق واعد .. واعد بالموت النبيل .. بذلك يسترد فاضل صنعان ولو جثة هامدة .. ولم يتردد فمضى بعزم جديد نحو دار الحاكم .. ومر به المجنون وهو يردد: «لا إله إلا الله ، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير».

فتمادى في النشوة والاقتحام .. وما ارتعب عندما تراءى له «الآخر»، فقال له: إليك عني.

ونزع الطاقية من فوق رأسه ورمى بها في وجهه قائلا: افعل ما بدا لك.

قال له: سوف يمزقونك ويمثلون بك.

فهتف: إني أعرف مصيري خيرا منك. - سوف تندم حيث لا ينفع ندم.

فصاح: إني أقوى منك.

توقع مشفقا أن يبطش به، ولكنه تلاشى وكأنما غلب على أمره.

15

أثارت محاكمة فاضل صنعان الخواطر كما لم تثرها محاكمة من قبل .. وانفجرت اعترافاته في المدينة مثل إعصار .. ولأن الصفوة ما زالت تعتبره أحد أبنائها، ولأن العامة اعتبروه أحدهم، فقد تبلبلت الأفكار أيما تبلبل، وتضاربت العواطف كالدوامات الصاخبة .. واستقبل ميدان «العقاب» سيلا لا ينقطع من النساء والرجال من كافة الطبقات .. واختلطت همسات الإشفاق بصرخات الشماتة، كما يختلط أنين الرباب بعربدة السكارى .. ولما تراءى الشاب من بعيد استبقت إليه الأبصار .. تقدم بين حراسه بخطوات ثابتة ووجه هادئ وامتثال خاشع. أمام النطع انهمرت عليه الذكريات في موجة واحدة متفجرة بالشهب .. تماوجت وجوه أكرمان والبلخي وجمصة البلطي وعبد الله الحمال والمجنون .. التحم الحب والمغامرة ودفاتر الدعوة وآلاف اللقاءات المدثرة بالظلام في الأقبية والخلوات .. وتبددت الطاقية وصاحبها كعثرة بلا قرار يفوح من أعماقها الإغراء محطما قمقمه عن شهواته المكبوتة .. وتجلى أخيرا نصره المأساوي جاذبا معه شبيب رامة السياف .. تلقى ذلك في ثوان بقوة خارقة وسرعة مذهلة، فرفض الأسى بإباء، وواجه مصيره ببرود واستعلاء، فرأى فيما وراء الموت إشراقة تبهر الأعين .. ولكنه رأى أيضا معلما من معالم الآخرة متمثلا في صورة المعلم سحلول تاجر المزادات والتحف .. دهش لمرآه فأفاق من رؤيته وسأله: ماذا جاء بك يا معلم؟

فأجاب وهو يتغير من النقيض إلى النقيض: جاء بي ما جاء بك.

فهتف بدهشة أكبر: أنت ملاك الموت!

ولكنه لم يرد. فقال في شجاعة: أريد العدل!

فقال بهدوء: الله يفعل ما يشاء.

معروف الإسكافي

1

لا يفوق مرحه الظاهر إلا أشجانه الباطنة .. رزقه محدود وامرأته فردوس العرة نهمة جشعة شرسة مليئة بالقوة والعنف .. حياته جحيم بين الكدح والزوجية .. لا يمر يوم دون أن تنهال عليه ضربا وسبا وهو يرتعد بين يديها خوفا وذلا .. يتمنى شجاعة يطلقها بها، يحلم بموتها، يود الهرب، ولكن كيف وإلى أين .. قال إنه أسير كما كان فاضل صنعان أسيرا لشيطان .. ولعله لا خلاص له - مثله - إلا بالموت.

وذات ليلة التهم من المنزول فوق طاقته، ومضى إلى قهوة الأمراء والدنيا لا تسعه من السلطنة .. ونظر في وجوه أصحابه، وقال بصوت سمعه جميع الرواد: أقول لكم سرا لا يصح أن يخفى عنكم.

هم عجر الحلاق أن يهزأ به ولكنه تذكر حزنه فعدل عنه.

أما معروف فقال: أقول لكم الحق إني عثرت على خاتم سليمان!

فهتف به شملول الأحدب: تأدب أمام أسيادك يا تيس.

وسأله إبراهيم السقاء: ويبدو أنك انتفعت به، أين القصور، أين الخدم، أين الجاه والسيادة؟!

فقال: لولا تقوى الله لفعلت ما لا يخطر ببال بشر.

فقال له رجب الحمال: أعطنا آية واحدة لنصدقك. - ما أيسر ذلك علي! - عظيم .. ارتفع نحو السماء ثم اهبط سالما.

فقال معروف في مناجاة: يا خاتم سليمان ارفعني إلى السماء.

عند ذاك صاح به سليمان الزيني: كف عن هذرك عليك.

ولكنه انقطع فجأة عن الكلام .. معروف نفسه اجتاحه رعب غريب .. شعر بقوة تقتلعه من مجلسه، ومضى يعلو ببطء وثبات، حتى وقف جميع الرواد فزعين ذهلين .. واتجه نحو باب المقهى وخرج منه وهو يصرخ «أغيثوني»، ثم ارتفع حتى اختفى في ظلمة ليل الشتاء .. تجمهر الرواد في الطريق أمام المقهى، تصايح الناس بالواقعة، انتشر الخبر كأنه أشعة الشمس في نهار الصيف .. وإذا به يهبط رويدا رويدا حتى يتجلى شبحه في الظلمة ويرجع إلى مجلسه الأول، ولكن على حال لا توصف من الإعياء والفزع .. وأحدق به الجميع من الخاصة والعامة وانهالت عليه الأسئلة: أين وجدت الخاتم؟ - متى وجدته؟ - ماذا أنت فاعل به؟ - صف لنا العفريت. - متى تحقق أمانيك؟

وقال له عجر: لا تنس أصدقاءك.

وصاح به إبراهيم السقاء: إخوانك الفقراء.

وقال له رجب الحمال: اجعلها كما ينبغي لها أن تكون.

وقال سليمان الزيني: لا تنس الله؛ فهو صاحب الملك.

لم يفقه مما قيل شيئا .. ولم يدر كيف وقع ما وقع .. أي سر امتلكه؟ أي معجزة تحققت على يديه؟ هل يعترف لهم بالحقيقة؟ حذر فطري أسكته .. إنه يريد أن يخلو إلى نفسه .. أن يسترد أنفاسه، أن يتأمل ويتأمل .. ونهض من مجلسه دون أن ينبس، فأكثر من صوت هتف به: لا تتركنا حيارى، بل ريقنا بكلمة طيبة.

ولكنه غادر المقهى دون أن يلقي نظرة على أحد.

2

مضى نحو داره في مظاهرة من الرجال والنساء اكتظ بهم الطريق .. تنافسوا في الاقتراب منه فسقط منهم قوم وداس بعضهم البعض .. وصاح بهم: اذهبوا وإلا أرسلتكم إلى الآخرة.

وفي أقل من دقيقة تفرقوا في فزع واضطراب حتى تلاشت أصواتهم، فلم يجد أمامه إلا فردوس العرة زوجته تنتظره أمام الدار وبيدها مصباح وهي تقول: يعطي الملك لمن يشاء.

لأول مرة منذ دهر تبتسم في وجهه، فحدجها بنظرة غليظة ولطمها لطمة فرقعت في سكون الليل وصاح بها: أنت طالق، فاذهبي إلى الجحيم.

صرخت فردوس: تستعبدني بفقرك، وتطردني حال إقبال الحظ؟! - إن لم تذهبي في الحال حملك العفريت إلى وادي الجن.

فصرخت المرأة من الفزع، وهرولت لا تلوي على شيء .. ابتسم أيضا أول ابتسامة صافية منذ دهر طويل، ودخل مأواه المكون من حجرة ودهليز.

3

ما معنى ذلك يا معروف؟ أهو حلم أم حقيقة؟ هل حل بك سر حقا؟ ونظر فيما حوله، في الحجرة شبه العارية وتمتم بحذر: يا خاتم سليمان ارفعني ذراعا واحدة فوق الأرض!

انتظر في لهفة وإشفاق، ولكن لم يحدث شيء .. انقبض قلبه وغاص في صدره غريقا في خيبة مرة .. ألم أحلق في الجو؟ .. ألا يشهد على ذلك أهل الحي؟ .. ألم تنهزم العرة لأول مرة؟ .. وقال من قلب جريح: يا خاتم سليمان، ايتني بصينية فريك بالحمام!

لم ير إلا خنفساء تزحف فوق طرف الحصيرة المتهرئة .. نظر إلى الخنفساء طويلا ثم أجهش في البكاء.

4

طمر خيبته المرة في أعماقه .. جعلها سره الدفين، وأقام سدا بينه وبين لسانه .. قال: ليكن من الأمر ما تجري به مشيئة الله .. ولكن أليس عليه أن يذهب إلى دكانه ليصلح الأحذية والمراكيب والصنادل؟ وهل يهضم الناس سلوكه هو المالك لخاتم سليمان؟ وإن لم يفعل فهل يهب ذاته التعيسة للموت جوعا؟ غير أنه صادف خليل فارس كبير الشرطة عند باب عطفته وكأنما كان في انتظاره .. تلقاه بابتسامة متوددة غير معهودة، فأدرك بذكائه أن القوم ينظرون إليه بوصفه مالك خاتم سليمان .. خفق قلبه بأمل جديد، وصمم على تمثيل دوره بمهارة تناسبه حتى يقضي الله أمره .. قال له الرجل برقة: صبحك الله بالسعادة يا معروف.

فقال بتحفظ دهش له هو نفسه: وصبحك بمثلها يا كبير الشرطة.

تكلم بثقة من يملك القوة التي لا يطمح إليها بشر.

قال الرجل: حاكم الحي يود مقابلتك.

فقال دون مبالاة: على الرحب والسعة، أين؟ - في المكان الذي يروقك!

يا أولاد الخنفساء يا جبناء .. قال: في داره كما يقضي بذلك الأدب.

فقال بيقين: ستلقى العناية والأمان.

فقال ضاحكا في استهانة: لا خوف علي من أي قوة في الأرض!

فقال خليل فارس وهو يداري امتعاضا، وربما خوفه: سنكون في انتظارك في الضحى.

5

رأى من اهتمام الناس ما ينذر بتجمهر جديد فرجع إلى مسكنه الحقير .. ورأى عجر الحلاق فأخبره بأنه أصبح أحدوثة المدينة لا الحي وحده .. وأن معجزته هزت أركان القصر السلطاني .. ولما علم بالمقابلة الوشيكة بينه وبين الحاكم، قال عجر: لا تبال بأحد فإنك أقوى رجل في الدنيا، والناس الآن بين اثنين؛ من يخشى قوتك حرصا على جبروته ومن يرجوها رحمة بضعفه.

فقال مداريا حزنه الخفي بابتسامة: تذكر يا عجر أنني من عباد الله المطيعين.

فدعا له بالفوز والنجاح.

6

وجد في انتظاره في بهو الاستقبال عباس الخليجي الحاكم، وسامي شكري كاتم السر، وخليل فارس كبير الشرطة، والمفتي، ونفرا من الأعيان .. تأملوا رثاثة ملابسه بدهشة، ولكن الحاكم دعاه إلى الجلوس إلى جانبه على سريره مرحبا به غاية الترحيب، فجلس بثقة، هدفا للنظرات المستطلعة المحترقة المذعورة .. قال الحاكم: علمت أنك ملكت خاتم سليمان .

فقال بثقة ونبرة لم تخل من نذير: إني على استعداد لإقناع من في قلبه شك.

فقال الحاكم: بل أردت أن أعرف - في نطاق مسئوليتي - كيف ملكته؟ - لم يسمح لي بإفشاء السر. - كما ترى، إن تشريفك داري يقطع بثقتك بي، وهو ما أحمد الله عليه.

فقال بدهاء: الحق أنه لا شأن لذلك بثقتي بك؛ فلا أنت ولا غيرك بمستطيع أن يمسني بسوء.

فأحنى الحاكم رأسه موافقا ومداريا تأثره في آن، وقال: رأيت أنا وإخواني أن من واجبنا أن نتبادل الرأي معك، الله يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، ولكننا مطالبون بعبادته في جميع الأحوال.

فقال بجرأة: ما أجدر أن توجه خطابك لنفسك ولإخوانك!

فامتقع وجه الحاكم، وهو يقول: حقا، لقد تولينا السلطة في أعقاب تجارب مرة، ولكننا ملتزمون بالشريعة منذ ولينا.

فقال بنفس الجرأة: العبرة بالخواتيم. - لن يرى منا أحد إلا ما يسر، ولتكن لنا قدوة في مولانا السلطان شهريار. - غير منكور أنه فتح صفحة جديدة، وإن لم يبلغ الكمال المنشود بعد. - الكمال لله وحده.

ونظر الحاكم نحو المفتي، فقال المفتي: لي كلمة يا معروف، تقبلها من رجل لا يخشى إلا الله وحده، الله يمتحن عباده في السراء والضراء، وهو الأقوى دائما وأبدا، وهو سبحانه يحاكم القوي من خلال قوته كما يحاكم الضعيف من خلال ضعفه .. وقد ملك قبلك آحاد خاتم سليمان فكان وبالا عليهم، فلتكن في امتلاكك له آية للمؤمنين وموعظة للمشركين.

ابتسم معروف منتفخا بقوة من ساد الموقف، وقال: اسمعوا أيها الرجال الكبار، إنه لمن يمن الطالع أن خاتم سليمان قدر أن يكون من نصيب رجل مؤمن يذكر الله بكرة وعشيا، إنه قوة لا قبل لقوتكم بها ولكني أدخرها للضرورة، كان بوسعي أن آمر الخاتم بتشييد القصور وتجييش الجيوش والاستيلاء على السلطنة، ولكنني قررت أن أتبع طريقا آخر.

تنفس الحاضرون بارتياح لأول مرة، فانهال عليه الثناء من كل جانب .. عند ذاك قال وقلبه يخفق: ولكن لا يجوز أن أهمل نعمة أتاحها الله لي.

فتطلعوا إليه باهتمام فقال: يلزمني في الحال ألف دينار لأصلح به شأني.

فقال الحاكم بارتياح: سأراجع حساب ما تحت يدي من مال، فإن لم يكف طلبت معونة من مولاي السلطان.

7

ونال معروف ما تمنى من مال وأغدق عليه الأعيان الهدايا بغير حساب .. ابتاع قصرا وكلف المعلم سحلول بتأثيثه فخلق له منه متحفا .. وتزوج من حسنية صنعان أخت فاضل .. وقرب إليه صحبه عجر الحلاق، وإبراهيم السقاء، ورجب الحمال، وأمطر الفقراء بجوده، وحمل الحاكم على توفير أرزاقهم ورعايتهم واحترامهم، فحلت بشاشة الأنس في وجوههم محل تجاعيد الشقاء، وأحبوا الحياة كما يحبون الجنة.

8

وذات يوم دعي إلى مقابلة السلطان شهريار، فمضى إليه وهو يبسمل ويحوقل ويتمنى السلامة .. استقبله السلطان في مثواه الشتوي والمعروف ببهو المرجان، تفرس فيه بهدوء وقال: أهلا بك يا معروف، لقد سمعت بأذني في جولاتي الليلية ثناء العباد عليك فشاقني ذلك إلى رؤيتك.

فقال معروف وهو يغالب خفقان قلبه: نعمة هذا اللقاء عندي أغلى من خاتم سليمان نفسه يا مولاي. - شعور كريم لرجل كريم.

فحنى معروف رأسه، وهو طيلة الوقت يتساءل عما يفعل لو طالبه السلطان بمعجزة .. أتنصرف يا معروف من القصر إلى النطع؟ .. قال السلطان متسائلا: كيف عثرت على الخاتم يا معروف؟

فأجاب وقلبه ينقبض: تعهدت بحفظ السر يا مولاي. - لك العذر يا معروف، ولكن ألا أستطيع أن أراه من بعيد من دون أن أمسه؟ - ولا هذا أيضا يا مولاي، ما أتعسني لعجزي عن تحقيق رغبتك! - لا عليك من ذلك. - شكرا لرحمتك يا مولاي.

فقال بعد تفكير: إني أعجب لشأنك؛ فلو شئت الجلوس على عرشي ما منعتك قوة في الأرض!

فهتف معروف مستنكرا: معاذ الله يا مولاي، ما أنا إلا عبد مؤمن، لا تغريه قوة بالتعرض لمشيئة الله. - إنك مؤمن حقا، والخاتم في يد المؤمن عبادة! - الحمد لله رب العالمين.

فسأل السلطان باهتمام: هل حظيت بالسعادة يا معروف؟ - سعادة بلا حدود يا مولاي. - ألا يفسد الماضي عليك سعادتك أحيانا؟ - ما مضى سلسلة من تعاسات تلقيتها من الآخرين، ولكني لم أرتكب ما أندم عليه! - هل تنعم بالحب يا معروف؟ - الحمد لله، لي زوجة تهب السعادة مع أنفاسها. - جميع ذلك بفضل الخاتم؟ - بفضل الله يا مولاي!

فصمت السلطان مليا، ثم سأله: أتستطيع أن تهب السعادة للآخرين؟ - لا حدود لقوة الخاتم، ولكنه لا يستطيع اقتحام القلوب.

تجلى في أعماق عيني شهريار فتور يوحي بخيبة الرجاء، ولكنه ابتسم قائلا: دعني أراك وأنت ترتفع في الفراغ حتى تمس عمامتك نقوش قبة البهو!

انقض الطلب عليه كقمة جبل قذف بها زلزال، تطايرت آماله هباء وأيقن بالهلاك .. قال بحرارة: لا يليق في حضرة السلطان إلا الأدب. - إنما تطير بناء على طلبي. - مولاي، إني عبدك معروف الإسكافي. - أتدين لي بالطاعة يا معروف؟

أجاب من حلق جاف: الله شهيد على ذلك. - إني آمرك يا معروف!

نهض من مجلسه فتربع في وسط البهو .. ناجى ربه في سره: «ربي لتكن مشيئتك .. لا تدع كل شيء يتلاشى كحلم» .. ومن قلب مكلوم يائس همس: ارتفع يا جسدي حتى تمس عمامتي السقف.

وأغمض عينيه مستسلما لمصيره الأسود. ولما لم يحدث شيء هتف من قلب معذب: «الرحمة يا مولاي!» .. وقبل أن ينبس بكلمة أخرى دبت في قلبه حيوية ملهمة فخف وزنه وتلاشى خوفه .. وإذا بالقوة المجهولة ترتفع به في هدوء ووقار وهو متربع على لا شيء، والسلطان يتابعه مذهولا متخليا عن رصانته، مغلوبا على أمره .. حتى مست عمامته القبة المرجانية، ثم مضى يهبط رويدا حتى استقر في مجلسه .. هتف السلطان: ما أتفه السلطنة! .. ما أتفه الغرور!

ولم يستطع أن يعقب بكلمة؛ فقد فاق ذهوله ذهول السلطان نفسه!

9

عجز عجزا تاما عن إدراك ما يقع له .. وقد حاول أن يستغل قوته الخفية في داره فلم تستجب له، ولكنه حمد الله على النجاة .. ليكن من أمر قوته ما يكون .. ولتختف ما شاءت ما دامت تبادره بالنجاة في المواقف الحاسمة .. وطرد وساوسه وتوكل على الله .. وكان جالسا في حديقة داره يتشمس عندما طلب مقابلته رجل غريب .. حسبه ذا حاجة فأمر بإحضاره .. قدم عليه يرفل في عباءة فارسية فاخرة .. طويل العمامة، مهذب اللحية، مترفع النظر، فلم يداخله شك في علو منزلته .. أجلسه بترحاب متسائلا: من الضيف الكريم؟

فأجاب باقتضاب وبنبرة مثل طرقة المطرقة فوق معدن صلب: أنا صاحب هذا القصر!

فأخذ معروف وقال بحدة: أي هذيان؟!

فأعاد الرجل قوله بقوة أشد: إني صاحب هذا القصر.

فصاح به: إني صاحبه دون شريك.

تحداه بنظرة وقحة، وقال ما أنت إلا دجال محتال!

فصاح معروف غاضبا: مجنون وقح! - لقد خدعت الجميع، حتى السلطان الأحمق، ولكنني أعرفك أكثر مما تعرف نفسك.

فقال منذرا: في وسعي أن أحولك إلى هشيم تذروه الرياح!

فقال ساخرا: إنك لا تحسن إلا رتق النعال أو إصلاحها، أتحداك أن تصنع بي ما يضر!

غاص قلبه متراجعا ساحبا معه ثقته بنفسه، ولكنه تساءل بصوت خانته نبرته رغم تماسكه: لعلك لم تسمع عن المعجزة في مقهى الأمراء؟ - لم أسمع عنها؛ لأنني أنا الذي صنعتها، فلا تحاول خداعي، وأنا الذي أنقذتك من العجز في حضرة السلطان.

توسل في سره إلى خاتم سليمان أن يمحق الرجل محقا .. ولما لم يحدث شيء انثنى جذعه تحت ثقل اليأس فتساءل في خوف: من أنت؟ - إني سيدك وولي نعمتك.

تأوه ولاذ بالصمت، فقال الآخر: بيدك أن تحفظ النعمة إذا شئت!

فسأله بصوت لا يكاد يسمع: ماذا تريد؟

فقال بهدوء: اقتل عبد الله البلخي والمجنون!

فاجتاحه الرعب وقال بانكسار: إني أعجز من أن أقتل نملة! - أدبر لك الوسيلة! - لم تستعين بي وأنت القوي؟ - لا شأن لك بذلك.

تذكر الشرك الذي سقط فيه فاضل .. تذكر مآسي صنعان الجمالي وجمصة البلطي .. قال بضراعة: أستحلفك بالله أن تعفيني من مطالبك.

فقال الآخر ساخرا: ليس أسهل علي من أن أقنع الحاكم باحتيالك، إنهم لا يأمنون جانبك، ويتمنون هلاكك ليتحرروا من استعبادك المهذب لهم، ستدعى سريعا لصنع معجزة أمامهم، وإذا أخفقت - ولا بد أن تخفق - انقضوا عليك كالنمور.

تجلت في عينيه نظرة يائسة حزينة عمياء، ولكن الآخر لم يرحمه فقال: إني منتظر رأيك.

فهتف بحدة: اغرب عن وجهي، لا أستطيع تركيز فكري في حضورك.

فقام قائلا: سأغيب عنك ساعة، وإذا لم تدعني جاء كبير الشرطة بديلا عني!

قال ذلك وذهب.

10

تركه في جحيم مستعر .. هو يقتل عبد الله البلخي والمجنون؟! أجل، إنه حريص على النعمة ولكنه طيب وضعيف ومؤمن .. وتجاذبته التخيلات، ولكنه كان يتشبث دائما بالأرض عند حافة الهاوية .. وفي ظلمات العذاب أشرق عليه خاطر سعيد .. لم لا يهرب بحسنية والمال؟ واندفع نحو الدار فأمر زوجته بارتداء عباءتها، وعبأ نقوده في بقجة .. سألته زوجته عما يعنيه ذلك، فأخبرها بأنها ستعرف السر عندما يصلان إلى بر الأمان .. وامتطيا بغلتين وانطلقا وفي نيته أن يذهبا إلى مرفأ النهر .. لكنه رأى وهو يقترب من نهاية الشارع خليل فارس كبير الشرطة قادما على رأس قوة من الجند.

11

انفجرت الفضيحة فدوت طبولها في أركان المدينة .. ومشى الرواة باعترافات معروف الإسكافي في كل مكان .. اطمأنت قلوب وتدحرجت قلوب إلى الهاوية .. عرف أن النطع سيستقبل معروف عما قليل وأنه سيلحق بفاضل صنعان، وعلاء الدين .. خرج الفقراء والمساكين من أكواخهم إلى الميادين بلا تدبير .. اندفعوا وراء مشاعرهم القلقة الدفينة .. وفي تجمع لا مثيل له .. وجدوا أنفسهم جسما عملاقا لا حدود له، يجأر بالاحتجاج والخوف من المستقبل .. سيتلاشى معروف فيتلاشى الرزق وتكفهر لهم الوجوه من جديد، تبودلت أنات الشكوى في هيئة همسات مبحوحة، ثم غلظت واحتدمت بالمرارة، ثم تلاطمت كالصخور، وبسبب من القوة المتجسدة المخلوقة من عدم تأجج الغضب .. شعروا بأنهم سد منيع بتكتلهم، وأنهم طوفان إذا اندفع: معروف بريء. - معروف رحيم. - معروف لن يموت. - الويل لمن يمسه بسوء.

وما إن نادى صوت بالذهاب إلى دار الحاكم حتى اندفعت الجموع كأنها سيل ينصب من فوق قمة جبل تبعث في الجو هديرا .. وعند أول شارع دار الإمارة اعترضهم الجنود المدججون بالسلاح .. سرعان ما نشبت معركة بين السهام والزلط، تواصلت في عنف تحت غيم ينذر بالمطر .. وقبيل الغروب دوت طبول وصاح مناد: كفوا عن الشغب .. مولانا السلطان قادم بنفسه.

تحاجز الفريقان وساد الصمت .. جاء الموكب السلطاني في قوة كبيرة من الفرسان، ودخل شهريار دار الإمارة محوطا برجال دولته .. استغرق التحقيق طيلة الليل .. وخرج المنادي قبيل الفجر ورذاذ يتساقط في نعومة يغسل الوجوه المشتعلة بالقلق .. توقع العباد توقعات كثيرة ولكن لم يبلغ بهم الخيال ما حصل .. صاح المنادي: جرت مشيئة السلطان بنقل الحاكم إلى رياسة حي آخر، على أن يقلد ولاية الحي معروف الإسكافي!

تعالت الهتافات مدوية، وثمل العباد بالفوز المبين.

السندباد

1

رفع معروف حاكم الحي - بكل خشوع - اقتراحا للسلطان بنقل سامي شكري كاتم السر، وخليل فارس كبير الشرطة إلى حي آخر، على أن يتفضل السلطان بتعيين نور الدين كاتما للسر، والمجنون كبيرا للشرطة باسم جديد هو «عبد الله العاقل» .. ومن عجب أن السلطان استجاب له، ولو أنه سأله: أتطمئن حقا إلى المجنون كبيرا لشرطتك؟

فقال معروف بثقة: كل الاطمئنان يا مولاي.

فدعا له بالتوفيق، ثم سأله: ماذا عن سياستك يا معروف؟

فقال الرجل بتواضع: عشت عمري يا مولاي أصلح النعال حتى استقر الإصلاح في دمي.

وقد قلق الوزير دندان، فقال للسلطان عقب انصراف معروف: ألا ترى يا مولاي أن حكم الحي أصبح بيد نفر لا خبرة لهم؟

فقال السلطان بهدوء: دعنا نقدم على تجربة جديدة.

2

وكان رواد مقهى الأمراء يتسامرون في مرح يوافق ما طرأ على حيهم عندما ظهر في مدخل المقهى رجل غريب، نحيل القامة مع ميل للطول، أسود اللحية، رشيقها، يستقر في عباءة بغدادية، وعمامة دمشقية، ومركوب مغربي، وبيده مسبحة فارسية حباتها من اللؤلؤ النفيس .. انعقدت الألسنة وانجذبت نحوه الأبصار .. وبالرغم من أنه غريب إلا أنه أجال بينهم عينين باسمتين مشبعتين بألفة أهل الدار .. وعلى حين فجأة، وثب رجب الحمال قائما وهو يصيح: سبحانك ربي، ما أنت إلا السندباد!

قهقه القادم بحبور، تلقى بين ذراعيه رفيقه القديم فتعانقا بحرارة .. وسرعان ما تلاقت الأيدي في مصافحة صادقة، ثم مضى إلى موضع خال جنب المعلم سحلول ساحبا معه صديقه وهذا يقاوم في حياء هامسا: هذا مكان السادة!

فقال السندباد: أنت وكيل أعمالي منذ الساعة!

وسأله شملول الأحدب: كم عاما مضت في غيابك يا سندباد؟

فقال بحيرة: الحق أنني نسيت الزمن!

فقال عجر الحلاق: كأنها عشرة قرون!

فقال الطبيب عبد القادر المهيني: رأيت عوالم وعوالم، ماذا رأيت يا سندباد؟

فنعم الرجل بالاهتمام كثيرا، ثم قال: لدي ما يسر ويفيد، وكل شيء بأوانه .. صبركم حتى أستقر.

فقال عجر: نحدثك نحن عما وقع لنا! - ماذا فعل الله بكم؟

فأجابه حسن العطار: مات كثيرون فشبعوا موتا، وولد كثيرون لا يشبعون من الحياة. هبط من الأعالي قوم وارتفع من القعر قوم، أثرى أناس بعد جوع، وتسول آخرون بعد عز، وفد على مدينتنا عدد من أخيار الجن وأشرارهم، وآخر أخبارنا أن ولي حكم حينا معروف الإسكافي.

فهتف السندباد: حسبت الأعاجيب قاصرة على رحلاتي، الآن يحق لي العجب.

وقال إبراهيم السقاء: لا شك أنك أصبحت من الأغنياء يا سندباد!

فقال بامتنان: الله يهب الرزق لمن يشاء بغير حساب.

فسأله جليل البزاز: هلا حدثتنا عن أعجب ما صادفك؟

فلوح بالمسبحة الفارسية قائلا: كل شيء مرهون بوقته، علي أن أبتاع قصرا، وأفتح وكالة لعرض النوادر من نفائس الجبال وأعماق البحار ومجهول الجزر، وسأدعوكم قريبا لعشاء أقدم فيه غرائب الأطعمة والأشربة، ثم أروي لكم رحلاتي العجيبة.

3

في الحال وقع اختياره على قصر بميدان الفرسان، فعهد إلى سحلول مهمة تأثيثه وتزيينه، وفتح وكالة جديدة في السوق أشرف عليها من اليوم الأول رجب الحمال، وفي أثناء ذلك زار الحاكم، وما إن خلا إليه حتى تعانقا عناق الرفاق القدامى .. وحكى له معروف حكايته بنفسه، فحكى له ما شاهد وما وقع به في رحلاته السبع، وقال له السندباد بعذوبة: إنك أهل لمنصبك.

فقال بإيمان: إني خادم الفقراء برعاية الله.

وزار معلم صباه الشيخ عبد الله البلخي، فقبل يديه، وقال له: لم أمكث في رحابك إلا ما اقتضته التربية الأولية، ولكني ربحت منك كلمات أضاءت لي الظلام في الملمات.

فقال الشيخ ملاطفا: لا جدوى من بذرة صالحة إلا في أرض طيبة.

فقال بحماس: لعلك راغب في سماع مغامراتي يا مولاي؟

فقال الشيخ باسما: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم من اتبع العلم واستعمله. - ستجد فيها يا مولاي ما يسرك.

فقال بفتور: طوبى لمن كان همه هما واحدا، ولم يشغل قلبه بما رأت عيناه وسمعت أذناه، ومن عرف الله فإنه يزهد في كل شيء يشغله عنه.

وتم له الاستقرار، ودعا أصحابه إلى الوليمة، وهناك روى لهم ما حدث له في رحلاته السبع، ومنهم انتشر في الحي، ثم في المدينة، فهزت الأفئدة وأشعلت الأخيلة.

4

وذات يوم استدعاه حاكم الحي معروف وقال له: أبشر يا سندباد، مولانا السلطان شهريار يرغب في رؤيتك.

فسر بذلك أيما سرور، ومضى من فوره إلى القصر بصحبة كبير الشرطة عبد الله العاقل .. غير أنه لم يتشرف بالمثول بين يدي السلطان إلا أول الليل فذهبوا به إلى الحديقة .. جلس حيث أجلس في ظلمة شاملة، وأنفاس الربيع تنفذ في أعماقه أخلاطا من روائح الزهور تحت سقف يومض بالنجوم .. كان السلطان يتحدث بهدوء ولطف فاطمأن قلبه وزايلته الرهبة وحل الأنس والحب .. سأله عن عمله الأول وعن حظه من العلوم وعما جعله يعزم على الرحلة .. فأجاب بإيجاز يناسب المقام، وبصراحة وصدق .. قال شهريار: حدثني قوم عن رحلاتك، فرغبت أن أسمع منك ما تعلمته منها إن كنت حظيت منها بعلم نافع، فلا تكرر إلا ما تقتضيه الضرورة.

فتفكر سندباد مليا، ثم قال: الله المستعان يا مولاي. - إني مصغ إليك يا سندباد.

ملأ الرجل صدره بالأريج الطيب، ثم قال: تعلمت يا مولاي أول ما تعلمت أن الإنسان قد ينخدع بالوهم فيظنه حقيقة، وأنه لا نجاة لنا إلا إذا أقمنا فوق أرض صلبة؛ فإنه لما غرقت سفينتنا في رحلتنا الأولى سبحت متعلقا بلوح من ألواحها حتى اهتديت إلى جزيرة سوداء، شكرنا الله، أنا ومن معي، وجلنا في أنحائها نفتش عن ثمرة، ولما لم نجد تجمعنا على الشاطئ متعلقة آمالنا بأي سفينة تعبر .. وما ندري إلا وأحدنا يصيح: الأرض تتحرك!

نظرنا فوجدناها تميد بنا فركبنا الفزع، وإذا بآخر يصيح: الأرض تغرق.

أجل، كانت تغوص في الماء! ورميت بنفسي في الماء .. وضح لنا أن ما ظنناه أرضا لم يكن إلا ظهر حوت كبير، أزعجته حركتنا فوقه فمضى إلى عالمه يحف به الجلال .. وسبحت مسلما أمري للمقادر حتى ارتطمت يداي بصخور، ومنها زحفت إلى جزيرة حقيقية يجري فيها الماء وتكثر الفاكهة، عشت بها زمنا حتى مرت بي سفينة فنجوت بها.

فتساءل السلطان: وكيف تفرق بين الوهم والحقيقة؟

فقال بعد تردد: علينا أن نستعمل ما وهبنا الله من حواس وعقل.

فهز السلطان رأسه، وقال: استمر يا سندباد.

فقال السندباد: تعلمت أيضا يا مولاي أن النوم لا يجوز إذا وجبت اليقظة، وأنه لا يأس مع الحياة؛ فقد ارتطمت السفينة بصخور ناتئة فتحطمت وانتقل من عليها إلى جزيرة، جزيرة جرداء لا ماء فيها ولا شجر، ولكننا حملنا معنا أغذية وقرب مياه، ورأيت صخرة كبيرة على مبعدة يسيرة فقلت أنام في ظلها ساعة .. ونمت، وصحوت فلم أجد لإخواني أثرا، ناديت فلم أسمع مجيبا، عدوت نحو الشاطئ فرأيت سفينة تنحدر وراء الأفق، ورأيت الأمواج تهدر منشدة نشيد اليأس والموت، أدركت أنها انتشلت أصحابي، وأنهم في نشوة النجاة نسوا صاحبهم النائم وراء الصخرة، لا نأمة تصدر عن حي، ولا شيء يعلو عن سطح الأرض الجرداء إلا الصخرة، ولكن أي صخرة؟! نظرت بعيني اللتين أحدهما الفزع فتبين لي أنها بيضة لا صخرة كما بدت لعيني المرهقتين، بيضة في حجم بيت كبير، بيضة أي طائر؟! ودهمني الفزع من ذاك العدو المجهول وأنا أغوص في خلاء الموت البطيء .. وإذا بنور الشمس ينطفئ وينتشر جو أسمر كالمغيب فرفعت بصري فرأيت كائنا كالنسر ولكنه يفوقه في الحجم مئات المرات، رأيته يهبط وئيدا حتى يرقد فوقها، أدركت أنه يحتويها ليطير بها، فخطرت لي فكرة جنونية فربطت نفسي في طرف ساقه الشبيه بالصاري، وحلق بي طائرا فوق الأرض، فبدا لعيني كل شيء صغيرا تافها، كأنما لا ينبض به أمل أو ألم، حتى حط فوق قمة جبل، ففككت رباطي وزحفت إلى ما وراء شجرة فارعة لم أر مثلها من قبل، واستراح الطائر ساعة ثم واصل رحلته نحو المجهول فقهرني النوم، ولما استيقظت كانت الشمس تشتعل في الضحى، التهمت من حشائش الأرض ما أسكت جوعي ورويت عطشي من نقرة مترعة بماء صاف، عند ذاك انتبهت إلى أن الأرض تعكس إشعاعا يبهر البصر، فتفحصته فتكشف لي سطح الأرض عن ماس حر، وتحرك طموحي رغم تعاستي، فقلعت منه ما استطعت وصررته في سروالي، وانحدرت فوق السطح حتى انتهيت إلى شاطئ، حيث أنقذتني سفينة عابرة.

قال شهريار بهدوء: إنه الرخ الذي نسمع عنه ولا نراه، إنك أول إنسان يسخره لأغراضه يا سندباد، فاعلم ذلك أيضا.

فقال سندباد بحياء: إنها مشيئة الله المتعال.

ثم واصل حديثه قائلا: تعلمت أيضا يا مولاي أن الطعام غذاء عند الاعتدال ومهلكة عند النهم، ويصدق على الشهوات ما يصدق عليه؛ فقد تحطمت السفينة كسابقتها فوجدنا أنفسنا في جزيرة يحكمها ملك عملاق لكنه كريم مضياف، رحب بنا ترحيبا فاق جميع آمالنا، ولم يكن لنا في كنفه إلا الاسترخاء والسمر، وقد قدم لنا من صنوف الطعام وألوانه ما لا يخطر ببال، فأقبلنا على الطعام كالمجانين، غير أن كلمات قديمة تلقيتها في صباي عن مولاي الشيخ عبد الله البلخي صدتني عن الإفراط ويسرت لي وقتا طويلا للعبادة، على حين أنفق أصحابي وقتهم في التهام الطعام والنوم الثقيل في أعقاب الامتلاء، فازداد وزنهم زيادة فظيعة واكتظوا باللحم والدهن، فانقلبوا كالبراميل .. وجاء الملك ذات يوم فتأملنا رجلا رجلا، ثم دعا أصحابي إلى قصره والتفت إلي قائلا في ازدراء: إنك كالأرض الصخرية لا تثمر.

فحزنت لذلك .. وخطر لي أن أتسلل بليل لأرى ما يفعل أصحابي، فرأيت رجال الملك وهم يذبحون الربان، ويقدمونه للملك فالتهمه بوحشية وتلذذ .. فطنت في الحال إلى سر كرمه، وهربت إلى الشاطئ حتى أنقذتني سفينة.

تمتم السلطان: أبقاك تورعك يا سندباد.

ثم قال وكأنما يحادث نفسه: ولكن الملك أيضا في حاجة إلى الورع!

استبقى السندباد صدى تعليق السلطان دقيقة، ثم واصل حديثه قائلا: تعلمت أيضا يا مولاي أن الإبقاء على التقاليد البالية سخف ومهلكة؛ فقد غرقت السفينة وهي في طريقها إلى الصين، فلذت ومعي نفر من المسافرين إلى جزيرة غنية معتدلة الجو يسودها السلام ويحكمها ملك طيب، وقال لنا: سأعتبركم ضمن رعاياي. لكم ما لهم، وعليكم ما عليهم.

فسررنا بذلك ودعونا له .. ومبالغة في إكرامنا وهبنا من جواريه زوجات جميلات .. فطابت لنا الحياة وتيسرت المعيشة .. وحدث أن توفيت إحدى الزوجات فجهزها الملك للدفن، وقال لصاحبنا الأرمل: يؤسفني فراقك، فإن تقاليدنا تقضي بدفن الزوج حيا مع زوجته الميتة، وهو يجري على الزوجة إذا سبقها الزوج إلى النهاية.

فارتعب صاحبنا، وقال للملك: ولكن ديننا لا يكلفنا بذلك.

ولكن الملك قال له: لا شأن لنا بدينكم، وتقاليدنا مقدسة.

ودفن الرجل حيا مع جثمان زوجته، فتكدر صفونا، وتجهم لنا المستقبل .. وجعلت أراقب زوجتي مشفقا، وكلما اشتكت توعكا خفيفا زلزل كياني كله .. وعندما جاءها المخاض ساءت حالتها فما كان منى إلا أن هربت إلى الغابة حتى عبرت سفينة ذات يوم قريبا من الشاطئ فألقيت بنفسي في الماء، وسبحت نحوها وأنا أستغيث، حتى انتشلتني وأنا على وشك الغرق.

فغمغم السلطان وكأنما يخاطب نفسه: التقاليد هي الماضي، ومن الماضي ما يجب أن يصبح في خبر كان!

خيل إليه أن لحديث السلطان بقية فآوى إلى الصمت، غير أن شهريار قال: استمر يا سندباد.

قال السندباد: تعلمت أيضا يا مولاي أن الحرية حياة الروح، وأن الجنة نفسها لا تغني عن الإنسان شيئا إذا خسر حريته؛ فقد لقيت سفينتنا عاصفة أودت بها، فلم ينج من رجالها أحد سواي .. قذف بي الموج إلى جزيرة فيحاء، معتدلة الجو، غنية بالثمار والجداول، فشبعت، وارتويت، واغتسلت، ومضيت في جنباتها مستطلعا، فصادفني عجوز ملقى تحت شجرة، لا حول له ولا قوة، فتوسل إلي قائلا: إني عاجز كما ترى، فهلا حملتني إلى كوخي؟

وأشار بذقنه ناحية فما ترددت عن حمله .. ورفعته فوق منكبي، وسرت به إلى حيث أشار .. لم أعثر لكوخه على أثر فسألته: أين مأواك يا عم؟

فقال بصوت قوي غير الذي خاطبني به أول مرة: الجزيرة مأواي، وهي جزيرتي، ولكني في حاجة إلى من يحملني!

فأردت إنزاله عن كاهلي، ولكني عجزت عن زحزحة رجليه عن عنقي وضلوعي، كأنما هو بناء مثبت بالحديد، فتوسلت إليه بدوري: اتركني وستجدني عند الحاجة في خدمتك.

ولكنه ضحك ساخرا مني متجاهلا لتوسلاتي .. هكذا قضى علي أن أعيش عبدا له، فلم يطب لي صحو ولا نوم، ولم أهنأ بلذيذ المأكل والمشرب، حتى خطرت لي فكرة فجعلت أعصر عنبا في نقرة، وتركته حتى تخمر، ثم أسقيته منه حتى سكر، وتراخت عضلاته الفولاذية فرميته عن كاهلي، وتناولت حجرا فحطمت به رأسه وأنقذت العالم من شره .. وسكنت في الجزيرة زمنا سعيدا لم أدره حتى أنقذتني سفينة.

فتنهد شهريار قائلا: ما أكثر ما يستعبدنا في هذه الدنيا! ماذا تعلمت أيضا ياسندباد؟

فقال السندباد: أيضا تعلمت يا مولاي أن الإنسان قد تتاح له معجزة من المعجزات ولكن لا يكتفي بأن يمارسها ويستعلي بها، وإنما عليه أن يقبل عليها مستهديا بنور من الله يضيء قلبه؛ فقد غرقت السفينة كسابقاتها ولذت أنا بجزيرة تستحق أن أدعوها بجزيرة الأحلام .. جزيرة غنية بالحسان من كل لون وشكل .. مال قلبي إلى إحداهن فتزوجت منها وسعدت بها .. ولما اطمأن القوم إلي ركبوا تحت إبطي ريشا وأخبروني بأنني أستطيع أن أطير وقتما أشاء .. وسررت بذلك جدا وتوثبت لاقتحام التجربة التي لم يجربها إنسان قبلي .. غير أن زوجتي قالت لي سرا: احذر أن تذكر اسم الله وأنت في الجو وإلا احترقت!

وفي الحال أدركت أن دم الشيطان يجري في دمائهم، فنفرت منهم وطرت مصمما على الهرب، وسبحت في الجو طويلا ولا هدف لي إلا مدينتي حتى بلغتها بعد أن آيست من ذلك، فالحمد لله رب العالمين.

صمت الملك مليا، ثم قال: لقد رأيت من عجائب الدنيا ما لم تره عين بشر، وتعلمت دروسا عن معاناة وخبرة، فاهنأ بما رزقك الله من مال وحكمة.

5

قام شهريار وصدره يجيش بانفعالات طاغية .. غاص في الحديقة فوق الممشى الملكي شبحا ضئيلا وسط أشباح عمالقة تحت نجوم لاحصر لها ولا حد .. أطبقت على أذنيه أصوات الماضي فمحت ألحان الحديقة، هتاف النصر، زمجرة الغضب، أنات العذارى، هدير المؤمنين ، غناء المنافقين .. نداءات اسمه من فوق المنابر .. تجلى له زيف المجد الكاذب كقناع من ورق متهرئ لا يخفي ما وراءه من ثعابين القسوة والظلم والنهب والدماء .. لعن أباه وأمه، وأصحاب الفتاوى المهلكة، والشعر والشعراء، وفرسان الباطل، ولصوص بيت المال، وعاهرات الأسر الكريمة، والذهب المنهوب المهدر في الأقداح، والعمائم والجدران والمقاعد والقلوب الخاوية، والنفس المنتحرة، وضحكات الكون الساخرة.

ورجع من رحلته عند منتصف الليل، فاستدعى شهرزاد فأجلسها إلى جانبه وهو يقول: ما أشبه حكايات سندباد بحكاياتك يا شهرزاد!

فقالت شهرزاد: جميعها تصدر عن منبع واحد يا مولاي.

صمت كأنما لينصت إلى همس الغصون وزقزقة العصافير، فتساءلت شهرزاد: هل ينوي مولاي الخروج إلى إحدى جولاته الليلة؟

فقال بفتور: كلا.

ثم بصوت منخفض: أوشكت أن أضجر من كل شيء.

فقالت بإشفاق: الحكيم لا يضجر يا مولاي.

فتساءل بامتعاض: أنا؟! .. الحكمة مطلب عسير، إنها لا تورث كما يورث العرش. - المدينة اليوم تنعم بحكمك الصالح. - والماضي يا شهرزاد؟ - التوبة الصادقة تمحق الماضي. - وإن حفل بقتل الفتيات البريئات والأفذاذ من أهل الرأي؟

فقال بصوت متهدج: التوبة الصادقة.

ولكنه قاطعها: لا تحاولي خداعي يا شهرزاد. - ولكني يا مولاي أقول الحق.

فقال بخشونة وحزم: الحق أن جسمك مقبل وقلبك نافر.

فزعت .. كأنما تعرت في الظلام، هتفت محتجة: مولاي. - لست حكيما ولكنني لست أحمق أيضا، طالما لمست احتقارك ونفورك.

تمزقت نبراتها وهي تقول: علم الله ...

لكنه قاطعها: لا تكذبي، ولا تخافي، لقد عاشرت رجلا غارقا في دماء الشهداء. - كلنا نلهج بحسناتك.

فقال دون مبالاة بقولها: أتدرين لم أبقيت عليك قريبا مني؟ لأني وجدت في نفورك عذابا متواصلا أستحقه، أما ما يحزنني فهو أنني أومن بأنني أستحق جزاء أشد.

فلم تتمالك أن بكت، فقال برقة: ابكي يا شهرزاد؛ فالبكاء أفضل من الكذب.

هتفت: لا أستطيع أن أتقلب في نعمتك بعد الليلة.

فقال محتجا: القصر قصرك، وقصر ابنك الذي سيحكم المدينة غدا، أنا الذي يجب أن أذهب حاملا ماضي الدامي. - مولاي! - على مدى عشر سنوات عشت ممزقا بين الإغراء والواجب، أتذكر وأتناسى، أتأدب وأفجر، أمضي وأندم، أتقدم وأتأخر، أتعذب في جميع الأحوال، آن لي أن أصغي إلى نداء الخلاص، نداء الحكمة.

قالت بنبرة اعترافية: إنك تنبذني وقلبي يتفتح لك.

فقال بصرامة: لم أعد أبحث عن قلوب البشر. - إنه قضاء معاكس يعبث بنا. - علينا أن نرضى بما قدر لنا.

فقالت بمرارة: مكاني الطبيعي هو ظلك.

فقال بهدوء لا يتأثر بالانفعالات: السلطان يجب أن يذهب بما فقد من أهلية، أما الإنسان فعليه أن يجد خلاصه. - إنك تعرض المدينة لأهوال. - بل إني أفتح لها باب النقاء وأهيم على وجهي باحثا عن خلاصي.

مدت راحتها إلى راحته في الظلام، لكنه سحب يده قائلا: انهضي لمهمتك، لقد أدبت الأب، وعليك أن تعدي الابن لمصير أفضل.

6

ظن السندباد أنه سينعم بمسرات العمل والسمر حتى نهاية العمر، ولكنه رأى حلما .. ولما استيقظ لم ينس الحلم ولم يتلاش أثره .. ما هذا الحنين؟ هل قدر له أن يمضي العمر تتقاذفه أمواج البحار؟ من ذا الذي يناديه من وراء الأفق؟ أيريد من الدنيا أكثر مما أعطته؟ أغلق وكالته مساء ومضى إلى دار عبد الله البلخي وهو يقول: عنده الرأي .. ولمح في طريقه إلى حجرة الشيخ زبيدة ابنته فمادت به الأرض واجتاحه هدف جديد للزيارة لم يخطر بباله من قبل .. وجد الشيخ ووجد معه الطبيب عبد القادر المهيني .. جلس حائرا مترددا، ثم قال: جئت يا مولاي طالبا يد كريمتكم.

فثقبه الشيخ بنظرة باسمة، وقال: كلا، دفعك للمجيء دافع آخر!

فبهت السندباد ولم ينبس .. فقال الشيخ: ابنتي مذ قتل زوجها علاء الدين قد كرست نفسها للطريق.

فتمتم السندباد: الزواج لا يصد عن الطريق. - قالت كلمتها النهائية في ذلك!

تنهد السندباد آسفا، فسأله الشيخ: ماذا دفعك إلي يا سندباد؟

فأطال الصمت كفاصل بين الادعاء والحقيقة، ثم همس: القلق يا مولاي.

فتساءل عبد القادر المهيني: هل أصاب تجارتك الكساد؟

فقال السندباد: إنه قلق من لا يجد سببا ملموسا للقلق.

فقال الشيخ: أفصح يا سندباد. - كأنما تلقيت دعوة من وراء البحار!

فقال عبد القادر المهيني ببساطة : سافر؛ ففي الأسفار سبع فوائد.

فقال السندباد: رأيت في الحلم الرخ يرفرف بجناحيه.

فقال الشيخ: لعلها دعوة إلى السماء.

فقال في تسليم: إني من رجال البحر والجزر.

فقال الشيخ: اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات، أولاها أن تغلق باب النعمة وتفتح باب الشدة، والثانية أن تغلق باب العز وتفتح باب الذل، والثالثة أن تغلق باب الراحة وتفتح باب الجهد، والرابعة أن تغلق باب النوم وتفتح باب السهر، والخامسة أن تغلق باب الغنى وتفتح باب الفقر، والسادسة أن تغلق باب الأمل وتفتح باب الاستعداد للموت.

فقال بأدب: لست من هؤلاء الصفوة، ولكن باب الصلاح يتسع لآخرين.

فقال الطبيب عبد القادر المهيني: نطقت بالصدق.

فقال الشيخ للسندباد: إذا أردت أن تكون في راحة فكل ما أصبت، والبس ما وجدت، وارض بما قضى الله عليك.

فقال السندباد: حسبي أني أعبد الله يا مولاي.

فقال الشيخ: اطلع الله على قلوب أوليائه؛ فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة حرفا فشغلهم بالعبادة.

فقال الطبيب مخاطبا الشيخ: لقد رأى وسمع، إني أغبطه.

فقال الشيخ: طوبى لمن كان همه هما واحدا، ولم يشغل قلبه بما رأت عيناه وسمعت أذناه. - انهمرت النداءات من ألف عجيبة وعجيبة.

فردد الشيخ:

أنا في الغربة أبكي

ما بكت عين غريب

لم أكن يوم خروجي

من بلادي بمصيب

عجبا لي ولتركي

وطنا فيه حبيبي

فنظر المهيني إلى الشيخ مليا، ثم قال: إنه راحل يا مولاي فودعه بكلمة طيبة!

فابتسم الشيخ برقة، وقال للسندباد: إذا سلمت منك نفسك فقد أديت حقها، وإذا سلم منك الخلق فقد أديت حقوقهم.

فهوى السندباد على يده فقبلها، ثم نظر إلى الطبيب ممتنا، وهم بالقيام غير أن الطبيب وضع يده على منكبه وقال: اذهب مصحوبا بالسلامة، ثم عد محملا بالماس والحكم، ولكن لا تكرر الخطأ.

فتجلت في عيني السندباد نظرة حيرى، فقال المهيني: لم يطر الرخ بإنسان قبلك، فماذا فعلت؟ تركته عند أول فرصة منجذبا ببريق الماس. - بل لم أكد أصدق بالنجاة.

فقال المهيني بحماس : الرخ يطير من عالم مجهول إلى عالم مجهول، ويثب من قمة الواق إلى قمة قاف فلا تقنع بشيء؛ فهي مشيئة ذي الجلال!

وكأن السندباد قد شرب عشرة أرطال من الخمر.

البكاءون

1

هجر العرش والجاه والمرأة والولد .. عزل نفسه مقهورا أمام ثورة قلبه، في وقت تناسى فيه شعبه آثامه القديمة الماضية .. اقتضت تربيته زمنا غير قصير .. لم يقدم على الخطوة الحاسمة حتى استفحل في باطنه الخوف وهيمنت رغبته في الخلاص .. غادر قصره بليل، عليه عباءة خفيفة وبيده عصا، مستسلما للمقادير .. أمامه سبيل للسياحة كما فعل السندباد، وسبيل إلى دار البلخي، وثمة مهلة للتدبر .. قادته قدماه إلى الخلاء قريبا من اللسان الأخضر فترامى إلى أذنيه صوت غريب .. أنصت تحت هلال في السماء الصافية فأيقن من أنه يسمع نحيبا جماعيا! .. قوم يبكون في هذا الخلاء؟ مضى نحو مصدر الصوت في حذر حتى استقر وراء نخلة .. رأى صخرة كالقبة، ورجالا يتربعون حيالها في خط مستقيم .. لا يكفون عن البكاء .. ثار فضوله وتناوبته الأفكار .. وإذا برجل منهم ينهض فيمضي إلى الصخرة وينهال عليها ضربا بقبضته، ثم يرجع إلى مجلسه ويواصل البكاء مع الباكين .. أحد شهريار بصره فعرف في الرجال جملة من رعاياه السابقين، سليمان الزيني، والفضل بن خاقان، وسامي شكري، وخليل فارس، وحسن العطار، وجليل البزاز .. فكر أن يقتحم مجلسهم ليكشف سرهم، ولكن الحذر شده إلى موقفه .. وقبيل الفجر قام أحدهم وقال: آن لنا أن نرجع إلى دار العذاب!

فكفوا عن البكاء وقاموا وهم يتواعدون على اللقاء غدا، ثم مضوا نحو المدينة كالأشباح.

2

ما معنى هذا؟

اقترب من الصخرة .. دار حولها دورة كاملة .. ما هي إلا صخرة في صورة قبة غير مستوية يمر بها العابر فلا تثير اهتمامه .. دنا منها فتحسس سطحها فوجده خشنا .. هوى عليه بقبضته مرات، ثم هم بالتحول عنها عندما صدر منها إليه صوت قوي متحرك .. تكشف أسفلها عن مدخل مقوس الهامة فتراجع مرتعدا من الخوف، لكنه رأى نورا هادئا عذبا، ونسمت رائحة زكية مخدرة .. زايله الخوف بتلقائية، وقال له صوت خفي : إن هذا الباب هو ما تاق الرجال إلى فتحه وما أحرقوا الدموع من أجله .. اقترب منه، أدخل رأسه متطلعا فجذبته فتنة طاغية .. ما كاد يدخل حتى أغلق الباب وراءه ولكن فتنة المكان استحوذت عليه كله .. منير بلا ضوء .. عذب المناخ بلا نافذة، متضوع بشذا طيب بلا حديقة .. أرضه بيضاء ناصعة قدت من معدن مجهول، جدرانه زمردية، سقفه مزركش بمهرجان من الألوان المتناغمة، في نهايته بوابة متلألئة كأنما طعمت بالماس، مضى بلا تردد متناسيا ما وراءه، ظن أنه سيبلغ البوابة في دقيقة أو دقيقتين، ولكنه مشى طويلا والممر باق على حاله لا يقصر، والفتنة من الجوانب تتدفق .. أشفق من أن يكون طريقا بلا نهاية، لكنه لم يفكر في الرجوع ولا في التوقف، وطاب له المشي العقيم إلى الأبد .. ولما أوشك أن ينسى أن لمشيه غاية، وجد نفسه يقترب من بركة صافية تقوم فيما وراءها مرآة مصقولة، وسمع صوتا يقول: افعل ما بدا لك.

سرعان ما لبى رغائبه الطارئة، فخلع ملابسه وغاص في الماء .. دلكته نبضات الماء بأنامل ملائكية وتسللت إلى باطنه أيضا .. خرج من الماء فوقف أمام المرآة، فرأى نفسه جديدا في إهاب فتى أمرد، قوي الجسم، متناسقه، بوجه مليح، ينضح فتوة وشبابا، وشعر أسود مفروق، وقد طر بالكاد شاربه .. همس: سبحان القادر على كل شيء!

والتفت إلى ملابسه فوجد بديلها سروالا من الحرير الدمشقي، وعباءة بغدادية، وعمامة خراسانية، ونعلا مصريا، فارتداها، فصار آية تسر الناظرين.

وواصل السير فوجد نفسه أمام البوابة، ووجد أمامها صبية ملائكية لم يرها من قبل، سألته باسمة: من أنت؟

فأجاب بحيرة: شهريار. - ما صناعتك؟ - هارب من ماضيه. - متى تركت بلدتك؟ - منذ ساعة على الأكثر.

فما تمالكت أن ضحكت قائلة: ما أضعفك في الحساب!

وتبادلا نظرة طويلة، ثم قالت الصبية: انتظرناك طويلا، المدينة كلها تنتظرك.

فتساءل في دهشة: أنا؟! - تنتظر العريس الموعود لملكتها المعظمة.

وأشارت بيدها، ففتحت البوابة، مرسلة صوتا كأنين الرباب.

3

وجد شهريار نفسه في مدينة ليست من صنع بشر، كأنها الفردوس جمالا وبهاء وأناقة، ونظافة ورائحة ومناخا، تترامى بها في جميع الجهات العمائر والحدائق، والشوارع والميادين المكللة بشتى الأزهار، وتنتشر فوق أديمها الزعفراني البرك والجداول، سكانها نساء، لا رجل بينهن، ونساؤها شباب، وشبابها جمال ملائكي .. وانتبهن إلى القادم، فهرعن إلى الطريق الملكي المؤدي إلى القصر، وسجدن بين يديه، وهن ينشدن نشيد الشكر .. ومضى هو مع الصبية إلى القصر.

4

انبهر بالقصر كأنه أحد صعاليك شعبه .. آمن بأن قصره القديم لم يكن سوى كوخ قذر .. قادته الصبية إلى قاعة العرش .. الملكة تضيء على عرشها بين جناحين من صبايا كاللآلئ.

سجدت الصبية بين يدي الملكة وقالت: عريسك الموعود يا صاحبة الجلالة.

ابتسمت الملكة ابتسامة أفقدته لبه .. سجد بدوره وهو يقول: ما أنا إلا عبد مولاتي.

فقالت الملكة بصوت عذب كأجمل الألحان: بل أنت شريكي في الحب والعرش.

فقال بصدق وأمانة: يقتضي الواجب أن أصارحك بأنني عشت في الماضي حياة طويلة حتى شارفت الشيخوخة.

فقالت الملكة بعذوبة: لا أدري عما تتحدث. - إني أتحدث عن قبضة الزمن يا مولاتي.

فقالت بسرور: ما عهدنا الزمن إلا صديقا وفيا، لا يطغى ولا يغدر.

فغمغم شهريار: سبحان الله القادر على كل شيء!

واحتفلت المدينة بالزواج أربعين يوما.

5

ومضى الوقت في حب وتأمل، وللعبادة أيضا وقتها، وهي تمارس في الشراب والغناء والرقص.

وتبين لشهريار أنه بحاجة إلى ألف عام لاكتشاف خبايا الحديقة وإلى ألف عام أو أكثر لمعرفة أبهاء القصر وأجنحته .. ويوما - وكان بصحبته الملكة - مر بباب صغير من الذهب الخالص، في قفله مفتاح من الذهب المحلى بالماس، التصقت به بطاقة كتب عليها بخط أسود «لا تقرب هذا الباب» فسأل الملكة: لم هذا التحذير يا حبيبتي؟

قالت بعذوبتها المألوفة: نحن نعيش ها هنا في حرية مطلقة؛ فمجرد النصيحة يعتبر في عرفنا إهانة لا تغتفر. - ألم يصدر منك كأمر ملكي؟

فقالت بهدوء: صيغة الأمر غير مستعملة عندنا إلا في الحب، وقد وجد كما تراه منذ ملايين السنين!

6

وسأل زوجته مرة وهو يداعبها: متى يكون لنا وليد؟

فتساءلت في ذهول: أتفكر في ذلك ولما يمض على زواجنا إلا مائة عام؟! - مائة عام فقط؟ - بلا زيادة يا حبيبي.

فتمتم: حسبتها أياما معدودة.

قالت بأسف: لم يمح الماضي من رأسك بعد.

قال كالمعتذر: إني سعيد على أي حال سعادة لم يعرفها آدمي من قبل .. فقبلته قائلة: ستعرف السعادة الحقيقية عندما تنسى الماضي تماما.

7

وكلما مر بالباب المحرم نظر نحوه باهتمام، وكلما غاب عن الجناح القائم به رجع إليه .. ألح على فكره ووجدانه، وجعل يقول لنفسه: كل شيء واضح إلا هذا الباب!

8

وضعفت مقاومته ذات يوم فاستسلم لنداء خفي .. انتهز غفلة من الخادمات، فأدار المفتاح .. انفتح الباب بيسر عن نغم ساحر، وشذا طيب، ودخل مضطرب القلب، كبير الأمل، انغلق الباب، فتجلى له مارد لم ير أقبح منه .. انقض عليه فرفعه بين يديه كعصفور .. هتف شهريار نادما: دعني بربك!

وكأنما قد استجاب له فأرجعه إلى الأرض.

9

نظر فيما حوله بجنون، وتساءل: أين أنا؟!

الصحراء والليل والهلال والصخرة والرجال والنحيب المتواصل، شهريار وعصاه وهواء المدينة الفاسد .. صرخ من قلب مكلوم:

هوى بقبضته على الصخرة مرات حتى بض الدم منها، ثم هتف: الرحمة .. الرحمة.

ولكن دهمته الحقيقة واجتاحه اليأس .. تقوس ظهره وطعن في السن .. ودون اختيار مضى نحو الرجال بخطى متعثرة، وارتمى في آخر الصف .. وسرعان ما انخرط في البكاء مثلهم تحت الهلال.

10

قبيل الفجر ذهب الرجال كالعادة، ولكنه لم يذهب ولم يكف أيضا عن البكاء .. وإذا برجل يمضي في الليل وحيدا، فاقترب منه، وسأله: ماذا يبكيك يا رجل؟

فقال شهريار بضيق: لا شأن لك بذلك.

فقال الآخر وهو يتفرس في وجهه بإمعان: إني كبير الشرطة، وما جاوزت حدودي.

قال شهريار: لن تعكر دموعي صفو الأمن!

فقال عبد الله العاقل وهو يتمادى في تفرس وجهه: دع هذا لتقديري وأجبني.

صمت شهريار مليا، ثم قال، وكأنما غفل عن الموقف كله: جميع الكائنات تبكي من ألم الفراق!

فسأله وهو يبتسم ابتسامة غامضة: أليس لك مأوى؟ - كلا. - هل يطيب لك أن تقيم تحت النخلة قريبا من اللسان الأخضر؟

فقال دون مبالاة: ربما.

قال الرجل برقة : إليك قول رجل مجرب، قال: «من غيرة الحق أن لم يجعل لأحد إليه طريقا، ولم يؤيس أحدا من الوصول إليه، وترك الخلق في مفاوز التحير يركضون، وفي بحار الظن يغرقون، فمن ظن أنه واصل فاصله، ومن ظن أنه فاصل مناه، فلا وصول إليه ولا مهرب عنه، ولا بد منه»

قال عبد الله العاقل ذلك، ثم ذهب صوب المدينة.

Unknown page