مقدمة التفسير للعلامة الزمخشري (بِسمِ اللَّه الرّحمن الرّحيم) الحمد للَّه الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفًا منظما، ونزله بحسب المصالح منجما، وجعله بالتحميد مفتتحًا وبالاستعاذة مختتما وأوحاه على قسمين متشابهًا ومحكمًا وفصله سورًا وسوّره آيات. وميز بينهنّ بفصول وغايات. وما هي إلا صفات مبتدئ مبتدع، وسمات منشئ مخترع فسبحان من استأثر بالأوّلية والقدم، ووسم كل شيء سواه بالحدوث عن العدم أنشأه كتابا ساطعًا تبيانه، قاطعًا برهانه وحيا ناطقًا ببينات وحجج، قرآنا عربيًا غير ذى عوج مفتاحًا للمنافع الدينية والدنيوية، مصداقا لما بين يديه من الكتب السماوية معجزًا باقيًا دون كل معجز على وجه كل زمان، دائرًا من بين سائر الكتب على كل لسان في كل مكان أفحم به من طولب بمعارضته من العرب العرباء، وأبكم به من تحدّى به من مصاقع الخطباء، فلم يتصدّ للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم، ولم ينهض لمقدار أقصر سورة منه ناهض من بلغائهم على أنهم كانوا أكثر من حصى البطحاء، وأوفر عددًا من رمال الدهناء ولم ينبض «١» منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإفراط في المضادّة والمضارّة، وإلقائهم الشراشر «٢» على المعازة والمعارّة ولقائهم دون المناضلة عن أحسابهم الخطط، وركوبهم في كل ما يرومونه الشطط إن أتاهم أحد بمفخرة أتوه بمفاخر، وإن رماهم بمأثرة رموه بمآثر وقد جرّد لهم الحجة أوّلا، والسيف آخرًا، فلم يعارضوا إلا السيف وحده، على أنّ السيف القاضب مخراق لاعب إن لم تمض الحجة حدّه فما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أنّ البحر قد زخر فطمّ على الكواكب «٣»، وأنّ الشمس قد أشرقت فطمست نور الكواكب. _________ (١). قوله «ولم ينبض» أى يتحرك كما في الصحاح. (ع) (٢). قوله «الشراشر» في الصحاح: الشراشر الأثقال، الواحدة شرشرة. يقال: ألقى عليه شراشره حرصًا ومحبة. وفيه: العرارة شدة الحرب، واسمه للسودد. (ع) (٣). قوله «فطم على الكواكب» في الصحاح: الكوكب النجم، وكوكب الشيء معظمه، وكوكب الروضة نورها والمعنى الأخير هو المراد هنا، والأول هو ما يأتي. (ع)

المقدمة / 1

والصلاة [والسلام] على خير من أوحى إليه حبيب اللَّه أبى القاسم، محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب بن هاشم ذى اللواء المرفوع في بنى لؤىّ. وذى الفرع المنيف في عبد مناف بن قصّى المثبت بالعصمة، المؤيد بالحكمة، الشادخ «١» الغرّة الواضح التحجيل، النبىّ الأمىّ المكتوب في التوراة والإنجيل وعلى آله الأطهار، وخلفائه من الأختان والأصهار، وعلى جميع المهاجرين والأنصار. اعلم أنّ متن كلّ علم وعمود كل صناعة- طبقات العلماء فيه متدانية، وأقدام الصناع فيه متقاربة أو متساوية، إن سبق العالم العالم لم يسبقه إلا بخطإ يسيرة، أو تقدّم الصانع الصانع لم يتقدّمه إلا بمسافة قصيرة وإنما الذي تباينت فيه الرتب، وتحاكت فيه الركب، ووقع فيه الاستباق والتناضل، وعظم فيه التفاوت والتفاضل، حتى انتهى الأمر إلى أمد من الوهم متباعد، وترقى إلى أن عدّ ألف بواحد- ما في العلوم والصناعات من محاسن النكت والفقر، ومن لطائف معان يدق فيها مباحث للفكر، ومن غوامض أسرار، محتجبة وراء أستار، لا يكشف عنها من الخاصة إلا أوحدهم وأخصهم، وإلا واسطتهم وفصهم، وعامتهم عماة عن إدراك حقائقها بأحداقهم عناة في يد التقليد لا يمنّ عليهم بجزّ نواصيهم وإطلاقهم ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح «٢» من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق سلكها علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذى علم، كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرّية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوّة لحييه لا يتصدّى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علم المعاني وعلم البيان وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة اللَّه، وحرص على استيضاح معجزة رسول اللَّه بعد أن يكون آخذًا من سائر العلوم بحظ، جامعا بين أمرين تحقيق وحفظ كثير المطالعات، طويل المراجعات قد رجع زمانا ورجع إليه، وردّ وردّ عليه فارسا في علم الإعراب، مقدّما في حملة الكتاب وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقادها يقظان النفس درّاكا للمحة وإن لطف _________ (١) . قوله «الشادخ الغرة» في الصحاح: شدخت الغرة، إذا اتسعت. (ع) (٢) . قوله «بما يبهر الألباب القوارح» في الصحاح: قرح الجافر، إذا انتهت أسنانه، وكل ذى حافر يقرح، وكل ذى خف يبزل. (ع)

المقدمة / 2

شأنها، متنبها على الرمزة وإن خفى مكانها، لا كزّا جاسيا، ولا غليظًا جافيًا متصرفا ذا دراية بأساليب النظم والنثر، مرتاضا غير ريض «١» بتلقيح بنات الفكر قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقه، ووقع في مداحضه ومزالقه. ولقد رأيت إخواننا في الدين من أفاضل الفئة الناجية «٢» العدلية، الجامعين بين علم العربية والأصول الدينية، كلما رجعوا إلىّ في تفسير آية فأبرزت لهم بعض الحقائق من الحجب، أفاضوا في الاستحسان والتعجب واستطيروا شوقا إلى مصنف يضم أطرافا من ذلك حتى اجتمعوا إلىّ مقترحين أن أملى عليهم (الكشف عن حقائق التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) فاستعفيت، فأبوا إلا المراجعة والاستشفاع بعظماء الدين وعلماء العدل والتوحيد والذي حدانى على الاستعفاء على علمى أنهم طلبوا ما الإجابة إليه علىّ واجبة لأنّ الخوض فيه كفرض العين ما أرى عليه الزمان من رثاثة أحواله وركاكة رجاله وتقاصر هممهم عن أدنى عدد هذا العلم فضلا أن تترقى إلى الكلام المؤسس على علمى المعاني والبيان، فأمليت عليهم مسألة في الفواتح، وطائفة من الكلام في حقائق سورة البقرة وكان كلاما مبسوطا كثير السؤال والجواب طويل الذيول والأذناب، وإنما حاولت به التنبيه على غزارة نكت هذا العلم وأن يكون لهم منارًا ينتحونه ومثالا يحتذونه، فلما صمم العزم على معاودة جوار اللَّه والإناخة بحرم اللَّه فتوجهت تلقاء مكة، وجدت في مجتازى بكل بلد من فيه مسكة من أهلها- وقليل ما هم- عطشى الأكباد إلى العثور على ذلك المملى، متطلعين إلى إيناسه، حرّاصا على اقتباسه، فهز ما رأيت من عطفي وحرّك الساكن من نشاطي، فلما حططت الرحل بمكة إذا أنا بالشعبة السنية، من الدوحة الحسنية: الأمير الشريف الإمام شرف آل رسول اللَّه أبى الحسن على بن حمزة بن وهاس، ادام اللَّه مجده، وهو النكتة والشامة في بنى الحسن مع كثرة محاسنهم وجموم مناقبهم- أعطش الناس كبدًا وألهبهم حشى وأوفاهم رغبة، حتى ذكر أنه كان يحدّث نفسه- في مدّة غيبتي عن الحجاز مع تزاحم ما هو فيه من المشادّة- بقطع الفيافي وطى المهامه والوفادة علينا بخوارزم ليتوصل إلى إصابة هذا الغرض فقلت قد ضاقت على المستعفى الحيل، وعيت به العلل ورأيتنى قد أخذت منى السنّ، وتقعقع الشنّ، وناهزت العشر التي سمتها العرب دقاقة الرقاب، فأخذت في طريقة أخصر من الأولى مع ضمان التكثير من الفوائد _________ (١) . قوله «غير ريض» في الصحاح: ناقة ريض، أول ما ريضت وهي صعبة بعد. (ع) (٢) . قوله «من أفاضل الفئة الناجية» هي التي سماها أهل السنة بالمعتزلة، فقوله «إخواننا في الدين» يقتضى أنه من المعتزلة. ولذا تراه في مسائل الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة يقول بقول المعتزلة، فإذا كان ظاهر الآية يوافقهم أبقاها على ظاهرها، وإذا كان يخالفهم صرفها عن ظاهرها إلى معنى يوافقهم، عفى اللَّه عنه. (ع)

المقدمة / 3

والفحص عن السرائر، «١» ووفق اللَّه وسدّد ففرغ منه في مقدار مدّة خلافة أبى بكر الصدّيق رضى اللَّه عنه «٢» وكان يقدّر تمامه في أكثر من ثلاثين سنة، وما هي إلا آية من آيات هذا البيت المحرم، وبركة أفيضت علىّ من بركات هذا الحرم المعظم أسأل اللَّه أن يجعل ما تعبت فيه منه سببًا ينجيني، ونورًا لي على الصراط يسعى بين يدي وبيميني ونعم المسئول. _________ (١) . قوله «والفحص عن السرائر» لعله «الشرائد» أو «الشدائد» . (ع) (٢) . «قوله ففرغ منه في مقدار خلافة أبى بكر الصديق رضى اللَّه عنه: وكان يقدر تمامه في أكثر من ثلاثين سنة» كانت مدة خلافة أبى بكر رضى اللَّه عنه سنتين وثلاثة أشهر على الصواب وكأنه لمح بذكر الثلاثين إلى حديث سفينة مرفوعا «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» أخرجه الترمذي وغيره. فكأنه قال يقدر تمامه في مدة الخلفاء الراشدين فيسره اللَّه في قدر مدة أولهم وأفضلهم. وكانت أيضا أقصر كل من الثلاثة الذين بعده لأن خلافة عمر رضى اللَّه عنه كانت عشرا وأشهرا، وعثمان رضى اللَّه عنه اثنى عشرة سنة، وعلى رضى اللَّه عنه خمس سنين إلا أشهرًا. وقتل على رضى اللَّه عنه بعد النبي صلى عليه وسلم بتسع وعشرين سنة ونصف، وأكمل النصف مدة الحسن بن على رضى اللَّه عنه، واللَّه أعلم،؟؟؟ من تخريج الأحاديث للحافظ ابن حجر.

المقدمة / 4

الجزء الأول سورة فاتحة الكتاب مكية. وقيل مكية ومدنية لأنها نزلت بمكة مرة وبالمدينة أخرى. وتسمى أمّ القرآن لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على اللَّه تعالى بما هو أهله، ومن التعبد بالأمر والنهى، ومن الوعد والوعيد. وسورة الكنز والوافية لذلك. وسورة الحمد والمثاني لأنها تثنى في كل ركعة. وسورة الصلاة لأنها تكون فاضلة أو مجزئة بقراءتها فيها. وسورة الشفاء والشافية. وهي سبع آيات بالاتفاق، إلا أنّ منهم من عدّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ دون التسمية، ومنهم من مذهبه على العكس. [سورة الفاتحة (١): آية ١] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) قرّاء المدينة والبصرة والشأم وفقهاؤها على أنّ التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وإنما كتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها، كما بدأ بذكرها في كل أمر ذى بال، وهو مذهب أبى حنيفة ﵀ ومن تابعه، ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة. وقرّاء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة، وعليه الشافعي وأصحابه ﵏، ولذلك يجهرون بها. وقالوا: قد أثبتها السلف في المصحف مع توصيتهم بتجريد القرآن، ولذلك لم يثبتوا (آمين) فلولا أنها من القرآن لما أثبتوها. وعن ابن عباس: «من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب اللَّه تعالى» «١» . _________ (١) . موقوف، ليس بمعروف عنه، والذي في الشعب للبيهقي عنه: «من ترك بسم اللَّه الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب اللَّه» . وتعقب ابن الحاجب ما أورده الزمخشري بأن قال: «الصواب مائة وثلاث عشرة» وبهذا اللفظ ذكر الشهرزوري في المصباح. وزاد: وإنما لم يقل «أربع عشرة» لأن براءة لا بسملة فيها، انتهى. روى البيهقي في الشعب عن أحمد بن حنبل أنه قال: «من لم يقل مع كل سورة بسم اللَّه الرحمن الرحيم فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من كتاب اللَّه تعالى» . قلت: وقفت على سبب الغلط في منقول الزمخشري. وذلك أن الحاكم روى في ترجمة عبد اللَّه بن المبارك بسند له عن على القاشاني قال: «رأيت عبد اللَّه بن المبارك يرفع يديه في أول تكبيرة على الجنازة ثم الثانية أخفض قليلا والصلوات مثل ذلك» . قال على قال عبد اللَّه «من ترك بسم اللَّه الرحمن الرحيم في فواتح السور فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية» . قال عبد اللَّه: وأخبرنا حنظلة بن عبد اللَّه عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضى اللَّه عنه قال: «من ترك بسم اللَّه الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب اللَّه تعالى» . فلما لم يخص ابن عباس سورة حمله ابن المبارك على الكل إلا براءة فكان مائة وثلاث عشرة.

1 / 1