الجزء الأول بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد نبيه الكريم وعلى آله بحمد الله نبتدئ ونختم، وبتأييده إلى كل مراد نتقدم؛ وبالصلاة على رسوله المصطفى نتبرك، وبالسلام عليه نرجو أن يسهل علينا المسك. فالحمد لله على ما أولانا من النعم، وذكرنا به منها ونحن في العدم، ثم والاها على الدوام، وحملنا فيها على أتم الإكرام، حمدًا يوجب لنا به بلوغ الرضى، وصلاح الآخرة والأولى؛ وصلى الله على نبيه محمد المصطفى صلاة موصولة بالوصول، مقرونة بالقبول، مقتضية للبركات، قاضية بأفضل السعادات، وعلى آله وسلم عليه وعليهم تسليمًا دائم الأمد، وافر العدد، ما أشرق الضياء، ودامت الأرض والسماء. أما بعد فإن بعض من التزم واجب شكره على جميل بره، لما وصلت إلى بغداد، وحصلت من إفادته على أفضل مستفاد، نبهنى على أن أجمع ما يحضرنى من أسماء رواة الحديث بالأندلس، وأهل الفقه والأدب، وذوى النباهة والشعر، ومن له ذكر منهم، أو ممن دخل إليهم، أو خرج عنهم في معنى من معانى العلم والفضل، أو الرياسة والحرب. فأعلمته ببعدى عن مكان هذا المطلوب، وقلة ما صحبنى من الغرض المرغوب، وأنى إن رمته على قلة ما عندى، وتعاطيته على انقطاع موادى وبعدى، لم أخل من أحد وجهين: إما أن أبخس القوم حظهم

1 / 1

وأنقصهم، فأتعرض للائمتهم فيما أوردت، وأقف موقف الاعتذار فيما له قصدت؛ وإما أن أوهم من رأى قلة جمعى، ونهاية ما في وسعى أنه ليس من أهل الفضل في تلك البلاد إلا نزر من الأعداد، فأكون بعد احتفالى لهم قد قصرت بهم، وعند اجتهادى في ذكرهم قد أخللت بفخرهم، وما أرانى مع ذلك إلا متصديًا لمذمة الطائفتين، منتظمًا لتتبع الفرقتين لا سيما ولعلماء أقطار ذلك البلد في أنواع هذا المعنى كتب كثيرة العدد، منها لابن حارث، ولابن عبد البر، ولأحمد بن محمد التاريخى، وابن حيان، وسائر المؤرخين هناك على تباين مراتب جمعهم واهتمامهم، مما لو حضرنى بعضه فحذفت التكرار، واقتصرت على العيون، ووصلت به ما عندى، لا ستطيل واستكثر؛ على أنى أعلم أن هذا المقصد الذي سبق إلى تقييده المؤرخون من أسلافنا، وتلاهم التابعون لهم في ضبطه من أخلافنا، جم الفائدة، عظيم العائدة، لما فيه مما لا يخفى على متميز، إلى جهة من جهات المعرفة متحيز؛ ولحرصى على قبول هذا التنبيه، وإن قل ما عندى فيه، بادرت إلى جمع المفترق الحاضر، وإخراج ما في الحفظ منه وإتعاب الخاطر، رجاء الثواب في تنويه بعالم، وتنبيه على فضل فاضل، وتوقيف على غرض، وتحقيق لنسب أو خبر؛ ولا يخلو أن يكون في أثناء ذلك زيادة علم تقتنى، أو ثمرة أدب وشعر تجتنى. وعلينا إن بلغنا إلى المراد، في سلوك تلك البلاد، أن نستأنف الاستيفاء مع وجود المواد إن شاء الله ﷿، وبالله تعالى نستعيذ من موارد الزلل، وإياه نستعين على إدراك الصواب في القول والعمل، وهو حسبنا في كل أمل، ونعم الوكيل. فأول ما نبدأ به أن نذكر وقت افتتاحها، ومن فتحها، ومن وقع إلينا

1 / 2

ذكره ممن دخلها من التابعين وممن وليها من الأمراء هلم جرا، ثم نذكر سائر من قصدنا ذكره مما في الحفظ أو في حاضر الكتب، مرتبًا على حروف المعجم، ونعتمد ذلك أيضًا في كل حرف إذ لم يصح لنا ترتيبهم على الأوقات، ولا على الطبقات؛ وكل ذلك على الاختصار المقصود؛ ومع ما في ذكر أمرائها وأزمانهم من المعرفة فإن فيه فائدة أخرى وهو أنا إذا لم نقف على تحديد وقت وفاة أحد ممن ذكرناه من غيرهم، نسبناه إلى أيام من عرفنا أنه كان في أيامه من الأمراء، فاستبانت بذلك طبقته، وعرف زمانه. فأما أول أوقات افتتاحها ففي سنة اثنتين وتسعين من الهجرة، في القرن الثاني الذي أخبر النبي ﷺ أنه خير القرون بعد قرنه؛ وأما الذي تولى فتحها وكان أمير الجيش السابق إليها فطارق، قيل ابن زياد، وقيل ابن عمرو، وكان واليًا على طنجة مدينة من المدن المتصلة ببر القيروان في أقصى المغرب، بينها وبين الأندلس فيما يقابلها خليج من البحر يعرف بالزقاق وبالمجاز؛ رتبه فيها موسى بن نصير أمير القيروان. وقيل إن مروان بن موسى بن نصير خلف طارقًا هناك على العساكر، وانصرف إلى أبيه لأمر عرض له، فركب طارق البحر إلى الأندلس من جهة مجاز الخضراء، منتهزًا لفرصة أمكنته، فدخلها وأمعن فيها، واستظهر على العدو بها، وكتب إلى موسى ابن نصير بغلبته على ما غلب عليه من الأندلس وفتحه، وما حصل له من الغنائم، فحسده على الانفراد بذلك، وكتب إلى الوليد بن عبد الملك بن مروان يعلمه بالفتح، وينسبه إلى نفسه، وكتب إلى طارق يتوعده إذ دخلها بغير إذنه،

1 / 3

ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به؛ وخرج متوجهًا إلى الأندلس، واستخلف على القيروان ولده عبد الله وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين، وخرج معه حبيب ابن أبي عبيدة الفهرى ووجوه العرب والموالى وعرفاء البربر، في عسكر ضخم، ووصل من جهة المجاز إلى الأندلس، وقد استولى طارق على قرطبة دار المملكة، وقتل لذريق ملك الروم بالأندلس، فتلقاه طارق وترضاه، ورام أن يستسل ما في نفسه من الحسد له، وقال له: إنما أنا مولاك ومن قبلك وهذا الفتح لك، وحمل طارق ما كان غنم من الأموال، فلذلك نسب الفتح إلى موسى بن نصير لأن طارقا من قبله، ولأنه استزاد في الفتح ما بقى على طارق. وأقام موسى في الأندلس مجاهدًا وجامعًا للأموال، ومرتبًا للأمور بقية سنة ثلاث وتسعين، وسنة أربع وتسعين، وأشهرًا من سنة خمس وتسعين، وقبض على طارق؛ ثم استخلف على الأندلس ولده عبد العزيز بن موسى، وترك معه من العساكر ووجوه القبائل من يقوم بحماية البلاد، وسد الثغور، وجهاد العدو؛ ورجع إلى القيروان، ثم سار منها بما حصل له من الغنائم، وأعده من الهدايا إلى الوليد بن عبد الملك، ومعه فيما يقال طارق، فمات الوليد وقد وصل موسى إلى طبرية في سنة ست وتسعين، فحمل

1 / 4

ما كان معه إلى سليمان بن عبد الملك؛ ويقال إنه وصل وأدرك الوليد حيا، فالله أعلم. وأقام عبد العزيز بن موسى بن نصير أميرًا على الأندلس، إلى أن ثار عليه من الجند جماعة فيهم حبيب بن أبي عبيدة الفهرى، وزياد بن النابغة التميمي، فقتله بعضهم، وخرجوا برأسه إلى سليمان بن عبد الملك، بعد أن أمروا على الأندلس أيوب بن أخت موسى بن نصير؛ ويقال إنهم كتبوا إلى سليمان بما أنكروا من أمره فأمرهم بما فعلوه. ثم اختلفت الأمور هنالك، ومكث أهل الأندلس بعد ذلك زمانًا لا يجمعهم وال؛ ثم ولى عليهم السمح بن مالك الخولاني قبل المائة؛ ثم ولى عليها الحر بن عبد الرحمن القيسى؛ ثم وليها عنبسة بن سحيم الكلبي، وعزل الحر بن عبد الرحمن؛ ثم وليها عبد الرحمن بن عبد الله العكى نحو العشر ومائة، وكان رجلًا صالحًا؛ ثم وليها عبد الملك ابن قطن الفهرى، ثم عقبة بن الحجاج، فهلك عقبة بالأندلس، فرد عبد الملك بن قطن، ثم جاء بلج بن بشر فادعى ولايتها، وشهد له بعض من كان معه، ووقعت فتن من أجل ذلك افترق أهل الأندلس فيها على أربعة أمراء، حتى أرسل إليهم واليًا أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي، فحسم مواد الفتنة، وجمعهم على الطاعة بعد الفرقة؛ وفي تقديم بعضهم على بعض اختلاف، إلا أن هؤلاء المذكورين كانوا أمراءها، وولاة الحروب فيها ايام بنى أمية قبل ذهاب دولتهم من المشرق.

1 / 5