AUTO [مقدمة المؤلف]

بسم الله الرحمن الرحيم «1»

قال الشيخ الإمام أبو إسحاق بن علي بن يوسف الفيروزآبادي- رحمه الله-

أما بعد ... فإني لما رأيت قوما ينتحلون العلم وينسبون إليه، وهم من جهلهم لا يدرون ما هم عليه، ينسبون إلى أهل الحق ما لا يعتقدونه، ولا في كتاب هم يجدونه، لينفروا قلوب العامة من الميل إليهم، ويأمرونهم أبدا بتفكيرهم ولعنهم، أحببت أن أشير إلى بطلان ما ينسب إليهم، بما أذكره من اعتقادهم وأنا مع ذلك مكره لا بطل، ولى دعوى لا عمل، ولكن شرعت فيما شرعت مع اعترافي بالتقصير، وعلمي بأن ناصر الحق كثير، ليرجع الناظر فيما جمعته عن قبول قول المضلين، ويدين الله عز وجل بقول الموحدين المحققين.

فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم ككاتم ما أنزل الله عز وجل على محمد» «2».

ومقصدي بذلك النصيحة.

فلن يكمل المؤمن إيمانه حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه. ويروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كتم أخاه نصيحة أو علما يطلبه منه لينفع به حرمه الله فضل ما يرجو» «3» نسأل الله تعالى أن لا يحرمنا رحمته، وأن يدخلنا جنته.

Page 371

AUTO النظر أول الواجبات

Page 372

فمن ذلك: أنهم يعتقدون أن أول ما يجب على العاقل البالغ المكلف القصد إلى النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة الله عز وجل «1»؛ لأن الله عز وجل أمرنا بالعبادة، قال عز وجل: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين (البينة: من الآية 5) والعبادة لا تصح إلا بالنية، لقوله علية الصلاة والسلام «إنما الأعمال بالنيات» «2»، والنية هي القصد. تقول العرب: نواك الله بحفظه أي قصدك الله بحفظه. وقصد من لا يعرف محال، فدل ذلك على وجوب النظر والاستدلال، ولأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به يكون واجبا كالواجب، ألا ترى أن الصلاة لما كانت واجبة ثم لا يتوصل إليها إلا بالطهارة صارت الطهارة واجبة كالواجب. فكذلك أيضا في مسألتنا، لأنه إذا كانت معرفة الرب عز وجل واجبة ثم بالتقليد لا يتوصل إليها دل على وجوب النظر والاستدلال المؤديين إلى ذلك. فقد أمرنا الله عز وجل بذلك، ودعا إليه، فقال عز وجل: قل انظروا ما ذا في السماوات والأرض (يونس: من الآية 101). أفرأيتم ما تمنون* أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (الواقعة: 58، 59) أفرأيتم الماء الذي تشربون* أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (الواقعة: 68، 69) أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت* وإلى السماء كيف رفعت (الغاشية: 17، 18) الآية، وقال عز وجل إخبارا عن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-: فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (الأنعام: 76) الآيات. وأمرنا باتباعه فقال عز وجل: فاتبعوا ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل (الحج: من الآية 78).

فمن أنكر النظر والاستدلال لا يخلو: إما أن ينكر بدليل، أو بغير دليل، أو بالتقليد فإن أنكره بغير دليل لا يقبل منه، وإن أنكره بالتقليد، فليس تقليد من قلده بأولى من تقليدنا، وإن أنكره بدليل فهو النظر والاستدلال الذي أنكره والنظر لا يزول بالتفكير فبطل دعواه وثبت ما قلناه.

AUTO إيمان المقلد

ثم يعتقدون أن التقليد في معرفة الله عز وجل لا يجوز، لأن التقليد قبول قول الغير من غير حجة «1»، وقد ذمه الله تعالى فقال عز وجل: أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم (الزخرف: من الآية 24) إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (الزخرف: من الآية 23) ولأن المقتدين تتساوى أقوالهم، فليس بعضهم بأولى من بعض، ولا فرق بين النبي والمتنبي في ذلك.

وإذا كان الأنبياء مع جلالة قدرهم وعلو منزلتهم لم يدعوا الناس إلى تقليدهم من غير إظهار دليل ولا معجزة، فمن نزلت درجته عن درجتهم؛ أولى وأحرى أن لا يتبع فيما يدعو إليه من غير دليل، فعلى هذا لا يجوز تقليد العالم للعالم، ولا تقليد العامي للعامي، ولا تقليد العامي للعالم، ولا تقليد العالم العامي. فإن قيل: لم جوزتم تقليد العامي للعالم في الفروع ولم لا تجيزوها في الأصول؟.

قيل: لأن الفروع التي هي العبادات دليلها السمع، وقد يصل إلى العالم من السمع ما لا يصل إلى العامي، فلما لم يتساويا في معرفة الدليل جاز له تقليده، وليس كذلك الأصل الذي هو معرفة الرب عز وجل فإن دليله العقل، والعامي والعالم في ذلك سواء، فإن العالم إذا قال للعامي: واحد أكثر من اثنين لا يقبل منه من غير دليل، فإن الفرق بينهما ظاهر «2».

Page 373

AUTO حدوث العالم

ثم يعتقدون أن لهذا العالم صانعا صنعه، ومحدثا أحدثه، وموجدا أوجده من العدم إلى الوجود لأنه حال وجوده وهو شيء موجود موصوف بالحياة والسمع لا يقدر أن يحدث في ذاته شيئا ففي حال عدمه وهو ليس بشيء أولى وأحرى ألا يوجد نفسه، ولأنه لو كان موجدا لنفسه لم يكن وجوده اليوم بأولى من وجوده غدا، ولا وجوده غدا بأولى من وجوده اليوم، ولا كونه أبيض بأولى من كونه أسود، فدل على أن له مخصصا يخصصه وموجدا يوجده. قال الله تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم (الروم: من الآية 22).

AUTO صفة الوحدانية

ثم يعتقدون أن محدث العالم هو الله عز وجل، وأنه واحد أحد؛ لأن الاثنين لا يجري أمرهما على النظام، لأنهما إذا أرادا شيئا لا يخلو إما أن يتم مرادهما جميعا أو لا يتم مرادهما جميعا أو يتم مراد أحدهما دون الآخر.

فإن لم يتم مرادهما جميعا؛ بطل أن يكون إلهين، ومحال أن يتم مرادهما جميعا، لأنه قد يريد أحدهما إحياء جسم والآخر يريد إماتته، والإنسان لا يكون حيا أو ميتا في حالة واحدة.

وإن تواطئا فالتواطؤ أيضا لا يكون إلا عن عجز، وإن تم مراد أحدهما دون الآخر، فالذي لم يتم مراده ليس بإله؛ لأن من شروط الإله أن يكون مريدا قادرا؛ فدل على أن الله عز وجل واحدا أحد.

قال الله عز وجل: وإلهكم إله واحد (البقرة: من الآية 163). وقال عز وجل:

Page 374

لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا (الأنبياء: من الآية 22).

AUTO صفة القدم

ثم يعتقدون أن الله عز وجل قديم أزلي أبدا كان، وأبدا يكون؛ لأنه لو كان محدثا، لافتقر إلى محدث آخر، وذلك المحدث إن كان محدثا، افتقر إلى محدث آخر، ويؤدي ذلك إلى التسلسل، وعدم التناهي، وذلك محال.

AUTO مخالفته- تعالى- للحوادث

ثم يعتقدون أن الله عز وجل لا يشبهه شيء من المخلوقات، ولا يشبه شيئا منها؛ لأنه لو أشبهه شيء لكان مثله قديما، ولو أشبه شيئا لكان مثله مخلوقا وكلا الحالين محال. قال الله عز وجل: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (الشورى: من الآية 11).

AUTO الله تعالى ليس بجسم

ثم يعتقدون أن الله عز وجل ليس بجسم لأن الجسم هو المؤلف وكل مؤلف لا بد له من مؤلف. وليس بجوهر لأن الجوهر لا يخلو من الأعراض كاللون والحركة والسكون، والعرض الذي لا يكون ثم يكون ولا يبقى وقتين. قال الله تعالى: هذا عارض ممطرنا (الأحقاف: من الآية 24) أي لم يكن فكان، وما لم يكن فكان فهو محدث، وما لا ينفك من المحدث فهو محدث كالمحدث.

AUTO صفاته تعالى أزلية

ثم يعتقدون أن الله تعالى المحدث للعالم موصوف بصفات ذاتية، وصفات فعلية، فأما الصفات الذاتية فهي ما يصح أن يوصف بها في الأزل وفي لا يزال كالعلم والقدرة، وأما الصفات الفعلية فهي ما لا يصح أن يوصف بها في الأزل وفي لا يزال كالخلق والرزق؛ لا يقال إنه أبدا كان خالقا ورازقا؛ لأن ذلك يؤدي إلى قدم المخلوق والمرزوق، بل يقال إنه أبدا كان قادرا على الخلق والرزق، عالما بمن يخلقه ويرزقه، فإن قيل إنه أبدا الخالق والرازق بالألف واللام جاز.

AUTO صفة العلم

Page 375