الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة للإمام أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الكاتب الدينوري ٢١٣ - ٢٧٦ هـ قدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه عمر بن محمود أبو عمر دار الراية الطبعة الأولى ١٤١٢ هـ - ١٩٩١ م

Unknown page

بسم الله الرحمن الرحيم (مقدمة المؤلف) الحمد لله مرتضي الحمد لنفسه، وجاعله فاتحة وحيه، ومنتهى شكره، وكفاء نعمته، ودعوى أهل جنته عند إفضائهم إلى كرامته، البر بخلقه، العواد على المذنبين بعفوه، الذي لا يخيب راجيه، ولا يرد داعيه، ولا ينسى ذاكريه، ولا يقطع حبل عصمته ممن تمسك بعروته، أحمده بجميع محامده على جميع نعمه، وندعوه أن يشعرنا خشيته، ويشرب قلوبنا مراقبته عند كل لفظ وعقد وكل قبض وبسط، وأن يجعل كلامنا له ودلالتنا عليه وإرشادنا إليه، ويؤم بنا سمت الحق وقصد السبيل، وأن يبلغ نبينا المصطفى ﷺ منا أفضل صلاة وأنماها وأزكاها وأقضاها لما فرض من حقه وأوجب من ذكره، صلى الله وملائكته المقربون عليه وعلى آله الطيبين وعلى جميع النبيين والمرسلين، ونعوذ بالله من نزغ الشيطان ومصائده ولطيف خدعه ومكائده، فقد صدق على هذه الأمة ظنه، وأجلب عليهم بخيله ورجله، وقعد لهم رصدًا بكل مرصد، ونصب لهم شركًا بكل ريع، وطفق لغوايتهم بكل شبهة، فأصبح الناس إلا قليلًا ممن عصم الله مفتونين، وفيما يوبقهم خائفين، وعن سبيل نجاتهم ناكبين، ولما وضعه الله عنهم متكلفين، وعما كلفهم

1 / 17

معرضين، إن دعوا أنفوا، وإن وعظوا هزأوا، وإن سئلوا تعسفوا، وإن سألوا أعنتوا، قد فرقوا الدين وصاروا شيعًا فهم يتنابزون بالألقاب ويتسابون بالكفر ويتعاضدون بالنحل ويتناصرون على الهوى وعاد الإسلام غريبًا كما بدأ، فماذا يعجب من سلة السيف وشمول الخوف ونقص الأموال والأنفس وهل يتوقع بعد تزيدنا في الغواية إلا التزيد في البلاء حتى يحكم الله بما شاء بيننا وهو خير الحاكمين. وكان طالب العلم فيما مضى يسمع ليعلم ويعلم ليعمل ويتفقه في دين الله لينتفع وينفع فقد صار طالب العلم الآن يسمع ليجمع ويجمع ليذكر ويحفظ ليغالب ويفخر، وكان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح وفيما ينوب الناس فينفع الله به القائل والسامع، فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي وفيما لا يقع وفيما قد

1 / 18

انقرض من حكم الكتابة وحكم اللعان ورجم المحصن، وصار الغرض فيه إخراج لطيفه، وغوصًا على غريبه، وردًا على متقدم، فهذا يرد على أبي حنيفة وهذا يرد على مالك، وآخر يرد على الشافعي بزخرف من القول، ولطيف من الحيل، كأنه لا يعلم أنه إذا رد على الأول صوابًا عند الله بتمويهه فقد تقلد المآثم عن العاملين به دهر الداهرين. وهذا يطعن بالرأي على ماض من السلف وهو يرى، وبالابتداع في دين الله على آخر وهو يبتدع. وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر وفي تفضيل أحدهما على الآخر وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر فهم دائبون يخبطون في العشوات قد تشعبت بهم الطرق وقادهم الهوى بزمام الردى.

1 / 19

[سبب تأليف الرسالة] وكان آخر ما وقع من الاختلاف أمرًا خص بأصحاب الحديث الذين لم يزالوا بالسنة ظاهرين، وبالاتباع قاهرين يداجون بكل بلد ولا يداجون ويستتر منهم بالنحل ولا يستترون، ويصدعون بحقهم الناس ولا يستغشون، ولا يرتفع بالعلم إلا من رفعوا، ولا يتضع فيه إلا من وضعوا، ولا تسير الركبان إلا بذكر من ذكروا، إلى أن كادهم الشيطان بمسألة لم يجعلها الله تعالى أصلًا في الدين، ولا فرعًا، في جهلها سعة وفي العلم بها فضيلة، فنمى شرها، وعظم شأنها حتى فرقت جماعتهم وشتتت كلمتهم ووهنت أمرهم وأشمتت حاسديهم وكفت عدوهم مؤنتهم بألسنتهم وعلى أيديهم فهو دائب يضحك منهم ويستهزئ بهم حين رأى بعضهم يكفر بعضًا وبعضهم يلعن بعضًا ورآهم مختلفين وهم كالمتفقين ومتباينين وهم كالمجتمعين ورأى نفسه قد صار لهم سلمًا بعد أن كان لهم حربًا. ولما رأيت إعراض أهل النظر عن الكلام في هذا الشأن منذ وقع، وتركهم تلقيه بالدواء حين بدا، وبكشف القناع عنه حين نجم، إلى أن استحكم أساسه، وبسق رأسه، وجرى على اعتياد الخطأ فيه الكهل، ونشأ عليه الطفل وعسر على المداوين أن يخرجوا من القلوب ما قد استحكم بالألف ونبت على شراه اللحم، لم أر لنفسي عذرًا في ترك ما أوجبه الله علي بما وهب من فضل المعرفة في أمر استفحل بأن قصر مقصر فتكلفت بمبلغ علمي ومقدار طاقتي ما رجوت أن يقضي بعض الحق عني لعل الله ينفع به فإنه بما شاء نفع، وليس على من أراد الله بقوله أن يسأله الناس بل عليه التبصير وعلى الله التيسير. وسيوافق قولي هذا من الناس ثلاثة:

1 / 20