تقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ جاء فى «قانون البلاغة» لأبى طاهر البغدادى: سألت- أطال الله مدتك، وأدام نعمتك، وحرس دولتك- عن «البلاغة» ! و«البلاغة» ليست ألفاظا فقط، ولا معانى فحسب، بل هى ألفاظ يعبّر بها عن معان! ولكن ليس هذا كما اتفق، ولا كيفما وقع، لأن ذلك لو جرى «هذا المجرى» لكان أكثر الناس بليغا، إذ كان أكثرهم يؤدى عن المعانى التى يولدها بألفاظ تدل عليها! لكنهم يخرجون عن طريق البلاغة، ومنهاج الكتابة من وجهين: أحدهما: أن تكون الألفاظ مستكرهة، مستوخمة، غير مرصوفة، ولا منتظمة! والثانى: أن تكون كثيرة يغنى بعضها عن بعض، ويمكن أن يعبّر عن المعنى الدال بأقلّ منها» . وإذا كانت هناك مواقف يحتاج فيها إلى إشباع المعنى، وتوكيده، وتكريره، حيث يحتاج البليغ إلى الإطالة والإسهاب، فإن هناك مواقف يحتاج فيها إلى الاختصار والإيجاز! هذا، وأكثر ما عليه الناس فى «البلاغة» أنها: «الاختصار، وتقريب المعنى بالألفاظ القصار» وقد سئل بعضهم عن البلاغة فقال: «هى لمحة دالّة!» . وهذا مذهب العرب، وعادتهم فى العبارة، فإنهم يشيرون إلى المعانى بأوحى «١» إشارة! ويستحبون أن تكون الألفاظ أقلّ من المعانى فى المقدار والكثرة.

1 / 5

ويحكى عن جعفر البرمكى أنه قال: «إذا كان الإيجاز كافيا كان التطويل عيّا» «١» . «وإذا كان التطويل واجبا كان التقصير عجزا» . وقال ابن الأعرابى: قال لى المفضّل: قلت لأعرابى: ما البلاغة؟ فقال: الإيجاز من غير عجز، والإطناب من غير خطل «٢» ! ونحن نعيش فى عصر مازلنا نسمع أنه «عصر السرعة» يقصر فيه الوقت مهما يكن طويلا عما نحتاج إلى أن ننهض به من الأعباء التى لم تكثر، ولم تثقل على الناس فى عصر من العصور كما تكثر، وتثقل، وتتنوع، وتزدحم فى هذه الأيام التى صارت فيها الواجبات أكثر من الأوقات! وهذا كله يحملنا على أن نؤثر «الإيجاز» على «الإطناب»، ونقصد إلى ما يلائم وقتنا القصير، وعملنا الكثير فى هذه اللحظات التى يتاح لنا ولأبنائنا فيها شىء من الفراغ للاستمتاع بلذات الأدب الخالص، والفن الرفيع، مما «قل ودلّ ولم يملّ!» . ألا وإن على رأس تلك النماذج المفضلة ما تضمنه كتاب أبى منصور الثعالبى: «الإعجاز والإيجاز» من روائع النثر والنظم! فلقد جمع فى أبوابه العشرة ما وقع عليه اختياره من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية التى سلط الضوء فيها على جوامع الكلم، ثم انتقل إلى روائع ملوك الإسلام، ونفائس الكتّاب والبلغاء، وطرائف الفلاسفة والحكماء، وملح ونوادر الظّرفاء، حتى الثلث الأول من القرن الخامس الهجرى. وجاء الباب العاشر مسك الختام يضم قلائد الشعراء، ودررهم. مما لا غنى عنه لدارسى الأدب، ومحبى الشعر، والباحثين عن

1 / 6

الحكمة من الطلبة والمدرسين، والمتحدثين، والخطباء، مما يصعب على الباحث أن يوفّق إلى جمعه، ولمّ شمله، فى عصر صارف عن الرجوع إلى الأمّهات والدواوين! هذا ولقد شجعنا على المضى فى استكمال «مكتبة الثعالبى» ذلك الإقبال على ما تم إصداره منها من الكتب الآتية: ١- لطائف المعارف. ٢- أحسن ما سمعت. ٣- درر الحكم. ٤- الكناية والتعريض. ٥- فقه اللغة وسر العربية. وها هو ذا «الإعجاز والإيجاز» نرجو أن ينال حسن القبول والله أكرم مسئول. محمّد إبراهيم سليم القاهرة فى أول شعبان ١٤١٩ هـ. نوفمبر ١٩٩٨ م

1 / 7

هذا الكتاب «إعجاز الإيجاز» هكذا سماه صاحب كشف الظنون فقال: «إعجاز الإيجاز» - للشيخ أبى منصور عبد الملك بن محمد الثعالبى المتوفّى سنة ثلاثين وأربعمائة. «ومختصره» للإمام «فخر الدين بن عمر الرازى» المتوفى سنة ست وستمائة. أما «كارل بروكلمان» فى موسوعته الأدبية: تاريخ الأدب العربى: (ج ٥/١٩٥ برقم ٢٨) وقد ذكره تحت عنوان: «إيجاز الإعجاز» فقدم وأخر على طريق الإضافة لا العطف! ثم قال: ويسمى كذلك: «الإيجاز والإعجاز» بعطف أحدهما على الآخر. وهكذا أصبح لدينا ثلاثة عناوين: ١- إعجاز الإيجاز. ٢- إيجاز الإعجاز. ٣- الإيجاز والإعجاز. لكن من يرجع إلى تسمية الكتاب يوم أن طبع فى أول: «مجموعة خمس رسائل» بمطبعة الجوائب بالآستانة سنة ١٣٠١ هـ ويوم أن نشره اسكندر آصف فى طبعته الأولى منفردا بالقاهرة سنة ١٨٩٧ م- يجد أنه قد حمل عنوانا رابعا هو: «الإعجاز والإيجاز» . وقد أشار إلى هذه التسمية العلامة الزركلى فى «الأعلام» نظرا إلى أن هذه التسمية هى التي رافقت الطبعة الأولى المنقولة عن نسخة خطية بخط «جمال» سبط الشيخ صفى ابن أبى منصور، وكتبت سنة

1 / 8

٤٢٢ هـ، وعثر عليها فى المكتبة الخديوية! وقد آثرنا هذه التسمية اعتمادا على ما جاء فى صدر الباب الأول من قول المؤلف: «من أراد أن يعرف جوامع الكلم، ويتنبه على فضل «الإعجاز والاختصار» ويحيط ببلاغة الإيماء، ويفطن لكفاية الإيجاز: فليتدبر القرآن! فقد قدم الإعجاز على الإيجاز الذى هو الاختصار، وعطف أحدهما على الآخر. وإن كنت أميل إلى ذلك العنوان الذى أشار إليه صاحب كشف الظنون ألا وهو: «إعجاز الإيجاز» ويؤيدنى فى هذا أن الإمام الشيخ محمد عبده كتب رسالة أطال فيها وأطنب وأسهب، واعتذر فى آخرها عن الإطالة لأنه لم يكن لديه وقت لكى يوجز! فلاشك أن للإيجاز إعجازا ليس فى متناول الجميع! ولكنى أحببت أن يظل للكتاب عنوانه الذى عرف به يوم أن طبع للمرة الأولى، حتى لا يخيل للبعض أنه كتاب جديد غير ذلك الذى يعرفه الجميع باسم «إعجاز الإيجاز» . وإذا كان الإمام «فخر الدين الرازى» قد اختصره- كما جاء فى كشف الظنون- فقد حرصت على أن أقدمه كاملا غير منقوص إلا من تلك الأبيات التى تصف «مجالس الشرب واللهو» - فما كان ينبغى لنا أن نمر عليها مر الكرام، وهى فى معية تلك النماذج العليا من القرآن الكريم، وجوامع الكلم من الحديث الشريف، وقلائد الشعر، ودرر الحكم! لم يكن بد من تهذيب الكتاب وتنقيته من تلك المختارات التى تناولت «مجالس الشرب واللهو والغزل غير العفيف» حرصا منى على أن يظل

1 / 9