بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر ولا تعسر الحمد لله بارئ النسم، رازق القسم، الحكيم فيما أنشأ ودبر، الخبير بما قدم وأخر، الذي وسع خلقه علمه، وعدل فيهم حكمه، يخلق ويختار، وكل شيء عنده بمقدار، اختص بالأثرة الإنسان فأكرمه بتعليم البيان، ويسره للنطق والكلام، والفهم والإفهام، ليبلو فيها طاعته ويكمل بها سعادته، أحمده على ما عم من نعمه، وخص من مننه، وأشكره على حسن ما اختار لنا من دينه، وأكرمنا به من سنة نبيه، وأخلص القول بأن لا إله إلا الله، شهادة الموحد المستبصر غير المتوقف المتحير، وأشهد أن محمدا عبده الأمين على وحيه، ورسوله الصادع بأمره ونهيه، المؤيد بجوامع الكلم، المبين للناس ما نزل إليهم بلسان عربي مبين، فيه واضح يعرفه السامعون، وغامض لا يعقله إلا العالمون، لتكون آثار الحكمة فيها قائمة، ودلائل الاعتبار عليها شاهدة، وليرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات. وكان أرفعهم في العلم درجة، وأعلاهم قدرا ورتبة أئمة القرون الثلاثة، الذين نالتهم الخيرة، ولحقتهم الدعوة في قوله ﷺ: (خير الناس قرني، ثم

1 / 46

الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وهم الصدر الأول، والنمط الأفضل، ورثة علم السنة والحافظون لها على من بعدهم من الأمة، ثم لم يزل أول منهم يلقيه إلى آخر، ويتلقاه خالف عن سالف، ليكون دين الله بهم محروسا عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فصلى الله عليه وعلى المصطفين من آله، ورضي الله عن الغر المنتخبين من أصحابه، وغفر للتابعين لهم بإحسان. ثم إن الحديث لما ذهب أعلامه بانقراض القرون الثلاثة، واستأخر به الزمان، فتناقلته أيدي العجم، وكثرت الرواة وقل منهم الرعاة، وفشا اللحن، ومرنت عليه الألسن اللكن، رأى أولو البصائر والعقول، والذابون عن حريم الرسول أن من الوثيقة في أمر الدين والنصيحة لجماعة المسلمين، أن يعنوا بجمع الغريب من ألفاظه، وكشف المغدَف من قناعه، وتفسير المشكل من معانيه، وتقويم الأود من زيغ ناقليه، وأن يدونوه في كتب تبقى على الأبد، وتخلد على وجه المسند، لتكون لمن بعدهم قدوة وإماما، ومن الضلال عصمة وأمانا. فكان أول من سبق إليه ودل من بعده عليه أبو عبيد القاسم بن سلام

1 / 47

فإنه قد انتظم بتصنيفه عامة ما يحتاج إلى تفسيره من مشاهير غريب الحديث، فصار كتابه إماما لأهل الحديث، به يتذاكرون، وإليه يتحاكمون، ثم انتهج نهجه ابن قتيبة أبو محمد عبد الله بن مسلم، فتتبع ما أغفله أبو عبيد من ذلك، وألف فيه كتابا لم يأل أن يبلغ به شأو المبرِّز السابق، وبقيت بعدهما صبابة للقول فيها متبرض، توليتُ جمعها وتفسيرها مستعينا بالله ومسترسلا إلى ذلك بحسن هدايتهما وفضل إرشادهما، وبما نحوته نم التيمم لقصدهما والتقيُّل لآثارهما، وكان ذلك مني بعد أن مضى عليَّ زمان وأنا أحسب أنه لم يبق في هذا الباب لأحد متكلم، وأن الأول لم يترك للآخر شيئا، وأتكل مع ذلك على قول ابن قتيبة حين يقول في آخر الخطبة من كتابه (وأرجو ألا يكون بقي بعد هذين الكتابين من غريب الحديث ما يكون لأحد فيه مقال). ثم إنه لما كثر نظري في الحديث، وطالت مجالستي أهله، ووجدت فيما يمر بي ويرد علي منه ألفاظا غريبة لا أصل لها في الكتابين، علمت أن خلاف ما كنت أذهب إليه من ذلك مذهبا، وأن وراءه مطلبا فصرفت إلى جمعها عنايتي، ولم أزل أتتبع مظانها وألتقط آحادها وأضم نشرها، وألفق بينها، حتى اجتمع منها ما أحب الله أن يوفق له، واتسق الكتاب، فصار كنحو من كتاب أبي عبيد أو كتاب صاحبه، ونحوت نحوهما في الوضع والترتيب، وابتدأت أولا بتفسير حديث رسول الله ﷺ، ثم ثنيت بأحاديث الصحابة، وأردفتها أحاديث التابعين، وألحقت بها مقطعات من الحديث، لم أجد لها في الرواية سندا، إلا أنها قد أخذت عن المقانع من أهل العلم،

1 / 48

والأثبات من أصحاب اللغة، وختمت الكتاب بإصلاح ألفاظ من مشاهير الحديث، يرويها عوام النقلة ملحونة ومحرفة عن جهة قصدها، رأيت داعية الحاجة منهم إلى ذكرها شديدة والفائدة في تقويمها لهم عظيمة، ولم أعرض لشيء فسر في كتابيهما إلا أن يتصل حرف منه بكلام، فيذكر في ضمنه، أو يقع شيء منه في استشهاد أو نحوه، وإلا أحاديث وجدت في تفسيرها لمتقدمي السلف أو لمن بعدهم من أهل الاعتبار والنظر أقاويل تخالف بعض مذاهبهما، وتعدل عن سنن اختيارهما، اقتضى حق هذا الكتاب، وشرط ما هو ضامنه من استيفاء هذا الباب أن يكون مشتملا عليها ومحيطا بها، ويكفي من العذر فيما أَورَده [؟ أُورِده] منها أن الغرض فيه أن يظهر الحق وأن يبين الصواب، دون أن يكون القصد به الاعتراض على ماضٍ أو الاعتداد على باق، ولعل بعضَ ما نأثره منها لو بلغ أبا عبيد وصاحبه لقالا به وانتهيا إليه، وذلك الظن بهما يرحمهما الله، فأما سائر ما تكلمنا عليه مما استدركناه بمبلغ أفهامنا وأخذناه عن أمثالنا فإنا أحقاء بألا نزكية وألا نؤكد الثقة به، وكل من عثر منه على حرف أو معنى يجب تغييره فنحن نناشده الله في إصلاحه وأداء حق النصيحة فيه، فإن الإنسان ضعيف لا يسلم من الخطأ إلا أن يعصمه الله بتوفيقه، ونحن نسأل الله ذلك ونرغب إليه في دركه إنه جواد وهوب. وقد بقي في هذا الباب كتب غير ما ذكرناه، منها كتاب أبي عبيدة معمر بن المثنى، وكتاب ينسب إلى الأصمعي يقع في ورقات معدودة، وكتاب محمد بن المستنير الذي يعرف بقطرب، وكتاب النضر بن شميل، وكتاب إبراهيم بن إسحاق الحربي، وكتاب أبي معاذ المروزي صاحب

1 / 49

القراءات، وكتاب شمر بن حمدويه، وكتاب الباجُدَّائي، وكتاب آخر ينسب إلى رجل يعرف بأحمد بن الحسن الكندي، إلا أن هذه الكتب على كثرة عددها إذا حُصِّلت كانت كالكتاب الواحد؛ إذ كان مصنفوها لم يقصدوا بها مذهب التعاقب كصنيع القتيبي في كتابه، إنما سبيلهم فيها أن يتوالوا على الحديث الواحد فيعتوروه فيما بينهم، ثم يتبارون في تفسيره يدخل بعضهم على بعض، ولم يكن من شرط المسبوق منهم أن يفرج للسابق عما أحرزه وأن يقتضب الكلام في شيء لم يفسر قبله، على شاكلة مذهب ابن قتيبة وصنيعه في كتابه الذي عقب به كتاب أبي عبيد، ثم إنه ليس لواحد من هذه الكتب التي ذكرناها أن يكون شيء منها على منهاج كتاب أبي عبيد في بيان اللفظ وصحة المعنى وجودة الاستنباط وكثرة الفقه، ولا أن يكون من شرح [؟ شرج] كتاب ابن قتيبة في إشباع التفسير وإيراد الحجة وذكر النظائر والتخلص للمعاني، إنما هي أو عامتها إذا انقسمت وقعت بين مقصر لا يورد في كتابه إلا أطرافا وسواقط من الحديث، ثم لا يوفيها حقها من إشباع التفسير وإيضاح المعنى، وبين مطيل يسرد الأحاديث المشهورة التي لا يكاد يشكل منها شيء، ثم يتكلف تفسيرها ويطنب فيها. وفي بعض هذه الكتب خلل من جهة التفسير، وفي بعضها أحاديث منكرة، لا تدخل في شرط ما أنشئت له هذه الكتب، وكتاب شمر أشفُّها [؟ أشفاها] وأوفاها. وفي الكتابين غنى ومندوحة عن كل كتاب ذكرناه قبل، إذ كانا قد

1 / 50