الإهداء إلى مَن روانا من فيض حنانه، ورعانا بجميل صبره وإحسانه، إلى من آثر التعب على الراحة، والخمول على الشهرة، إلى من بذل صحته ووقته في سبيل تعليمنا. إلى صاحب القلب الصافي الكبير، والصدر الواسع، والعلم الغزير. هذه ثمرة من غرسكم الذي سهرتم عليه، وقطرة من عذب مائكم الذي نهلنا من معينكم. إلى الملَّا عبد العليم الزنكي - رحمه الله تعالى -. عربون محبة ووفاء وعرفان. وإلى من أفنى عمره في خدمة السنة والعلم، إلى المحدث البارع، والمدقق اللامع، إلى صاحب الخلق الرفيع. إلى العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة - رحمه الله تعالى - محمد وهيثم

1 / 5

مقدمة سماحة المفتي الشيخ خليل المَيْس مدير "أزهر لبنان" بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده، محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين. وبعد: فإن كُتب الفقه - وعند جميع المَذَاهب - جرى التصنيف فيها على مناهج تعرف بالمتون والشروح والحواشي. والمتون ألَّفها حُذَّاق الأئمة وكِبار الفُقهاء المعروفين بالعِلم والزُّهد والفقه والتَّفقه في الرِّواية .. وقد اشتهر أنها موضوعة لنقل أصل المذهب ومَسائل ظاهر الرِّواية غَالبًا عند فُقَهاء الحنفيَّة، وكثيرًا ما يذكر أربابُ المتون مَسْألة هي من تخريجات المشايخ المُتقدمين .. ويذكرون فيها أيضًا مَذْهب الصاحِبَين: أبي يوسف ومحمد بن الحَسَن إذا كَان رَاجِحًا .. هذا، وكتاب "النُّقَاية" للإِمَام صَدْر الشَّرِيعة عُبَيد الله بن مَسْعُود المَحْبُوبي (٧٤٧ هـ) هُو مُخْتصر كتاب "الوِقَاية" المُنتقى مِنْ كِتاب "الهِدَاية" أحد المُتون الأربعة المُعتمدة في ضَبط مَذْهب الإِمَام أبي حنيفة ﵀، مُضافًا إليها "كَنْز الدَّقائق" للنَّسفي (٧١٠ هـ)، و"المُخْتَار" لأبي الفضل مَجْد الدِّين عبد الله بن محمود المَوْصِلي (٦٨٣ هـ)، و"مَجْمع البحْرين" لمُظَفَّر الدين أحمد بن عَليّ البغْدَادِي المَعروف بـ: (ابن الساعاتي)، (٦٩٤ هـ)، و"مُخْتَصر القُدُورِيّ" ذَائع الصيت لأبي الحسين أحمد بن مُحمَّد القُدُوري (٤٢٨ هـ). وأشهر هذه المُتون ذِكْرًا وأقوَاهَا للاعتماد: "والوقاية" و"الكَنْز" و"مُخْتَصر القُدُوريّ"، فهي المُراد بقولهم: المتون الثلاثة … وإِذَا أطلقُوا (المُتُون الأربعة) أرادوا هذه الثلاثة و"المُخْتَار" أو "المجمع" … هذا، وإن كتاب "فَتْح باب العِنَاية بشرح النُّقاية" للإِمَام الفقيه الحُجَّة الحافظ عليّ بن مُحمَّد سلطان القَارِي الحنفيّ المكيّ، المتوفَّى (١٠١٤ هـ)، قد استقاه من أُمهات شُروح

1 / 7

كُتب المَذْهَب، ولَقِيَ كلٌّ مِنْ المَتن والشرح رَوَاجًا كبيرًا ولِعدة قرون لدَى عُلماءِ البِلاد التي تُعْرف سابقًا ببلاد ما وَرَاء النَّهْر … الكتاب متنًا وشرحًا وإنما شقَّ طريقَهُ إلى بلادنا العلَّامةُ الشيخُ عَبدُ الفَتَّاح أبو غُدَّة رَحِمَهُ الله تَعَالى، حيثُ نَشَر جزءًا من الكتاب محققًا منذ ثلاثين عامًا .. وتوقَّف عند هذا الحد … ومُنذُ ذلك التارِيخ تَشَوَّفت نفُوس العُلماء وطَلَبة العِلم الشريف لِصُدُور بقية الكِتاب، نظرًا لأسلوبه المُمَيَّز وقُرب تناول مادته. وأخيرًا قيَّض اللهُ تَعَالى لَهُ كُلًا من الشَّابَّين الفاضلين: محمد وهيثم تميم، حيث بذلا جهدًا مُباركًا في تَحْقيقه وطبَاعتهِ، وأخرجوهُ مشكورين بهذه الحُلَّة الرائعة الرائقة. ولَا شَكَّ أن فرحة أهل العلم قَاطبةً ستكون عظيمة عندما تَقعُ أبْصَارهم على هَذا السِّفْر النَّفِيس الذي يُعتبر بحقٍّ نموذجًا للفِقه الإِسْلامِي المُقَارن، وبخاصة بين مذْهَبَي أبي حنيفة والشافعيّ رَحِمهُما الله، مدعَّمًا بالأدلة من الكتاب والسُّنة للمَذْهبين، مع بيان وجه الاسْتِدْلَال لكل مِنْهما .. وهذا الأسلُوب الذي بَات اليوم مُفضلًا في تدريس مادة الفِقْه لدى كُلٍّ من الجَامِعات والمَعاهد الإِسْلَامِية وحِلَق العلم الشرعي الشريف. ونرجُوه تَعَالى أن ينفعَ بهذا الكتاب أهلَ العِلم ويُجْزِلَ المثوبة للأخوين الكَريمَين: محمد وهيثم على حُسن صنيعهمَا .. في إصدَارِ هَذا الكِتاب الذي طالَ انتظارُهُ .. والله من وراء القصد. في بيروت ٤ جمادى الآخرة سنة ١٤١٨ هـ الموافق له: ٧ من تشرين الأول سنة ١٩٩٧ م وكتبه خادم العلم الشرعي مفتي زحلة والبقاع الغربي مدير "أزهر لبنان" الشيخ خليل المَيْس

1 / 8

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، وأفاض علينا سابغ النِّعَم، في الظاهر والباطن والسِّرِّ والعلن، ما عَلِمنا منها وما لم نعلم، حَمْدَه القديمَ الذي حَمِدَ بهِ نفسَه، أفضلَ الحمد وأكملَه، حمدًا يعجز العقلُ عن حصره، واللسانُ عن وصفه، وتَقْصُرُ عنه الهِمَم. وأفضل الصلاة وأتمُّ السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمةً للأُمم، من قيل له: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣]، ورضي الله عن أصحابه مصابيح الظُّلَم أبد الآبدين ما خطَّ قلم. أما بعد: فإن أولى ما صُرِفَتْ إليه نفائسُ الأيام، وأعلى ما خُصَّ بمزيد الاهتمام: الاشتغالُ بالعلوم الشرعية، ولا سيما الفقه منها، لقول النَّبي ﷺ: "مَن يُردِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّههُ في الدِّين" (^١). فَحَرِصَ العلماءُ على تعلُّم الفقهِ وتعليمه إلى أن لَقِيَ رَواجًا واسعًا، ونشأت عنه مدارسُ متعدِّدة. وقد مرَّ فقهنا الإسلامي الشامخ بمراحل متعددة من التدوين، وحاز قَصَبَ السَّبْق في هذا المَيدان، مذهبُ الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، على يد محمد بن الحسن الشيباني مُدَوَّن المذهب وناشره رحمهما الله تعالى. وصُنِّف بعد كُتِب الإمام محمد تآليف عديدة: بين مختصَر ومطوَّل، ومُخِلٍّ ومُفْرِط، ومدقَّق ومُحَرَّر، وكان من أدق كتب الحنفية في نقل المذهب تخريجًا وتلخيصًا وتحقيقًا وتمحيصًا كتاب "الهداية" للإمام برهان الدين المَرْغِيناني، واختصر هذا الكتاب الإمامُ تاج الشريعة محمود المَحْبُوبي بكتاب سماه "وقاية الرواية في مسائل الهداية"، وهو أحد المتون الأربعة المعتمدة عند الحنفية، ثم جاء الإمام مُلَّا علي القاري فشرحه واستوفي مقاصده وأظهر فرائده من عيون كتب الحنفية، بكتاب سماه "فتح باب العناية"، فكان شرحه حقًّا فتحًا لباب العناية رحمه الله تعالى. _________ (^١) أخرجه البخاري (فتح الباري) ١/ ١٦٤، كتاب العلم (٣)، باب من يُرِد الله به خيرًا (١٣)، رقم (٧١).

1 / 9

قصتنا مع الكتاب: هذا، وقد تعرفنا على كتاب "فتح باب العناية" من الجزء المحقَّق الذي اعتنى به شيخنا العلامة عبد الفتاح أبو غُدَّة رحمه الله تعالى. وكنا حريصين على اقتناء ما يحققه أو يعتني به أو يشير إليه من كتب، لكثرة اطلاعه، وسَدَاد نُصْحه، وطول باعه، وَوَفْرَة فوائده، وغَزَارة علمه. فقرأنا مقدمة الكتاب، وعرفنا مدى شغف شيخنا به، ومدى حرصه على إخراجه لطلبة العلم، فشُغفنا بالكتاب لشغفه، وحَرِصنا على إخراجه لحرصه، وكان هذا منذ سنة ١٩٩٠ تقريبًا، وما زلنا ننتظر الكتاب سنة بعد سنة، ولكن مشاغل شيخنا رحمه الله تعالى أحالت دون إصدار بقية الكتاب محققًا كما كان يرجو. وفي سنة ١٩٩٢ تقريبًا عندما قمنا بخدمة كتاب "شرح شرح نُخبة الفِكَر" لمُلّا علي القاري، وترجمنا له، وقفنا على أرقام مخطوطات لـ: "فتح باب العناية" في المكتبة السليمانية، ومن حسن تقدير الله تعالى، أن يَسَّر لنا زميلًا من تركيا من زملاء الدراسة (^١)، فطلبنا إليه أن يساعدنا للحصول على مصوَّرة لهذا الكتاب النفيس، وزوَّدناه بأرقامها، فسعى جاهدًا للحصول على طَلِبَتَنَا، جزاه الله عنا كلَّ خير. ومضت الأيام والشهور، وبعد حوالي ثمانية أشهر، بعد أن كدنا نَفْقِدُ الأمل، جاءتنا البشرى بمصوَّرة الكتاب على "ميكروفيلم"، فسُرِرنا بها أيَّما سرور وَطِرْنا بها فرحًا، ثم في سنة ١٩٩٣ يَسَّر الله لنا الحصولَ على مطبوعة باكستان من المدينة المنورة أثناء رحلة الحج. فرأينا أن الأمور تتيسر بين أيدينا لأمر يعلمه الله سبحانه، وكتابُ شيخنا لم يخرج بعد، واشتدت الحاجة إلى إخراجه أكثر، لما له من مزيد أهمية ومزيَّة، من حيث التدليلُ على المسائل الفقهية وربطها بأصولها من الكتاب والسنة. فكنا نودّ أن يخرج الكتاب قريبًا، تعميمًا للنفع والفائدة، فعزمنا على إخراجه، إلا أننا كنا نقدِّم رِجلًا ونؤخر أخرى، لأننا لسنا من فرسان هذا المَيدان، ولا من حمائم تلك الأفنان. فوقعنا في حَيصَ بيصَ، بين أمرين اثنين: أن تَطُولَ مُدَّةُ إخراج الكتاب حتى يتفرع له شيخنا ﵀ ويخرج محققًا التحقيق الأمثل، أو أن يخرج الكتاب في مدة وجيزة بخُطة أقلَّ وتحقيق موجز! _________ (^١) وهو الأخ الفاضل حكمت التركي.

1 / 10