الجزء الاول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المقدمة هذا كتاب «عيون الأخبار» أقدّمه للقارىء الكريم بحلّة جديدة بعد أن تجشّمت عناء مراجعته غير مرة. ألّفه ابن قتيبه ليكون تذكرة لأهل العلم وتبصرة لمغفل التأدّب ومستراحا للملوك من كدّ الجدّ والتعب وذلك حين تبيّن شمول النقص وشغل الخليفة العباسي عن إقامة سوق الأدب. يقول في مقدمة هذا الكتاب: «وإني تكلّفت لمغفل التأدّب من الكتّاب كتابا في المعرفة وفي تقويم اللسان واليد حين تبيّنت شمول النقص ودروس العلم وشغل السلطان عن إقامة سوق الأدب حتى عفا ودرس ...» وفي مقدمة كتابه «أدب الكاتب» أوضح أيضا حال الأدب المتردّية في عصره فقال: «فإني رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين «١»، ومن اسمه متطيّرين «٢»، ولأهله كارهين: أما الناشىء «٣» منهم فراغب عن التعليم، والشادي «٤» تارك للازدياد، والمتأدّب في عنفوان الشباب ناس أو متناس ... وصار العلم عارا على صاحبه، والفضل نقصا، وأموال الملوك وقفا على شهوات النفوس ...» ونحن نقول: كيف يجرؤ

1 / 3

ابن قتيبه على هذا القول وبغداد آنذاك مقرّ الثقافة الإسلامية المزدهرة ومركز مرموق للحياة الأدبية والعقلية معا؟ وإذا لم تنحصر موضوعات «عيون الأخبار» «١» في القرآن والسّنّة وشرائع الدين وعلم الحلال والحرام فإنها- كما يقول ابن قتيبة- مرشدة لكريم الأخلاق، زاجرة عن الدناءة، ناهية عن القبيح، باعثة على صواب التدبير؛ لأنّ علم الدين والحلال والحرام تقليد لا يجوز أن نأخذه إلّا عمّن نراه حجّة. كذلك لم يكن كتابه هذا وقفا على طالب الدنيا دون طالب الآخرة، ولا على خواص الناس دون عوامّهم، ولا على ملوكهم دون سوقتهم، بل وفّى كلّ فريق منهم قسمه. ولكي يروّح عن القارىء من كدّ الجدّ، ضمّن هذا الكتاب نوادر طريفة وكلمات مضحكة تدخل في باب المزاح والفكاهة. يقول: «مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين» . وكان ابن قتيبة يتلقّط أخباره عن جلسائه وإخوانه وعمّن فوقه في السنّ والمعرفة، كما وقف على كتاب التاج، وكتاب الآيين، وكتاب إبرويز، وآداب ابن المقفع، وكتب الهند ولكن دون أن يذكر اسما لكتاب هندي اعتمد عليه. يقول مثلا: «قرأت في كتاب للهند إنّ فلانا ...» كما اعتمد على أقوال علي ابن أبي طالب، ﵁، وعلى أقوال بزرجمهر، وإسحاق بن راهويه، وأبي حاتم السّجستاني، وأحمد بن الخليل، وعبد الرحمن بن عبد المنعم، وأبي سهل، وعبد الملك بن مروان، وميمون بن ميمون، والمدائني، وأبي عبّاد الكاتب، وابن الأعرابي، ومحمد بن عبيد، ومحمد بن داود، وعلي بن محمد، وابن سيرين وغيرهم. وقد لجأ إلى الإتيان بأخبار وأشعار اتّضعت عن

1 / 4

قدر كتابه لسببين؛ أحدهما الحاجة إلى ذلك، والآخر أنّ الحسن إذا وصل بمثله نقص نوراهما. صنّف كتابه أبوابا مقرنا الباب بشكله، والخبر بمثله، والكلمة بأختها ليسهل على المتعلم علمها وعلى الدارس حفظها. وهذا الكتاب حلية الأدب، ونتاج أفكار الحكماء، ولقاح عقول العلماء، وسير الملوك وآثار السّلف. قسّم المؤلف فيه الأخبار والأشعار وجمعها في عشرة كتب؛ كل كتاب بمثابة باب. فالكتاب الأول هو كتاب السلطان، وفيه أخبار السلطان وسيرته وسياسته، إلى جانب اختياره القضاة والحجّاب والكتّاب، وفيه يكثر من النقل عن الفرس والهند مما يشير إلى تأثر الأدب العربي بأدب هؤلاء، ولكنه في موضوع القضاء لم ينقل إلّا عن أحكام العرب والمسلمين. والكتاب الثاني هو كتاب الحرب، وفيه الأخبار عن آداب الحرب ومكايدها، ووصايا الجيوش وعددها وسلاحها. وفي الكتاب الثالث يسهب المؤلف في الحديث عن مخايل السؤود وأسبابه ويتحدث عن الذلّ والمروءة والغنى والفقر والبيع والشراء. والكتاب الرابع هو كتاب الطبائع والأخلاق المذمومة، وفيه الأخبار عن تشابه الناس في الطبائع، إلى جانب طبائع الجن والسّباع والطير والحشرات. والكتاب الخامس هو كتاب الهلم والبيان، وفيه الأخبار عن العلماء، والبيان والبلاغة والخطب والمقامات ووصف الشعر، إلّا أن المؤلّف لم يعرض للشعر بالتفصيل؛ لأنه أفرد للشعراء كتابا هو «الشعر والشعراء»، وهو إذا ذكر نتفة في هذا الكتاب، فإنما كراهية منه أن يخليه من فن من الفنون. والكتاب السادس كتاب الزّهد، وفيه أخبار الزّهّاد، ومناجاتهم ومواعظهم وذكر الدنيا والموت، ينقل فيه الكثير عن اليهود والنصارى. ثم يليه كتاب الإخوان، ويحثّ فيه على حسن اختيار الإخوان. وبعده كتاب الحوائج، ويتضمن الأخبار عن استنجاح الحوائج بالكتمان والصبر والهديّة والرشوة ولطيف الكلام. ثم الكتاب التاسع، وهو كتاب الطعام، وفيه الأخبار عن الأطعمة الطيّبة، والحلواء، وما يأكله فقراء

1 / 5

الأعراب، وما يصلح الأبدان من الغذاء والحمية وشرب الدواء، ومضارّ الأطعمة ومنافعها، إلى جانب نتف من طب العرب والعجم. وهو هنا ينقل عن كتاب الحيوان للجاحظ وكتب أرسطو، ولكنه يعرض المعلومات عرض مدرك لأمور الطب عارف بها. وأخيرا كتاب النساء، وفيه الأخبار عن اختلاف النساء في أخلاقهنّ وخلقهنّ وما يختار منهنّ للنكاح وما يكره، خلا أخبار عشّاق العرب. وهكذا اختار ابن قتيبة خير ما روي فرتّبه وبوّبه وجمع ما تشابه منه تحت عنوان واحد لكل كتاب من كتبه العشرة، فظهر أديبا حسن الذوق في الإختيار يمتاز عن غيره من الأدباء في هذا الميدان، بحيث أوصل عملية الاختيار إلى مرحلة الكمال والترتيب. ولقد ضمّن ابن قتيبة كتابه أبياتا من الشعر مشاكلة لأخباره. ويتّضح من منهجه الذي رسمه في مقدمة كتابه أنه صاحب منهاج حديث يعتمده الكثير من أدبائنا في الوقت الحاضر، ولا يؤخذ عليه سوى استطراده أو تكراره لأخبار نحن بغنى عنها. وهذا الكتاب صدى لشخصية صاحبه، فهو أديب رفيع الذوق في انتخاب الأخبار، مثقف ثقافة واسعة، كثير الميل إلى الأدب والتاريخ. كما يعدّ كتابه مرجعا ذا فائدة كبيرة في عالم الأخبار والأدب، والمؤلّف فيه صاحب ملكة مرهفة للتعبير النثري الدقيق، مما جعله فريدا بين كتب القديم وأحد مصادر النقل الرئيسية، تأثّر به ابن عبد ربه في كتابه «العقد الفريد» كثيرا سواء في الترتيب والتبويب أو فيما جاء به من موضوعات. ورغم أنه طبع غير مرة في غير بلد فإني رأيت أن أعنى به لما فيه من تصحيف وتحريف ونقص وزيادة، فراجعته وقابلت كثيرا من نصوصه بما يوافقها في مصادر أخرى ككتاب البيان والتبيين للجاحظ، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والكامل في اللغة والأدب للمبّرد، والكامل في التاريخ لابن الأثير وغيرها من المصادر والمراجع. ونظرت فيه

1 / 6

بدقة متناهية، وقمت بضبط ألفاظه، وأوضحت ما غمض فيه من مشكلات مكمّلا ما نقص من عباراته ومتحرّيا أصحّ ما قيل في نسبة الشعر والنثر إلى أصحابه، فجشمت الأمر معتمدا في ذلك النّصب على الراحة، فكان أن ترجمت لأكثر من ثلاثماية شخصية أدبية وعلمية وفسّرت أكثر من تسعين آية قرآنية وردت جميعها في الجزئين الأول والثاني مع تحديد العديد من المواضع والأماكن؛ لأن الجزئين الثالث والرابع قام بشرحهما وضبطهما زميلي الدكتور مفيد قمحية. وبذلك خرج هذا الكتاب في ثوب قشيب لم يعتد القراء على مثله من الطبعات السابقة التي تكاد تخلو من الحواشي والتوضيحات، راجيا أن يشبع رغبات أهل العلم وملتمسا العذر منهم إن هم عثروا فيه على خطأ؛ ذلك العصمة ليست إلّا لرب العالمين. وارتأيت أن أتمّم عملي هذا بتقديم نبذة عن سيرة المؤلّف موجزة، فأقول: هو الكاتب أبو «١» محمد عبد الله بن المسلم بن قتيبه الدّينوريّ (بكسر الدال وسكون الياء وفتح النون والواو معا وكسر الراء وتشديد الياء) سمّي بذلك لأنه ولي قضاء الدينور مدة فنسب إليها «٢» . والدينور بلدة من بلاد الجبل عند قرميسين خرج منها خلق كبير «٣» . وقال عنه السمعاني: إنه من أهل الدينور، أقام بها مدة فنسب إليها «٤» . وقيل: المروزيّ (بفتح الميم والواو وسكون الراء ثم الزاي المكسورة والياء المشدودة) نسبة إلى مرو الشّاهجان (بسكون الهاء) ومرو الشاهجان مدينة عظمى تبعد أربعين فرسخا عن مدينة مرورّوذ، وهي إحدى كراسي خراسان، وكراسي خراسان أربع مدن؛ مرو

1 / 7