باب في فضل الشعر العرب أفضل الأمم، وحكمتها أشرف الحكم؛ لفضل اللسان على اليد، والبعد عن امتهان الجسد؛ إذ خروج الحكمة عن الذات، بمشاركة الآلات؛ إذ لا بد للإنسان من أن يكون تولى ذلك بنفسه، أو احتاج فيه إلى آلة أو معين من جنسه. وكلام العرب نوعان: منظوم، ومنثور. ولكل منهما ثلاث طبقات: جيدة، ومتوسطة، ورديئة، فإذا اتفق الطبقتان في القدر، وتساوتا في القيمة، ولم يكن لإحداهما فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهرًا في التسمية؛ لأن كل منظوم أحسن من كل منثور من جنسه في معترف العادة، ألا ترى أن الدر وهو أخو اللفظ ونسيبه، وإليه يقاس، وبه يشبه إذا كان منثورًا لم يؤمن عليه، ولم ينتفع به في الباب الذي له كسب، ومن أجله انتخب؛ وإن كان أعلى قدرًا وأغلى ثمنًا، فإذا نظم كان أصون له من الابتذال، وأظهر لحسنه مع كثرة الاستعمال، وكذلك اللفظ إذا كان منثورًا تبدد في الأسماع، وتدحرج عن الطباع، ولم تستقر منه إلا المفرطة في اللفظ وإن كانت أجمله، والواحدة من الألف، وعسى أن لا تكون أفضله، فإن كانت هي اليتيمة المعروفة، والفريدة

1 / 19

الموصوفة؛ فكم في سقط الشعر من أمثالها ونظرائها لا يعبأ به، ولا ينظر إليه، فإذا أخذه سلك الوزن، وعقد القافية؛ تألفت أشتاته، وازدوجت فرائده وبناته، واتخذ اللابس جمالًا، والمدخر مالًا فصار قرطة الآذان، وقلائد الأعناق، وأماني النفوس، وأكاليل الرءوس، يقلب بالألسن، ويخبأ في القلوب، مصونًا باللب، ممنوعًا من السرقة والغضب. وقد اجتمع الناس على أن المنثور في كلامهم أكثر، وأقل جيدًا محفوظًا، وأن الشعر أقل، وأكثر جيدًا محفوظًا؛ لأن في أدناه من زينة الوزن والقافية ما يقارب به جيد المنثور. وكان الكلام كله منثورًا فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأمجاد، وسمحائها الأجواد؛ لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعرًا؛ لأنهم شعروا به، أي: فطنوا. وقيل: ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون؛ فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره. ولعل بعض الكتاب المنتصرين للنثر، الطاعنين على الشعر، يحتج بأن القرآن كلام الله تعالى منثور، وأن النبي ﷺ غير شاعر؛ لقول الله تعالى: " وما علمناه الشعر، وما ينبغي له " ويرى أنه قد أبلغ في الحجة، وبلغ في الحاجة، والذي عليه في ذلك أكثر مما له؛ لأن الله تعالى إنما بعث رسوله أميًا غير شاعر إلى قوم يعلمون منه حقيقة ذلك، حين استوت الفصاحة، واشتهرت البلاغة؛ آية للنبوة، وحجة على الخلق، وإعجازًا للمتعاطين، وجعله منثورًا ليكون أظهر برهانًا لفضله على الشعر الذي من عادة صاحبه أن يكون

1 / 20

قادرًا على ما يحبه من الكلام، وتحدى جميع الناس من شاعر وغيره بعمل مثله فأعجزهم ذلك، كما قال الله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " فكما أن القرآن أعجز الشعراء وليس بشعر، كذلك أعجز الخطباء وليس بخطبة، والمترسلين وليس بترسل، وإعجازه الشعراء أشد برهانًا، ألا ترى كيف نسبوا النبي ﷺ إلى الشعر لما غلبوا وتبين عجزهم؟ فقالوا: هو شاعر، لما في قلوبهم من هيبة الشعر وفخامته، وأنه يقع منه ما لا يلحق، والمنثور ليس كذلك، فمن ههنا قال الله ﵎: " وما علمناه الشعر، وما ينبغي له " أي: لتقوم عليكم الحجة، ويصح قبلكم الدليل، ويشهد لذلك رواية يونس عن الزهري أنه قال: معناه ما الذي علمناه شعرًا، وما ينبغي له أن يبلغ عنا شعرًا. وقال غيره: أراد وما ينبغي له أن يبلغ عنا ما لم نعلمه، أي: ليس هو ممن يفعل ذلك؛ لأمانته ومشهور صدقه. ولو أن كون النبي ﷺ غير شاعر غض من الشعر لكانت أميته غضًا من الكتابة، وهذا أظهر من أن يخفي على أحد. واحتج بعضهم بأن الشعراء أبدًا يخدمون الكتاب، ولا تجد كاتبًا يخدم شاعرًا، وقد عميت عليهم الأنباء، وإنما ذلك لأن الشاعر واثق بنفسه. مدل بما عنده على الكاتب والملك؛ فهو يطلب ما في أيديهما ويأخذه، والكاتب بأي آية يفضل الشاعر فيرجو ما في يده؟ وإنما صناعته فضلة عن صناعته، على أن يكون كاتب بلاغة، فأما كاتب الخدمة في القانون وما شاكله فصانع

1 / 21

مستأجر، مع أنه قد كان لأبي تمام والبحتري قهارمة وكتاب، وكان من عميان الشعراء كتاب أزمة كبشار وأبي علي البصير، وكان ابن الرومي من أكبر كتاب الدواوين، فغلب عليه الشعر؛ لأنه غلاب. وكما تجد من يمدح السوقة في الشعراء فكذلك تجد للسوقة كتابًا، وللتجار الباعة، في زمننا هذا وقبله. ولما أهجم بهذا الرد، وأورد هذه الحجة، لولا أن السيد أبقاه الله قد جمع النوعين، وحاز الفضيلتين، فهما نقطتان من بحره، ونوارتان من زهره، وسيرد في أضعاف هذا الكتاب من أشعاره ما يكون دليلًا على صدق ما قلته، إن شاء الله تعالى. ومن فضل الشعر أن الشاعر يخاطب الملك باسمه، وينسبه إلى أمه، ويخاطبه بالكاف كما يخاطب أقل السوقة؛ فلا ينكر ذلك عليه، بل يراه أوكد في المدح، وأعظم اشتهارًا للممدوح، كل ذلك حرص على الشعر، ورغبة فيه، ولبقائه على مر الدهور واختلاف العصور، والكاتب لا يفعل ذلك إلا أن يفعله منظومًا غير منثور، وهذه مزية ظاهرة وفضل بين. ومن فضائله أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه، وحسبك ما حسن الكذب، واغتفر له قبحه، فقد أوعد رسول الله ﷺ كعب بن زهير لما أرسل إلى أخيه بجير ينهاه عن الإسلام، وذكر النبي ﷺ بما أحفظه، فأرسل إليه أخوه " ويحك إن النبي صلى الله

1 / 22

عليه وسلم أوعدك لما بلغه عنك، وقد كان أوعد رجالًا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه فقتلهم يعني ابن خطل وابن حبابة وإن من بقيء من شعراء قريش كابن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله ﷺ؛ فإنه لا يقتل من جاء تائبًا، وإلا فانج إلى نجائك، فإنه والله قاتلك، فضاقت به الأرض، فأتى إلى رسول الله ﷺ متنكرًا، فلما صلى النبي ﷺ صلاة الفجر وضع كعب يده في يد رسول الله ﷺ ثم قال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد أتى مستأمنًا تائبًا، أفتؤمنه فآتيك به؟ قال: هو آمن، فحسر كعب عن وجهه وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله هذا مكان العائذ بك، أنا كعب بن زهير، فأمنه رسول الله رسول الله ﷺ، وأنشد كعب قصيدته التي أولها:

1 / 23