بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المتعالى بجلال أحديته عن مسارح الخواطر والأوهام، المقدس بكمال صمديته عن مسابح البصائر والأفهام. المتنزه لوجوب هويته عن مشاكلة الأعراض والأجسام. المبرأ بعظمة إلهيته عن بواعث الإقدام وصوارف الأحجام، الذي لا يتغير بكرور الدهور ومرور الشهور والأعوام. ولا يؤوده إنعام سجال الخواص والعوام من الاحسان والإنعام. والصلاة على محمد المبعوث إلى كافة الأنام، والسلام على آله وأصحابه أئمة الإسلام * [أما بعد] فهذه رسالة عملناها في النضح عن رسل الله وأنبيائه والذب عن خلاصة خلقه وأتقيائه، وإبانة ما أتى به أهل الحشو من إحالة الذنوب والجرائم عليهم، ونسبة الفضائح والقبائح إليهم، وأنه زور وبهتان، وحسبان عاطل عن الحجة والبرهان، وإنهم يتجشئون من غير شبع، ويطمعون في غير مطمع، وإن شبهاتهم لا تقوى على مقاومة الساعد الأشد ولا تسم على المنهج الأسد (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) والله المحمود على ما أفاض من توفيق، والمشكور على ما منح من تحقيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل

Page 6

[فصل] [في شرح الأقوال والمذاهب في هذه المباحث والمطالب] [إعلم] أن الاختلاف في هذه المسألة واقع في أربعة مواضع [الأول] ما يتعلق بالاعتقادية. واجتمعت الأمة على أن الأنبياء معصومون عن الكفر والبدعة إلا الفضيلية من الخوارج فإنهم يجوزون الكفر على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك لأن عندهم يجوز صدور الذنوب عنهم وكل ذنب فهو كفر عندهم، فبهذا الطريق جوزوا صدور الكفر عنهم، والروافض فإنهم يجوزون عليهم إظهار كلمة الكفر على سبيل التقية (1) * [الثاني] ما يتعلق بجميع الشرائع والأحكام من الله تعالى، وأجمعوا على أنه لا يجوز عليهم التحريف والخيانة في هذا الباب لا بالعمد ولا بالسهو، وإلا لم يبق الاعتماد على شئ من الشرائع *

Page 7

[الثالث] ما يتعلق بالفتوى. وأجمعوا على أنه لا يجوز تعمد الخطأ.

فأما على سبيل السهو فقد اختلفوا فيه * [الرابع] ما يتعلق بأفعالهم وأحوالهم. وقد اختلفوا فيه على خمسة مذاهب (الأول) الحشوية وهو أنه يجوز عليهم الإقدام على الكبائر والصغائر (الثاني) أنه لا يجوز منهم تعمد الكبيرة البتة وأما تعمد الصغيرة فهو جائز، بشرط أن لا تكون منفرا. وأما إن كانت منفرا فذلك لا يجوز عليهم، مثل التطفيف بما دون الحبة (1) وهو قول أكثر المعتزلة (الثالث) أنه لا يجوز عليهم تعمد الكبيرة والصغيرة، ولكن يجوز صدور الذنب منهم على سبيل الخطأ في التأويل، وهو قول أبي علي الجبائي (الرابع) أنه لا يجوز عليهم الكبيرة ولا الصغيرة، لا بالعمد ولا بالتأويل والخطأ. أما السهو والنسيان فجائز ثم إنهم يعاتبون على ذلك السهو والنسيان، لما أن علومهم أكمل، فكان الواجب عليهم المبالغة في التيقظ، وهو قول أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام * [الخامس] أنه لا يجوز عليهم الكبيرة ولا الصغيرة لا بالعمد ولا بالتأويل ولا بالسهو والنسيان. وهذا مذهب الشيعة * واختلفوا أيضا في وقت وجوب هذه العصمة، فقال بعضهم:

إنها من أول الولادة إلى آخر العمر، وقال الأكثرون: هذه العصمة إنما تجب في زمان النبوة. فأما قبلها فهي غير واجبة. وهو قول أكثر أصحابنا رحمهم الله تعالى *

Page 8

والذي نقول: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد. أما على سبيل السهو فهو جائز. ويدل على وجوب العصمة وجوه خمسة عشرة:

[الحجة الأولى (1)] لو صدر الذنب عنهم لكان حالهم في استحقاق الذم عاجلا والعقاب آجلا أشد من حال عصاة الأمة.

وهذا باطل فصدور الذنب أيضا باطل، بيان الملازمة: أن أعظم نعم الله على العباد هي نعمة الرسالة والنبوة. وكل من كانت نعم الله تعالى عليه أكثر كان صدور الذنب عنه أفحش، وصريح العقل يدل عليه، ثم يؤكده من النقل ثلاثة وجوه [الأول] قوله تعالى:

(يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) وقال تعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) * [الثاني] أن المحصن يرجم وغيره يجلد [الثالث] أن العبد يحد نصف حد الحر، فثبت بما ذكرنا أنه لو صدر الذنب عنهم لكان حالهم في استحقاق الذم العاجل والعقاب الآجل فوق حال جميع عصاة الأمة، إلا أن هذا باطل بالإجماع فإن أحدا لا يجوز أن يقول إن الرسول أحسن حالا عند الله وأقل منزلة من كل أحد. وهذا يدل على عدم صدور الذنب عنهم * [الحجة الثانية] لو صدر الذنب عنهم لما كانوا مقبولي الشهادة لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبتوا) (2)

Page 9

أمر بالتثبت والتوقف في قبول شهادة الفاسق، إلا أن هذا باطل فإن من لم تقبل شهادته في حال الدنيا فكيف تقبل شهادته في الأديان الباقية إلى يوم القيامة، وأيضا فإنه تعالى شهد بأن محمدا عليه الصلاة والسلام شهيد على الكل يوم القيامة، قال: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) ومن كان شهيدا لجميع الرسل يوم القيامة كيف يكون بحال لا تقبل شهادته في الجنة * [الحجة الثالثة] لو صدر الذنب عنهم لوجب زجرهم، لأن الدلائل دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن زجر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير جائز، لقوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) فكان صدور الذنب عنهم ممتنعا * [الحجة الرابعة] لو صدر الفسق عن محمد عليه الصلاة والسلام لكنا إما أن نكون مأمورين بالاقتداء به وهذا لا يجوز، أولا نكون مأمورين بالاقتداء به وهذا أيضا باطل لقوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ولقوله تعالى: (فاتبعوه) ولما كان صدور الفسق يفضي إلى هذين القسمين الباطلين كان صدور الفسق عنه محالا * [الحجة الخامسة] لو صدرت المعصية عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لوجب أن يكونوا موعودين بعذاب الله بعذاب جهنم،

Page 10