بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه ثقتي قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الأوحد الزَّاهِد أَبُو مُحَمَّد عبد الْحق بن عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله الْأَزْدِيّ الإشبيلي الْمَالِكِي ﵁ الْحَمد لله الَّذِي أذلّ بِالْمَوْتِ رِقَاب الْجَبَابِرَة وَكسر بصدمته ظُهُور الأكاسرة وَقصر ببغتته أمال القياصرة الَّذِي أدَار عَلَيْهِم حلقته الدائرة وَأَخذهم بِيَدِهِ الْقَاهِرَة فقذفهم فِي ظلمات الحافرة وصيرهم بهَا رهنا إِلَى وَقْفَة الساهرة فَأَصْبحُوا قد خسروا الدُّنْيَا وَلم يحصلوا على شَيْء من الْآخِرَة مصيبتهم وَالله لَا يجْبر مصابها وَلَا يتجرع صابها وَلَا تَنْقَضِي آلامها وَلَا أوصابها لم يمنعهُم مَا حصنوه من المعاقل والحصون وَلَا حرسهم مَا بعثوه من الحرس والعيون وَلَا فداهم من ريب الْمنون مَا ادخروه من علق مصون وَذهب مخزون بل صدمهم بركنه الشَّديد وصبحهم بجيشه المديد وأنفذ فيهم مَا كتب عَلَيْهِم من الْوَعيد نقلهم من لين المهود إِلَى خشونة اللحود وصيرهم بَين حجرها المنضود وجندلها الْمَعْقُود أكلا للهوام وطعما للدود نظر إِلَيْهِم بِعَيْنِه الشوساء وَأرْسل عَلَيْهِم كتيبته الخرساء فأذل عزتهم

1 / 23

القعساء وأبدل من نعمتهم بؤسا وأنطق بالعويل أَلْسِنَة خرسا وصيرهم حَدِيثا يذكر على مر الزَّمَان وَلَا ينسى نزلُوا عَن الأرائك والكلال والأسرة والحجال إِلَى الْحِجَارَة والرمال والأراقم والصلال وشظف الْعَيْش وضيق المجال وحلوا بِربع غير محلال بِحَيْثُ لَا زَوَال وَلَا انْتِقَال وَلَا عَثْرَة تقال وَلَا يسمع فِيهَا مقَال وَلَا يلْتَفت عِنْدهَا إِلَى من قَالَ أرسل عَلَيْهِم رَبك جُنُوده العاتية وَأَخذهم أَخَذته الرابية وسلك بهم مَسْلَك الْأُمَم الخالية والقرون الْمَاضِيَة فَهَل تحس مِنْهُم من أحد أَو هَل ترى لَهُم من بَاقِيَة وَفِيهِمْ قيل وَفِي أمثالهم حدث حَدِيث الْقَوْم من فَارس ... وَمن بني قبط ويونان وَمن بني الْأَصْفَر أعجب بهم ... وَسيد الأتراك خاقَان والأقدمين الأعظمين الألى ... من حمير أَبنَاء قحطان من تبع الْعَرَب وَمن قَيْصر ... الرّوم وكسرى آل ساسان من كل قرم شامخ أَنفه ... وكل فِرْعَوْن وهامان وَإِن نسيت الْيَوْم شَيْئا فَلَا ... تنس نبطا أُخْت كلدان وَاذْكُر مُلُوك الأَرْض من بعدهمْ ... من عرب صيد وعجمان من كل مَنْصُور اللوا أروع ... سليل أطواق وتيجان مُجْتَمع الشمل على عزة ... شيدت بأساس وأركان قد زلزل الأَرْض وراع الورى ... من جَيْشه الضخم بطوفان وذلل الْخلق بسلطانه ... كَأَنَّهُ رب لَهُم ثَان انْظُر إِلَيْهِم هَل ترى مِنْهُم ... غير أَحَادِيث بأفنان

1 / 24

وَانْظُر إِلَى الْمَوْت وأعماله ... فيهم ترى الهلك ببرهان وَأبْصر الْقَوْم وماذا لقوا ... بِالْمَوْتِ من ذل وخسران قد صفعتهم يَده صفعة ... خروا لآناف وأذقان ودك فِي الأَرْض بيتجانهم ... وألبسوا تيجان صمان من حجر صلد ورخو وَمن ... ترب وحصباء وصيدان وأنزلوا بطن الثرى بَعْدَمَا ... كَانُوا قعُودا فَوق كيوان واطعم الديدان لَحْمًا نهم ... ويالك من لحم وديدان فكم هُنَاكُم من فَتى ناعم ... وَمن فتاة ذَات أردان وَمن هزبر مرح فِي الوغى ... وظبية تسرح فِي بَان كَانُوا كَذَا ثمَّ اغتدوا عِبْرَة ... لنازح الدَّار وللدان وَلم يدافع عَنْهُم جحفل ... قد طبق الأَرْض بفرسان وَلَا بيُوت ملئت كلهَا ... من لُؤْلُؤ بحت وعقيان بل مر ذاكم كُله مسرعا ... كَالرِّيحِ مرت بَين قضبان وَأصْبح الْملك لمن ملكه ... بَاقٍ وكل غَيره فان فسبحان من تفرد بِالْعِزَّةِ والكبرياء وتوحد بالديمومة والبقاء وطوق عباده بطوق الفناء وفرقهم بِمَا كتب عَلَيْهِ من السَّعَادَة والشقاء وَجعل الْمَوْت مخلصا لأوليائه السُّعَدَاء وهلكا لأعدائه الأشقياء خلق خذلانا وَقدر تَوْفِيقًا وأنهج سَبِيلا وأوضح طَرِيقا فهدى إِلَيْهِ فريقا وأضل عَنهُ فريقا لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون فسبحان الَّذِي بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَإِلَيْهِ ترجعون وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة من وفْق لَهَا فِي الْأَزَل وَكتب لَهُ بهَا فِي الْقسم الأول فَفتح لَهَا كل بَاب وهتك دونهَا كل حجاب وخلصها من الشُّبْهَة والارتياب وَظَهَرت عَلَيْهِ فِيهَا نعْمَة الْعَزِيز الْوَهَّاب الغفور التواب ملك الْمُلُوك وَرب الأرباب

1 / 25

٢ - وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الْمَرْفُوع عَلَيْهِ علم التَّحْقِيق الْمُخْتَص بخصائص التَّوْفِيق الدَّاعِي إِلَى أنهج سَبِيل وأوضح طَرِيق صلى الله عَلَيْهِ صَلَاة تزيده شرفا وترفعه زلفى وتوردنا مورده الَّذِي عذب وَصفا وعَلى آله الطيبين وصحابته الأكرمين وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين وَسلم وكرم وَشرف وَعظم أما بعد فَإِن الْمَوْت أَمر كبار لمن أنجد وأغار وكأس تدار فِيمَن أَقَامَ أَو سَار وَبَاب تسوقك إِلَيْهِ يَد الأقدار ويزعجك فِيهِ حكم الِاضْطِرَار وَيخرج بك إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار خبر علم الله يصم الأسماع ويغير الطباع وَيكثر من الآلام والأوجاع وَاعْلَمُوا أَنه لَو لم يكن فِي الْمَوْت إِلَّا الإعدام وانحلال الْأَجْسَام ونسيانك أُخْرَى اللَّيَالِي وَالْأَيَّام لَكَانَ وَالله لأهل اللَّذَّات مكدرا ولأصحاب النَّعيم مغيرا و٢ لأرباب الْعُقُول عَن الرَّغْبَة فِي هَذِه الدَّار زاجرا ومنفرا كَمَا قَالَ مطرف بن عبد الله بن الشخير إِن هَذَا الْمَوْت نغص على أهل النَّعيم نعيمهم فَاطْلُبُوا نعيما لَا موت فِيهِ فَكيف ووراءه يَوْم يعْدم فِيهِ الْجَواب وتدهش فِيهِ الْأَلْبَاب وتفنى فِي شَرحه الأقلام وَالْكتاب وَيتْرك النّظر فِيهِ والاهتمام بِهِ الْأَوْلِيَاء والأحباب وَاعْلَمُوا رحمكم الله أَن النَّاس فِي ذكر الْمَوْت على ضروب فَمنهمْ المنهمك فِي لذاته المثابر على شهواته المضيع فِيهَا مَالا يرجع من أوقاته لَا يخْطر الْمَوْت لَهُ على بَال وَلَا يحدث نَفسه بِزَوَال قد أطرح أخراه واكب على دُنْيَاهُ وَاتخذ إلهه هَوَاهُ فأصمه ذَلِك وأعماه وأهلكه وأرداه فَإِن ذكر لَهُ الْمَوْت نفر وشرد وَإِن وعظ أنف وَبعد وَقَامَ فِي أمره الأول وَقعد قد حاد عَن سَوَاء نهجه ونكب عَن طَرِيق فلجه وَأَقْبل على بَطْنه وفرجه تبت يَدَاهُ وخاب مسعاه وَكَأَنَّهُ لم يسمع قَول الله ﷿ ﴿كل نفس﴾

1 / 26

ذائقة الْمَوْت وَلَا سمع قَول الْقَائِل فِيهِ وَفِي أَمْثَاله حَيْثُ قَالَ يَا رَاكب الروع للذاته ... كَأَنَّهُ فِي أتن عير وآكلا كل الَّذِي يَشْتَهِي ... كَأَنَّهُ فِي كلأ ثَوْر وناهضا إِن يدع دَاعِي الْهوى ... كَأَنَّهُ من خفَّة طير وكل مَا يسمع أَو مَا يرى ... كَأَنَّمَا يعْنى بِهِ الْغَيْر إِن كؤوس الْمَوْت بَين الورى ... دَائِرَة قد حثها السّير وَقد تيقنت وَإِن أَبْطَأت ... أَن سَوف يَأْتِيك بهَا الدّور وَمن يكن فِي سيره جائرا ... تالله مَا فِي سَيرهَا جور ثمَّ رُبمَا أخطر الْمَوْت بخاطره وَجعله من بعض خواطره فَلَا يهيج مِنْهُ إِلَّا غما وَلَا يثير من قلبه إِلَّا حزنا مَخَافَة أَن يقطعهُ عَمَّا يؤمل أَو يفطمه عَن لَذَّة فِي الْمُسْتَقْبل وَرُبمَا فر بفكره مِنْهُ وَدفع ذَلِك الخاطر عَنهُ وَيَا ويحه كَأَنَّهُ لم يسمع قَول الله ﷿ ﴿قل إِن الْمَوْت الَّذِي تفرون مِنْهُ فَإِنَّهُ ملاقيكم﴾ وَلَا قَول الْقَائِل فر من الْمَوْت أَو اثْبتْ لَهُ ... لَا بُد من أَنَّك تَلقاهُ واكتب بهذي الدَّار مَا شئته ... فَإِن فِي تِلْكَ ستقراه وَكَذَلِكَ من كَانَ قلبه مُتَعَلقا بالدنيا وهمه فِيهَا وَنَظره مصروفا إِلَيْهَا وسعيه كُله لَهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِك من طلابها المحرومين وأبنائها المكدودين لم ينل مِنْهَا حظا وَلَا رقى مِنْهَا مرقى وَلَا نجح لَهُ فِيهَا مسعى إِن ذكر لَهُ الْمَوْت تصامم عَن ذكره وَلم يُمكنهُ من فكره وَتَمَادَى على أول أمره رَجَاء أَن يبلغ مَا أمل أَو يدْرك

1 / 27