عبث الأقدار‏

عبث الأقدار‏

عبث الأقدار

عبث الأقدار

تأليف

نجيب محفوظ

عبث الأقدار

1

جلس صاحب العظمة الإلهية والهيبة الربانية خوفو بن خنوم على أريكته الذهبية، بشرفة مخدعه التي تطل على حديقة قصره المترامية الغناء - جنة منف الخالدة ذات الأسوار البيضاء - بين رهط من أبنائه وخاصته المقربين، وكانت عباءته الحريرية تلمع حاشيتها الذهبية تحت أشعة الشمس التي بدأت برحلتها نحو الغرب، وكانت جلسته هادئة وديعة، فكان يسلم ظهره إلى وسادة محشوة بريش النعام، ويتكئ بمرفقه على نمرقة ذات غطاء من الحرير المنمنم بالذهب، وقد تجلت آي عظمته في جبهته العالية ونظرته الرفيعة، وتبدت قوته الخارقة في صدره الواسع وساعديه المفتولين وأنفه الأشم، فأحاطت به مهابة من سن الأربعين، وهالة من مجد الفراعنة.

وكان يقلب عينيه الثاقبتين بين أبنائه وصحابته، ويرسل بناظريه إلى الأمام حيث يغيب الأفق خلف رءوس النخيل والأشجار، أو ينحرف بها ذات اليمين فيشهد عن بعد تلك الهضبة الخالدة التي يرقب مشرقها أبو الهول العظيم، ويسكن جوفها رفات الآباء والأجداد، ويملأ سطحها مئات الألوف من الخلق يزيلون كثبانها، ويشقون صخورها، ويحفرون الأساس الهائل لهرم فرعون، الذي أراد أن يجعله آية للناس على كر الأيام وتوالي الأزمان.

وكان فرعون يحب تلك الجلسات العائلية التي تعفيه من أثقال الرسميات، وترفع عن كاهله أعباء التقاليد، فيغدو فيها أبا رفيقا وصديقا ودودا، ويخلص وصحبه إلى النجوى والحديث، ويطرقون تافه المواضيع وهامها، فتلوك ألسنتهم الفكاهات، وتبرم الأمور وتقرر المصائر ... وفي ذلك اليوم المدرج في طوايا الزمان - الذي أرادت الآلهة أن تجعله مبدأ لقصتنا - بدأ الحديث بالهرم الذي شاء خوفو أن يقيمه مثوى لخلده ومستقرا لجثمانه، وكان ميرابو، المعمار النابغة الذي تسنمت به مصر ذروة المجد الفني، يتولى شرح عمله المجيد لمولاه الملك، فأسهب في تبيان دلائل العظمة المرجوة لذياك العمل الخالد الذي يشرف على بنائه وابتكار خططه. ومضى الملك يستمع إلى صديقه الفنان، ثم ذكر السنوات العشر التي تقضت على البدء في العمل فلم يخف تململه، وقال للفنان: أي ميرابو العزيز، إني أومن بنبوغك ، ولكن حتام تستنظرني؟ إنك لا تفتأ تحدثني عن عظمة الهرم الذي لم أر من بنيانه مدرجا واحدا، وقد مضت على بدء العمل عشرة أعوام طوال، حشدت لك فيها الملايين من الرجال الأشداء، وعبأت لك خير الكفايات الفنية من شعبي العظيم، ومع ذلك فلا أرى لذاك الهرم الموعود أثرا على ظهر الأرض، وكأني بهاتيك المصاطب التي تحفظ أجساد أصحابها، ولم تكلفهم عشر معشار ما نكلف أنفسنا، تسخر من جهدنا الضائع وعملنا العابث.

فبدا الجزع على وجه ميرابو الأسمر الأقتم، وارتسمت تجاعيد الارتباك على جبهته العريضة، وقال بصوته الرفيع الناعم: مولاي! حاش أن أصرف الوقت عبثا أو أضيع الجهد لعبا، فإني لمقدر التبعة التي تحملتها حين أخذت على نفسي موثقا أن أشيد لفرعون مثوى خلده، وأن أجعله آية للناس تنسيهم ما تقدم من آيات مصر وعجائبها. ونحن لم نضع الأعوام العشرة عبثا، بل صنعنا فيها ما تعجز عن صنعه الجبابرة والشياطين، فشققنا في الصخر الجلمود مجرى ماء يصل ما بين النيل وهضبة الهرم، وقطعنا من الجبل صخورا شاهقة كالتلال، وسويناها فكانت في أيدينا أطوع من العجين ... ونقلناها من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، فانظر يا مولاي إلى السفن كيف تمخر النهر حاملة أكوام الصخور كأنها جبال عالية تسيرها تعاويذ ساحر جبار ... وانظر إلى العمال المنهمكين كيف يكبون على أرض الهضبة كأن ظاهرها انشق عمن يحتويهم منذ آلاف السنين!

فابتسم الملك وقال متهكما: يا عجبا ... أمرناك أن تشيد لنا هرما فشققت نهرا! فهل تظن مولاك ملكا على الأسماك؟

وضحك الملك وابتسم الصحابة، إلا الأمير رعخعوف ولي العهد، فقد جد في الأمر، وكان على حداثة سنه جبارا صارما شديد القسوة، ورث عن أبيه جبروته دون رقته، فقال يسأل الفنان: الحق أني أعجب لتلك السنين التي ذهبت في التمهيد والتحضير، وقد علمت أن هرم المقدسة روحه الملك سنفرو بلغ كماله في أقل من هذا العهد الطويل ...

فوضع ميرابو يده على جبهته وقال بأدب جم: ها هنا يا صاحب السمو الملكي يسكن عقل عجيب دائب على الثورة، نزاع إلى الكمال، خلاق للمثل العليا، وقد أبدع لي بعد جهد جهيد خيالا جبارا، أنا باذل روحي لتجسيمه وتحقيقه، فصبرا يا صاحب الجلالة ... وصبرا يا صاحب السمو!

وساد الصمت لحظة لما شاع في الجو من نغم موسيقى الحرس الفرعوني، التي كانت تتقدم فريقا من الحرس إلى أماكن حراستهم، وتعود بإخوانهم إلى الثكنات، وكان فرعون يفكر في كلام ميرابو، فلما خفتت أصوات الموسيقى نظر إلى وزيره خوميني كاهن المعبود بتاح رب منف، وسأله والابتسامة الجليلة لا تفارق شفتيه: هل الصبر من شيم الملوك يا خوميني؟

فتخلل الرجل لحيته بأنامله وقال بصوته الهادئ: مولاي، يقول فيلسوفنا الخالد قاقمنا وزير الملك حوني: إن الصبر ملاذ الإنسان من القنوط، ودرعه ضد الشدائد.

فضحك فرعون وسأله: هذا ما يقول قاقمنا وزير الملك حوني ... فما عسى أن يقول خوميني وزير الملك خوفو؟

فبدا التفكير على وجه الوزير الخطير وتأهب للكلام، ولكن الأمير رعخعوف لم يمهله حتى يتكلم، وقال بحماس أمير في العشرين من عمره: مولاي، إن الصبر فضيلة، كما قال الفيلسوف قاقمنا، ولكنه فضيلة لا تليق بالملوك؛ لأن الصبر تحمل للأرزاء وإذعان للشدائد، وعظمة الملوك في التغلب لا في التصبر، وقد عوضتهم الآلهة عن الصبر فضيلة القوة.

فاعتدل فرعون في جلسته، ولمعت عيناه لمعانا خاطفا، لولا الابتسامة المرسومة على شفتيه لكان قضاء مبرما، ومضى يتذكر ماضي حياته على ضوء هذه الفضيلة مليا، ثم قال بصوت حماسي كر به من الأربعين إلى ذروة العشرين: ما أجمل قولك يا بني، وما أسعدني بك! حقا أن القوة فضيلة الملوك بل فضيلة الناس كافة لو يعلمون ... لقد كنت أمير ولاية صغيرة ثم خلقت ملكا من ملوك مصر، وما سما بي من الإمارة إلى العرش إلا القوة، وكان الطامعون والمتمردون والحاقدون لا يفتئون يتربصون بي الدوائر، ويتحفزون للقضاء علي، فما أشل ألسنتهم وقطع أيديهم وأذهب ريحهم إلا القوة. وهم النوبيون مرة بشق عصا الطاعة، وزين لهم الجهل التمرد والعصيان، فهل كسر شوكتهم وألزمهم الطاعة إلا القوة؟ بل ما الذي رفعني إلى مرتبة القداسة فجعل كلمتي قانونا نافذا ورأيي حكمة إلهية وطاعتي عبادة؟ أليست هي القوة؟

هنا بادر الفنان ميرابو يقول كأنه يكمل حديث الملك: والألوهية يا مولاي؟

فهز فرعون رأسه استهانة وسأله: وما الألوهية يا ميرابو؟ إن هي إلا قوة.

فقال المعمار بثقة وطمأنينة: ورحمة ومحبة يا مولاي.

فقال الملك وهو يشير بسبابته إلى الفنان: هكذا أنتم أيها الفنانون! تروضون الصخور العاتيات، وقلوبكم أندى من نسيم الصباح. وما أحب أن أجادلك، ولكني ألقي عليك سؤالا ستجد في الجواب عليه فصل الخطاب: إنك يا ميرابو تخالط - منذ عشرة أعوام - جيوش هؤلاء العمال الأشداء، وإنك لذلك حقيق بأن تطلع على خبايا ضلوعهم، وما تختلج به نفوسهم في السر والنجوى ... فما الذي تظن أنه يلزمهم طاعتي ويصبرهم على أهوال العمل؟ قل الحق صراحة يا ميرابو ...

فصمت المعمار ساعة يعمل فكره، ويدعو الذكريات. وقد اتجهت إليه الأنظار في اهتمام شديد، ثم قال بتؤدة بلهجته الطبيعية المفعمة حماسة ويقينا: العمال يا مولاي طائفتان؛ طائفة الأسرى والمستوطنين، وهؤلاء لا يدرون ماذا يفعلون، ويروحون ويغدون بلا شعور سام كما يدور الثور حول الساقية، ولولا قسوة العصا ويقظة الجند ما وقفنا لهم على أثر.

أما طائفة المصريين، وغالبيتهم من مصر العليا، فهم أناس ذوو عزة وكبرياء وجلد وإيمان، تحملهم للعذاب عجيب، وصبرهم على الشدائد صارم، وهم يعلمون ماذا يفعلون، وتؤمن قلوبهم بأن العمل الشاق الذي يهبونه حياتهم واجب ديني جليل وزلفى للرب المعبود، وطاعة لعنوان مجدهم الجالس على العرش؛ فمنحتهم عبادة، وعذابهم لذة، وتضحياتهم الجبارة فرض لإرادة الإنسان السامي على الزمان الخالد. تراهم يا مولاي في وهج الظهيرة وتحت نيران الشمس المحرقة يضربون الصخر بسواعد كالصواعق وعزائم كالأقدار، وهم ينشدون الأغاني ويترنمون بالأشعار.

فانبسطت أسارير السامعين وسرت في دمائهم نشوة الفرح والفخار، وتبدى الرضا على قسمات فرعون البارزة القوية، وقام عن أريكته - وقد بعث قيامه الجالسين قياما - وسار في الشرفة الواسعة على مهل واتزان حتى بلغ حافتها الجنوبية، وألقى النظر بعيدا إلى تلك الهضبة الخالدة التي ترسم على رقعتها المقدسة خطوط العمال الطويلة، وتأمل منظرها الجليل ومشهدهم الرائع. أي مجد وأي جلال! أي عذاب وأي جهاد في سبيله هو! هل ينبغي أن تشقى ملايين النفوس الشريفة من أجل مجده! هل ينبغي أن يولي ذاك الشعب النبيل وجهه قبلة واحدة هي سعادته هو؟

كان ذلك الوسواس هو القلق الوحيد الذي يضطرب أحيانا في ذلك الصدر المليء بالقوة والإيمان، مثله كمثل قطعة من السحاب التائه في سماء زرقاء صافية الزرقة، وكان يعذبه - إذا اضطرب - فيضيق به صدره وينغص عليه صفوه وسعادته، وقد اشتد به العذاب فولى الهضبة ظهره، وطالع صحابته بوجه غاضب دهشوا له، وطرح عليهم هذا السؤال: من الذي ينبغي أن تبذل حياته لصاحبه؟ الشعب لفرعون أم فرعون للشعب؟!

فوجموا جميعا واستولى عليهم الارتباك، وكان القائد أربو أربطهم جأشا، فقال بصوته القوي النبرات: إننا جميعا - شعبا وقادة وكهنة - فداء لفرعون!

وقال الأمير حرسادف أحد أبناء الملك بحماس شديد: والأمراء أيضا.

فابتسم الملك في غموض، ولبث القلق واضحا على وجهه الجليل، فقال وزيره خوميني: مولاي صاحب الجلالة الربانية! لماذا تفرقون بين ذاتكم العالية وبين شعب مصر، وأنتم منه كالرأس من القلب، والروح من الجسد؟ إنكم يا مولاي عنوان مجده، وآي فخاره، وحصن عزته، ووحي قوته، ولئن وهبكم حياته فإنما يهبها لمجده وعزته وسعادته، وما في هذه المحبة ذل أو عبودية، إن هي إلا وفاء جميل وحب عتيد ووطنية سامية.

فابتسم الملك ارتياحا، وعاد بخطى واسعة إلى الأريكة الذهبية، وجلس فجلس القوم، ولم يكن الأمير رعخعوف ولي العهد بمرتاح إلى وساوس والده فقال له: لماذا تكدرون صفوكم يا مولاي بأمثال هذه الوساوس؟ لقد وليت الحكم بمشيئة الآلهة لا بإرادة إنسان، ولك أن تحكم الناس كيف تشاء لا تسأل عما تفعل وهم يسألون!

فقال خوفو: أيها الأمير، إن أباك إذا تفاخرت الملوك يقول: «أنا فرعون مصر.»

ثم تنهد بصوت مسموع، وقال وكأنه يحدث نفسه: إن كلام رعخعوف حري بأن يوجه إلى حاكم ضعيف، لا إلى خوفو الجبار ... خوفو فرعون مصر ... وما مصر إلا عمل عظيم لا تقام لبناته إلا على تضحيات الأفراد، وما قيمة حياة الفرد؟ إنها لا تساوي دمعة جافة لمن ينظر إلى المستقبل البعيد والعمل المجيد ... لهذا أقسو دون تردد، وأضرب بيد من حديد، وأسوق مئات الألوف إلى الشدائد لا لبلادة طبع أو تحكم أثرة، وكأن عيني تنفذان خلل سجف الأفق فتطلعان على مجد هذا الوطن المنتظر. لقد اتهمتني الملكة مرة بالقسوة والظلم، كلا، ما خوفو إلا حكيم بعيد النظر، يرتدي جلد نمر مفترس، ويخفق في صدره قلب ملاك كريم.

وساد صمت طويل. وكان الصحابة يمنون أنفسهم بسمر طريف ينسيهم أثقال تبعاتهم الجسام، وكانوا جميعا يرجون أن يقترح الملك عليهم رياضة جميلة أو يدعوهم إلى مجلس شراب وغناء، بعد أن شبعوا من أحاديث الأعمال والمهام، ولكن الملك كان في تلك الأيام يشكو من ملل أوقات الفراغ على قصرها وندرتها، فلما علم أنه قد آن له أن يستريح، وأن يلهو ران على قلبه السأم، ونظر إلى صحبه في حيرة، وقد قال له خوميني: هل أملأ لمولاي كأسا من الشراب؟

فهز فرعون رأسه وقال: شربت اليوم وشربت بالأمس ...

فقال أربو: هل ندعو العازفات يا مولاي؟

فقال بملل: إني أستمع إلى موسيقاهن صباح مساء.

فقال ميرابو: ما رأي مولاي في الخروج إلى الصيد؟

فقال الملك بنفس اللهجة: شبعت من صيد البر والبحر. - إذن فهل من سير بين الأشجار والأزهار؟

فقال: وهل في الوادي مشهد جميل لم أره؟

وساءت شكوى الملك خلصاءه وتكدرت نفوسهم، إلا الأمير هورداديف فإنه كان يدخر لوالده مفاجأة سارة لا عهد له بها، فقال: أبي الملك، إني أستطيع أن أقدم بين يديك لو تشاء ساحرا عجيبا يعلم الغيب، ويميت ويحيي، ويقول للشيء كن، فيكون.

فصمت فرعون ولم يسارع هذه المرة إلى الرفض والتململ، ونظر إلى ابنه باهتمام. وكان الملك يسمع كثيرا عن أخبار السحرة ومعجزاتهم، ويتسلى بما يروى عن نوادرهم، فسره أن يوعد برؤية واحد منهم محضرا بين يديه، وسأل ابنه: ومن هو هذا الساحر أيها الأمير هورداديف؟

فقال الأمير : هو الساحر ديدي يا مولاي، وقد بلغ من العمر مائة عام وعشرة، ولا يزال محتفظا بقوة الشباب وفتوة الصبا، وله قدرة عجيبة يتسلط بها على الإنسان والحيوان، وبصيرة نافذة تهتك حجب الغيب.

فازداد اهتمام الملك وسرى عنه الضيق والملل وقال: هل تستطيع أن تأتي به الآن؟

فقال الأمير بفرح: أمهلني دقائق يا مولاي.

ثم قام واقفا وحيا والده بانحناءة طويلة، وذهب ليحضر الساحر العجيب ...

2

وبعد حين قليل رجع الأمير هورداديف يسير بين يدي رجل طويل القامة عريض المنكبين، حاد البصر نافذ النظرات، يكلل رأسه شعر أبيض هش، وتغطي صدره لحية كثة، وقد تلفح بعباءة فضفاضة وتوكأ على عصا طويلة غليظة، وانحنى الأمير وقال: مولاي! أقدم بين يديك عبدك القانت الساحر ديدي.

فسجد الساحر بين يدي الملك، وقبل الأرض بين قدميه، ثم قال بصوت ذي نبرات مؤثرة خفقت لوقعه القلوب: مولاي ابن خنوم، نور الشمس المشرقة ورب العالمين، دام له المجد وحلت به السعادة!

فرعاه الملك بالعطف، وأجلسه على كرسي قريب منه، وقال له: كيف لم أرك من قبل، وقد سبقتني إلى نور هذه الدنيا بسبعين عاما؟

فأجابه الساحر المعمر بامتنان قائلا: وهبك الرب الحياة والصحة والقوة، إن مثلي لا يحظى بالمثول بين يديك إلا إذا دعوته.

فابتسم الملك، ثم نظر إليه باهتمام وسأله: أحقا أن لك معجزات يا ديدي؟ أحقا أنك تستطيع أن تذعن لإرادتك الإنسان والحيوان، وأن تجلو عن وجه الزمان غشاوة الغيب؟

فأحنى الرجل رأسه حتى انثنت لحيته على صدره، وقال: هذا حق وصدق يا مولاي.

فقال الملك: أريد أن أشهد بعض هذه المعجزات يا ديدي.

وجاءت الساعة الرهيبة، فاتسعت العيون وبدا الاهتمام على الوجوه، ولم يبادر ديدي إلى عمله، ولكنه جمد مليا كأنما تحول إلى تمثال، ثم ابتسم عن أنياب حادة وألقى نظرة سريعة على الوجوه.

وقال للملك: عن يميني يخفق قلب لا يؤمن بي.

فدهش الصحابة وتبادلوا نظرات الحيرة، وسر الملك لفراسة الساحر وسأل رجاله قائلا: هل بينكم من ينكر على ديدي معجزاته؟

وهز القائد أربو منكبيه استهانة، وتقدم بين يدي الملك وقال: مولاي، إني لا أومن بألاعيب السحر، وأرى أنها نوع من المهارة يحذقه المتفرغون له.

فقال الملك: وما جدوى الكلام وأمامنا الرجل؟ هاتوا له أسدا مفترسا نطلقه عليه، ولنر كيف يروضه بسحره ويذعنه لإرادته.

ولكن القائد لم يقنع وقال لمولاه: عفوا يا مولاي لا شأن لي بالأسود، وها أنا ذا واقف بين يديه فليجرب في سحره وفنه، وله إن شاء - وشاء أن يجعلني أومن به - أن يخضعني لإرادته ويتسلط على قوتي ...

وساد صمت ثقيل، واعتلى الوجوم وجوها، وتبدت الغبطة وحب الاستطلاع على وجوه أخرى. ونظر كلا الفريقين إلى الساحر؛ ليروا ما فعل به تحدي القائد العنيد، فألفوه هادئا ساكنا لا تفارق ابتسامة الثقة شفتيه الرقيقتين الحادتين. وضحك الملك ضحكة عالية وقال لأربو بلهجة لم تخل من السخرية: أهانت عليك نفسك يا أربو؟

فقال القائد بثبات عجيب: إن نفسي يا مولاي عزيزة علي عزة عقلي الذي يهزأ بألاعيب السحر.

وتجلى الغضب على وجه الأمير هورداديف، فوجه كلامه للقائد قائلا بلهجة حادة: فليكن ما تريد. وليتفضل مولاي الملك ويأذن لديدي بالرد على هذا التحدي.

ونظر الملك لابنه الغاضب، ثم إلى الساحر وقال: هيا أرنا كيف يقاوم سحرك جبروت صديقنا أربو.

ولحظ القائد أربو الساحر بعين متعالية، وأراد أن يولي عنه وجهه باحتقار، ولكنه أحس بقوة تجذبه من عينيه إلى الرجل، ولفحه الغضب وشد بقوة على رقبته، وحاول أن ينتزع عينيه من القوة الهائلة التي تجذبهما فآب بالخيبة والعجز، وثبتت عيناه على عيني ديدي الجاحظتين البراقتين اللتين كانتا تلتمعان وتلتهبان كبلورتين تعكسان أشعة الشمس. فكسف نورهما عيني أربو فأظلمتا وغاب عنهما نور الدنيا، وخارت قوى الرجل الجبار فألقى السلم والإذعان.

ولما اطمأن ديدي إلى فعل قوته الخارقة، قام واقفا وأشار إلى مقعده وصاح بالقائد بلهجة آمرة شديدة: «اجلس» ... وصدع القائد بالأمر في خنوع فسار يترنح كالثمل، وارتمى على الكرسي في استسلام المشفي على الهلاك. فصدرت من أفواه الناظرين آهة دهشة، وابتسم الأمير هورداديف ابتسامة ارتياح وتشف، أما ديدي فقد نظر إلى فرعون باحترام وقال بأدب جم: مولاي أستطيع أن آمره بما أشاء ولن يخالف لي أمرا، ولكنني أشفق من أن أمثل بقائد من قواد الوطن العظام وحواري من حواري فرعون، فهل يقنع مولاي بما رأى؟

وهز فرعون رأسه دلالة الموافقة.

فبادر الساحر إلى القائد المذهول وجرى على جبهته بأصابعه الخفيفة، وقرأ بصوت خافت تعويذة غريبة، فأخذ الرجل يفيق رويدا رويدا، ومضت الحياة تدب في حواسه حتى استعاد وعيه، ولبث زمنا كالحائر ينظر فيما حوله، وكأنه لا يدرك مما يرى شيئا، ثم استقرت عيناه على وجه ديدي فتذكر والتهب جبينه وخداه بالاحمرار، وتحاشى النظر إلى الرجل الرهيب، وقام إلى مقعده يرسم على أرض الشرفة خطى الارتباك والقهر المتعثرة.

وابتسم الملك إليه وقال برقة: ما صاحبك بكاذب!

فأحنى القائد رأسه وقال بصوت خافت: جلت قدرة الآلهة، وتعالت معجزاتها في السموات والأرض!

ثم قال الملك للساحر: أحسنت أيها الرجل القادر، ولكن هل لك على الغيب سلطان كالذي لك على الخلق؟

فقال الرجل بثقة واطمئنان: نعم يا مولاي.

وفكر الملك مليا، وساءل نفسه عما عسى يطرح عليه من الأسئلة، وأضاء وجهه بنور الهدى فقال للساحر: تستطيع أن تقول لي حتام يجلس على عرش مصر ملوك من ذريتي؟

وبدا على الرجل القلق والتهيب، ففطن فرعون إلى ما يختلج في صدره فقال: إني أطلق لك حرية القول، وآمنك من عاقبة ما تقول.

فألقى الرجل بنظرة عميقة على وجه مولاه، ثم صعد رأسه إلى السماء واستغرق في صلاة حارة ولبث ساعة لا يتحرك ولا يتكلم، فلما أن عاد بوجهه إلى الملك وصحابته، كان شاحب اللون ممتقع الشفتين حائر النظرة، فجفلت قلوب القوم وأحسوا بدنو شر مستطير، ونفد صبر الأمير رعخعوف فقال له: ما لك لا تتكلم وقد أمنك فرعون؟

فكتم الرجل أنفاسه اللاهثة وقال للملك: مولاي، لن يجلس على عرش مصر من بعدك أحد من ذريتك!

وأحدث قوله في النفوس اضطرابا كأنه هبة ريح مباغتة أصابت دوحا ساكنا، فحدجوه بنظرات قاسية كأنها عيون حمئة يتطاير منها الشهب، وقطب فرعون جبينه واربد وجهه فحاكى وجه أسد ضار أجنه الغضب، واصفر وجه الأمير رعخعوف وأطبق شفتيه القاسيتين، فأنذرت هيئته بالويل والهلاك.

وكأن الساحر أراد أن يخفف من وقع نبوءته فقال: سوف تحكم يا مولاي آمنا مطمئنا حتى نهاية عمرك الطويل السعيد.

فهز فرعون كتفيه استهانة وقال بصوت رهيب: إن من يعمل لنفسه فكأنما يعمل للفناء، فدع عنك تعزيتي وخبرني: هل تعرف من تدخره الآلهة ليخلفها على عرش مصر؟

فقال الساحر: نعم يا مولاي، هو طفل حديث العهد بالوجود، لم ير نور الدنيا إلا صباح اليوم. - فمن أبواه؟ - أما أبوه فهو من رع الكاهن الأكبر لرع معبود أون، وأما أمه فالسيدة الشابة رده ديديت التي تزوجها الكاهن على كبر لتلد له هذا الطفل الذي كتب في سجل الأقدار من الحاكمين.

فقام فرعون هائجا كالأسد المتوثب، وقام لقيامه القاعدون، ودنا من الساحر خطوتين فزاغ بصر الرجل وكتمت أنفاسه، وقال له: أواثق أنت مما تقول يا ديدي؟

فرد الساحر قائلا بصوت مبحوح: لقد كاشفتك يا مولاي بما طالعتني به صفحة الغيب!

فقال له الملك: لا تخف ولا تحزن؛ فلقد بلغت رسالتك، وستنال ما تستحق من الجزاء الحسن.

ونودي على حاجب من حجاب القصر، وأمر أن يكرم الساحر ديدي ويعطيه خمسين قطعة من الذهب، فاصطحبه الرجل ومضيا معا ...

وكان الأمير رعخعوف في حالة من البلاء شديدة، وقد طفحت عيناه بقسوة قلبه، وبدا وجهه الحديدي كرسول للموت، وأما فرعون فلم تتبدد غضبته انفعالات وزئيرا، ولكنها كتمت وصبت في دفين إرادته فتحولت إلى وثبة عزيمة تدك الجبال دكا وتحرك الأهوال، وقد تحول إلى وزيره خوميني وسأله بصوت عظيم: ما رأيك أيها الحكيم خوميني، هل يغني الحذر عن القدر؟

فرفع خوميني حاجبيه في تأمل، ولكن شفتيه المنطبقتين لم تنفرجا حيرة وحزنا، فقال الملك معاتبا: أرى أنك تخشى في قولة الحق، وتهم بإنكار الحكمة لترضيني، كلا يا خوميني، إن مولاك أجل من أن يضيق بقول الحق ...

وما كان خوميني جبانا ولا مداهنا، ولكنه كان مخلصا للملك وولي عهده ويشفق من إيلامهما، فلما لم ير بدا من القول قال بصوت خافت: مولاي! لقد اتفقت كلمة الحكمة المصرية التي لقنتها الأرباب للسلف وأذاعها قاقمنا على الخلف، بأن الحذر لا يغني عن القدر.

فنظر خوفو إلى ولي عهده وسأله: وأنت أيها الأمير ما رأيك في القدر؟

فنظر الأمير إلى والده بعينين متقدتين كأسد في شرك، فابتسم فرعون وقال: أيها السادة، لو كان القدر كما تقولون، لسخف معنى الخلق، واندثرت حكمة الحياة، وهانت كرامة الإنسان، وساوى الاجتهاد الاقتداء، والعمل الكسل، واليقظة النوم، والقوة الضعف، والثورة الخنوع. كلا أيها السادة، إن القدر اعتقاد فاسد لا يخلق بالأقوياء التسليم به ...

فاشتعل الحماس بقلب القائد أربو وصاح: تعالت حكمتك يا مولاي ...

فابتسم فرعون وقال باطمئنان: أمامنا طفل رضيع على بعد منا يسير، فيا أيها القائد أربو أعد حملة من العربات الحربية سأقودها إلى أون، لأشهد بنفسي مخلوق الأقدار الصغير.

فقال خوميني دهشا: هل يذهب فرعون بذاته؟

فضحك الملك وقال: إذا لم أذهب للدفاع عن عرشي فمتى يحق لي الذهاب؟ ... هيا أيها السادة ... إني أدعوكم إلى ركابي لتشهدوا معركة هائلة بين خوفو والأقدار ...

3

وخرجت الحملة الفرعونية في مائة عربة حربية، عليها مائتا فارس من فرسان الحرس الفرعوني الأشداء، يتقدم صفوفهم الملك وسط هالة من الأمراء والصحابة، وإلى يمينه الأمير رعخعوف وإلى يساره القائد أربو.

وقد انطلقت تعدو شمالا شرقي فرع النيل الأيمن صوب مدينة أون، تنهب الأرض نهبا، وتزلزل الوادي زلزالا، وتبعث من صلصلة عجلاتها ما يشبه الرعد، وتثير من خلفها جبالا من الغبار تحجب عن عيني منف الجميلة العربات المنطلقة، والجياد المطهمة، والراكبين الجبابرة الذين ينتصبون كالتماثيل متقلدين سيوفهم، مدججين بقسيهم ونبالهم، مدرعين بتروسهم، يذكرون نائم الأرض بجنود مينا الذين أثاروا غبارها منذ مئتين من السنين، حاملين إلى الشمال نصرا مبينا ووحدة عزيزة وتاريخا مجيدا.

ساروا بقضهم وقضيضهم، يقودهم الجبار الذي تخشع القلوب لذكر اسمه وتنكس الأبصار، لا لغزو بلد ولا لقتال جيش، ولكن لحصار طفل رضيع ما يزال طاهرا قماطه ، وتجفل عيناه من رؤية نور الدنيا، وقد غدا بكلمة ساحر يهدد أكبر عروش الدنيا ويزلزل أشد قلوب الخليقة ...

وكانوا يقطعون أرض الوادي بسرعة جبارة، ويمرون بالقرى والدساكر، مر السهم الخاطف، ويرسلون بأبصارهم إلى الأفق الرهيب المنطبق على الطفل الرضيع الذي اصطنعته الأقدار لتمثيل دور خطير ...

وتبدى لهم في الأفق البعيد غبار ثائر لم تستطع أعينهم رؤية ما يظله من الخلائق، ومضت المسافة بينه وبينهم تقصر رويدا رويدا؛ فاستطاعوا أن يروا شرذمة من الفرسان تعدو في اتجاههم، فلم يشكوا في أنها فرقة من مقاطعة رع.

وازدادوا منهم قربا، فوضح لأعينهم أنهم فوارس يعدون خلف واحد منهم، إما أنه يتقدمهم وإما أنهم يطاردونه. فلما أن دنا من هدفهم صحصح لهم ما كانوا منه في شك مريب، فإذا بالمتقدم امرأة على ظهر جواد عار، وقد انحلت ضفائرها وبعثرت وطارت خلفها مع الهواء، كأنها أعلام في رأس شراع، وقد أنهكها التعب فخارت قواها، ولحق بها العادون خلفها وأحاطوا بها من كل جانب ...

وتصادف حدوث ذلك مع وصول فرعون وجنوده، وكان الركب الفرعوني قد اضطر إلى تهدئة عدوه تفاديا للصدام، ولم يحفل فرعون ولا أحد من رجاله بالمطاردين والمطاردة، وظنوا أنهم شرطة يؤدون واجبا من واجباتهم، وكادوا يمرون بهم مر الكرام لولا أن صاحت بهم المرأة قائلة: الغوث أيها الجنود ... الغوث! إن هؤلاء يقطعون علي الطريق إلى فرعون ...

هنا توقف فرعون فتوقفت العربات من ورائه، ونظر إلى الرجال المحيطين بالمرأة وصاح بهم بصوته الآمر: دعوا هذه المرأة.

ولكنهم لم يصدعوا بالأمر الذي جهلوا آمره، وتقدم فارس منهم برتبة ضابط إليه وقال بخشونة: نحن قوة من حرس أون جئنا ننفذ أمر كاهنها الأعظم، فمن أي مدينة أنتم، وماذا تريدون؟

وتبدى الغضب على الوجوه لحماقة الضابط، وهم أربو بانتهاره وتحذيره، ولكن فرعون أشار إليه إشارة خفية فسكت وهو كظيم، وصرف ذكر كاهن رع فرعون عن الغضب إلى التفكير والتأمل، وأراد أن يستدرج الضابط إلى الكلام فسأله قائلا: ولماذا تطاردون هذه المرأة؟

فقال الضابط بصلف: أنا لا أؤدي حسابا عن مهمتي إلا أمام رئيسي.

فصاح فرعون غاضبا بصوت كالرعد: أطلقوا سراح هذه المرأة.

وذعر الجنود وأيقنوا أنهم أمام رئيس خطير، فتركوا التي هرولت إلى عربة الملك وارتمت تحتها في خوف ووجل وهي تصيح: الغوث ... يا سيدي الغوث ...

وترجل القائد أربو عن عربته، وتقدم من ضابط القوة، فلما رأى هذا علامة النسر والشارة الفرعونية على كتفه تولاه الرعب، ووقف وقفة نظامية وسل سيفه وأدى عليه التحية العسكرية، وصاح بجنده: حيوا قائد الحرس الفرعوني.

فسل الجنود سيوفهم ووقفوا كالتماثيل.

ولما سمعت المرأة قول الضابط علمت أنها أمام رئيس حرس فرعون، فقامت إليه وقالت له بتوسل: سيدي ... أأنت حقا رئيس حرس مولانا الملك؟ بحق الأرباب إلا قدتني إليه، لقد فررت يا سيدي مولية وجهي نحو القصر الفرعوني ... إلى أعتاب فرعون التي لا يعجز عطفه شفتي أي مصري أو مصرية لثمها. فسألها أربو: ألك حاجة يا سيدتي تريدين قضاءها؟

فقالت المرأة وهي تلهث: نعم يا سيدي، في صدري سر خطير أريد أن أبوح به لذاته المعبودة.

فأرهف فرعون السمع، وسألها أربو: وما هذا السر الخطير يا سيدتي؟

فقالت بتوسل: سأبوح به إلى ذاته المقدسة. - إني خادمه المخلص الأمين على سره.

فترددت المرأة وقلق بصرها بين الحاضرين، وكانت شاحبة اللون زائغة العينين مضطربة الصدر، فرأى القائد أن يستدرجها بالتي هي أحسن فسألها: ما اسمك؟ وأين تقيمين؟ - أدعى سرجا يا سيدي، وكنت إلى صباح اليوم خادمة في قصر كاهن رع الأكبر. - ولماذا كانوا يطاردونك؟ هل وجه مولاك لك إحدى التهم؟ - إني امرأة شريفة يا سيدي، ولكن كان سيدي يسيء معاملتي ... - وهل هربت فرارا من معاملته لك؟ هل تلتمسين رفع شكواك إلى فرعون؟ - كلا يا سيدي، إن الأمر لأعظم خطورة مما تظن، لقد وقفت على سر خطير فيه ما ينذر مولاي الملك بالخطر، فهربت لأحذر ذاته المعبودة كما يقضي الواجب علي، فأرسل سيدي هؤلاء الجنود ورائي ليقبضوا علي ويحولوا بيني وبين واجبي المقدس.

فارتعدت فرائص الضابط وقال بسرعة يدفع عن نفسه التهمة: لقد أمرنا صاحب القداسة بالقبض على امرأة فارة على ظهر جواد في طريق منف، فصدعنا بما أمرنا دون أن نعلم من أمره ولا أمرها شيئا.

فقال أربو لسرجا: إنك تكادين أن تتهمي كاهن رع بالخيانة!

فقالت المرأة: دعني يا سيدي أصل إلى أعتاب فرعون كي أبوح له بما يضيق عنه صدري.

ونفد صبر فرعون وأشفق من ضياع الوقت الثمين، فقال للمرأة فورا: هل رزق الكاهن بطفل هذا الصباح؟

فتحولت إليه المرأة مدهوشة ذاهلة وتمتمت: ومن أدراكم بهذا يا سيدي، وقد تكتموا الخبر؟ حقا إن هذا عجيب!

وبدا الاهتمام على حاشية الملك، وتبادلوا النظر في صمت، أما الملك فسألها بصوته المهيب: هل هذا هو السر الذي تريدين إبلاغه لفرعون؟

فهزت رأسها قائلة ولم يفارقها ذهولها: نعم يا سيدي، ولكن ليس هذا جميع ما أريد قوله.

فقال لها فرعون بحدة وبلهجة آمرة شديدة الوقع لا تبقي على التردد: فما الذي ينبغي أن يقال؟ تكلمي.

فاندفعت المرأة إلى الكلام بخوف قائلة: لقد أحست مولاتي السيدة رده ديديت بدبيب آلام الوضع منذ الفجر، وكنت ضمن الوصيفات اللائي أحطن بفراشها يخففن عنها العذاب بالحديث تارة وبالعقاقير أخرى، وقبيل الوضع بزمن يسير دخل علينا الكاهن الأكبر، وبارك سيدتي وصلى للرب رع صلاة حارة، وكأنه أراد أن يشرح صدر سيدتي المعذب ويخفف عنها ويلات الساعة، فبشرها بأنها ستلد طفلا ذكرا، وأنه سوف يرث عرش مصر المكين، ويحكم وادي النيل خليفة للإله رع أتوم.

وقال لها وهو لا يملك نفسه من الفرح حتى لكأنه نسي وجودي، أنا التي لا تحظى مثلي غيرها بثقته: إن تمثال الرب المقدس زف إليه هذه البشرى بصوته الرباني. ولما وقع بصر سيدي علي انقبض صدره، وارتسم القلق على وجهه، ولكي يأمن شر الوساوس قبض علي وحبسني في مخزن الحبوب، ولكني تمكنت من الفرار، وامتطيت جوادا وانطلقت به في الطريق إلى منف لأبلغ الملك ما سمعت. والظاهر أن سيدي أحس بفراري، فأرسل في طلبي هؤلاء الجنود الذين لولاكم لقادوني إلى حتفي.

وكان الملك وصحابته يستمعون إلى قصة سرجا بانتباه وإمعان ودهشة، فتحققت لديهم نبوءة الساحر ديدي العجيبة، وكان الأمير رعخعوف شديد الجزع فقال لفرعون: لن يذهب تحذيرنا سدى!

فقال فرعون: نعم يا بني ... ولكن ينبغي ألا نضيع الوقت.

والتفت إلى المرأة وقال لها: سوف يجزيك فرعون عن إخلاصك خير الجزاء، وما عليك الآن إلا أن تقولي لنا عن الوجهة التي تولينها؟

فقالت سرجا: أرجو يا سيدي أن أذهب آمنة إلى قرية قونا حيث يقيم والداي.

فقال فرعون للضابط: أنت مسئول عن حياة هذه المرأة حتى تبلغ دارها.

فأحنى الضابط هامته طاعة، وأشار فرعون إلى القائد أربو فصعد إلى عربته، ثم أمر الملك قائد عربته بالسير فانطلقت كالقضاء ومن ورائها العربات إلى أون، التي بدا للعين سورها المحيط ورءوس أعمدة معبدها الكبير: معبد رع أتوم.

4

كان كاهن رع في تلك الأثناء يجثو إلى جانب سرير زوجه ويصلي صلاة حارة، ويقول: رع، أيها الرب الخالق الموجود منذ الأزل، والوجود بعد ماء جار في فضاء محيط يجثم عليه ظلام ثقيل، فخلقت أيها الرب بقدرتك كونا جليلا جميلا، شملته بنظام فاتن يسري حكمه الواحد على الأفلاك الدائرة في السموات، وعلى ذرات الثرى المنتثرة على وجه البسيطة، وجعلت من الماء كل شيء حي؛ فالطير يحلق في السماء، والسمك يسبح في الماء، والإنسان يضرب في الأرض، والنخل ينبت في جوف الصحراء القاحلة، وبثثت في الظلمات نورا بهيا يتجلى فيه وجهك ذو الجلال والإكرام، يبعث الدفء وينشر الحياة. أيها الرب الخالق أبث إليك همي وحزني، وأضرع إليك أن تكشف عني الضر والبلوى، أنا عبدك المؤمن وخادمك الأمين، اللهم إني ضعيف فهبني من لدنك قوة، اللهم إني خائف فأنزل علي الطمأنينة والسلام، اللهم إني مهدد بشر عظيم فاشملني برعايتك ورحمتك. اللهم إنك وهبتني على الكبر طفلا باركته وكتبت له في سجل الأقدار ملكا وحكما، فادفع عنه السوء وقه شر العدا.

نطق من رع بهذا الدعاء بصوت متهدج، وقد سحت عيناه دمعا ساخنا انحدر على خديه الناحلين وبلل لحيته البيضاء، ثم رفع رأسه الكبير ونظر بعطف إلى وجه زوجه النفساء الشاحب اللون، ثم نظر إلى الطفل الصغير وكان ساكنا هادئا يرفع جفنيه عن عينين صغيرتين سوداوين، ويسبلهما جفولا من نور ذاك العالم الغريب.

ولما أحست زوجه رده ديديت بفراغه من الصلاة قالت له بصوت ضعيف خافت: أما من خبر عن سرجا؟

فتنهد الرجل وقال: سيلحق بها الجنود بأمر الرب.

فقالت بقلق: أواه يا مولاي! أتعلق خيط حياة طفلنا باحتمال قد يصيب وقد يخيب؟ - كيف تقولين هذا يا رده ديديت؟ إني لم أنفك - مذ هربت سرجا - أفكر في وسيلة تقيكما السوء، وقد هداني الرب إلى حيلة، ولكني أخشى عليك وأنت نفساء لا تحتملين الشدة.

فمدت إليه يدا ضارعة، وقالت بتوسل: افعل يا زوجي ما فيه نجاة طفلنا، ولا يهولنك ضعفي فإني أستمد من أمومتي قوة دونها قوة الأصحاء ...

فقال الكاهن المتألم: اعلمي يا رده ديديت أني أعددت عربة وملأتها بالحنطة، وجعلت لك في ركن منها مكانا ترقدين فيه مع الطفل، وجهزت صوانا من الخشب ونزعت قعره، فإذا وضع عليكما أخفاكما عن الأنظار، وستسير بها وصيفتك الأمينة كاتا إلى عمك في قرية سنكا ... - ناد الخادمة زايا لأن كاتا نفساء كسيدتها، وقد ولدت طفلا ضحى اليوم ...

فدهش الرجل وقال: أولدت كاتا؟ وعلى كل حال فزايا لا تقل إخلاصا عن كاتا ... - وأنت يا زوجي؟! هب أن الحظ عثر وباء، وأن سر طفلنا بلغ فرعون فأرسل إليك بجنده، فبم تجيبهم لو سألوك عن الطفل وأمه؟

ولم يكن الكاهن قد أعد العدة لنفسه فيما لو وقع المحذور، ولكنه لم يقم لذلك وزنا لأن همه كان محصورا في إنقاذ الطفل وأمه؛ ولذلك كذب على زوجه قائلا: اطمئني يا رده ديديت فلن تفلت سرجا من رسلي، وما تهريبي لك خفية إلا حذرا وحيطة، ومهما يكن من أمر فلن تباغتني الطوارئ ولسوف تصلك أخباري عما قريب.

وخشي أن تزداد مخاوفها فأراد أن يصرفها عن التفكير، فقام واقفا ونادى بصوته الجهوري على زايا، فأتت الخادمة سريعا، وانحنت له في احترام، فقال لها: سأعهد لك بسيدتك والطفل المولود لتسيري بهما إلى قرية سنكا ... وعليك بالحذر فأنت تعلمين بالخطر الذي يتهددهما.

فقالت الخادمة بإخلاص: إني فداء لمولاتي وطفلها المبارك.

وطلب منها الكاهن أن تعينه على حمل سيدتها إلى مخزن الحبوب، ودهشت الخادمة لذاك الطلب، ولكنها صدعت بما أمرت، ووضع الرجل زوجه على اللحاف الوثير، ووضع يده تحت منكبيها ورأسها، ورفعتها زايا من تحت ظهرها وفخذيها، وسارا بها إلى البهو الخارجي، وهبطا الدرج إلى الفناء ودخلا إلى المخزن وأرقداها في المكان الذي أعده لها الرجل في العربة، ثم صعد الكاهن وأتى بطفله وكان يعول ويصرخ، فقبله قبلة حارة ووضعه في حضن أمه، وأطل عليهما هنيهة من جدار العربة، ورأى رده ديديت تنتحب وتضطرب فقال لها وقلبه يتقطع: ثبتي قلبك من أجل طفلنا العزيز ولا تدعي للخوف إلى نفسك سبيلا.

فقالت المرأة وهي تبكي: إنك لم تسمه بعد ...

فقال وهو يبتسم: ادعيه باسم أبي الراقد إلى جوار أوزوريس ... ددف ... ددف رع ... ددف بن من رع، اللهم اجعل اسمه مباركا وادفع عنه كيد الكائدين.

وأتى الرجل بالصوان ووضعه على العزيزين، وأقعد زايا مقعد السائق ووضع زمام الثورين بين يديها، وقال لها: سيري على بركة الرب الحافظ.

وما إن تحركت العربة حركتها البطيئة حتى فاضت عيناه بالدمع الغزير، وجعل يرقبها خلال دموعه وهي تقطع أرض الفناء حتى غيبها الباب عن ناظريه، وهرول إلى السلم وصعده بقوة شاب، وذهب إلى النافذة التي تطل على الطريق وراقب العربة التي تحمل قلبه ووجدانه ...

وبغته باغت مخيف لم يكن يتوقع حدوثه بمثل السرعة التي حدث بها، فلما أن نفذ قضاؤه ملأه رعبا يعجز البيان والتعبير، فنسي حزن الفراق وجوى الوداع وحنين الأبوة، واحترق رعبا وخوفا حتى فقد الشعور والإدراك، فشبك كفيه وجعل يضرب بهما صدره وهو يقول بذهول: «أيها الرب رع. أيها الرب رع.» ويكررها بلا وعي وعيناه تنظران إلى كتيبة العربات الفرعونية التي ظهرت فجأة من منعرج طريق المعبد، وتقدمت إلى قصره، وهي تقوم بحركة حصار بديعة في سرعة ونظام دقيقين، حالا بين العربة وبين التقدم خطوة أخرى.

يا رب السماء، لقد جاءت جنود فرعون بأسرع مما دار له بخلد، ينبئ مجيئها عن توفيق سرجا في مهمتها وهربها من جنوده، وإلا ما استطاعت أن ترسل رسل الموت الزؤام بمثل هذه السرعة.

وجاء جند فرعون كالمردة الجبابرة تصهل جيادهم، وتصلصل عجلاتهم، وتتوهج خوذاتهم في شعاع الشمس المائل، ماذا جاءوا يفعلون؟ جاءوا ليقتلوا الطفل البريء والابن الحبيب الذي شرح الرب به صدره على الكبر واليأس.

وكان من رع ما يزال يضرب صدره بكفيه المشتبكتين ويهز رأسه هزات الذهول والبله، ويقول بلهجة الثكلى التي تندب ولدها: «أيها الرب ... إن جماعة منهم تحيط بالعربة، وواحدا منهم يطرح الأسئلة الصارمة على زايا البائسة، ترى عم يسألها! وبم تجيبه؟ وما عسى أن تكون عقبى هذا التحقيق؟ وإن حياة طفلي وزوجي لرهن بكلمة واحدة تنطق بها زايا. رباه! يا رع المعبود! ... ثبت قلبها وطمئن نفسها وأجر على لسانها كلمة الحياة لا الموت، وأنقذ طفلك الحبيب لتقضي قضاءك الذي قضيت به وبشرت.»

وجن جنونه من الجزع، وخيل إليه أن ساعات طويلة تمر ثقيلة متباطئة على هذا الجندي وهو لا يفتأ يسأل زايا ويسد عليها المنافذ. أواه لو يحرك واحد منهم الصوان أو يداخله شك فيما يشتمل عليه؟ بل أواه لو يعلو صوت الطفل بآهة أو صراخ. - صه يا بني ... اللهم ألهم أمه أن تضع ثديها في فمه ... صه يا بني ... إن آهة تخرج من فمك كفيلة بالقضاء عليك ... رباه إن قلبي يتفتت وروحي تصعد في السماء ...

وسكت الكاهن فجأة، واتسعت عيناه وصاح ولكن بفرح شديد هذه المرة: الحمد لرع ... إنهم يتقدمون والعربة تسير في طريقها آمنة من غير سوء ... باسم رع مسيرها وحطها ... الحمد لك أيها الرب الرحيم ...

5

تنفس الكاهن الصعداء وأحس - لفرحه - بحنين إلى البكاء، لولا أن تذكر ما ينتظره من الأهوال والشدائد، فلم ينعم بالطمأنينة إلا لحظات سريعة، ودلف إلى منضدة عليها إبريق من الفضة صب منه من الماء القراح ما روى به غلته.

وما لبثت أن صكت أذنيه جلجلة القوة التي صارت بفناء قصره، والتي جاءت خصيصى للقضاء على المولود الذي كان خطر الموت منه قاب قوسين أو أدنى.

وجاءه خادم يسعى مضطربا خائفا، وأخبره بأن قوة من حرس الملك تحتل القصر وترقب منافذه، وجاء آخر يبلغه أن رئيس القوة أرسله في طلبه سريعا، فتظاهر الكاهن بالثبات ورباطة الجأش، ووضع العباءة المقدسة على منكبيه والقلنسوة الكهنوتية على رأسه، ثم غادر حجرته في خطوات وئيدة تحف به المهابة والجلال الحقيقان بشخصية أون الدينية الكبرى. ولم يتهاون الكاهن في حق هيبته، فوقف على عتبة بهو الاستقبال ووجهه إلى الفناء، وألقى نظرة سطحية على جنود القوة الواقفين في أماكنهم لا يبدون حراكا كأنهم تماثيل منصوبة من العهد القديم، ثم رفع يده تحية وقال بصوته الرقيق الجليل دون أن يقر نظره على وجه بذاته: يا بني ... حللتم أهلا وسهلا، وليبارككم رع المعبود بارئ الكون وخالق الحياة.

فسمع صوتا مهيبا يرد عليه قائلا: الشكر لك يا كاهن رع المعبود.

فانتفض جسمه لدى سماعه كما ينتفض الحمل لزئير الأسد، وذهبت عيناه زائغتين تبحثان عن صاحب الصوت العظيم حتى استقرتا على قلب القوة، فتولاه العجب والرعب أن يأتي فرعون بذاته إلى بيته. ولم يتردد عن أداء واجبه، فهرع إلى سدته لا يلوي على شيء، فلما بلغ عربته سجد بين يديه، وقال بصوت متهدج: مولاي فرعون ابن الرب خنوم، نور الشمس المشرقة وواهب الحياة والقوة، إني يا مولاي أضرع إلى الرب أن يوحي إلى قلبك الكبير بالإغضاء عن سهوي وجهلي، كي أفوز بعفوك ورضاك.

فقال له الملك: إني أعفو عن هفوات الصادقين.

فخفق قلب الكاهن وقال: أما وقد تفضل مولاي بزيارة قصري الوضيع فليتفضل ويحل أشرفه.

فابتسم فرعون وترجل عن عربته، وتبعه الأمير رعخعوف وإخوته الأمراء وخوميني وأربو وميرابو، وسار الكاهن بظهره يتبعه الملك ويتبعه الأمراء، والصحبة حتى حلوا بهو الاستقبال، وجلس الملك في الصدر وحوله حاشيته، واستأذن من رع في الذهاب لإعداد ما يجب إكراما لهم، ولكن فرعون قال له: نحن نعفيك من واجب ضيافتنا لأننا جئنا في أمر خطير لا يحتمل الأناة.

فانحنى الرجل وقال: إني رهن إشارة مولاي.

اعتدل الملك في جلسته وسأل الكاهن بصوته النفاذ المهيب: أنت رجل من صفوة رجال المملكة، ومقدم عليهم بالعلم والحكمة، فهل تستطيع أن تقول لي لماذا تولي الآلهة الفراعنة على عرش مصر؟

فقال الرجل بثبات وإيمان: إنها تختارهم من بين أبنائها، وتبعث فيهم روحها الإلهي ليصلحوا البلاد ويسعدوا العباد. - أحسنت أيها الكاهن، فكل مصري يسعى في الحياة لنفسه أو لأسرته، أما فرعون فينهض بحمل أعباء الملايين ويسأل عنها جميعا أمام الرب، فهل تستطيع أن تقول لي عما ينبغي لفرعون نحو عرشه؟

وأجاب من رع بشجاعة فائقة: إن ما ينبغي لفرعون نحو عرشه هو ما ينبغي للإنسان الأمين نحو وديعة الآلهة المكرمين بين يديه، أن يقوم بواجباته ويؤدي له حقوقه، ويحافظ عليه محافظته على شرفه.

فهز فرعون رأسه راضيا وقال: أحسنت أيها الكاهن الفاضل، والآن خبرني، ماذا ينبغي أن يفعل فرعون لو هدد عرشه مهدد؟

فخفق قلب الكاهن الشجاع، وأيقن أنه يحكم على نفسه بجوابه، ولكنه - وهو رجل الدين والتقوى والعزة - أبى إلا أن يقول الحق، فقال: ينبغي لجلالته أن يبيد الطامعين.

فابتسم فرعون والتمعت عينا الأمير رعخعوف ببريق قاس، وقال للكاهن: أحسنت ... أحسنت ... لأنه إن لم يفعل، خان عهد الرب وفرط في وديعته الإلهية وأضاع حقوق العباد.

ثم تصلب وجه الملك وبدا عليه عزم يميد الجبال، وقال بصوت رهيب: أيها الكاهن، لقد وجد الذي يهدد العرش.

فنكس الكاهن عينيه وغلبه الصمت، فاستطرد فرعون: وهزأت الأقدار كعادتها فجعلته طفلا.

فتساءل الكاهن بصوت خافت: طفلا يا مولاي؟

فطفر الغضب من عيني فرعون شررا وصاح: كيف تتجاهل أيها الكاهن؟ لقد حرصت على الصراحة والصدق في حديثك؛ فلم تترك الكذب يتسلل إلى قلبك في حضرة مولاك؟ وإنك لتعلم علم اليقين أنك أبو الطفل ونبيه!

فتدفق الدم إلى وجه الكاهن وعصر الألم قلبه الكبير، وقال بتسليم وحزن: ابني طفل رضيع لم يجاوز عمره بضع ساعات.

فقال فرعون: لكنه آلة في يد الأقدار، والأقدار إذا أرادت أن تفعل استوى لديها الطفل والرشيد.

وساد الصمت والسكون هنيهة، وتولى الجميع رهبة غريبة فكتموا الأنفاس في انتظار الكلمة التي ستطلق سهم الموت إلى الطفل البائس. ونفد صبر الأمير رعخعوف فقطب جبينه وازدادت قساوة وجهه الطبيعية شدة وصلابة ...

ثم قال فرعون: أيها الكاهن، لقد أقررت منذ لحظة بأنه ينبغي لفرعون أن يهلك من يهدد عرشه، أليس كذلك؟

فقال الكاهن بقنوط: بلى يا مولاي. - ولا شك أن الآلهة قد قست عليك بخلقها هذا الطفل، ولكن القسوة عليك أخف من القسوة على مصر وعرشها.

فقال الكاهن: هذا حق يا مولاي.

فقال فرعون: إذن فأد واجبك أيها الكاهن!

فوجم من رع وأرتج عليه القول، أما فرعون فقد استطرد: إن لنا - معشر الفراعنة - تقاليد موروثة في احترام الكهنوت ورعايته. لا أحب أن تضطرني إلى خرقها.

يا عجبا! ماذا يريد فرعون بقوله هذا؟ أيريد أن يفهم الكاهن أنه يحترمه ولا يحب أن يقتل ابنه، وأنه لذلك ينبغي أن يقوم هو بالمهمة التي يجفل منها الملك؟ وكيف يتأتى له أن يذبح طفله بيده؟ حقا إن الإخلاص الذي يكنه لفرعون يقضي عليه بتحقيق رغبته الربانية دون أدنى تردد، وإنه ليعلم علم اليقين أن أي فرد من شعب مصر لا يتوانى عن إزهاق روحه لو أحس بأن موته يلقى رضاء فرعونيا ساميا، فهل يلحق بطفله العزيز ويغمد خنجره في قلبه؟

ولكن من الذي قضى أن يكون ابنه خليفة خوفو على عرش مصر؟ أليس هو الرب رع؟ أوليس يعد سعيه لقتل الابن البريء تحديا لإرادة الرب الخالق؟ ومن الذي يجب أن يؤثر بطاعته خوفو أم رع؟ لا يحتاج الجواب إلى روية، ولكن ما عسى أن يفعل وفرعون وزملاؤه ينتظرون كلمته؟ ماذا ينبغي أن يفعل وقد بدءوا يتململون ويغضبون؟

وتراءى له خاطر سريع وسط لجة الحيرة والارتباك كما يلتمع البرق في السحاب المظلم المكفهر، تذكر كاتا وطفلها الذي ولدته في الصباح! وتذكر أنها نائمة في الغرفة التي تواجه غرفة سيدتها على كثب منه، حقا إنها فكرة جهنمية شيطانية يبرأ منها قلب كاهن مثله، ولكن القلب لا يتيقظ إذا تسلط عليه ما يتسلط على قلبه من الانفعالات والاضطرابات، وهيهات أن يصحو ضمير أمام رهبة فرعون ورجاله، كلا لا يستطيع أن يتردد.

وأحنى الكاهن رأسه المثقل احتراما، وذهب ليرتكب أشنع جريمة، فتبعه فرعون، وتبع فرعون الأمراء والكبراء، وصعدوا خلفه إلى الطابق الأعلى، ولكنهم حين رأوا الكاهن يهم بولوج باب الحجرة وقفوا في الردهة وهم سكوت، وتردد من رع لحظة ثم التفت إلى مولاه وقال: مولاي، ليس لي سلاح أقاتل به، فأعرني خنجرا ...

ونظر إليه فرعون دون أن يبدي حراكا ...

وضاق صدر الأمير رعخعوف، فاستل خنجره وأعطاه الكاهن بعنف، فأخذه الرجل بيد مرتجفة وأخفاه في عباءته، ودخل الحجرة لا تكاد تحمله قدماه ...

وانتبهت إليه كاتا فابتسمت ابتسامة امتنان وشكران، واعتقدت أن سيدها جاءها يباركها، فكشفت عن وجه الطفل البريء، وقالت له بصوت ضعيف: اشكر الرب بقلبك الصغير، الذي عوضك عن موت أبيك حنانا مقدسا ...

فجفل الكاهن مذعورا وخذلته نفسه فانقلب مدحورا، وفاضت عواطف قلبه فجرف سيلها زبد الإثم ... ولكن أين المفر؟ وكيف الخلاص؟ إن فرعون واقف بالباب، وليس لديه مهلة للتفكير والروية، واشتدت به الحيرة حتى أذهلته عن وعيه، فزأر زئيرا مخيفا، ونفس عن صدره بتنهدة عميقة، واستل الخنجر يائسا قنوطا وطعن به نفسه فاستقر في قلبه، وانتفض جسمه انتفاضة هائلة، وسقط على أرض الحجرة جثة هامدة ...

ودخل الملك الحجرة غاضبا وتبعه رجاله، وجعلوا ينظرون إلى جثة الكاهن والنفساء المرتعبة بعيون من زجاج ... إلا الأمير رعخعوف فلم يلهه شيء عن هدفه، وأشفق من ضياع الفرصة السانحة فاستل سيفه من غمده ورفعه بقوة في الهواء، وهوى به على الطفل ... إلا أن الأم أدركت بغريزتها غرضه، فألقت بسرعة البرق نفسها على طفلها ... ولكنها لم تمنع القضاء، فأطاح السيف رأسها ورأس الطفل بضربة جبارة واحدة ...

ونظر الأب إلى ابنه ونظر الابن إلى أبيه، وغلبهما وجوم شديد، لم ينقذهما منه إلا الوزير خوميني إذ قال: فليتفضل مولاي بمغادرة هذا المكان الدامي.

وخرجوا جميعا وهم سكوت .

واقترح الوزير على مولاه أن يشدوا الرحال إلى منف ليبلغوها قبل جثوم الليل، ولكن الملك قال: إني لا أفر كالمجرمين، ولكن سأدعو كهنة رع وأقص عليهم قصة الأقدار التي ختمت بفاجعة رئيسهم البائس، ولن أعود قبل ذلك إلى منف.

6

سارت العربة على خطى الثورين البطيئة تقودها زايا، فقطعت طريق أون في ساعة من الزمان، ثم اجتازت باب المدينة الشرقي وانحرفت إلى الطريق الصحراوي الذي يؤدي إلى قرية سنكا، حيث يقيم أصهار سيدها الكاهن.

وما كانت زايا تستطيع أن تنسى تلك الساعة الرهيبة التي أحاط بها الجند فيها يسألونها، ويمعنون النظر في وجهها، ولكنها تشعر - فخورا - بأنها حافظت على رباطة جأشها رغم هول الموقف، وأنها أقنعتهم بثباتها فتركوها تسير بسلام، وآه لو أنهم علموا بما تحمل عربتها!

وإنها لتذكر أنهم جنود أشداء، ولن تنسى ما حييت عظمة ذلك الرجل الذي يتقدمهم ولا هيبته ولا جلاله، حتى لكأنه تمثال إله ودبت فيه حياة إنسانية.

ولكن يا للعجب! لقد أتى ذلك الرجل الجليل لقتال طفل لم ير نور الدنيا إلا هذا الصباح!

وهنالك نظرت إلى الوراء لترى سيدتها، ولكنها وجدتها كما أنامها سيدها الكاهن تحت الصوان ... يا لها من امرأة بائسة لم يدر بخلد إنسان أنها تنام هذه النومة الشنعاء، وهي نفساء! وما كان زوجها العظيم يحلم بتلك المتاعب التي ساقتها الأقدار بين يدي طفله، ولو تكشف له الغيب ما تمنى الأبوة، ولا تزوج من السيدة رده ديديت التي تصغره بعشرين عاما!

ولكنها أحست بحسرة وحزن، وتنهدت قائلة: ليت الرب يهب لي غلاما، ولو يحمل إلي مولده بؤس الدنيا جميعا!

كانت زايا زوجا عاقرا تذهب نفسها حسرات على طفل تتمناه على الآلهة، كما يتمنى الأعمى رؤية النور، وكم استشارت من أطباء، وكم سألت من سحرة، وكم لجأت إلى الحشائش والعقاقير دون جدوى أو أمل، وكانت إلى ذلك تشفق من يأس زوجها كاردا، الذي يحزنه أشد الحزن أن يرى العمر يتقدم به عاما بعد عام، دون أن يوهب غلاما يحبو في داره ويدفئ صدره بالأمل والخلود، وقد ودعها آخر مرة وهو يشد الرحال إلى منف حيث يشتغل في بناء الأهرام - وهو ينذرها بالزواج مرة أخرى إذا هي لم تلد. وانقضى على سفره شهر وشهران وعشرة أشهر، وهي ترقب نفسها وتتحسس آيات الحمل ساعة بعد ساعة، ويوما بعد يوم دون جدوى، وبلا أدنى أمل، رباه! لماذا تحرمها الآلهة الأمومة! وما حكمة خلقها امرأة إذن؟ إذ ما امرأة بلا أمومة؟ إن امرأة بلا أمومة كخمر بلا نشوة، أو وردة بلا رائحة، أو عبادة بلا إيمان فوا يأساه!

وعند ذاك سمعت صوتا ضعيفا ينادي زايا فأسرعت إلى الصوان ورفعته ووضعته جانبا، ورأت سيدتها والطفل في حضنها نائما، وكانت متعبة مجهدة والاصفرار يعلو وجهها الأسمر الجميل فسألتها: «كيف حالك يا سيدتي؟» فأجابتها بصوتها الضعيف: بخير بفضل الأرباب ... أما من خطر يتهددنا الآن يا زايا؟

فقالت الخادمة: اطمئني يا مولاتي لقد بعد الخطر عنك وعن مولاي الصغير.

فتنهدت المرأة تنهدا عميقا وسألتها: هل يبقى أمامنا سفر طويل؟

فقالت زايا برقة: يبقى أمامنا مسير ساعة على أقل تقدير ... والأولى لك يا سيدتي أن تنامي في حمى الرب رع.

فتنهدت المرأة والتفتت إلى الطفل النائم، وقد اكتسى وجهها الشاحب الفتان بالمحبة والحنان، ثم أغمضت عينيها طلبا للنوم. ومضت زايا تنظر إليها وإلى الطفل، تنظر إلى صورة الأمومة الحلوة السعيدة رغم الآلام والمخاوف ... ما أجمل منظرهما! ألا ليتها تذوق الأمومة ولو مرة واحدة! مرة واحدة ولو تدفع حياتها ثمنا لها!

رباه! لا الرب يرحم ولا الطب ينفع ولا كاردا يعذر ... ولعله لا يفوت وقت طويل قبل أن تضحى مطلقة شريدة تعاني آلام الوحدة وعذاب العزوبة!

وحولت زايا نظرها عن الأم السعيدة إلى الثورين وتنهدت قائلة: لو كان لي مثل هذا الطفل؟ لو آخذ هذا الطفل وأصطنعه ابنا بعد أن أبت علي الآلهة ابنا طبيعيا!

ولم تكن تضمر بقولها سوءا ولكنها تمنت، والنفس تتمنى المستحيل، وتتمنى ما تمتنع عن فعله خوفا أو رهبة أو إشفاقا.

وقد تمنت زايا وحلقت في سموات السعادة بجناحي الأحلام، ورأت نفسها تسير بهذا الطفل الجميل إلى كاردا وتقول له: «انظر لقد ولدت لك هذا الطفل الجميل.» ورأت زوجها يتهلل، ويطير من الفرح، ويقبل عليها وعلى ددف الصغير يحتضنهما ويقبلهما معا! وانتشت بنشوة السعادة الخيالية فتمددت على جنبها الأيمن، وأمسكت زمام الثورين بيد ووضعت رأسها على الأخرى واسترسلت في عالم الأحلام، وجرت - في غفلة منها - أنامل النوم على عينيها بخفة ورشاقة؛ فحجبت عنهما نور اليقظة، كما أخذ أفق الغرب يحجب نور الشمس عن الدنيا ...

ولما عادت زايا إلى عالم الشعور ظنت أنها نائمة على سريرها بقصر سيدها كاهن رع تستقبل الصباح، ومدت يدها لتسحب اللحاف عليها؛ لأنها أحست بتيار هواء بارد، فانغرست يدها فيما يشبه الرمل، ففتحت عينيها دهشة فرأت كونا مظلما وسماء مزدانة بالنجوم. وأحست بجسمها يهتز اهتزازا غريبا ... فتذكرت العربة والسيدة رده ديديت وطفلها الصغير الهارب، وجميع الذكريات التي انتزعها منها سلطان النوم القاهر ...

ولكن أين هن؟ وفي أية ساعة من الليل؟

ونظرت فيما حولها فرأت فضاء مظلما محيطا يطبق عليها من ثلاث نواح، وتراءى في الناحية الرابعة نور خافت عن بعد سحيق، لم تشك في أنه يشع من القرى المنثورة على شاطئ النيل ... وسوى ذلك فليس بالمكان الذي ضل فيه الثوران ما يدل على حياة ...

وتسربت وحشة الكون إلى نفسها، ونفذت ظلمته إلى قلبها، فانكمشت مرتجفة مذعورة، واصطكت أسنانها من الخوف، وجعلت تنظر إلى الظلام بعينين تتوقعان المخاوف فتخلقها خلقا مزعجا.

وقد خيل إليها أنها ترى في أفق الظلام أشباح قافلة من البدو، وكانت تذكر أشتاتا مما يروى عن قبائل سيناء، وسطوهم على القرى، وخطفهم للتائهين والضالين وقطعهم الطريق على القوافل. وكانت لا تشك في أن العربة التي تقودها على غير هدى تعد غنيمة ثمينة بما فيها من حنطة، وبالثورين اللذين تشد إليهما، وبالمرأتين اللتين يحق للعاب رئيس القبيلة أن يسيل عليهما ... فاشتد بها الخوف وجن جنونها، فقفزت على رمل الصحراء، واتجه نظرها إلى المرأة النائمة وطفلها وكانت ترى وجهيهما على ضوء النجوم الخافت، فمدت يديها بلا وعي ولا تدبر إلى الطفل ورفعته بخفة، وأحكمت لف القماط حوله، وأطلقت ساقيها للريح صوب أنوار المدينة، وخيل إليها وهي تعدو أنها سمعت صوتا ينادي عليها بفزع، فظنت أن البدو أحاطوا بسيدتها، فازداد بها الرعب وضاعفت سرعة عدوها، لا يعوقها الرمل المكدس ولا الحمل العزيز ولا التعب الشديد، فكانت كالمتردي في هاوية يهوي بحكم ثقله دون أن يستطيع لنفسه إمساكا. ولعلها لم تكن قد توغلت في الصحراء توغلا بعيدا، أو لعلها قطعت بعدوها شوطا يجاوز تقدير المقدرين وتصور المتصورين؛ لأنها أحست تحت قدميها بأرض ممهدة كأرض الطريق الصحراوي، ونظرت خلفها فلم تر إلا ظلاما، وكانت عند ذاك قد استهلكت قوتها الجنونية، فهدأت من سرعتها وثقلت خطاها، ثم ارتمت على ركبتيها وهي تلهث بعنف وشدة مخيفين، وكانت ما تزال مذعورة مجنونة، ولكنها لم تستطع حراكا، مثل فريسة الكابوس الذي تطارده الأخطار ولا تطيعه قدماه، فجعلت تتلفت يمنة ويسرة لا تدري عن أي طريق يأتي الفرج، ولا في أية ناحية يجثم الهلاك.

وخيل إليها أنها تسمع وقع عجلات وصهيل خيل! ترى هي عجلات عربات وخيل فرسان أم نبض الدم بأذنيها ورأسها؟ ولكن الأصوات وضحت فتأكدت وبدت في الظلمة أشباح الراكبين العادين الآتين من الشمال، ولم تدر إن كانوا يحملون لها سلاما أم هلاكا، ولم تستطع اختفاء لأن ددف علا صوته بالصراخ والعويل، ولم تكن تأمن في ركعتها وسط الطريق أن تلتهمهما عجلات العربات المندفعة فرفعت عقيرتها صائحة: «أيها الراكبون.»

واندفعت تكررها بصوت المستغيث وقد أسلمت نفسها للمقادير، وأتى الركب سريعا، ووقف على بعد منها قريب، وسمعت صوتا يسأل عن الصارخ، خيل إليها أنه ليس غريبا عنها، فشدت يديها على الطفل وتنبه بها الحذر، فقالت بلهجة ريفية قحة غيرت بها نبرات صوتها: أنا امرأة هلكى، قصر بي الجهد عن متابعة الطريق، وغشيني الظلام، وهذا طفلي، يكاد يقتله هواء الليل الرطيب.

فسألها صاحب الصوت الأول: وإلى أين تقصدين؟

فقالت زايا وقد بدأت تطمئن إلى أنها في حضرة جنود مصريين: أقصد يا سيدي إلى منف.

فضحك الرجل وقال متعجبا: إلى منف يا سيدة؟! ألا تعلمين أن الراكب يقطع هذا الطريق في ساعتين؟

فقالت زايا بذلة وبؤس: إني أسير يا سيدي منذ العصر، وقد اضطرتني أسباب انقطاع الزاد إلى الهجرة، فتوهمت أني أستطيع أن أبلغ منف قبل جثوم الليل ... - ومن لك في منف؟ - زوجي كاردا الذي يشتغل في بناء هرم مولانا فرعون.

ومال الرجل إلى رجل في العربة التي إلى يساره وأسر إليه بكلمات، فقال الرجل: الأوفق أن يعود بها جندي إلى بلدتها.

فقال الأول: كلا يا خوميني فلن تلقى في بلدتها إلا الجوع والمهانة، فلنحملها معنا إلى منف.

وصدع خوميني بأمر مولاه، فترجل عن عربته وذهب إلى السيدة وعاونها على القيام، وسار بها إلى أقرب عربة وأركبها وطفلها، ووصى عليهما جندي العربة.

أما فرعون فقد التفت إلى المعمار ميرابو وقال له: لقد شق على قلبك الرقيق يا ميرابو أن ترى طفلا بريئا وأمه يذبحان بلا ذنب ولا جريرة، فإياك أن تتهم مولاك بالقسوة ... انظر إلي كيف أرضى أن أحمل امرأة جائعة وطفلها الرضيع لأقيهما شر البرد والجوع، وأبلغ بهما بلدا ما كانا بالغيه إلا بشق الأنفس؛ ففرعون رحيم بعباده، ولم أك أقل رحمة حين خرجت للقضاء على ذلك الطفل السيئ الحظ، ذلك أن فعال الملوك كفعال الآلهة قد تلبس رداء الوحشية، ولكنها في جوهرها حكمة سامية.

وقال الأمير رعخعوف: الأولى لك أيها المعمار ميرابو أن تعجب بقوة الإرادة الهائلة التي هزمت الأقدار، وقضت على قضاء القضاء.

وعاد خوميني إلى العربة، وأمر الملك قائد عربته بالمسير، فانطلق الركب صوب منف يشق أمواج الظلماء.

7

وصلت زايا إلى منف قبيل منتصف الليل بزمن قليل مع الركب الفرعوني، وقد نفحها الملك بقطعتين من الذهب، فسجدت بين يديه شاكرة ممتنة، وقد اعتقدت أنه قائد من القواد العظام، وودعته في ظلمة الليل دون أن ترى وجهه أو يرى وجهها.

وكانت زايا في حالة بائسة من الخور الجسماني والفزع النفسي، فتاقت نفسها إلى حجرة تخلو فيها إلى نفسها، واستدلت بشرطي على فندق متواضع تبيت فيه بقية ليلها. ولما وجدت نفسها والطفل لا ثالث لهما، تنهدت تنهدة عميقة وارتمت على السرير.

وكأنما أطلقت - باستلقائها - العنان لألم جسمها ومخاوف قلبها، ولكن مخاوف القلب طغت على آلام الجسم واستبدت بشعورها. كانت ذاهبة الفؤاد مذعورة النفس لا تبرح مخيلتها صورة سيدتها النفساء التي خطفت طفلها، وتركتها على عربة ضالة وسط الصحراء، تغشاها الظلمات وتحيط بها الوحشة ويطبق عليها رجال سلب ونهب لا تعرف قلوبهم الرحمة ولا الشفقة، ولعلها الآن أسيرة بين أيديهم يسومونها سوء العذاب، ويفرضون عليها الرق والعبودية، وهي تبث الآلهة شجوها وذلها وتشكو إليها ما لاقت من غدر ويأس وما تلقى من عذاب.

وازدادت زايا عذابا وخوفا، ومضت تتقلب على فراشها ذات اليمين وذات الشمال، وأشباح فعلتها النكراء تطاردها مطاردة عنيفة وتنهال عليها بالوخز والألم والرعب، واستصرخت النوم العزيز لينقذها من ويل ليلتها الوبيل، ولكنها تقلبت كثيرا وسهدت طويلا، وذاقت مر العذاب والخوف قبل أن يرفق النوم بجفنيها وينتزعها من الجحيم الذي أصلاها نار العذاب، فنامت متعبة منهوكة القوة مقلقلة النفس.

واستيقظت على عويل الطفل، وكانت أشعة الشمس تنفذ من كوة الحجرة وتفرش أرضها بساطا من الأنوار، فحنت على الطفل وهزته بلطف وقبلت فمه بحنان، وكان النوم قد شفى أسقامها، وطمأن نفسها، وإن لم يخل قلبها من قلق ونفسها من عذاب، ولكن الطفل استطاع أن يحول شعورها إليه فأنقذها من عذاب الليل وويله، وحاولت ملاطفته ولكنه زاد في العويل، وواجهت بغتة مشكلة تغذيته وتحيرت من أمرها، ولكنها فطنت إلى الحل الواحد، فقامت إلى باب حجرتها وصفقت بيديها فجاءتها امرأة عجوز تسألها عما تريد، فطلبت منها نصف رطل من لبن الماعز.

وحملت ددف بين ذراعيها وذرعت به الحجرة ذهابا وجيئة، ووضعت حلمة ثديها في فمه تلهيه وتصبره، ثم نظرت إلى وجهه الجميل وصاحت بنشوة فرح مفاجئ كأنه تسلل إلى قلبها خلسة في غفلة عن الهجوم: تبسم يا ددف ... تبسم وقر عينا فسترى والدك بعد حين قليل.

وسرعان ما تنهدت وقالت لنفسها بخوف: ترى هل أفوز به رغم كل شيء؟

لقد انتهى أمر أمه الحقيقية وكذا أمر أبيه!

أما أمه فقد أخذها البدو أسيرة، وما كانت تستطيع هي - أي زايا - أن تفعل شيئا لإنقاذها. ولو ترددت لحظة أخرى عن الهرب لوقعت معها غنيمة باردة في أيدي البدو المعتدين، فلا يجوز أن تحمل نفسها وزر جريمة لم ترتكبها ولم تعن على ارتكابها، وأما أبوه فلا شك أن قتله جنود فرعون انتقاما منه لتهريبه زوجه وطفله.

وارتاحت إلى تفكيرها هذا فعاودته مرة أخرى لترضي نفسها وضميرها، وتقضي على أشباح الخوف ونحس الآلام، فرجعت تحدث نفسها بأنها أحسنت صنعا بالهروب وخطف الطفل، ولو أنها لبثت إلى جانب سيدتها ما استطاعت أن تدفع عنها شر العدا ولهلكت معها، وما كان في مقدورها أن تحملها وتدب بها، ولم يكن من الرحمة أن تترك الطفل بين أحضانها حتى يقتله رجال سيناء؛ فقد أحسنت صنعا بالهرب وأحسنت صنعا بخطف ددف ولا خوف عليها، ولا ينبغي أن تحزن!

ما أعذب هذا التفكير، بل ما أجمل أن ينتهي بها إلى أنها أم ددف دون شريك!

هي أمه دون شريك وكاردا أبوه، وكأنما أرادت أن تطمئن إلى هذه الحقيقة فجعلت تناديه نداء منغوما قائلة: «ددف رع ابن كاردا ... ددف رع ابن زايا ...»

وجاءت العجوز بلبن الماعز، وبدأت الأم الصناعية ترضع الطفل رضاعا صناعيا ... حتى ظنت أنه شبع، ولم يبق أمامها إلا أن تتأهب للخروج إلى كاردا ... فاستحمت ومشطت شعرها ووضعت خمارها على منكبيها، وحملت ددف بين يديها وغادرت الفندق.

وكانت شوارع منف مزدحمة كعادتها بالمارين، راجلين وراكبين، ذكورا وإناثا، من وطنيين ومستوطنين وأجانب. ولم تكن زايا تعرف الطريق إلى الهضبة المقدسة، فسألت شرطيا فأجابها بأن الهضبة «جنوب شرقي سور منف يقطعها الراجل في ساعتين أو يزيد، والراكب في نصف ساعة.» وكانت يداها مملوءتين بالقطع الفضية فاكترت عربة ذات جوادين، وجلست باطمئنان وسعادة.

وسرعان ما انتزعتها أحلامها من الدنيا، وحلقت بها في سماء السعادة والغبطة، فسبق خيالها العربة إلى كاردا زوجها الحبيب المفتول الذراعين الأسمر الوجه ، فما أجمله في وزرته القصيرة التي تكشف عن ساقيه الحديديتين، وما أحب وجهه المستطيل بجبهته الضيقة وأنفه الكبير وعينيه الواسعتين وصوته الخشن العريض ذي اللهجة الطيبية القحة؛ وكم ذا تشتاق إلى ضم ساعديه وتقبيل فمه وسماع صوته.

وكان في أمثال هذه المقابلات التي يسبقها غياب طويل يقبل عليها بشوق ويقول لها مداعبا: «تعالي يا امرأة ... كأني بك أرض صخرية تشرب الماء ولا تنبت شيئا.» أما هذه المرة فلن يقولها، وكيف يقولها وهي تلقاه وعلى يديها أجمل ما حملت الأمهات؟! ولا ريب أنه سينظر إليها كالذاهل فتلين عضلات وجهه الصلبة، وتمتلئ عيناه البراقتان بنظرة حنان تذوب رقة وعطفا، ويهتف بها وهو لا يتمالك نفسه من الفرح: «وأخيرا ولدت يا زايا! أحقا هذا طفلي؟ تعالي إلي ... تعالي إلي ...» فتقول له وهي ترفع رأسها بكبرياء وأنفة: «خذ طفلك يا كاردا وقبل قدمه الصغيرة ... واسجد شكرا للرب رع ... إنه ذكر وقد سميته ددف.»

وأقسمت لتحملن زوجها على العودة إلى طيبة مسقط رأسه؛ لأن قلبها بات يوجس خيفة - لا تدري ما كنهها - من الشمال وأهله، وفي طيبة الجميلة، وتحت رعاية الرب آمون، تربي ابنها وتحب زوجها، وتعيش الحياة التي حرمتها دهرا طويلا ...

وأيقظتها من أحلامها جلبة أصوات وضجيج حياة، فنظرت إلى الطريق ورأت العربة تصعد طريقا ضيقا ملتويا والرجل يلهب الخيل بسوطه، ولم تستطع في جلستها أن ترى ما على سطح الهضبة، ولكن طرقت أذنيها أصوات أحياء ودوي آلات وأناشيد العمال، وعرفت من بينها نشيدا كان كاردا يترنم به في أوقات الصفاء وهو:

نحن رجال الجنوب نأتي مع مياه النيل،

من تلك الأرض التي اختارتها الآلهة سكنا والفراعين،

نسوق بين أيدينا الخصب العميم والعمران.

انظر إلى المدن العامرة والمعابد ذات العمدان،

كانت - قبلنا - خرائب تأوي إليها الأوابد والغربان.

إن الصخر لنا يلين ويذعن، وكذا الماء الجبار.

سل عن بأسنا قبائل النوبة وطور سيناء.

سل عن جهادنا زوجات ينتظرن في وحدة وعفاف.

وسمعت المئين يرددونها بقوة وحنان معا، فهفت نفسها إليهم كما يهفو الحمام إلى صفير صاحبه، وأنشد قلبها مع المنشدين.

وبلغت العربة سطح الهضبة بعد أن اجتازت الطريق المسمى وادي الموت، ونزلت منها زايا وسارت صوب الخلق المحشود المنتشر على رقعة الهضبة كأنه جيش عارم في ميدان. ومرت في طريقها بمعبد أوزوريس وتمثال أبي الهول ومصاطب الآباء والأجداد الذين أهلتهم أعمالهم في الدنيا للرقاد في بطن تلك الأرض الطاهرة، وشاهدت النهر الطويل الذي شقه العمال ليصل الهضبة بالنيل. وكانت تجتازه المراكب الضخمة تباعا محملة بالصخور الجبارة حيث ينتظرها عند المراسي جماهير العمال بالعربات الزاحفة. ورأت عن بعد أساس الهرم الذي لا يحيط بحدوده بصر والعمال على سطحه كالنجوم المنتثرة في رقعة السماء ... وكانت تختلط أصوات الأناشيد بصياح الرؤساء وأوامر الحرس وطقطقة الآلات، فوقفت زايا حيرى وطفلها على يديها تتلفت يمنة ويسرة لا تدري أين المستقر، وترى عبث النداء في ذاك المحيط اللجي، وقد تعبت عيناها قلقا وترددا بين الوجوه.

ومر بها أحد الحراس فاستغرب وقفتها، ودنا منها وسألها بصوت أجش: ماذا جئت تفعلين هنا يا سيدة؟

فقالت له بسذاجة: أبحث يا سيدي عن زوجي كاردا.

فسألها الجندي وهو يقطب جبينه متذكرا: كاردا؟ هل هو معمار أم حارس؟

فقالت في استحياء: هو عامل يا سيدي.

فضحك الرجل ساخرا، وقال لها وهو يشير إلى بناية على بعد قريب: اسألي عنه في مكتب المفتش.

فسارت زايا إلى هدفها، وكانت البناية متوسطة الحجم، جميلة المشهد، ويقف على بابها حارس من الجند، وقد اعترض طريق زايا، ولكنها أخبرته بما جاءت من أجله فأوسع لها، فدخلت حجرة واسعة تصطف في جوانبها المكاتب، ويجلس خلفها الموظفون، وكانت جدرانها ملأى بالرفوف المكدسة بأوراق البردي، وفي اتجاه الداخل يرى باب موارب دلها الجندي عليه بعصاه، فاجتازته إلى حجرة أصغر حجما وأجمل منظرا وأثمن أثاثا، وكان يجلس في ركن منها - خلف مكتب فخم - رجل ربعة القوام بدين الجسم، يميزه رأس كبير وأنف ضخم قصير في وجه ممتلئ، عظيم الشدقين، منتفخ الخدين كقربتين صغيرتين، وكانت عيناه جاحظتين وجفناه ثقيلين، وقد جلس جلسة كبرياء وعظمة، وانكب على ما بين يديه في تيه وسلطان.

وقد أحس بالداخل، ولكنه لم يرفع عينيه ولم يبد عليه اهتمام حتى فرغ مما بين يديه، فنظر إلى زايا نظرة شوس وتيه، وسألها بصوت تياه فخور: ماذا تريدين يا امرأة؟

فاستولى الارتباك والخوف على زايا وقالت بصوت مضطرب ضعيف: جئت أبحث عن زوجي يا سيدي.

فسألها بنفس اللهجة: ومن زوجك؟ - عامل يا سيدي.

فضرب المكتب بقبضة يده، وقال بلهجة حادة وبصوت كأنه يرن في قبو: وما الداعي إلى تعطيله عن عمله وإقلاقنا؟

فذعرت زايا وتفرق منطقها شعاعا ولم تحر جوابا ... فأدام إليها النظر وشاهد وجهها الخمري المستدير، وعينيها العسليتين الساخنتين، وشبابها الغض، فعز عليه أن يجثم الخوف على مثل ذاك الوجه الصبوح، ولم يكن له من السلطان إلا ظاهر وزهو. أما قلبه فطيب، وأما عواطفه فرقيقة، فعطف على المرأة وقال بصوته الأجوف ولكن بلهجة رقيقة ما استطاع: لماذا تبحثين عن زوجك يا سيدة؟

فتنهدت زايا ارتياحا وزال عنها الرعب وقالت بامتنان: إني آتية من أون بعد أن ضاقت بي سبل العيش، وأرجو يا سيدي أن يعلم بوجودي.

فنظر المفتش إلى الطفل الذي تحمله على ذراعيها وقال كالمرتاب: أمن أجل هذا جئت حقا ... أم جئت تبشرينه بهذا المولود؟

فتورد خدا زايا وعلا الحياء وجهها، ونظر إليها الرجل هنيهة ملتذا ثم سألها: حسن ... من أي بلد زوجك؟ - من أون يا سيدي ومسقط رأسه طيبة. - وما اسمه يا سيدة؟ - كاردا بن عن يا مولاي.

فنادى المفتش كاتبا وقال له بلهجة الأمر والخيلاء، التي تنازل عنها من أجل عيني زايا: كاردا بن عن من أون.

فذهب الكاتب وبحث بين الدفاتر واستخرج واحدا منها وقلب في أوراقه باحثا عن حرف الكاف، وعن اسم كاردا، ثم عاد إلى رئيسه، ومال على أذنه وهمس بصوت خافت ورجع إلى عمله.

وأجد المفتش في مظهره، ونظر إلى وجه المرأة طويلا، ثم قال بصوت هادئ خافت: آسف يا سيدتي أن أنعى إليك زوجك؛ فقد مات في ميدان العمل والواجب!

وصكت كلمة الموت أذني المرأة ففرت من صدرها صرخة رعب وفزع، ولبثت لحظة كالذاهلة، ثم سألت المفتش بتوسل أليم: أحقا مات زوجي كاردا بن عن؟

فأجابها بوجوم: نعم يا سيدتي ... استوصي بالصبر. - ولكن ... كيف عرفت ذلك يا سيدي؟ - هذا ما أنبأني به الكاتب بعد أن فحص أسماء عمال أون. - ومن أدراك يا سيدي فقد يخدع البصر وتتشابه الأسماء.

وطلب المفتش الدفتر إلى مكتبه ونظر فيه بنفسه ثم هز رأسه أسفا، ونظر إلى وجه المرأة الذي لون الرعب صفحته بصفرة الموت، ورسم الأمل في عينيه نظرة تضرع وتوسل ورجاء، وقال: استوصي بالصبر يا سيدتي، وأذعني لإرادة الآلهة.

فانطفأ نور الأمل الخافت وأجهشت زايا في البكاء، فطلب المفتش لها كرسيا ومضى يقول لها: تشجعي يا سيدة ... تشجعي ... هذه إرادة الآلهة.

ولكن زايا كان يلوح لها الأمل كما يلوح السراب للظمآن في المفاوز، فسألته: ألا يجوز يا سيدي أن يكون الميت واحدا غريبا يحمل اسم زوجي؟

فقال لها المفتش بلهجة اليقين: كاردا بن عن هو العامل الوحيد الذي استشهد من عمال أون.

فصاحت المرأة بذل وألم: يا لسوء حظي يا سيدي ... ألم تجد الأقدار هدفا لسهمها غير صدري الضعيف؟! - هدئي روعك ... - ليس لي رجل سواه يا سيدي.

وكأن المفتش الطيب القلب أراد أن يطمئنها، فقال لها: إن فرعون لا ينسى عباده المخلصين، وتسع رحمته الضحايا والمستشهدين جميعا ... أصغي إلي: لقد أمر مولانا الملك ببناء بيوت لأسر العمال الذين قضوا في أثناء العمل، وقد شيدت البيوت عند سفح الهضبة، وأوى إليها العشرات من النساء والأطفال، وقد أجرى عليهم الملك إعانات شهرية، كما اقتضت إرادته اختيار الرجل من ذوي قرباهم للمعاونة في الحراسة ... فهل لك قريب تريدين تعيينه مراقبا للعمال؟

فقالت زايا وهي تنتحب: ليس لي في هذه الدنيا غير هذا الطفل.

فقال الرجل: ستأويان إلى حجرة نظيفة ولن تعرفا ذل السؤال.

وهكذا غادرت زايا مكتب مفتش الهرم أرملة بائسة، تندب زوجها السيئ الحظ وطالعها المنكود.

8

وكانت البيوت التي أمر فرعون بإقامتها لأسر العمال المستشهدين تقع خارج أسوار منف البيضاء شرقي الهضبة المقدسة، وكانت بيوتا متوسطة الحجم يتكون كل منها من طابقين، وكل طابق من أربع حجرات متسعة، وقد أقامت زايا في حجرة هي وطفلها، وألفت نفسها تعيش بين أولئك الخلق من الأرامل والثكليات والأطفال، منهن من لا تفتأ تندب قتيلها، ومنهن من اندمل جرحها وعفا الزمان على أحزانها. وكانوا جماعة ذوي همة ونشاط، فاشتغل الصبيان بتوزيع الماء على العمال، واتجرت النسوة بالأطعمة والجعة، وتحول الحي البائس إلى سوق ناشئة رخيصة دبت بها حركة العمران والعمل، وبشرت بأن تكون جنين قرية يافعة ...

وقد أمضت زايا أيامها الأولى بسكنها الجديد في حزن متصل وبكاء أليم على الزوج الفقيد، وعذبها الحزن عذابا لم يخفف بلواه عنها ما تلقى من توفر الرزق، وما تنعم به من عطف بشارو مفتش الهرم العام، ولكن وا أسفاه! فلو ذكر المصابون في قلوبهم أن الموت فناء يطمس الذكرى ويذهب الأحزان في قلب الحي بنفس السرعة التي يفنى بها وجود الميت، لوفروا على أنفسهم جهدا ضائعا وعذابا مريرا؛ فقد تعزت وأنستها متاعب الحياة مرارة الموت؛ لأنها أحست بتأفف في مقامها الجديد وضاقت به، ولما تمض به سوى شهور قلائل، واقتنعت بأنه ليس المكان اللائق بها ولا بابنها، ولكنها لم تر عن الصبر محيدا فسكتت على الحزن والضيق.

وفي أثناء تلك الشهور زارها المفتش بشارو عدة مرات؛ لأنه كان يجيئها كلما ذهب للتفتيش على المساكن، وتفقد أحوالها، حقيقة أنه كان يزور كثيرات من الأرامل، ولكن زياراته لزايا امتازت برحمة ومودة، وما من شك في أن الأخريات لم يكن أقل بؤسا من زايا ومنهن من يفقنها شقاء، ولكن لم يكن لواحدة منهن عينان عسليتان ساخنتان كعيني زايا، ولا جسم ممشوق لدن كجسمها. وقالت زايا لنفسها وهي مستغرقة في لجج التأمل والتفكير: ما أطيبه من رجل! إنه بدين قصير، غليظ القسمات، في الأربعين من عمره أو يزيد، ولكنه طيب القلب عظيم المودة ...! وكانت تلحظ بعين نافذة خفية أنه إذا وقع بصره على جسمها اللدن اضطرب جفناه الثقيلان، وانفرجت شفتاه الغليظتان. وحل الهوان في طلعته محل الخيلاء والكبرياء؛ فتعاطيه تثنيا رقيقا يسمره في مكانه ثواني كأنه خنزير محاصر. وتولدت المطامع في قلب زايا فسلت سلاحها للاستيلاء على المفتش العظيم، وقد انتهزت مرة فرصة حضوره فشكت إليه سوء ما تلقى من الوحشة والكآبة في مقامها البائس، وقالت له: لعلي أكون ذات نفع يا سيدي في غير هذا المكان؛ فإني خدمت طويلا في قصر أحد سراة أون، ولي خبرة عظيمة بأعمال الوصيفات.

فارتج جفنا الرجل الغليظان، ونظر إلى الأرملة الحسناء بعين طامعة وقال: فهمت يا زايا؛ فليس ما تشكين هو العطلة أو الخمول، ولكن نفسك ألفت نعيم القصور، فلا يتأتى لها الصبر على مثل هذه الحياة البائسة.

فابتسمت الماكرة في رقة ودلال، وكشفت عن وجه ددف الجميل وقالت: هل يليق هذا المكان بمثل هذا الوجه الحسن؟

فقال المفتش: كلا ... ولا بك يا زايا.

فاحمر وجهها وأسبلت جفنيها حتى مست أهدابها نقرتي خديها، فقال الرجل: إن لي ذلك القصر الذي تريدين، ولعله يريدك أيضا. - إني رهينة إشارة مولاي. - لقد ماتت زوجتي تاركة لي ابنين، وعندي من الجواري أربع، فهل تكونين الخامسة يا زايا؟

ومنذ ذلك اليوم انتقلت زايا وطفلها ددف من حي البائسات إلى حريم مفتش الهرم بشارو بقصره الجميل الذي تمتد حديقته حتى تبلغ مجرى النيل المقدس، وانتقلت إليه كجارية ذات حظوة ليست لغيرها. ووجدت الجو خاليا لمكرها وسحرها؛ لأن القصر كان بدون ربة مسيطرة، ولأن ابني المفتش كانا حبيبين صغيرين، فعملت على أسر لب سيدها، ونجحت في مسعاها حتى حملته على الزواج منها، وسرعان ما صارت زوج المفتش بشارو وربة قصره والمشرفة على تنشئة ابنيه خنى ونافا، ولم تكن زايا يخونها المكر أبدا؛ فمنذ تسنمت مكانتها العالية أقسمت فيما بينها وبين نفسها لتحسنن معاملة الصبيين، وتكونن لهما نعم الأم الحنون.

وهكذا ابتسم الحظ لزايا بعد تقطيب، وأقبلت عليها الدنيا بعد إدبار.

9

ذلك هو القصر الذي قضت الأقدار بأن يكون مرتع طفولة ددف رع. وقد تمتع الطفل بطفولة خالصة ثلاث سنوات كاملة - كما جرت العادة بمصر على أيامه - لم يفارق فيها حضن أمه إلا حين النوم، وقد ترك - في تلك السنوات الثلاث - أثرا على صدر زايا لم يمح منه طيلة العمر، فملأه أمومة ورضع منه حنانا ومحبة، ولا نستطيع أن نحدث عن طفولة ددف الأولى بأكثر من مس ظواهرها، لأنها - ككل طفولة - سر مغلق وسعادة في قمقم لا يعرف كنهها إلا الآلهة التي تحوطه بالعناية وتلهمه النجوى، وقصارى ما يقال إنه كان ينمو سريعا كما تنمو أشجار مصر تحت أشعة شمسها المشرقة، وإن نفسه كانت تتفتح كاشفة عن حسنها، كما تتفتح الوردة إذا سرى في عودها دفء الحياة، وانبعث فيها روح الجمال، وإنه كان سعادة زايا ونور عينيها كما كان لعبة نافا وخنى الثمينة المفضلة، يتخاطفانه ويقبلانه ويعلمانه الأسماء والنطق والمشي. وإنه ختم طفولته الأولى تلك بعلم لا يستهان به؛ فتعلم كيف يقول لزايا: «أماه» وعلمته المرأة أن يقول لبشارو: «أبتاه» وكان الرجل يتقبلها منه بحبور، وكان يتفاءل بوجهه الصبوح الجميل الذي يكتسب رونقه من بهاء اللوتس. وما زالت أمه به حتى تعلم كيف ينطق رع، وكانت تطلب إليه النطق بها قبيل النوم وعقب الاستيقاظ؛ لتستدر عطف الرب على ابنه الحبيب.

وحين بلوغه الثالثة هجر حضن زايا ومضى يحبو في حجرة أمه، أو يسير متوكئا على المقاعد والدواوين ما بين البهو والحجرات، ودلته غريزة الاستطلاع على نقوش الوسائد وزخرف المناضد ورسوم الجدران والتحف المنثورة والمصابيح المدلاة، فعبثت يده بما استطاعت الوصول إليه، ومد قبضته للعزيز الممتنع، حتى إذا أعياه القصد صاح رع، أو نفس عن صدره الصغير بآهة عميقة، واستأنف السير وأخذ في البحث والاستكشاف، ثم أتاه المفتش بشارو بثروة عظيمة من اللعب: كالحصان الخشبي، والتمساح الفاغر فاه، والعربة الحربية الصغيرة. فكان يعيش معها في دنيا غير الدنيا، دنيا يخلق فيها الحياة، ويسيطر على المصائر، ويقول للشيء كن فيكون، فكان للحصان الخشبي حياته وآماله، وللتمساح الفاغر فاه حياته وأطماعه، بل كان للعربة نفسها حياتها ومطالبها، وكان يحادثها فتحادثه، ويأمرها فتطيعه، وتكشف له في كل حين من أسرار الجماد ما تخفيه عادة عن الراشدين.

وعلى ذلك العهد ولد جاموركا من أبوين عريقين من سلالة أرمنت، وقد استقبله ددف رع استقبالا حفيا، ووهبه حجره يأوي إليه، وتوثقت عرا المودة بينهما منذ ذلك العهد المبكر، وقد قضت محبة ددف لصديقه أن ينشأ هذا نشأته الأولى في حضنه، وأن يتبعه في أثناء نومه كظله، وأن يلقن اسم جاموركا بلسانه الحلو، وأن يكون أول نباحه نداء عليه، وأول تحريك ذيله القصير حفاوة به، ولكن وا أسفاه، لم تخل طفولة جاموركا من عذاب، فكان التمساح الفاغر فاه واقفا له بالمرصاد، ينغص عليه سعادته ويكدر صفوه، وكان إذا رآه نبح وبرقت عيناه، وتصلب جسمه وكر وفر، ولا يهدأ حتى يخفي ددف تمساحه المخيف.

وكانا لا يكادان يفترقان، فإذا أوى ددف إلى سريره رقد جاموركا إلى جانبه، وإذا قعد ساكنا - وقليلا ما يفعل - جلس قبالته وبسط ذراعيه، أو مضى يلعق خديه ويديه كيف شاء حنانه واقتضت مودته، وكان يتبعه إلى مماشي الحديقة، ويركب معه القارب إذا حملتهما زايا إليه للتريض في بركة القصر، فكانا يطلان برأسيهما من حافة القارب، وينظران إلى صورتيهما في الماء، أما جاموركا فلا يسكت عن النباح، وأما ددف فيعجب لذلك الصغير الجميل الذي يشبهه ويعيش في باطن البركة.

وكانوا إذا أتى الربيع وصدحت السموات بأناشيد الطير، وانشقت أردية الشتاء الكثيفة عن نور الشمس البهيج، واحتفى الكون بعيد الشباب، فلبست الأشجار حللا من سندس، وازينت الشجيرات بألوان الورود والرياحين، وتدفق الحب في القلوب، كانوا يكثرون من رياضة الزورق على سطح الماء، وكانوا يتركون الأطفال عرايا إلا مما يستر، فكان خنى ونافا يقفزان إلى الماء ويسبحان ويتقاذفان بالكرة. ويقف ددف إلى جانب جاموركا يشاهدهما بسرور وغيرة، وربما طلب إلى أمه أن يفعل مثلهما فترفعه من تحت إبطيه وتغطسه في الماء إلى الوسط، فيلعب بقدميه ويصيح فرحا مسرورا.

فإذا ارتوت نفوسهم لهوا ولعبا عادوا جميعا إلى حجرة الحديقة الصيفية. وجلست زايا على الديوان، وجلس بين يديها ددف وخنى ونافا وأمامهم جاموركا باسطا ذراعيه، فتقص عليهم قصة البحار الذي تحطمت سفينته وقذفت به الأمواج على لوح من الخشب إلى جزيرة مهجورة، وتروي لهم كيف ظهر له الثعبان الهائل صاحب الجزيرة، وكيف كاد يفتك به، لولا أن علم أنه رجل مؤمن محمود السيرة، وأنه من رعايا فرعون، فطمأنه ووهب له سفينة من عنده محملة بالنفيس من الكنوز عاد بها سالما آمنا إلى وطنه.

وما كان ددف يسمع بأذنيه، ولكنه كان يرى بعينيه السوداوين الجميلتين.

كان سعيدا محبوبا، ومن ذا الذي كان يستطيع ألا يحب ددف ذا العينين السوداوين الدعجاوين، والأنف الطويل المستقيم، والروح الخفيف الضاحك؟ كان يحب إذا تكلم وإذا سكت، يحب إذا لعب وإذا سكن، يحب إذا رضي وإذا غضب. وقد تمتع بنعمة الحب واللهو في حياة قوامها الحب واللهو والخيال، يعيش كالخالدين دون أن يسأل عن غد.

إلى أن بلغ الخامسة وبدأت الحياة تكشف له عن بعض خبيئتها.

وفي ذلك الوقت بلغ خنى الحادية عشرة ونافا العاشرة واختتما تعليمهما الأولي، واختار خنى أن يلتحق بجامعة بتاح ليرقى مدارج علمها المتتابعة ويتفقه في الدين، والأخلاق، والعلوم والسياسة؛ إذ كان الغلام ميالا للعلم، شغوفا بالحكمة، وكان يرغب في شغل وظيفة دينية أو قضائية، أما نافا فلم يتردد في الالتحاق بمعهد خوفو للفنون الجميلة؛ لأنه كان يهوى الرسم والتصوير.

وجاء الدور على ددف ليلتحق بالمدرسة الأولية، وليقضى عليه بهجر زايا وجاموركا وعالم الأحلام كل يوم أربع ساعات كاملة، يصرفها مع الأطفال والأغراب في تعلم القراءة والكتابة، ومبادئ الحساب، والهندسة، والدين، والأخلاق، والتربية الوطنية.

وكان أول ما قيل له ولهم في اليوم الأول: «عليكم بالإصغاء التام، ومن يأب ذلك منكم فاعلموا أن أذني الطفل فوق خديه وهو يرهف السمع كلما ضرب.»

ولأول مرة في حياة ددف اشتركت العصا في التفاهم معه، على أنه أبدى استعدادا طيبا للتعلم، وأقبل بشوق عظيم على درس اللغة الهيروغليفية الجميلة، وبرع في فهم مسائل الجمع والطرح.

وكان لمدرس الأخلاق أثر عظيم في نفسه؛ لأنه كان ذا شخصية قوية محبوبة، وكان يبتسم ابتسامة حلوة تبث في أنفس التلاميذ المودة والاطمئنان، وزاد من حب ددف له أن وجد شبها بينه وبين أبيه بشارو في بدانة الجسم، وانتفاخ الشدقين، وجهارة الصوت وغلظه، فكان يصغي إليه بجامع وجدانه وهو يقول: «انظروا ماذا يقول حكيمنا قاقمنا، إنه يقول - تقدست روحه في السموات -: «احذر أن تكون عنيدا في الخصام فتستوجب عقاب الرب.» ويقول: «إن قلة الأدب بلادة ومذمة.» ويقول أيضا: «إذا دعيت إلى وليمة، وقدم لك من أطايب الطعام ما تشتهيه فلا تبادر إلى تناوله؛ لئلا يحسبك الناس شرها؛ فإن جرعة ماء تروي الظمأ، ولقمة خبز تغذي الجسم.» ثم يأخذ بعد ذلك في التفسير، وضرب الأمثال، وقص القصص، وكان كثيرا ما يقول لهم: «يجدر بالطفل منكم ألا ينسى ما تكلفته أمه من المتاعب من أجل راحته؛ فقد حملته في بطنها تسعة أشهر، وحضنته ثلاث سنوات وغذته بلبنها. احذر أن تغضبها؛ فالرب يستمع إلى شكواها ويستجيب دعاها.»

كان ددف يصغي إلى مدرسه بوعيه الكامل، ويتلذذ بأمثاله وقصصه ويتأثر بقوله غاية التأثر. وأمضى في تعليمه الأولي سبع سنوات أتم فيها مبادئ العلوم وأتقن الكتابة والقراءة.

وفي أثناء تلك الفترة توثقت أواصر الود بينه وبين أخيه نافا، فكان يجلس إلى جانبه وهو يرسم أو يصور، يتتبع بعينيه الفاتنتين هاتيك الخطوط التي يخلق تلاحمها أجمل الأشكال وأبدع المعاني. على أن نافا كان يملك قلبه بضحكه الذي لا ينقطع، وبروحه المرحة وبنكاته اللطيفة.

وكان لخنى أثر بين في عقله، جعل علمه الناشئ يجاوز المبادئ ويتصل بالإلهيات والعلوم العالية في تلك السن المبكرة؛ وذلك أن خنى كان يعجبه خط ددف، فكان يملي عليه مذكراته ومحاضراته فأضاء عقله الصغير قبس من نور قاقمنا، ووحي من كتاب الموتى، ونفثات من أشعار تايا، وكانت تنساب إلى عقله في لطف، ولكن في هالات من الغموض والإبهام أيقظته من سباته وبثت فيه القلق والحيرة والحياة.

وقد أحب خنى أيضا - رغم رزانته وتجهمه - وكان إذا شبع جريا ولعبا هو وجاموركا أوى إلى حجرته ليكتب له محاضراته أو ليقلب في الكتب المحلاة بالصور، فتأمل من صغره صورة بتاح رب منف وصولجانه ذي العلامات الثلاث الدالة على القوة والحياة والخلود، وصورة العجل أبيس المقدس الذي تحل فيه روح بتاح المعبود، وكان يمطر خنى بالأسئلة فيجيبه الشاب عنها بصبر، ويروي له الأساطير، وما أعظم ما كانت تستولي عليه! ... كان يجلس القرفصاء مصغيا إلى أخيه وجاموركا أمامه يوليه وجهه، ويولي الأستاذ وأساطيره الدينية ظهره!

وانتهت تلك المرحلة السعيدة الممتعة، وأوفى منها ددف على الغاية وأكثر، بل فاق عقله عمره؛ فكان مثله مثل شجرة الورد التي تنبت الزهر الجميل، ولم تعل عن الأرض أشبارا.

10

واها! إن الزمان يتقدم غير ملتفت إلى الوراء، وينزل - كلما تقدم - قضاءه بالخلائق، وينفذ فيها مشيئته التي تهوى التغيير والتبديل، لأنه ملهاته الوحيدة التي يستعين بها على ملل الخلود، فمنها ما يبلى ومنها ما يتجدد، ومنها ما يموت ومنها ما يحيا، ومنها ما يبتسم شبابه، ومنها ما يرد إلى أرذل العمر، ومنها ما يهتف للجمال والعرفان، ومنها ما يتأوه لدبيب اليأس والفناء.

وقد فعل الزمان فعله بأسرة بشارو.

فقد بلغ الرجل الخمسين من عمره، ودب الترهل في بدانته، ووخط المشيب رأسه، وأخذ يودع شيئا فشيئا القوة والشباب والفتوة، وازداد جهازه العصبي حساسية، فكثر صياحه وصخبه وانتهاره الحراس وزجره الكتبة، ولكنه كان كالثور المصري عظيم الخوار عديم الأذى، لأن طبيعته تمسكت بصفتين لا تتنازل عنهما، ولا تخضع فيهما لحكم زمان؛ فخاره وطيبة قلبه؛ فهو مفتش عام هرم خوفو وويل لمن يخاطبه فلا يقرن باسمه وظيفته وألقابه، وهو لا يمل الحديث عن نفسه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولا يسره حديث كحديث الملق والإطراء.

وكان إذا دعي إلى المثول بين يدي فرعون بحكم وظيفته، نشر الخبر في كل مكان تصل إليه دعايته، فيعلم به أهل بيته صغيرا وكبيرا، وأصحابه ومرءوسيه، ولا يكتفي بذلك فيقول لنافا وخنى وددف: «هلموا أذيعوا النبأ المجيد بين إخوانكم، وتنافسوا أيها الصغار لتبلغوا الذروة التي تسنمها أبوكم بالإخلاص، والعمل، والمواهب العالية.» ولكنه ظل كما كان الرجل الطيب الذي ينفر قلبه من الأذى، ولا يجاوز غضبه طرف اللسان.

وقد بلغت زايا الأربعين ولم تنل منها السنون إلا قليلا، فاحتفظت بمعالم جمالها، وكمل نضجها، وصارت السيادة والكرامة من طباعها الثابتة؛ فمن يرها تقوم على قصر بشارو لا يجر له على بال أنها تلك التي كانت زوجا للعامل كاردا وخادما للسيدة رده ديديت، بل هي نفسها أدرجت ذكريات الماضي أكفان النسيان، ومنعت الذاكرة من التسلل إلى زوايا التاريخ المنطوي، لتتمتع بسعادتها الأولى - أمومتها لددف - متعة خالصة، والحق أن حناياها كانت تهفو إليه كأنه سكنها تسعة أشهر، كما كان أعز آمالها أن تراه رجلا مجيدا سعيدا.

وفي ذلك الوقت كان خنى قد قطع مرحلة طويلة في تعليمه العالي، ولم يبق أمامه سوى ثلاث سنوات للتخصص، ولما كان الشاب بطبعه ميالا إلى الدراسة والتعمق في أسرار الكون؛ فقد اختار اللاهوت وآثر الانخراط في سلك الكهنوت، ولم يكن الأمر متوقفا على محض اختياره؛ لأن الكهنوت علم عزيز لا يلج أبوابه إلا من يجتاز - بعد إتمامه الدراسة العالية بما فيها التخصص - اختبارات نظرية، وعلمية شاقة، عدة سنوات في أحد المعابد، ولكن قوبل طلب خنى بالعطف لما أبداه في أثناء حياته الدراسية من الذكاء والفطنة والأخلاق النبيلة، وكأنه لم يرث من والده إلا صوته الأجش الأجوف، وفيما عدا ذلك كان نحيفا دقيق القسمات هادئ الملامح، تذكر صورته بصورة أمه التي اتصفت بالورع والتدين.

وكان في ذلك على النقيض من شقيقه نافا الذي ورث عن والده جسمه البدين ووجهه الممتلئ، والكثير من أعماق روحه، فكان طيبا مرحا، وكان من حسن حظه أن خرجت قسماته أدق من قسمات والده الغليظة الثقيلة، وقد حاز الشاب أعلى شهادة في فن الرسم والتصوير، واكترى - بمعونة والده - بيتا صغيرا في شارع سنفرو - وهو أهم شوارع منف التجارية - وجعله محلا لعمله، ومقاما لمعرض آياته الفنية. وكتب على لافتة بالخط الهيروغليفي الجميل: «نافا بن بشارو إجازة معهد خوفو للفنون الجميلة.» ومضى يعمل ويحلم وينتظر صابرا جمهور الطالبين والمعجبين. ولم ينج جاموركا من فعل الزمن فنما وضخم وقصر شعره الأسود الذي كان مسبلا، وتبدت على وجهه آي القوة والشدة، وعلى أنيابه بينات القسوة والويل، وأجش صوته واخشوشن، فكان إذا نبح دوى نباحه دويا، وبعث الرعب في أفئدة القطط والثعالب والذئاب، وأعلن للملأ أن حارس قصر المفتش ساهر، وكان على صلابته وشدته أرق من النسيم على صاحبه وحبيبه ددف، الذي زادت الأيام ما بينهما توثقا ومودة، فكان إذا ناداه لبى، وإذا أمره أطاع، وإذا انتهره ذل وسكن، بل إنهما استغنيا بنجوى السرائر عن لغة الظاهر، فكان جاموركا يحس بمجيء ددف إلى البيت إحساسا خفيا، فيهرع إلى لقائه ولما يره. وكان يتعارف على باطنه بقدرة عجيبة قد تخون أقرب الناس إليه، فكان يعرف حالات رضاه فيقبل عليه ملاعبا، ويقفز واضعا يديه على منطقة وزرته، كما كان يحس بحالات تعبه أو ضيقه فيسكن بين قدميه مكتفيا بتحريك ذنبه.

أما ددف فقد بلغ الاثني عشر عاما من عمره، وجاء الوقت الذي ينبغي أن يختار فيه وجهته التي يوليها في الحياة، والحق أنه إلى ما قبل ذلك بقليل لم يجر تفكيره في تلك المسألة الخطيرة، وكان الغلام يبدي نشاطا عاما محمودا، وقد خدع خنى بتشوقه إلى الفلسفة حتى حسبه كاهنا، وحسب الكهنوت مستقبله دون غيره. ولكن نافا - وكان بحكم فنه أنفذ بصرا - كان يشاهده وهو يسبح وهو يجري وهو يرقص، وكان يرى جسمه النامي وقده الممشوق؛ فيقول لنفسه وهو يكسوه بخياله اللباس الحربي: «يا له من جندي!» وكان نافا عظيم التأثير في ددف للحب المتبادل بينهما، فوجهه ذاك التوجيه الذي باركته زايا وتحمست له، ومنذ ذاك اليوم ولا شيء يجذب عيني زايا في الأعياد مثلما يجذبهما منظر الجنود والفرسان وفصائل الجيش.

ولم يكن بشارو ليحفل بما يختار ددف من فنون الحياة؛ فهو لم يتدخل مطلقا في حرية اختيار خنى أو نافا لمستقبلهما، ولكنه وجد ميلا إلى التأمل فقال لددف - وكانوا جميعا جلوسا في الحجرة الصيفية - وهو يربت بلطف على كرشه العظيم: ددف، ددف الذي كان يحبو بالأمس القريب! ددف أضحى يجهد رأسه الصغير في التفكير في اختيار سبيل له في الحياة ينهجه كرجل مسئول! لقد دار الزمان دورة غادرة، حنانك أيها الزمان، رفقا ببشارو أو رفقا به حتى يكمل بناء الهرم، فإنك لن تجد له خلفا صالحا.

وقالت زايا تعلن رغبتها: لا داعي لكثرة الأسئلة؛ فإن من ينظر إلى وجه ددف الجميل وقامته الفارعة وقوامه المعتدل لا يرتاب لحظة في أنه يرى ضابطا من ضباط العجلات الفرعونية.

وابتسم ددف إلى أمه التي وافق حديثها هواه، وذكر فرقة العجلات التي رآها تشق طرق منف - يوم عيد بتاح - في صفوف متحاذية منتظمة لا تشذ عنها يمينا أو شمالا، ولا إلى الأمام ولا إلى الخلف، والفرسان على العربات منتصبون، لا يميلون ولا يضطربون كأنهم مسلات مشيدة، ترمقهم الأبصار وترنو إليهم عيون الحسان.

ولكن خنى لم يرض عن اختيار زايا وقال بصوته الغليظ الذي يشبه صوت أبيه: كلا يا أماه، إن ددف كاهن بالفطرة، وطالما وضح لي استعداده للتعلم وميله للعلم والمعرفة، وطالما ألحت علي أسئلته الكثيرة الدالة على الفطنة والذكاء؛ فمكانه المختار جامعة بتاح لا المدرسة الحربية، ما رأيك يا ددف؟

وكان ددف شجاعا صريحا، لا يتردد عن إبداء رأيه فقال: يؤسفني أن أخيب رجاءك هذه المرة أيها الأخ، ولكن الحق أني راغب في الجندية.

فوجم خنى، أما نافا فقد ضحك ضحكة عالية وقال لددف: أحسنت الاختيار يا ددف. فما صورتك إلا صورة جندي، هكذا أقنعني خيالي ... ولو أنك اخترت في الحياة فنا آخر لذقت مر الخيبة وتزعزعت ثقتي بنفسي.

وهز بشارو منكبيه استهانة وقال: سواء لدي اخترت الجندية أم الكهنوت، وعلى كل حال أمامك عدة أشهر فيها متسع للتفكير والروية ... إيه لكم أيها الأبناء! يخيل إلي أنه لن يخلف أحدكم أباه، وأن واحدا منكم لن يعيد تمثيل الدور الخطير الذي قمت به في الحياة.

وفاتت الشهور دون أن تغير من رأي ددف، فقر رأي الأسرة على إلحاقه بالمدرسة الحربية.

وفي تلك الأثناء واجهت بشارو أزمة فكرية مرة، هيأت أسبابها أبوته المزعومة لددف، وقد تساءل الرجل في حيرة: هل ينبغي أن يحافظ على ادعاء هذه الأبوة، أم أنه آن الأوان لإعلان حقيقتها وفصم عراها؟ وكان خنى ونافا يعرفان حقيقة المسألة، ولكنهما لم يشيرا إليها بتاتا، لا في السر ولا في العلانية؛ حبا في الغلام وضنا به.

وكان بشارو يقدر وقع الصدمة على نفس الغلام البريئة السعيدة، فيقشعر بدنه، ويذكر زايا وما يحتمل من غضبها وسخطها فيحجم إشفاقا، وهو ما فكر في ذلك عن سوء قصد أو عن زهد في ددف ولكنه كان يعتقد أن هذه الحقيقة ستعلن عن نفسها إذا لم تجد لسانا يعلن عنها، وأن الخير كل الخير أن تكشف له الآن ليخلص من محنتها لا أن تدخر له حتى يكبر فيضاعف له عذابها، وتردد الرجل الطيب فلم ينته إلى عزم، ولما كان ينبغي أن ينتهي إلى رأي قبل إلحاق ددف بالمدرسة الحربية، فقد أسر الرجل بذات نفسه إلى ابنه خنى، ولكن الشاب هاله الأمر، وقال لأبيه بألم وحزن عميقين: إن ددف أخونا، بل إن ما يربطنا به من الحب لأقوى من الأخوة الطبيعية. وما الذي يضيرك يا أبتي لو أنك تركت الأمور على ما هي عليه، ولم تفاجئ الغلام العزيز بضربة الذل والمسكنة؟

وكان الشأن الوحيد الذي يعمل له حساب في أبوته هو الميراث، ولكن بشارو لم يكن له من حطام الدنيا سوى راتب كبير وقصر ضخم، فلن تؤذي أبوته لددف أحدا؛ ولذلك أشفق الرجل من لهجة خنى الغاضبة، وقال يدفع عن نفسه: كلا يا بني لن تقع ضربة الذل أبدا، لقد دعوته يا بني وسأظل أدعوه بها، ولسوف يكتب اسمه بين طلبة المدرسة الحربية: ددف بن بشارو.

ثم ضحك الرجل كعادته وقال وهو يفرك يديه: ربحت ابنا جنديا.

فقال خنى وهو يمسح دمعة سالت على خده: بل ربحت رضاء الرب وغفرانه.

11

أوشك شهر توت على الفوات، ولم يبق منه إلا عدة أيام هي كل ما تبقى لددف من الزمان في بيت بشارو ثم يغادره بعدها إلى المدرسة الحربية، وكانت تلك الأيام أشد أيام زايا العصيبة، غلب عليها فيها الشرود والذهول والتفكير بمرارة في الشهرين الطويلين اللذين سيحتجبهما ددف داخل المدرسة ... والأعوام الطويلة التي لن تتاح لها رؤيته فيها سوى مرة كل شهر، فتحرم من رؤية وجهه الجميل وسماع صوته الحبيب، ويغيب عن قلبها الاطمئنان الذي يقر فيه لقربه، والهناء الذي يشمله لوجوده ... فما أقسى الحياة! وقد غشى الحزن قلبها قبل حدوث أسبابه، وظللت حياتها غشاوات من الألم مثل هاتيك السحائب المنتثرة ساقتها الرياح بين يدي غيم هاتور وكيهك الداكن المكفهر.

وحين صاحت الديكة عند الفجر معلنة قدوم اليوم الأول من بابة، استيقظت زايا على صياحها، وقعدت في سريرها مضطربة حزينة، وتنهدت تنهدة حارة كانت أول ما استقبل اليوم من عالم الأحزان، ثم تركت فراشها، وسارت في خفة إلى مخدع ددف لتوقظه وتودعه، ودخلت الحجرة على أطراف أصابعها؛ كي لا تزعجه فاستقبلها جاموركا وهو يتمطى، وخاب ظنها؛ لأنها وجدت الغلام قد استيقظ دون مساعدة، وكان يغني بصوت خافت نشيد «نحن أبناء مصر انحدرنا من سلالة الآلهة». استيقظ الغلام وحده يلبي أول نداء للجندية، وقد نادته من قبلها: ددف. فانتبه إليها مهللا، وجرى نحوها كطائر يستقبل نور الصباح، وتعلق بعنقها ورفع إليها فمه، فقبلته بحنان، وقبلت خديه ورفعته بين ذراعيها فقبلت ساقيه، ثم حملته إلى الخارج وهي تقول: تعال ودع أباك.

ووجدا بشارو ما يزال يغط في نومه، ويصعد أنفاسا ناشزة من شخيره ونخيره، فهزته بيدها فانتفض مرتعبا وصاح: من؟ ... من؟ ... زايا!

فضحكت وصاحت به: ألا تريد أن تودع ددف؟

فجلس في فراشه وفرك عينيه، ثم نظر إلى الغلام على ضوء المصباح الخافت، وقال: ددف ... أذاهب أنت؟ تعال أقبلك ... والآن اذهب محوطا برعاية بتاح!

وقبله بشفتيه الغليظتين مرة أخرى واستطرد: أنت الآن طفل يا ددف ولكنك ستغدو جنديا ماهرا ... إني أتنبأ بهذا، ونبوءة بشارو خادم فرعون لا تخيب ... اذهب يا بني آمنا وسأصلي من أجلك في المحراب ...

وقبل ددف يدي والده، وخرج مع والدته، وفي الردهة الخارجية لقيا خنى ونافا متأهبين ، وضحك نافا وقال: هيا أيها الجندي الباسل، إن العربة في الانتظار.

وحنت عليه زايا بوجه غيره التأثر، فرفع إليها وجها يطفح بالفرح والحب.

واها ... لقد مرت الشهور سراعا، وحمت ساعة الوداع، فلا الحضن يشفي ولا القبلة تعزي، ولا الدموع تخفف البلوى. لقد هبط ددف في السلم يسير بين أخويه واطمأن إلى مكانه من العربة جانبهما، وابتعدت العربة بالحمل العزيز، وهي ترنو إليها من خلل دموعها، حتى بلعتها زرقة الفجر.

12

وبلغت العربة «مرعى أبيس» أجمل ضواحي منف حيث تقع المدرسة الحربية ولما تشرق الشمس، ولكنهم وجدوا الميدان الممتد أمام المدرسة مزدحما بالراغبين في الالتحاق بها، وفي صحبة كل منهم واحد أو أكثر من أقربائه، وكان كل منهم ينتظر دوره في النداء عليه والذهاب للكشف، وبعدها إما يبقى داخل المدرسة أو يعود من حيث أتى.

وكأن الميدان - ذلك الصباح - كان معرضا للجياد المطهمة والعربات الفخمة؛ لأنه لم يكن يتقدم إلى المدرسة الحربية إلا أبناء الطبقة الحربية، والصفوة من أبناء الأثرياء، وتلفت ددف يمنة ويسرة فرأى وجوها ليست غريبة عليه؛ لأنه زاملها أعواما في المدرسة الأولية، فانتعشت نفسه وملئت مسرة وشجاعة.

وكان صوت المنادي لا ينقطع عن النداء، وسيل التلاميذ لا يتوقف عن الدخول من باب المدرسة الكبير، منهم من يبقى في الداخل ومنهم من يخرج مرة أخرى بوجه كاسف ونفس أسيفة.

وكان خنى ينظر إلى هاتيك الجموع بوجه جامد، فلم يرتح ددف إلى مظهره وسأله بقلق: أواجد علي يا أخي؟

فربت الشاب على منكبيه وقال: معاذ الرب يا عزيزي ددف، إن الجندية حياة سامية على شرط أن تكون واجبا عاما، يؤدي كل قسطه منه إلى حين، ثم يعود بعده إلى حياته الإنسانية، فلا يهمل موهبة من مواهبه السامية، ويصون روحه عن التلف، وإني مطمئن يا ددف إلى أنك لن تطمس التشوف الذي أنار روحك في حجرتي. أما الانغمار في الجندية والتفرغ لها فمعناه النزول عن الإنسانية، وتدمير الحياة العقلية، والرجوع القهقرى إلى مراتب الحيوان.

فضحك نافا كعادته وقال: الحق أنك يا أخي تنشد الحياة الطاهرة الحكيمة حياة الكهنوت، أما أمثالي فينشدون الجمال والمتعة، ويوجد غيرنا آخرون - هم هؤلاء الجنود - يمتعضون من التأمل ويعبدون القوة؛ وحمدا للأم إيزيس فإنها وهبتني عقلا يستطيع أن يرى جمالا لكل لون من ألوان هاته الحيوات، ولكني لا أملك إلا أن أوثر في النهاية حياتي. والحق أن الفصل بين هذه الحيوات لا يتأتى إلا لواحد عليم بها غير متعصب لإحداها ... وهيهات أن يوجد هذا القاضي.

ولم يطل الانتظار بددف فسمع المنادي يصيح: ددف بن بشارو. فخفق قلبه، وسمع نافا يقول له: ودعنا يا ددف فلا احتمال لعودتك معنا اليوم.

فعانق الغلام أخويه وسار إلى الباب الرهيب، ثم أدخل إلى حجرة على يمين الداخل حيث تلقاه جندي فأمره بأن يخلع ملابسه، فخلع الغلام ثيابه، وتقدم إلى طبيب مسن ذي لحية بيضاء فحصه عضوا عضوا، وألقى على هيئته نظرة عامة، ثم قال للجندي: «مقبول.» فارتدى الغلام ثيابه فرحا مسرورا، وقاده الجندي إلى فناء المدرسة وتركه يلحق بمن سبقه من المقبولين.

وكان الفناء عظيم الاتساع، تربو مساحته على قرية كبيرة، ومحوطا من ثلاث جهات بسور ضخم مزخرف بالنقوش الحربية، ومحلى بصور الجنود والمواقع والأسرى، وفي الجهة الرابعة تقام الثكنات ومخازن الذخيرة والأسلحة، ومكاتب القواد والضباط، وإصطبلات الخيل، وحظائر العربات، فهو أشبه بحصن منيع.

وقد ألقى الغلام على المكان نظرة دهشة، وسار إلى حيث لحق بزملائه المتجمعين، ووجدهم يتفاخرون بالأنساب ويتنافرون بالآباء والأجداد، وقد سأل أحدهم ددف قائلا: هل أبوك من رجال الحرب؟

فتضايق الغلام وهز رأسه سلبا، ولكنه قال بلهجة ملئت كبرياء: أبي بشارو مفتش هرم الملك.

ولكنه لم يبد على وجه محدثه أنه اقتنع بعظمة المفتش وقال: أبي ساكا قائد فرقة الصقر من المشاة حاملي الرماح.

فامتعضت نفس ددف ولم يشترك في أحاديثهم، وتوعدتهم نفسه الفتية بالظفر والتفوق، واستمرت عملية الكشف والاختبار ثلاث ساعات متوالية، وظل الناجحون ينتظرون حتى أتاهم ضابط من ناحية الثكنات، ألقى عليهم نظرة صارمة وصاح بهم: منذ هذه الساعة ينبغي لكل منكم أن يودع الفوضى وداعا أبديا، ويروض نفسه على النظام والطاعة، كل شيء من الآن فصاعدا يخضع للنظام الصارم، ولا أستثني الأكل والشرب والنوم ...

ورتبهم الضابط صفا واحدا، وسار بهم صوب الثكنات، وأمروا بالدخول واحدا واحدا، وكان كل منهم يمر على كوة مخزن كبير فيعطى صندلا ووزرة وحلة بيضاوين، ثم يتفرقون إلى عنابر كل عنبر يحوي عشرين سريرا في صفين متقابلين، وخلف كل سرير صوان متوسط الحجم على سقفه لوح من الورق في إطار خشبي، طلب إلى كل منهم أن يكتب اسمه عليه بالخط المقدس.

وأحسوا جميعا بجو غريب يخضع للنظام الصارم، وتنبث فيه روح الصرامة والخشونة؛ فقد لحق بهم ضابط، وأمرهم بأن يخلعوا ملابسهم المعتادة ويرتدوا الملابس الحربية، ونبه عليهم بأن يخرجوا إلى الفناء إذا سمعوا صوت النفير ... فصدعوا جميعا بالأمر، ودبت في العنابر حركة سريعة كانت أول ما أبدى أولئك الصغار من النشاط العسكري ... وقد فرحوا باللباس الحربي الأبيض وهللوا له، وحين نفخ في النفير هرعوا خفافا إلى الفناء حيث رتب الضباط جمعهم في صفين مستقيمين.

وحضر على الأثر مدير المدرسة، وهو ضابط كبير برتبة قائد، في لباسه الرسمي المحلى بالنياشين والأوسمة، يحيط به كبار ضباط المدرسة، واستعرضهم بعناية ثم وقف أمامهم وخطب فيهم قائلا: كنتم إلى الأمس أطفالا أحرارا، وأنتم اليوم تبدءون حياة الرجولة الحقة الممثلة في الجهاد العسكري، وكانت أنفسكم ملكا لكم ولآبائكم وأمهاتكم، أما اليوم فهي ملك الوطن وفرعون. واعلموا أن حياة الجندية هي القوة والتضحية، فعليكم بالنظام والطاعة لتقوموا بواجبكم المقدس نحو مصر وفرعون.

ثم هتف المدير باسم خوفو فرعون مصر، وردد الجنود الصغار هتافه، ثم أمرهم أن ينشدوا نشيد: «يا آلهة احفظي ابنك المعبود، وملكه السعيد، من منبع النيل إلى مصبه». وامتلأ جو الفناء الواسع بأصوات العصافير، تغني في حماس دافق وجمال رائع، وتجمع بين الأرباب وفرعون ومصر في نغمة واحدة.

وفي ذلك المساء حين رقد ددف لأول مرة على فراش غريب في جو جديد، مسه السهاد، وجثمت على قلبه الوحشة، فتنهد من أعماق نفسه، ونادت مخيلته إلى ظلمة العنبر أطيافا سعيدة من بيت بشارو، فكأنه رأى زايا وهي تحنو عليه ونافا وهو يضحك ضحكته المرحة وخنى وهو يحدث حديثه المنطقي المتدفق ... وخال جاموركا العزيز يلعق خده ويحييه بذنبه، ولما ارتوت نفسه من الأحلام رنق النوم بجفنيه فنام نوما عميقا لم يستيقظ منه إلا على نفخ النفير عند مطلع الفجر، فقعد في سريره دون تريث، ونظر فيما حوله دهشا، فرأى أقرانه يستيقظون ويغالبون سلطان النوم بصعوبة، وعلت في المكان أصوات التثاؤب والتذمر واختلط بها الضحك أيضا ...

لا راحة بعد اليوم؛ فقد بدأت حياة النشاط والجلاد.

13

وفي ذلك الوقت طلب المعمار ميرابو الحظوة بالمثول بين يدي فرعون، واستقبله الملك في بهو الاستقبال الرسمي. وقد جلس جلالته على عرش مصر الذي تربع عليه خمسة وعشرين عاما حافلة بجلائل الأعمال، وكان مهيبا قويا صارما يرتد البصر عن جلاله وهو كليل، كما ارتدت خمسون عاما تنفس فيها الحياة عن أن تؤثر في صلابة بنيانه أو تدفق حيويته، فأبقت على حدة بصره وسواد شعره وحكمة عقله.

وقد سجد ميرابو بين يديه وقبل حاشية ثوبه الملكي، فقال الملك بعطف: السلام عليك يا ميرابو، قم وتكلم فيما جئت من أجله.

فوقف المعمار أمام رب العرش وكان وجهه يتلألأ بأنوار الفرح، ثم قال: مولاي واهب الحياة ومنبع النور، اليوم أشبع إخلاصي لذاتكم العليا بالعمل المجيد، وأتوج حياتي في خدمتكم بالأثر الخالد، فأنال في ساعة سعيدة واحدة ما يتمناه المخلص من إخلاصه، والفنان من فنه؛ فلقد شاءت الآلهة التي يتعلق كل خلق بمشيئتها أن أزف اليوم إلى ذاتكم المعبودة بشرى الانتهاء من أعظم أثر أقيم على أرض النيل منذ عصر الآلهة، وأكبر بناء أشرقت عليه شمس مصر منذ أشرقت على الوادي. ويقيني يا مولاي، أنه سيظل باقيا على الأجيال مقرونا باسمكم المقدس، منسوبا لعهدكم المجيد، حافظا لروحكم الإلهية، معلنا عن جهاد الملايين من أيدي مصر العاملة، وعبقرية العشرات من رءوسها النابهة، وإنه اليوم لعمل مجيد لا نظير له، وغدا هو المثوى لأجل روح حكمت أرض مصر، وبعد غد وإلى أبد الآبدين هو المعبد الذي تأتلف في ساحته قلوب الملايين من عبادك، يسعون إليه من الجنوب ومن الشمال.

وسكت الفنان الخالد لحظة ريثما شجعته ابتسامة الملك، ثم استطرد: لقد شيد اليوم يا مولاي شعار مصر الخالد، وعنوانها الصادق؛ فهو ابن القوة التي تربط شمالها بجنوبها، وهو وليد الصبر الذي يغمر صدور بنيها جميعا من الضارب الأرض بفأسه إلى الكاتب على الطرس بقلمه، وهو وحي الدين الذي تخفق به قلوب أهلها، وهو مثال العبقرية التي جعلت من وطننا سيدا على الأرض التي تسبح الشمس حولها في السفينة المقدسة، وسيظل أبدا الوحي الخالد الذي يهبط على قلوب المصريين فيؤيدها بالقوة، ويلهمها الصبر، ويحثها على الدين ويدفعها إلى الإبداع.

وكان الملك يصغي إلى الفنان وعلى فمه ابتسامة رضا، ويرنو بعينيه النافذتين إلى وجهه المكتسي ببهاء الحماس والفرح. فلما انتهى قال له: إني أهنئك أيها المعمار على نبوغك المنعدم النظير، وأشكرك على العمل المجيد الذي شيدت لملكك ووطنك مما يوجب لك التقدير والحمد، ولسوف أحتفل بآياتك الكبرى احتفالا مهيبا يليق بعظمتها وخلودها.

وكان المعمار يحني الرأس وينصت إلى ثناء فرعون، كأنما ينصت إلى لحن إلهي.

واحتفل فرعون بالهرم احتفالا رسميا شعبيا مهيبا، شهدت فيه الهضبة المقدسة من الخلق أضعاف ما شهدت من جميع العمال الأشداء، ولكنهم لم يحملوا إليها هذه المرة الفئوس والعدد، ولكن حملوا الأعلام وأغصان الزيتون وسعف النخل والرياحين، وتغنوا بالأناشيد المقدسة الطاهرة. وصنع الجند بين تلك الجموع طريقا عظيما يمتد من وادي الأبدية، ويميل شرقا ثم يدور حول الهرم، ويعرج غربا حتى يصب في وادي الأبدية مرة أخرى. وفي ذاك الطريق سارت الهيئات الرسمية للطواف بالبناء الكبير، تتقدمها جموع الكهنة بطبقاتهم المختلفة والنبلاء والسراة، ثم اخترقت الطريق فرق الجيش المعسكر في منف من ركبان ومشاة، ثم بدا للعيان موكب فرعون والأمراء، فولى العباد وجوههم شطره، وهتفوا له من أعماق القلوب، وانحنوا انحناءة واحدة كأنهم في صلاة هو قبلتها.

وحيا فرعون الهرم بكلمة موجزة، وباركه الرئيس خوميني، ثم عاد الركب الفرعوني وانفضت الهيئات الرسمية. أما جموع الشعب فجعلت تطوف بالبناء الكبير مهللة مكبرة هاتفة منشدة، ولم تتفرق جموعها إلا حين سكب الفجر بهاءه وبث روحه الهادئ السحري في أرض الوادي الزبرجدية.

وفي ذاك المساء دعا فرعون الأمراء والصحابة المقربين إلى جناحه الخاص، وكان الجو ميالا إلى البرودة فاستقبلهم في بهو استقباله العظيم، حيث جلسوا على مقاعد من الذهب الخالص.

وكان فرعون على صلابته ومتانة بنيانه يبدو على نظرة عينيه شعوره بالتبعات العظيمة الملقاة على عاتقه. وكان ظاهر الملك لم يتغير حقا، أما باطنه فقد طرأ عليه من طوارئ الزمان ما لم يخف عن أعين المقربين أمثال رعخعوف وخوميني وميرابو وأربو، فلاحظوا مثلا أن الملك يزهد قليلا قليلا في الرياضة غير مستثن ما كان منها أحبها إلى قلبه كالصيد والطرد، وأنه يميل إلى التشاؤم والتفكير والقراءة، فكان ربما طلع عليه الفجر وهو جالس في مخدعه يقرأ كتب اللاهوت وفلسفة قاقمنا، وتطورت فكاهته الأولى إلى سخرية لا تخلو من سوء الظن والريبة.

كان أعجب ما في ذلك المساء - وهو ما أعجز الحسبان - أن يبدو على الملك آي من الهم والقلق، ذاك المساء الذي احتفل فيه بأعظم عمل في التاريخ. وكان أشد الناس قلقا لذلك المعمار ميرابو، ولم يتمالك أن سأل مولاه: ما بال مولاي بادي الانشغال؟

فنظر إليه الملك بشيء من السخرية وقال له متسائلا: وهل عرف التاريخ ملكا خالي البال؟

ولم يتعز الفنان بجواب الملك فقال: ولكن ينبغي لمولاي أن يفرح هذا المساء فرحا خالصا. - ولماذا ينبغي لمولاك أن يفرح؟

فوجم الفنان، وكاد ينسيه تساؤل الملك الساخر جميل ثنائه وعظيم احتفاله، ولكن الأمير رعخعوف الذي لم يرض عن تطور الملك النفسي قال: لأن مولانا احتفل اليوم بتبريك أعظم آية فنية في تاريخ مصر الطويل.

فضحك الملك وقال: أتعني قبري أيها الأمير؟ وهل ينبغي للإنسان أن يفرح لبناء قبره؟

فقال الأمير: أطال الرب بقاء الملك، إن العمل المجيد حقيق بالفرح والتكريم. - نعم. نعم، ولكن إذا ذكر بالموت ألا يوجب شيئا من التأسي ؟

فقال ميرابو بحماس: إنه يذكر بالخلود يا مولاي.

فابتسم فرعون وقال: لا تنس أني معجب بفنك يا ميرابو، ولكن نذير الموت يملأ النفس شجنا، نعم لا أذكر ما يوحي به عملك المجيد من معاني الخلد، ولكن الخلد موت لحياتنا الفانية العزيزة.

فقال خوميني برزانة وتأمل وإيمان: مولاي، إن اللحد عتبة الحياة الأبدية ...

فقال الملك: صدقت يا خوميني، ولكن المقبل على سفر كثير التدبر، وهذا أحرى بمن يولي وجهه تلك الرحلة الأبدية، وإياك أن تظن أن فرعون خائف أو آسف ... كلا ... كلا، إني أتعجب فقط لتلك الرحى التي تدور وتدور وتطحن كل يوم ملوكا وسوقة ...

وتضايق الأمير رعخعوف من تفلسف الملك وقال: إن مولاي الملك يكثر من التأمل.

وكان فرعون يفهم ذات ابنه فقال: لعل هذا لا يرضيك أيها الأمير.

فقال الأمير: العفو يا مولاي، ولكن الحق أن التأمل وظيفة الحكماء، أما الذين عهدت الآلهة إليهم بتبعات الحكم، فما أحرى أن يتفرغوا لشئونه الصعاب.

فسأله فرعون بسخرية: أفترى أيها الأمير أني أتردى في هاوية العجز؟

فارتاع الأصدقاء، وكان الأمير أعظمهم ارتياعا فقال: معاذ الرب يا أبتي!

فقال الملك الساخر، ولكن بلهجة قوية: لا تقلق يا رعخعوف، واعلم أن أباك لن يزال قابضا على السلطان بيد من حديد.

فقال الأمير: يحق لي يا مولاي أن أهنئ نفسي ولو أني لم أسمع جديدا. - أم أنك ترى أن الملك لا يكون ملكا إلا إذا أعلن حربا؟

وكان الأمير رعخعوف يشير على أبيه دائما بأن يجرد جيشا لتأديب قبائل سيناء، ففطن إلى تلميح الملك فصمت وهلة يفكر، وفي أثناء ذلك قال خوميني: إن السلم أشد حاجة من الحرب إلى الملك القوي الصالح.

فقال الأمير بلهجة قوية حاكت ما ارتسم على وجهه من الصلابة والقسوة: ولكن ينبغي ألا تعوق سياسة السلم الملك عن خوض غمار الحرب إذا جد الجد!

فقال الملك: أراك تحوم حول موضوع قديم. - نعم يا مولاي، ولن أكف عنه حتى تذهب بواعثه؛ فإن قبائل سينا تفسد في الأرض وتهدد هيبة الحكومة. - قبائل سينا ! ... قبائل سينا! ... إن قوات الشرطة تكفي الآن لتأديب شراذمهم، أما تجريد جيش لغزو حصونهم فنية في صدري لم تهيأ الظروف بعد لتحقيقها؛ نظرا لأن الوطن ينوء بالجهد الجهيد الذي بذله عن طيب خاطر من أجل تشييد هرم ميرابو الخالد ... وسيأتي يوم قريب أقضي فيه على شرهم وأكفي الوطن عدوانهم.

وساد صمت مقدار دقائق، ثم ردد الملك بصره الحاد بين الحاضرين وقال: أيها السادة، إني دعوتكم هذه الليلة لأكاشفكم برغبة عظيمة تخفق في صدري.

فنظر إليه الملأ باهتمام، فقال: ساءلت نفسي صباح يوم: ماذا صنعت من أجل مصر، وماذا صنعت مصر من أجلي؟ ولا أكتمكم الحق أيها الأصدقاء؛ فقد وجدت أن ما صنعه الشعب لي أضعاف ما صنعته له، فأحسست بشيء من الألم - وكثيرا ما أتألم هذه الأيام - وذكرت المولى المعبود مينا الذي وهب الوطن وحدته المقدسة، فلم يهبه الوطن بعض ما وهبني، فاستصغرت نفسي وأقسمت لأجزين شعبي إحسانا بإحسان وجميلا بجميل.

فقال القائد أربو بحماس: لقد قسا جلالة الملك على نفسه في الحساب.

فقال خوفو دون أن يعير حديث قائده اهتماما: إن الملوك ليظلمون كثيرين وإن توخوا العدل والإنصاف، وإنهم ليؤذون كثيرين وإن حرصوا على النفع والخير، وما من عمل سوى عمل الخير الخالد يكفر عن السيئات، ويمحو الهفوات، وقد هداني الألم إلى عمل نافع عظيم.

ونظر إليه الملأ متسائلين، فقال: إني أفكر أيها السادة في تأليف كتاب عظيم أضمنه تجارب الحكمة وأسرار الطب الذي ولعت به منذ صباي، فأترك من بعدي إرثا عظيما لشعب مصر يهدي أرواحهم ويصون أجسامهم.

فصاح ميرابو بفرح عظيم: يا له من عمل مجيد يا مولاي، ستحكم به شعب مصر إلى الأبد!

فابتسم فرعون إلى المعمار، وقال هذا مرة أخرى: ستزيد كتبنا المقدسة كتابا جديدا.

وكان الأمير رعخعوف يزن ما ينوي الملك صنعه في عقله فقال: ولكنه يا مولاي عمل يقتضي أعواما طويلة.

وقال القائد أربو: لقد كتب قاقمنا كتابه في عشرين عاما!

ولكن الملك هز منكبيه العريضين وقال: سأهبه ما تبقى من حياتي.

صمت الملك لحظة ثم قال: أتعلمون أيها السادة أين هو المكان الذي اخترته لأنشئ فيه كتابي ليلة بعد ليلة؟

ونظر فرعون إلى الوجوه المتسائلة وقال: حجرة التابوت بالهرم الذي احتفلنا به اليوم.

وبدت على الوجوه الدهشة والإنكار، فقال فرعون: إن قصور الدنيا تغلب عليها جلبة الحياة الفانية؛ فلا تصلح لإنتاج عمل خالد!

وانتهى الاجتماع عند ذاك، لأن الملك لم يكن يحب المناقشة فيما بت فيه برأي نهائي، فانصرف الأصدقاء، وحين ركب ولي العهد عربته مال على رئيس حجابه وقال بامتعاض شديد: إن فرعون يؤثر الشعر على الحكم!

أما الملك فقد ذهب إلى قصر الملكة ميرتيتفس، ووجدها في مخدعها مع الأميرة الصغيرة مري سي عنخ، شقيقة رعخعوف التي لم تتجاوز العاشرة، وقد جرت الأميرة إليه كالحمامة، والفرح يلمع في عينيها السوداوين الجميلتين ...

مري سي عنخ ذات الوجه البدري واللون الخمري والعينين اللتين تشفيان بصفائهما من السقام، ولم يتمالك فرعون من أن يبتسم ابتسامة الحب، ويزيح عن صدره الهموم والأحزان، ويتلقاها بذراعين مفتوحتين.

14

هبت نسمة من الفرح على قصر بشارو ذلك اليوم، تبدت آثارها في وجه زايا الضاحك ونافا والمفتش نفسه، وكأن جاموركا قد استبشر خيرا وأحس إحساسا باطنا بأنه ينبغي له أن يفرح، فتمطى ونبح وعدا في ممرات الحديقة كالسهم الطائش ...

وكانوا جميعا ينتظرون، فسمعوا جلبة في الحديقة وعلا صوت خادم يقول بفرح: «سيدي الصغير.» فهبت زايا واقفة وجرت نحو السلم وهبطت الأدراج لا تلوي على شيء، وفي نهاية الردهة رأت ددف في بذلته البيضاء وقلنسوته الفرعونية بهيا كشعاع الشمس، ففتحت ذراعيها، إلا أن جاموركا كان أسرع إليه منها، فهجم على سيده بعنف واحتضنه بيديه وعلا نباحه يشكو إليه ما لقي من عذاب الشوق وآلام الحنين، فأزاحت زايا الكلب جانبا وضمت الابن العزيز إلى قلبها وأشبعته لثما وتقبيلا وهي تقول له: ردت الروح إلي يا بني ... كم أوحشتني عيناك، وكم هزني الشوق إلى اجتلاء وجهك الجميل ... عزيزي، أنت أنحف كثيرا مما كنت وقد لفحت الشمس وجهك. وأنت متعب يا ددف!

وأتى نافا مع جلبته وضحكه، وقال يحيي أخاه: أهلا بالضابط العظيم.

فابتسم ددف وسار بين أمه وأخيه، وجاموركا يرقص أمامه طربا ويقطع عليه الطريق من كل جانب، واستقبله المفتش استقبالا عاطفيا وقبل خده، ونظر إليه مليا بعينيه البارزتين اللتين تدعيان الفراسة وقال: تغيرت يا بني في هذين الشهرين، وبدت عليك الرجولة حقا، وقد فاتك الاحتفال بالهرم العظيم، ولكن لا تأسف على هذا؛ فسآخذك لمشاهدته بنفسي؛ فإني ما زلت ولن أزال مفتشا على منطقته حتى أحال على المعاش. ولكن لماذا أنت متعب يا بني؟

فضحك ددف وقال ويده تعبث برأس جاموركا: الحياة العسكرية شديدة قاسية ... وسحابة النهار في المدرسة تمضي عادة بين الجري والسباحة وركوب الخيل ... وإني الآن فارس ماهر!

فقالت الأم: فلتحفظك الآلهة يا بني.

وسأله نافا: وهل ترمي الرمح وتطلق السهام؟

فقال ددف يشرح لأخيه نظام المدرسة بإسهاب التلميذ المفتون: كلا ... إننا نتدرب في السنة الأولى على الألعاب وركوب الخيل والسباحة، وفي السنة الثانية نتعلم المبارزة بالسيف والخناجر والمزاريق، وفي السنة الثالثة نتمرن بالرماح، وتلقى علينا دروس نظرية، والسنة الرابعة للقسي والعلوم التاريخية، والسنة الخامسة للتدريب على العجلات الحربية، أما العام السادس فللعلوم الحربية وزيارة القلاع والحصون.

فقال نافا: إن قلبي يحدثني بأني سأراك قائدا كبيرا يا ددف ... إن وجهك يثير في النفس الحماس، لا ريب في هذا فإن صناعتي استيحاء السجايا من ملامح الوجه ...

وكأن ددف تذكر أمرا هاما فتساءل باهتمام: أين خنى؟

فقال بشارو: ألا تعلم أنه انخرط في سلك الكهنوت؟ وأنهم يحتفظون به الآن خلف جدران معبد بتاح، ويلقنونه العلوم الدينية، ويفقهونه في الأخلاق والفلسفة في عزلة بعيدة عن جلبة الدنيا وضوضائها. وإنه ليتدرب على حياة هي أقرب الحيوات شبها بحياة الجندية؛ فهو يغتسل في النهار مرتين وفي الليل مرتين، ويحلق شعر رأسه وبدنه، ويلبس الصوف، ويصرف عن أكل السمك ولحم الخنزير والبصل والثوم ... إنه يا بني يجوز أشد الامتحانات قسوة، ويلقن أسرار العلم المحرمة على غيره من البشر، فلندع له جميعا أن تثبت الآلهة قدمه؛ لتخلق منه خادما مخلصا لها ولعبادها المؤمنين.

فقالوا جميعا في نفس واحد: آمين!

وسأل ددف: ومتى يسعدني الحظ برؤيته؟

فقال نافا بلهجة أسيفة: لن تراه قبل أربع سنوات وهي سنو التجربة العظيمة.

فاكفهر وجه ددف حزنا وشوقا إلى معلمه الأول، أما زايا فسألته: وكيف نراك بعد اليوم؟ - في أول كل شهر.

فقطبت جبينها، ولكن نافا ضحك وقال: لا تستحثي الحزن يا أماه ... ولننظر كيف نقضي يومنا هذا ... ما رأيكم في نزهة نيلية؟

فصاحت زايا منكرة: في كيهك؟!

فقال نافا ساخرا: وهل يهاب الجندي قساوة الأنواء؟

فقالت زايا بحدة: ولكني لا أقدر على جو كيهك، ولا على مفارقة ددف دقيقة واحدة هذا اليوم. فلنبق جميعا في البيت ... وإني مدخرة له حديثا طويلا لا قبل لي بحفظه في صدري بعد الآن.

ولاحظوا جميعا أن ددف فتر مرحه، وندر حديثه، وغشيته حالة جديدة من الرزانة والجمود، وقد نظر إليه نافا قلقا بطرف خفي وساءل نفسه: ترى هل يتشبث ددف بطبيعته الجديدة أبدا؟ إنه ينفر من الرزانة والجمود، ولعله لم يحس بوحشة لغياب خنى لما عرف به من الرزانة والجفاء، ولكنه أنكر على نفسه مخاوفها، وقال: إن ددف ما يزال حديث عهد بالحياة العسكرية، وإنه لذلك لن يتم له هضمها في وقت قصير، فلن تزال بنفسه جفوة منها وألم حتى يألفها، ويتطبع بطباعها، وحينذاك تنجاب عن قلبه الوحشة، وترتد إليه طبيعة المرح والسرور. وظن أنه لو صحبه إلى معرض فنه، فربما استطاع أن يعيد إليه انشراحه، فقال له: أيها الضابط، ما رأيك في زيارة معرض صوري؟

ولكن زايا قالت بغيظ: لا تفتأ تحاول سلبه مني! كلا يا سيدي، لن يبرح اليوم البيت.

فتنهد نافا وسكت، وخطرت له فكرة، فأحضر لوحة وقلما وقال لأخيه: سأرسم صورتك في هذا الرداء الأبيض الجميل، وسأحتفظ بالصورة ذكرى جميلة تنظر إليها بعيني الحنان والشوق حين تزين منكبيك بوشاح القيادة!

وباشر عمله بهمة ونشاط، وقضت الأسرة يوما سعيدا في سمر وأحاديث.

وكانت أمثال تلك الزيارة تقع كل شهر مرة، وتفوت كلمح البصر ، وقد انجابت وساوس نافا، وفارق الجفاء ددف ورجع سريعا إلى طبيعته المرحة الجسور، استعاد جسمه القوة والفتوة، وسار قدما في طريق النمو والقوة والجمال ...

وكان الصيف - حين تغلق المدرسة أبوابها - أسعد أيام زايا وجاموركا، وكانت تعاود البيت فيه جلبة الحياة ومرح النشاط اللذان سكتا به منذ تفرق شمل الإخوة، كل إلى حال سبيله، وكانت الأسرة كثيرا ما ترتحل إلى الريف، أو شمال الدلتا للصيد والقنص، فكانوا يشغلون قاربهم، ويمخرون به عباب البحيرات التي تظلها نباتات البردي وأشجار اللوتس، ويقف بشارو بين ابنيه نافا وددف وكل ممسك بعصا الصيد المعقوفة، حتى إذا حلقت بطة لا تدري بما يخبئه لها القدر، أحكم كل منهم تسديد الهدف وقذف بها بما يستطيع من القوة والمهارة.

وكان بشارو صيادا ماهرا ... وكان صيده أضعاف صيد ابنيه معا، وكان يحدج ددف بنظرة متعالية ويقول بصوته الأجش: ألا ترى أيها الجندي كيف يحكم أبوك الرماية؟ لا تعجب؛ فقد كان والدك ضابطا في جيش الملك سنفرو، وكانت قوته كافية لتشتيت قبيلة من الهمج بغير قتال.

وكانت رحلات الصيد تنطوي في متعة وفرح ورياضة لا نظير لها في الأيام الأخرى، ولكن لم يهدأ بال بشارو حتى اصطحبه معه إلى زيارة الأهرام، وكان غرضه الأول من الزيارة أن يطلعه على نفوذه وسلطانه، ويريه استقبال الجند والموظفين له.

ودعاه نافا لزيارة معرضه وأطلعه على صوره ذات الألوان ورسوماته الجميلة، وكان الشاب ما يزال يعمل جاهدا بلا طائل على رجاء أن يدعى يوما للاشتراك في عمل فني له قيمته في أحد قصور الأغنياء أو الهواة، أو أن يشتري أحد الزوار بعض معروضاته ... وكان ددف يحب نافا، فأحب آثاره وأعجب خاصة بالصورة التي رسمها له في بذلته الحربية البيضاء، فجاءت آية على ملامحه ونظرة عينيه.

وكان نافا في ذلك الوقت يرسم صورة للمعمار الخالد ميرابو الذي صنع أكبر معجزة فنية في الوجود.

وقد قال لددف وهو يريه الرسم التخطيطي للصورة: لم أبذل من قبل في صورة نصف ما بذلت في هذه، ذلك أن بطلها ينزل من نفسي منزلة الآلهة.

فسأله ددف: هل ترسمها من الذاكرة يا أخي؟

فقال: نعم يا ددف؛ لأني لا أرى الفنان الأعظم إلا في الأعياد والحفلات الرسمية التي يظهر فيها ركاب فرعون، ولكنها تكفي لحفر صورته في قلبي وعقلي!

واستدار العام وذهب ددف مرة أخرى إلى المدرسة، ودارت عجلة الزمان ... وتقدمت حياة أسرة بشارو في طريقها المقدر؛ الأب إلى الشيخوخة، والأم إلى الكهولة، وخنى إلى التفقه في الدين، ونافا إلى إتقان فنه الجميل.

وأوسع ددف خطاه نحو التفوق والنبوغ وإتقان الفنون الحربية، فاكتسب شهرة في المدرسة الحربية لم يفز بها تلميذ من قبل.

15

سار ددف في شارع سنفرو الذي لا ينقطع تيار المارين به، يلفت الأنظار ببذلته الحربية البيضاء، وجسمه الفارع، وجماله الجاهر، حتى انتهى به المسير إلى مدخل بيت «نافا بن بشارو - إجازة معهد خوفو للرسم والتصوير» وقرأ اللافتة باهتمام كأنما يراها للمرة الأولى، وقد ارتسمت على فمه الجميل ابتسامة حلوة مشرقة، ثم اجتاز الباب، وفي الداخل رأى أخاه مكبا على عمله غير شاعر بما حوله، فصاح به ضاحكا: السلام عليك أيها المصور العظيم.

فالتفت إليه نافا بوجهه الحالم الدهش، فلما عرف القادم، قام واقفا وأقبل عليه مرحبا وهو يقول: ددف ... يا للحظ السعيد! كيف حالك يا رجل؟ هل زرت البيت؟

وتعانق الأخوان مليا، وقال ددف وهو يجلس إلى كرسي قدمه إليه الفنان: نعم زرته، ثم أتيت إليك رأسا؛ فأنت تعلم أن بيتك هذا جنتي المختارة!

فضحك نافا بصوته العالي وطفح وجهه بالسرور، وقال: ما أسعدني بك يا ددف! وإن كنت أعجب كيف تهوي نفس ضابط مثلك إلى هذا الرسم الهادئ الحالم الجميل! أين هو يا ددف من ميدان القتال وقلاع بوسيريس وبريمس!

فقال ددف: لا تعجب يا نافا فأنا جندي حقا، ولكن حببت إلي الفن الجميل كما بث في خنى حب الحكمة والمعرفة.

فرفع نافا حاجبيه إعجابا وقال: لكأنك ولي عهد المملكة! ألا ترى أنهم يهيئونه للعرش بتعليمه الحكمة والفن والحرب؟ وإنها لسياسة سامية جعلت من ملوك مصر آلهة، وستجعل منك قائدا عديم النظير ...

فتصاعد الدم إلى وجه ددف وقال مبتسما: أنت يا نافا - كأمي - لا تراني حتى تنعتني بسجايا الخير جميعا.

فضحك نافا ضحكا عاليا متواصلا، واسترسل في الضحك حتى أشفى على التهلكة وأثار دهشة ددف.

فسأله: ما لك؟ ما الذي يضحكك هكذا؟

فرد عليه الشاب وهو ما يزال يضحك: إني أضحك يا ددف؛ لأنك شبهتني بأمك. - وماذا يضحك في هذا؟ ... إني أعني ... - لا تكلف نفسك مشقة الشرح أو الاعتذار؛ فإني أعلم بما تعني، ولكن المسألة أن هذه هي المرة الثالثة التي أشبه فيها اليوم بامرأة؛ فقال لي والدي صباح اليوم واجدا: «أنت كالفتاة سريع التقلب.» وقال لي الكاهن شلبا منذ ساعة، وكان يحدثني في شأن صورة له: «أنت يا سيد نافا يتغلب عليك الوجدان كالنساء.» وها أنت ذا تقول إني كأمك! فهل يا ترى رجل أنا أم امرأة؟

فضحك ددف بدوره وقال: أنت رجل يا نافا، ولكنك رقيق النفس حساس الوجدان، ألا تذكر أن خنى قال مرة: إن الفنانين جنس بين الرجال والنساء؟

فقال نافا: إن خنى يعتقد أن الفن يقتضي إعارة من الأنوثة، ولكني أعتقد أن وجدانية المرأة تناقض وجدانية الفنان في الغاية؛ لأن المرأة بطبعها نفعية، تتوخى ما يحقق غايتها الحيوية على أكمل الوجوه، أما الفنان فلا غاية له إلا استكناه ذوات الأشياء، وهذا هو الجمال؛ لأن الجمال هو استجلاء ذات الشيء الذي يجعل منه ومن بقية المخلوقات وحدة ذات انسجام ...

فضحك ددف وقال: أتظن أنك بتفلسفك هذا قادر على إقناعي بأنك رجل؟

فحدجه نافا بنظرة تحد وقال: أما تزال محتاجا إلى دليل؟ ... إذن فاعلم أني سأتزوج.

فبدت الدهشة على وجه ددف وسأله: أحقا ما تقول؟

فأغرق نافا في الضحك وقال: أيبلغ بك إنكار الزواج علي؟ - كلا يا نافا ... ولكني أذكر أنك أغضبت والدنا عليك لزهدك في الزواج.

فوضع نافا يده على قلبه، وقد تبدت على وجهه آيات الجد وقال: أحببت يا ددف ... أحببت بغتة!

فتجمع وجدان ددف في انتباه واحد وسأله في لهفة : بغتة؟! - نعم، كنت كالطائر الذي يحلق في السماء آمنا، وما يشعر إلا وسهم يستقر في قلبه فيهوي! - متى وأين؟ - ددف، إذا قيل حب فلا تسل عن الزمان والمكان! - من هي؟

فقال بإجلال كأنه ينطق باسم إيزيس: ماتا ابنة كامادي المفتش بوزارة المالية. - وماذا أنت فاعل؟ - سأتزوج منها.

فقال ددف بصوت الحالم: أهكذا تتغير الأمور؟ - وبأسرع من هذا، سهم وأصاب، فماذا يصنع الطائر؟

حقا إن الحب شيء عظيم، عرف ددف الفن والحكمة والسيف. أما الحب فهذا لغز جديد. وكيف لا يكون لغزا وقد فعل في ساعة ما عجز عنه بشارو في سنين! وأحس بوجدانه يفور وروحه تهيم في وديان بعيدة الآفاق.

أما نافا فقد استطرد يقول: ويشاء الحظ السعيد أن أوفق في حياتي الفنية؛ فقد دعاني السيد فاني إلى زخرفة بهو استقباله، وغدوت تثمن بعض صوري بعشر قطع من الذهب فآبى أن أبيعها. انظر إلى هذه الصورة الصغيرة!

فحول ددف وجهه الهائم إلى حيث يشير أخوه، فرأى صورة صغيرة تمثل فلاحة صبية على شاطئ النيل عند الغروب، وقد خضب الشفق أفق السماء، وكأنه ارتاع لجمال الصورة التي جذبته من وديان الأحلام، فدلف إليها حتى صار منها على بعد ذراع، وشاهد نافا إعجابه فسر سرورا لا مزيد عليه، وقال: ألا ترى أنها صورة غنية بالألوان والظلال؟ انظر إلى النيل والأفق!

فقال ددف بصوت الحالم: بل دعني أنظر إلى الفلاحة.

وكان نافا يتأمل صورته فقال: إن الريشة تخلد مشية النيل ذات الإجلال.

فقال ددف بلا اكتراث لما يقول الفنان: يا للأرباب ... إنه جسم لدن ... له استقامة الرمح. - انظر إلى الحقول وإلى الزرع المائل، علام يدل ميله؟

فقال ددف وكأنه لا يسمع ما يقول صاحبه: ما أجمل الوجه الخمري البدري! - إنه يدل على ريح الجنوب. - ما أجمل العينين السوداوين ... إن لهما نظرة إلهية. - ليست الفلاحة كل شيء في الصورة، انظر إلى الشفق فالآلهة وحدها تعلم كم أجهدني في تصويره وتلوينه.

فنظر ددف إليه وقال بحماس جنوني: إنها حياة يا نافا. إني أكاد أسمع غمغمتها ... كيف تعيش معها يا نافا تحت سقف واحد؟

ففرك يديه حبورا وقال: رفضت في سبيلها عشر قطع من الذهب الخالص. - لن تباع هذه الصورة أبدا. - ولمه؟ - هي صورتي ولو دفعت لها حياتي!

فضحك نافا وقال: واها يا سن السابعة عشرة! إنك نار تضطرم ... ولهب يندلع. إنك تبثين الحياة والأنوثة في الأحجار والمياه والألوان. إنك لتعشقين الأوهام والأخيلة، وتخالين الأحلام حقائق واقعة ... وتصلين ابنك عذاب الجحيم! ...

فالتهب وجه الشاب دما وسكت عن الكلام، فأشفق نافا من إغضابه فقال: لبيك أيها الجندي.

فقال ددف بتضرع: لا تفرط في هذه الصورة يا نافا.

فقام نافا إلى الصورة ورفعها من مكانها وقدمها إلى أخيه وهو يقول: هي لك يا ددف العزيز.

فوضعها ددف بين يديه برفق كأنه يمسك بقلبه، وقال بصوت الممتن الشكور: شكرا لك يا نافا!

وجلس نافا راضيا، وأما ددف فلازم وقفته لا يريم ... واستغرق في تأمل الفلاحة الإلهية ثم قال: كم يفتن الخيال المبتدع!

فقال نافا بهدوء: ليست من خلق الخيال.

فزلزل قلب الشاب وسأل برجاء: أتعني أن صاحبتها من الأحياء؟ - نعم ... - وهل ... وهل هي كصورتها؟ - ربما فاقتها حسنا ... - نافا!

فابتسم الفنان، وسأله الشاب المفتون: أتعرفها؟ - رأيتها مرات على شاطئ النيل. - أين؟ - شمال منف. - هل تذهب دائما إلى هناك؟ - كانت تذهب كل أصيل هي وأخوات لها، فيجلسن ويلعبن، ويختفين مع اختفاء الشمس ... وكنت أتخذ مكاني خفية خلف شجرة الجميز، وأنتظر حضورهن بفارغ الصبر! - وهل يواظبن على حضورهن؟ - لا أدري؛ فقد انتهت متابعتي لهن بانتهائي من الصورة.

فنظر إليه بارتياب وسأله بخوف: وكيف استطعت؟

فابتسم نافا وقال: هذا جمال أعبده ولكني لا أحبه.

فلم يعبأ ددف بكلامه وسأله: في أي بقعة كانت ترى؟ - شمال معبد أبيس. - ترى هل ما تزال تذهب إلى هناك؟ - وما الداعي إلى تساؤلك أيها الضابط؟

فتحيرت في عيني ددف نظرة ملتهبة، فقال نافا: هل قضي أن يصيب السهم الأخوين في أسبوع واحد؟

فقطب ددف جبينه وعاد إلى تأمل الصورة، فقال نافا: لا تنس أنها فلاحة.

فتمتم ددف قائلا : بل ربة جميلة.

فقال نافا ضاحكا: واها يا ددف العزيز، لقد أصابني السهم فترديت في قصر كامادي، وأخشى إن كان أصابك أن تقع على كوخ متهدم! ...

16

كان اليوم يحمل طابع الأحلام، فلدى عصره وضع ددف الصورة على صدره، وذهب إلى شاطئ النيل واكترى قاربا اتجه به صوب الشمال ...

ولم يكن يعي ما يفعل، ولا يقدر عاقبة تصرفه، وكل ما يمكن قوله أنه مسه سحر الافتتان فأطاع وحيه وأصاخ إلى ندائه، فانطلق يعدو إلى غايته المجهولة مدفوعا بعاطفة قهارة لا تقاوم، فقد أصابه مس من الافتتان، واستقر الافتتان في قلب شجاع لا يهاب الموت، جسور لا يلوي على المخاطر، فكان من الطبيعي أن ينطلق لأنه ليس من عادته أن ينكمش، وليكن ما يكون ...

وراح القارب يشق الماء مدفوعا بقوة التيار وشدة الساعدين الفتيين، وجعل ددف يرسل بناظريه إلى الشاطئ يبحثان عن ضالته، فما رأتا أول الأمر إلا حدائق قصور أغنياء منف التي تهبط إلى سطح النيل بدرجات رخامية. وسار فراسخ لا يرى سوى الحقول المنبسطة حتى لمح عن بعد حديقة القصر الفرعوني، فمال بقاربه إلى وسط النهر ليبتعد عن منطقة الحرس النيلي، ثم عرج مرة أخرى إلى الشاطئ عند مقام معبد أبيس، ثم أوغل شمالا محاذيا للبقعة التي لا ترى الناس إلا في المواسم والأعياد. وكاد يشفي على اليأس والقنوط لولا أن رأى على بعد قريب قطيعا من الفلاحات يجلسن على الشاطئ تاركات سيقانهن في الماء الجاري، فخفق قلبه خفقة شديدة طردت القنوط طردا، والتمعت عيناه بنور الأمل البهيج، فاشتد ساعده وحول القارب إلى الشاطئ، وكان كلما قطع ذراعا التفت إليهن وأمعن النظر، فلما أن دنا منهن واستطاع أن يرى وجوههن فرت من فمه صيحة خافتة، كصيحة الأعمى الذي ترد إليه نعمة الإبصار على حين فجأة، وذاق غبطة الغريق الذي صادفت قدماه صخرة ناتئة وقد أشفى على الغرق؛ فقد رأى الفلاحة المنشودة، صاحبة الصورة التي على قلبه، جالسة على الشاطئ وسط هالة من أترابها، وكان كل شيء - كما قلنا - موسوما بروح الأحلام، فرسا القارب قريبا منهن، ووقف فيه ددف بقامته الفارعة وبزته البيضاء الأنيقة، يتيه بجسم كأنه تمثال القوة المعبود، وجمال فاتن كأنه إله النيل انحسرت عنه أمواجه القدسية، وجعل يرنو إلى ذات الوجه الملائكي بوجه شفه الهيام والافتتان، فتولت الحيرة الفلاحة، ومضت تقلب عينيها في وجوه صويحباتها، ومضين يقلبن أعينهن في وجهها المشرق، وكن يظننه عابرا، فلما رأينه واقفا سحبن سيقانهن من النيل، وارتدين صنادلهن وتولاهن الإنكار.

فقفز ددف من القارب فصار على بعد ذراع منهن، وقال للفلاحة بصوت رقيق: طيب الرب مساءك أيتها الفلاحة الجميلة.

فرمقته بنظرة إنكار وكبرياء، وقال له أكثر من صوت من أصوات العصافير المحيطة بها: ماذا تريد منا يا سيدي؟! ... سر في حال سبيلك!

فوجه إليها نظرة عتاب وقال: ألا تردين تحيتي؟

فولت عنه برأسها المتوج بتاج الليل غضبا، وصاحت به الكثيرات: سر في سبيلك أيها الشاب، نحن لا نكلم من لا نعرفه!

فقال ددف: ترى هل عادة البلد الطيب الذي أنبتكن أن يلقى الغريب بمثل هذا الجفاء؟

فقالت واحدة بحدة: الذي يبدو على وجهك الاستهتار لا الغربة! - كم تقسين علي! - إن كنت غريبا حقا، فليس هذا المكان بغاية الغرباء، عد جنوبا إلى منف أو سر شمالا إلى حيث شئت، ودعنا في سلام، فنحن لا نكلم من لا نعرفه!

فهز ددف كتفيه استهانة وقال وهو يشير إلى الفلاحة الجميلة: إن مولاتي تعرفني حق المعرفة.

فتولاهن الإنكار ونظرن إلى الفتاة الجميلة فألفينها غاضبة، وسمعنها تقول له: أتفتري علي كذبا!

فقال الشاب: أبدا وحق الرب، لقد عرفتك منذ زمن طويل، وما جددت في طلبك إلا بعد أن خانني الصبر ولج بي الشوق.

فقال الجميلة الغاضبة: كيف تزعم هذا، وما رأتك عيناي قبل الآن؟

وقالت إحدى صويحباتها: ولا تحب أن تراك بعد الآن؟

وقالت أخرى بلهجة مرة: ما أقبح أن يهاجم الجنود الفتيات!

ولكنه لم يبالهن، وقال للتي لا تتحول عن وجهها عيناه: طالما رأيتك وطالما امتلأت بك نفسي. - كاذب ... عديم الحياء. - حاشاي أن أكذب، ولكني أحتمل كلامك القاسي بشغف، إكراما للفم الجميل الذي ينثره. - بل أنت كاذب مدع يبغي طريقة عوجاء! - قلت حاشاي أن أكذب ... وإليك الدليل.

قال ذلك ودس يده في صدره وأخرج الصورة وواجهها بها وهو يقول: هل أستطيع أن أرسم هذه الصورة دون أن تمتلئ عيناي بسناك؟

ونظرت الصبية إلى الصورة، فلم تتمالك أن تصيح بإنكار وسخط وخوف، وامتلأت نفوس البنات سخطا، وهجمت عليه إحداهن بغتة تريد أن تنتزعها منه، ولكنه رفع بها ذراعه بسرعة البرق وابتسم ظافرا وقال: أرأيت كيف أنك ملء خيالي ونفسي؟

فقالت بغضب شديد: هذه خسة ونذالة. - ولم؟ ألأنه راقني حسن فصورته؟

فقالت بحدة لم تخل من توسل: رد إلي هذه الصورة.

فقال وعلى فمه ابتسامة حلوة: لن أفرط فيها ما حييت. - أرى أنك من جنود المدرسة الحربية، فاعلم أن سوء أدبك هذا يعرضك إلى أقسى العقوبات.

قال بهدوء: إني أعرض نفسي بالنظر إليك إلى ما هو أشد قساوة. - يا عجبا لقد ابتليت بك ابتلاء. - وابتليت أنا ابتلاء أحق بالرحمة. - ماذا أردت بهذه الصورة؟ وماذا تريد مني الآن؟ - أردت بالصورة أن تشفيني مما فعلته بي عيناك، وأريد منك الآن أن تشفيني مما فعلته بي الصورة. - لم أكن أحلم قط أن يتعرض لي إنسان بمثل سفاهتك. - وهل كنت أحلم أن أسلب عقلي وقلبي في لحظة عابرة؟

وهنا صاحت به فلاحة أخرى: هل سعيت إلينا لتنغص علينا سعادتنا؟

وصاحت به أخرى وقالت: يا لك من شاب وقح سفيه! إني أنذرك بأني إذا لم تذهب سريعا استصرخت بالناس.

فنظر باطمئنان إلى الفضاء المحيط وقال بهدوء: لم أعتد أن أطلب شيئا فيعز علي.

فصاحت به الفلاحة الجميلة: هل تريد إرغامي على الاستماع إليك؟ - كلا ولكني ... ولكنني أطمع أن يلين قلبك فيهوي إلى الاستماع إلي! - وإذا وجدت قلبي كالصخر لا يلين؟ - وهل يشتمل هذا الصدر الرقيق على صخر؟ - إنه يتحول إلى صخر حيال سفاهة السفهاء. - وحيال شكوى المحبين؟

فضربت الأرض بقدمها وقالت بعنف: يصير أشد قساوة. - إن قلب أقسى الفتيات كقطعة الثلج، إذا مسها نفس حار ذابت وتدفقت ماء نميرا ...

فقالت بسخرية: إن هذا الكلام الذي تظنه رقيقا دليل على أنك جندي فاسد، يخفي جسم فتاة خلف رداء الجندية ... ولعلك سرقت هذا الرداء العسكري كما سرقت صورتي من قبل ...

فاحتقن الدم بوجه ددف الجميل وقال: سامحك الرب ... أنا جندي صادق الجندية، وسيحالفني النصر على قلبك كما حالفني في جميع الميادين!

فقالت بلهجة أشد سخرية: أي ميادين هذه التي تتكلم عنها؟ إن الوطن يتمتع بالسلام من قبل أن تتشرف بك الجندية، فيا لك من جندي يعقد له النصر في ميادين السلام والطمأنينة!

فاعتلاه الارتباك وقال: ألا تعلمين يا جميلة أن حياة التلميذ في المدرسة الحربية كحياة الجندي في الميدان؟ ولكن لا عليك من هذا سيغفر قلبي لك سخريتك مني ...

فقالت بغيظ: حقا إني أستحق اللوم؛ لأني صبرت على سفاهتك.

وهمت بالمسير، ولكنه حال بينها وبينه وقال مبتسما: لا أدري كيف أكتسب مودتك؟ أنا سيئ الحظ ... هل لك في نزهة نيلية في القارب؟

وارتاع البنات لتعرضه لصاحبتهن وأحطن بها. وصاحت به إحداهن: دعنا نذهب فقد لحقنا المغيب.

ولكنه لم يدعهن يذهبن، وكانت واحدة منهن تطلب منه غفلة، فلما لاحت فرصة انقضت عليه كاللبؤة وارتمت على ساقه وتعلقت به وعضته في فخذه، وارتمت عليه الفتيات جميعا، منهن من تعلقت بساقه الأخرى، ومنهن من احتضنته بقوة، وجعل يقاومهن بالصبر دون المدافعة، ولكنه عجز عن الحركة ورأى - وهو يكاد يجن - الفلاحة الجميلة تجري ناحية الحقول كالغزال النافر، فناداها وتوسل إليها، وقد اختل توازنه فسقط على الحشائش الخضراء، وما زلن يتشبثن به، ولم يتركنه حتى اطمأنن إلى اختفاء صاحبتهن. وقام مهتاجا غاضبا، وجرى في الطريق الذي ذهبت فيه، ولكنه لم ير إلا فضاء، فعاد قانطا وقد رجا أن يهتدي إليها بواسطة صاحباتها، ولكنهن كن دهاة فقعدن هادئات لا يبرحن أماكنهن.

وقالت له واحدة بسخرية: ابق الآن أو اذهب كما تشاء.

وقالت أخرى بخبث: عسى أن تكون هذه أول مرة تهزم فيها أيها الجندي.

فقال بغضب شديد: لم تنته المعركة بعد ... وسأتبعكن ولو رحلتن إلى طيبة!

فقالت التي عضته: سنبيت ليلنا هنا ...

17

وكان الشهر الذي قضاه في المدرسة بعد ذاك المساء الجميل أطول الشهور وأشدها قسوة، وكان في أول الأمر كثير التألم لكرامته وكبريائه يسائل نفسه مغيظا محنقا: كيف أخيب هذه الخيبة وما ينقصني الجمال ولا الشباب، ولا القوة ولا الغنى؟! وكان يديم النظر إلى المرآة، ويحدث نفسه ما الذي يعيبه؟ ما الذي ينفر الحسان منه؟ لماذا أصلته إهانة تلو إهانة، وسخرية بعد سخرية! لماذا فرت منه كما يفر السليم من الأجرب؟ ثم يجد رغبة شديدة إلى معاودتها وملاحقتها، ولكنه يذكر الشهر الطويل الذي تحجزه فيه المدرسة بين جدرانها، فتذهب نفسه حسرات، وتسيل جوى ولوعة؛ فقد يستطيع لو ثابر على مغازلتها يوما بعد يوم أن يكبح جماحها، ويلين عريكتها ويكتسب مودتها، وأي فتاة تقسو إلى الأبد؟ ولكن أنى له هذا وهو حبيس هذه الجدران الضخمة التي ترتد عنها القسي والنبال؟!

وبالرغم من كل شيء ظل مفتونا بها، لا تفارق صورتها صدره، كي يخلو إليها كلما خلا إلى نفسه، ترى من هي تلك الجبارة الفاتنة؟ فلاحة صغيرة؟ هذا عجيب، وأين أعين الفلاحات من عينيها النيرتين الساحرتين؟ وأين بساطة الفلاحات من كبريائها وعنادها؟ وأين سذاجة الفلاحات من سخريتها المريرة وتهكمها المتعالي؟ لو أنه باغت فلاحة بما باغتها به لربما فرت هاربة أو استسلمت راضية، ولكن هيهات! وهل يستطيع أن ينسى جلستها وسط صويحباتها كالأميرة بين أفراد حاشيتها ووصيفاتها؟ وهل ينسى كيف دافعته عنها مدافعة المستميت؟ وهل ينسى كيف لبثن بين يديه - بعد فرارها - لا يبرحن حذار أن يتبعهن إليها، صابرات على البرد والظلمة؟ فهل يفعلن كل هذا من أجل فلاحة مثلهن؟! كلا وكلا، ولعلها ريفية نبيلة بل عسى أن تكون كذلك حتى لا يقول نافا مرة أخرى إنه وقع على كوخ متهدم؟ ولكن هل وفق معها لكي يقول ذلك لنافا مرة أخرى؟ وا أسفاه ...!

ومهما يكن فقد انتهى الشهر الذي خاله لا ينتهي أبدا، وغادر المدرسة كمن يغادر سجنا رهيبا، وذهب إلى البيت بشوق مدخر لغير أهله، وقابلهم بفرح ليس هم الباعث عليه، وجلس بينهم بقلب غائب، فلم يلاحظ ما طرأ على جاموركا من الجمود والفتور، وانتظر العصر بصبر فارغ، ذلك العصر الذي عد الدقائق إليه شهرا كاملا، ثم انطلق إلى بقعة أبيس الطاهرة تنشد عيناه الوجه الحبيب ...!

وكان الشهر برمودة والجو معتدلا رطبا، آخذا من البرد بقبضة تنعش، وآخذا من الدفء بنفس حي يغري باللهو والهوى، وكانت السماء بيضاء، رقيقة البياض، يشف بياضها الرقيق عن زرقة باهتة.

وألقى على المكان العزيز نظرة ملؤها الحنو، وساءل نفسه المشوقة: أين الفلاحة ذات العينين الفاتنتين؟ ترى هل تذكره؟ أم هل لا تزال تجد عليه؟ وهل ما يزال رجاؤه لديها عسيرا؟ أيستحيل أن يلقى حبه صدى في قلبها؟ ولكن أين هي؟

إن البقعة خلاء لا تجيب، صماء لا تلبي نداء، فما من معين على البلوى أو صارخ على الشكوى، والقلب يستشعر وحشة، ويحس بدبيب الخيبة، ويجثم عليه روح تشاؤم وقنوط.

والوقت - إذا غره الأمل لا يزال أمامه متسع لمجيئها - يمر ثقيلا بطيئا، وإذا خيل إليه القنوط أن موعدها انقضى أحس بالزمن ينطلق انطلاق السهم، وكأن الشمس تركب عربة سريعة تعدو بها إلى الأفق الغربي.

ومضى يحوم حول المكان الذي رآها فيه أول مرة، وجعل ينظر إلى الحشائش الخضراء طمعا أن يرى أثرا لصندلها أو سحب ذيلها، ولكن الحشائش لم تحفظ من جسمها اللدن أكثر مما حفظ الماء من ساقيها!

ترى هل تواظب على زيارة هذا المكان كما كانت تفعل من قبل، أم أنها زهدت في نزهتها زهدا في رؤيته؟ أين هي؟ وكيف السبيل إليها؟ هل ينادي بغير اسم؟ هل يصرخ في الفضاء؟ وجعل يدور حول المكان الحبيب حائرا، نافد الصبر، يتقاذفه القنوط والأمل ... ولاحت منه التفاتة إلى السماء فرأى الشمس تميل إلى الأفق، ورأى توهجها يخبت فتقدر العين على النظر إليه كأنها جبار مارد أذلته الشيخوخة، وأطمعت فيه الضعفاء، فذوى أمله وغرق في لجة اليأس، واعتلاه حزن شديد، وولى وجهه شطر الحقول فرأى هيكل قرية، فشخص إليها وما يدري ما يفعل، وفي منتصف الطريق التقى بفلاح آئب بعد جهد النهار الواصب، فسأله عن القرية، فقال الرجل وهو ينظر إلى بدلته باحترام: «هي قرية آشر يا سيدي.» فكاد من اليأس أن يريه الصورة الساكنة على صدره ويسأله عن صاحبتها.

واستأنف رحلته، ولم تكن له غاية محدودة، ولكنه وجد في السير راحة لم يجدها في الوقوف والدوران، وكأن الأمل الخلب الذي غرر به ساعة على شاطئ النيل طار إلى ربوع تلك القرية فاتبع أثره. وكان مساء لا ينسى؛ فقد اخترق طرقات القرية يقرأ الوجوه ويسائل الديار، فأثار منظره الفضول ولفت جماله الأنظار، واتجهت إليه العيون من كل صوب، وما لبث أن وجد نفسه يسير وسط أمة من الفتيات والغلمان والصبيان، وأخذ يعلو الحديث والهتاف، وما وجد لضالته أثرا، فتحاشى أهل القرية وغادرها سريعا، وأسرع الخطى نحو النيل في ظلمة من النفس وظلمة من الكون.

كان حزينا، يائسا، تحرق اللوعة صدره، وتمزق الحسرة قلبه، وقد ذكرته حاله بمأساة الربة إيزيس حين ذهبت تبحث عن أشلاء زوجها أوزوريس التي نثرها ست في تضاعيف الرياح، وقد كانت الأم إيزيس أسعد حظا منه، أما هو فلو كانت حبيبته طيفا من أطياف الأحلام، لكان الأمل في العثور عليه أدنى إلى قلبه.

أحب ددف الجميل، ولكنه كان حبا غريبا، حبا بلا حبيبة، حبا ليس عذابه الصد أو الخيانة أو ويلات الزمن وكيد الناس، لكن عذابه أنه بلا حبيبة. كانت حبيبته كنسمة هائمة حملتها ريح هوجاء وذهبت بها إلى حيث لا يعلم إنسان. فقلبه ضائع لا يعرف له مستقرا، لا يدري إن كان قريبا أم بعيدا، لا يدري إن كان بمنف أم في أقصى بلاد النوبة، فيا لها من أقدار قاسية تلك التي حولت عينيه إلى تلك الصورة التي يحتفظ بها على قلبه، كانت أقدارا قاسية تعرفها الأرواح الشريرة التي يطيب لها عذاب البشر. •••

وعاد إلى البيت والتقى بأخيه نافا في الحديقة، فقال الفنان: أين كنت يا ددف؟ لقد طالت غيبتك. ألم تعلم أن خنى في حجرته؟

فقال ددف بدهشة: خنى! ... أحقا ما تقول؟ ولكني لم أجده حين مجيئي.

فقال نافا: جاء منذ ساعتين وهو ينتظرك.

فهرع إلى حجرة الكاهن الذي لم تقع عليه عيناه منذ سنوات، ورآه جالسا، كما تعود أن يراه في الأيام الخوالي، والكتاب في يده، فلما رآه قام إليه وهو يقول بفرح: ددف! كيف أنت أيها الضابط الهمام؟

وتعانقا طويلا، وقبله خنى في خديه وباركه باسم الرب بتاح وقال له: كم تمر الأعوام سريعا يا ددف! إن وجهك هو هو الوجه الجميل ... ولكنك تنمو نموا عظيما، وكأني أرى فيك صورة جندي باسل من الجنود الذين يباركهم الملك عقب المواقع الكبرى، وتخلد بطولتهم جدران المعابد ... يا عزيزي ددف، كم أنا سعيد برؤيتك بعد هذه الأعوام الطوال!

فقال ددف والفرح يغمره: وأنا سعيد جدا يا أخي العزيز، تالله لقد غدوت صورة صادقة من رجال الكهنوت في نحافة جسمك، وهيبة محضرك، ونفاذ عينيك، هل انتهيت من الدراسة أيها الأخ العزيز؟

فابتسم خنى وقال وهو يجلس ويفسح له مكانا إلى جانبه: إن الكاهن لا ينتهي من العلم أبدا؛ لأنه لا نهاية للعلم. وقد قال قاقمنا: إن العالم يطلب العلم من المهد إلى اللحد، ويموت جاهلا. ولكني أتممت الدراسات التعليمية الأولى. - وكيف كانت حياتك في المعبد؟

فنظر إليه الشاب بعينين حالمتين وقال: واها لك أيها الزمان، كأني أستمع إليك قبل عشر سنوات وأنت تطرح علي السؤال تلو السؤال، أتذكر يا عزيزي ددف؟ ... لا داعي للعجب؛ فحياة الكاهن تمضي بين سؤال وجواب، أو سؤال ومحاولة الجواب، إن السؤال خلاصة الحياة الروحية، معذرة يا ددف، ما الذي يهمك من حياة المعابد؟ ليس كل ما يعرف يقال، وحسبك أن تعلم أنها حياة الجهاد والطهر، إنهم يعودوننا أن نجعل الجسم طاهرا مطيعا لإرادتنا ثم يلقنوننا العلم الإلهي، وهل ينثر الحب الطيب إلا في أرض طيبة؟ - وماذا أنت فاعل أيها الأخ؟ - سأعمل قريبا خادما لقرابين الرب بتاح تعالى اسمه المبارك، ولقد حزت عطف الكاهن الأكبر، وتنبأ لي بأنه لن تمضي عشر سنوات حتى أنتخب قاضيا من قضاة منف العشرة ...

فقال ددف بحماس: إني أومن بأن نبوءة قداسته ستتحقق قبل ذلك ... أنت رجل عظيم يا خنى.

فابتسم خنى ابتسامته الهادئة وقال: أشكرك يا عزيزي ددف، والآن قل لي هل تقرأ شيئا مفيدا؟

فضحك ددف قائلا: إذا حسبت خطط القتال وتاريخ الجيش المصري قراءة مفيدة، فأنا أقرأ أشياء مفيدة!

فسأله بإشفاق: والحكمة يا ددف؟! ... لقد كنت تصغي إلى أقوال الحكماء بشغف وشوق في هذا المكان قبل عشر سنوات! - الحق أنك زرعت حب الحكمة في قلبي، ولكن حياتي العسكرية لا تترك لي فراغا للمطالعة التي أهواها، ومهما يكن فقد قصرت الشقة بيني وبين الحرية.

فقال خنى بامتعاض: إن العقل الفاضل لا يستغني عن الحكمة يوما، كما أن المعدة السليمة لا تزهد في الطعام بعض يوم. ينبغي أن تعوض ما فاتك يا ددف، لا تنس هذا مطلقا، إن فضيلة علم الحرب أنه يؤهل الجندي لخدمة وطنه ومولاه بالقوة، ولكن الروح لا تفيد منه شيئا، والجندي الذي يجهل الحكمة، كالحيوان الأمين ليس إلا، قد ينفع بوحي غيره، فإذا ترك لنفسه عجز عن إفادة نفسه فضلا عن الآخرين، وقد ميزتنا الآلهة عن الحيوان بالروح، وإذا لم تتغذ الروح بالحكمة هوت إلى حضيض الحيوانية. لا تغفل عن هذا يا ددف؛ لأني أشعر من أعماق قلبي بأن روحك سامية، وأقرأ على جبينك الجميل أسطرا باهرة من المجد والجلال، باركك الرب في روحاتك وغدواتك ...

وتسلل الحديث بينهما عذبا شهيا لقلبيهما، وكان آخر ما تحدثا به زواج نافا، وعلم به خنى من ددف لأول مرة، فبارك الزوج والزوجة، وهنا خطر لددف خاطر فسأله: ألا تتزوج يا أخي؟

فقال الكاهن للشاب: كيف لا يا ددف؟ إن الكاهن لا يستطيع أن يخلد إلى طمأنينة الحكمة ما لم يتزوج، وهل يستطيع المرء أن يتطلع إلى السماء وفي النفس نزوع إلى الأرض؟ إن فضيلة الزواج أنه يخلص من الشهوات ويطهر الجسد. •••

وغادر ددف حجرة أخيه عند منتصف الليل، وآوى إلى حجرته، وأخذ يخلع ثيابه ويستعيد حديث الكاهن، ثم أخذت تعاوده أحزانه ويتذكر عذاب يومه وخيبته فيه، وقبل أن يضطجع على فراشه سمع طرقا خفيفا، فأذن للطارق بالدخول، فدخلت زايا يبدو على هيئتها الوجوم وسألته: هل أيقظتك؟

فقال وقلبه يتوجس خيفة: كلا يا أماه لم أنم بعد، خيرا؟

وترددت المرأة وهمت بالكلام، فلم يطاوعها لسانها، فأشارت إليه أن يتبعها، فتبعها قلقا حتى انتهيا إلى مخدعها، وأشارت إلى الأرض، فنظر فرأى جاموركا ممددا كأنه أصيب بسهم قاتل، فلم يتمالك نفسه أن صاح بذعر: جاموركا ... جاموركا ... ما له يا أماه؟!

فقالت المرأة بصوت مختنق: تشجع يا ددف ... تشجع يا عزيزي.

فانخلع قلبه في صدره، وركع إلى جانب الكلب العزيز الذي لم يلقه كعادته بالقفز والفرح، وربت على جسمه فلم يبد حراكا، فنظر إلى أمه بعينين كئيبتين وسألها: ما له يا أماه؟ - فقالت المرأة: تشجع يا ددف إنه يحتضر!

فارتاع الشاب لتلك الكلمة المرعبة وقال محتجا: كيف حدث هذا؟ لقد لاقاني في الصباح كعادته. - لم يكن كعادته يا عزيزي، إلا إذا كان فرحه بك محا آلامه ساعتئذ، لقد طعن في العمر يا ددف وبدا عليه في الأيام الأخيرة وهن الوداع ...

فاشتد الألم بددف وتحول إلى الصديق الأمين، وهمس في أذنه بحزن عميق: جاموركا ... ألا تسمعني؟ جاموركا!

فرفع الكلب الأمين رأسه بصعوبة، ونظر إلى مولاه بعينين لا تريان شيئا كأنه يودعه الوداع الأخير، ثم عاد إلى نومه الثقيل، وجعل يئن بصوت مبحوح، فناداه مرة بعد أخرى، ولكن نداءه لم يحرك به ساكنا، وخيل إليه أن وطأة الموت تشتد على الصديق الأمين. ورآه يلهث ويفتح فاه ويغلقه، ثم رآه ينتفض انتفاضة ضعيفة ويسكن إلى الأبد. وناداه من أعماق قلبه قائلا: «جاموركا.» فضاع النداء سدى ... ولأول مرة في حياته العسكرية ذرفت الدموع من عينيه، وانتحب باكيا يودع رفيق الطفولة وحبيب الصبا وصديق الشباب ...

ورفعته أمه بين يديها، وجففت دموعه بشفتيها، وأجلسته إلى جانبها على فراشها، وعزته بكلمات رقيقة، ولكنه لم يسمع إليها، ولم تنفرج شفتاه تلك الليلة إلا عن قوله: أماه أريد أن يحنط ويحفظ في تابوت في الحديقة في البقعة التي كنا نلعب فيها معا، حتى ينقل إلى قبري حين يدعوني الرب.

وهكذا اختتم ذلك اليوم الحزين ...

18

مضى العام السادس والأخير لددف في المدرسة الحربية.

وأقامت المدرسة حفلتها التقليدية السنوية التي يتبارى فيها المتخرجون قبل توزيعهم على فرق الجيش المختلفة. وأشرقت حياة الفرح - ذلك اليوم - على المدرسة العظيمة وازينت أسوارها بأعلام الفرق الحربية، وصدح جوها بأنغام الموسيقى الحماسية.

وفتحت أبوابها تستقبل المدعوين نساء ورجالا الذين يتكون جمهورهم من أسرات الضباط والقواد والمتخرجين وكبار الموظفين.

وبعد أن انتصف النهار، حضر كبار رجال الدولة يتقدمهم الكهنة، والوزراء على رأسهم صاحب القداسة خوميني، وقواد الجيش العظام وعلى رأسهم القائد أربو، وكثير غيرهم من خاصة الموظفين، والكتاب، والفنانين ليكونوا جميعا في استقبال حضرة صاحب السمو الفرعوني الأمير رعخعوف ولي عهد المملكة، الذي أنابه صاحب الجلالة الملك عن ذاته في ترؤس الحفلة.

ولما أزف موعد الأمير هرع كبار رجال الدولة إلى مدخل المدرسة، ووقفوا ينتظرون بين صفوف من الجنود، وما لبث أن ظهر في الميدان الفسيح المنبسط أمام المدرسة موكب ولي العهد تتقدمه كوكبة من عربات الحرس الفرعوني، فصدحت الموسيقى بالتحية، ووقف الجمهور إجلالا وتعالى هتافه لفرعون وولي العهد.

ووصل موكب الأمير إلى مدخل المدرسة، فتقدم مديرها حاملا بين يديه نمرقة من الحرير المحشو بريش النعام، ترجل عليها صاحب السمو الفرعوني، وكان في صحبة الأمير شقيقته صاحبة السمو الأميرة مري سي عنخ، وإخوته الأمراء رعباوف وحردف وحرسادف وكاعب وسددف وخوفو خعف وهتا ومراب ...

وانحنى الكبراء بين يدي الأمير، وسار سموه بقامته الربعة، ووجهه الصلب الذي زادته الكهولة صلابة وصلفا، وسارت إلى يمينه الأميرة مري سي عنخ، واتخذ مجلسه في الوسط، وجلست إلى يمينه الأميرة والأمراء، وإلى يساره خوميني والوزراء، والقواد، وكبار الموظفين. وبعد وصول الأمير سكت الهتاف وجلس المدعوون، وابتدأت الحفلة، ونفخ في الصور، فصدحت الموسيقى، وظهرت فرقة الضباط المتخرجين من ناحية الثكنات تسير أربعة أربعة، يتقدمها قائد المدربين حاملا علم المدرسة، وقد ارتدوا للمرة الأولى ملابس الضباط ذات الوزرة الخضراء، والقميص الأخضر، والسترة المصنوعة من جلد النمر، فلما أن صاروا بإزاء العرش الجالس عليه صاحب السمو، سلوا سيوفهم، ومدوا بها أذرعهم، وهي عمودية أذبتها إلى السماء، فرد التحية واقفا.

وابتدأت بعد ذلك المباراة العظيمة بسباق الخيل، فامتطى الضباط الجياد المطهمة ووقفوا صفا، ثم نفخ في الصور فاندفعوا كالسهام المنطلقة عن أقواس مردة، وزلزلت أرجل الخيل الأرض زلزالا شديدا، وكادت لشدة عدوها تغيب عن الأبصار، وثبت البواسل عليها كأنهم سمروا في ظهورها تسميرا. وكانوا صفا، ثم فرق بينهم العدو الشديد، ثم شذ عنهم فارس كان لسرعته كأنما يركب ريحا مجنونة. وكان أسبقهم في العودة إلى المبتدأ ... وقد أذاع المدرب اسم الفارس الفائز ددف بن بشارو فاستقبل بهتاف شق عنان السماء، ولو أتيح للشاب أن يسمع أباه، وهو يهتف لابن بشارو بصوت كالرعد لما تمالك نفسه من الضحك!

وبعد مدة وجيزة بدأ سباق العربات، فركب الضباط وانتظروا صفا، ثم نفخ في الصور فانطلقوا كالعمالقة يبعثون بين أيديهم رهبة، ويتركون خلفهم دويا كشق الصخور وانهيار الجبال. وكانوا على ظهور العربات يتمايلون ولا يتزحزحون، كأنهم سيقان نخل راسخة، هبت عليها ريح عاصفة، تريد اقتلاعها فارتدت عنها خائبة مولولة ... ثم انطلق من بين صفوف العادين راكب سبقهم بقوة مارد فبدا وبدوا كأنه عاد وهم وقوف، وتوجه الفوز حتى النهاية، وأعلن المدرب اسم الفائز ددف بن بشارو وتعالى باسمه الهتاف واشتد له التصفيق ...

ثم أعلن المنادي عن سباق القفز على الحواجز، فامتطى الضباط جيادهم، وأقيم في وسط الفناء الطويل المصاطب من الخشب، يزداد مع التقدم ارتفاعها رويدا رويدا، ونفخ في الصور فعدت الخيل بعنف وطارت فوق الحاجز الأول كأنها نسور منقضة، وقفزت على الثاني كأنها أمواج الشلال الكاسرة، وتقدموا يكلل هاماتهم النصر المبين، ولكن خان الحظ البعض فعجزت الجياد غير صائخة إلى صراخ فرسانها البواسل، وسقط آخرون بين أصوات الإشفاق، إلا فارسا قفز الحواجز جميعا كأنه قدر محتوم أو فوز مجسم، وأعلن المنادي اسمه ددف بن بشارو بين التهليل والتكبير.

وحالفه الفوز في جميع المباريات، فكان المبرز في إصابة الأهداف بالرمح والقوس، وكان المنتصر في المبارزة بالسيف والضرب بالمزاريق، وآتته الآلهة نصرا مبينا، جعله بطل اليوم دون شريك، ونابغة المدرسة العديم النظير، وأحله مكانة الإعجاب والتقدير في كل قلب.

وكان على الفائزين أن يذهبوا إلى ولي العهد ليهنئهم على نبوغهم، فذهب ددف - ذاك اليوم - وحده، وأدى للأمير التحية العسكرية، فوضع الأمير يده في يده وقال له: إني أهنئك أيها الضابط الباسل؛ أولا على تفوقك، وثانيا على اختياري لك ضابطا في حرسي الخاص.

فطفح وجه الشاب بالفرح، وأدى التحية للأمير وعاد مثلج الصدر سعيدا، وسمع في أثناء مسيره المنادي يعلن للحاضرين تهنئة الأمير واختياره له في حرسه، فخفق قلبه وذكر بالفرح أسرته؛ بشارو وزايا وخنى ونافا الذين يسمعون خطاب المنادي، ويفرحون له الفرح الذي يجل عن الوصف.

وسارت بعد ذلك فرقة الضباط الجدد إلى عرش الأمير ليخطب فيهم، وقام الأمير وخطب فيهم قائلا بصوته الشديد النبرات:

أيها الضباط البواسل:

إني أعلن على الملأ إعجابي العظيم بشجاعتكم، ومهارتكم، وحماستكم، وتميزكم بسجايا الجندية الجليلة، ورجائي أن تظلوا كمن سبقكم من إخوانكم عنوان مجد للوطن ولفرعون رب العالمين.

وهتف الضباط للوطن ولفرعون، وبذلك أعلن انتهاء الحفلة، وغادر الأمير المدرسة، وعاد موكبه الرسمي إلى القصر الفرعوني، وانصرف المدعوون.

وكان ددف في تلك الأثناء في حالة غريبة من الذهول أشذته عما حوله، لا يرجع تفسيرها إلى نشوة الفوز، ولكنه إلى أمر أعظم رهبة في نفسه وأمعن أثرا؛ إذ كان يسمع مع زملائه إلى خطاب الأمير، وتحركت عيناه إلى الخطيب، فعثرتا في طريقهما بوجه الأميرة مري سي عنخ، فرأى منظرا عجبا انخلع له قلبه في صدره. وكاد لقوة المباغتة أن يصعق صعقا ويخر على وجهه خرا، يا آلهة السموات ما هذا الذي يرى! إنه وجه الفلاحة التي يحمل صورتها على قلبه! وود لو يستطيع أن يديم النظر إليه، ولكنه خشي أن يفتضح أمره، فنظر إلى الأمام لا يلوي على شيء. وانتهت الحفلة ولما يفق من وقع المفاجأة والدهشة. فعاد إلى الثكنات كمن به مس.

ترى هل يمكن أن تكون فلاحته الجميلة هي صاحبة السمو الأميرة مري سي عنخ؟ يا له من أمر بعيد عن التصديق، عسير على تصور الخيال!

ومع هذا هل من الميسور أن يصدق بوجود وجهين بهذا الجمال الفتان؟ وهل ينسى ما لاقته به صاحبة الصورة من كبرياء، لم يكن قط من أخلاق الفلاحات؟ ولكن جميع هذا لا يسوغ له قبول هذا الفرض الغريب، فليته استطاع أن يتحقق من قسمات وجهها!

أما لو كانت هي الأميرة، فقد أتى أمرا كبيرا، لا يستطيع أن يتنبأ بعواقبه، ولم يتمالك عند ذاك من أن يضحك ضحكة ساخرة مريرة، ويقول لنفسه: يا للغرابة! إن ددف بن بشارو يحب الأميرة مري سي عنخ! ثم نظر إلى الصورة طويلا بعينين حزينتين، وتنهد قائلا: هل حقا أنت الأميرة الجليلة! كوني فلاحة بسيطة، فرب فلاحة مفقودة أقرب إلى القلب من أميرة موجودة!

19

وتأهب ددف لمغادرة قصر بشارو - لأول مرة - كرجل مستقل، تاركا في النفوس حزنا ممزوجا هذه المرة بالفخر والإعجاب، وقد قبلته زايا حتى بللت خده بدمعها، وباركه خنى ودعا له، وكان يأخذ أهبته أيضا لترك البيت إلى المعبد، وشد نافا على يده بحرارة وقال له: «إن نبوءتي تحققها الأيام يا ددف.» وودعه كذلك عضو جديد في أسرة بشارو هي مانا ابنة كامادي زوج نافا. أما بشارو العجوز فقد وضع كفه الغليظة على كتفه، وقال له بخيلاء: «إني سعيد يا ددف لأنك تخطو الخطوات الأولى في طريق والدك العظيم.» ولم ينس ددف أن يضع زهرة لوتس على تابوت جاموركا قبل أن يودع بيته في طريقه إلى قصر صاحب السمو الفرعوني الأمير رعخعوف.

ومن المصادفات السعيدة أنه وجد أن زميله بمخدعه بثكنات قصر الأمير صديق قديم ترجع صداقتهما إلى زمالة الصبا، وكان شابا ودودا مخلص القلب، صريحا ثرثارا، ففرح بقدوم صديقه القديم واستقبله استقبالا وديا، وقال له ضاحكا: أدائما في أثري؟

فابتسم ددف وقال: ما دمت في طريق المجد. - المجد لك يا ددف، لقد كنت الفائز في سباق العربات، أما أنت فجندي لم يسبق بمثله، إني أهنئك من صميم قلبي.

فشكره ددف، وفي المساء أحضر سنفر من صوان ثيابه زجاجة من خمر مريوط وكأسين من الفضة، وقال: اعتدت أن أشرب كأسا من خمر مريوط العذبة قبل النوم، هي عادة مفيدة ... ألا تشرب؟ - إني أشرب الجعة، ولكني لم أذق الخمر؟

فقال سنفر مقهقها: اشرب ... إن الخمر داء الجنود.

وعلى حين فجأة قال له بلهجة جدية: أيها الأخ ددف، إنك مقبل على حياة صارمة.

فابتسم ددف بشيء من الاستهانة وقال: لقد ألفت نفسي حياة الجندية.

فقال سنفر: جميعنا يألف حياة الجندية، ولكن صاحب السمو شيء آخر.

فبدت الدهشة على وجه ددف وسأله: ماذا تعني؟ - إني أنصحك أيها الأخ بدافع الأخوة لتكون على بينة من الأمر ولتأخذ حذرك، فإن خدمة الأميرة شدة لا مثيل لها. - كيف؟ - إن سموه شديد القسوة، له قلب كالحجر أو أشد صلابة، الهفوة عنده خطأ مبين، والخطأ جريمة لا تغتفر، وستجد فيه مصر حاكما صارما لا يداوي الجرح بالبلسم، كما يفعل جلالة والده أحيانا، ولكنه لا يتوانى عن بتر العضو لأهون خلل يعتوره! - إن الملك الحازم يحتاج إلى شيء من القسوة. - شيء من القسوة ... لا القسوة كلها، سترى كل شيء في حينه، فلا يكاد يفوت يوم لا يصدر فيه عقوبات عدة يصيب بعضها الخدم وبعضها الجند، وبعضها الوكلاء، وربما انصبت على الضباط، وإن الأيام لتزيده صلفا وخشونة!

فقال ددف: العادة أن تلين عريكة الرجل بتقدم العمر، هكذا يقول قاقمنا.

فضحك سنفر ضحكا عاليا وقال: لا يجمل بالجندي أن يستشهد في كلامه بقول حكيم. هكذا يقول صاحب السمو! وإن حياة سموه لتشذ عن رأي قاقمنا، لماذا؟ إنه في الأربعين ... ولي عهد في الأربعين من عمره! تأمل!

فنظر إليه الشاب بعينين متسائلتين، فاستطرد سنفر بصوت خافت: يود أولياء العهد لو يحكمون شبانا، فإذا قست عليهم الأقدار انقلبوا قساة! - أليس سموه متزوجا؟ - وله بنون وبنات. - فالعرش مضمون لنسله. - هذا لا يغني عن الأسف شيئا ... وليس هذا ما يخشاه الأمير. - فما الذي يخشاه؟! إن إخوته مخلصون لقوانين المملكة. - ما في هذا شك، ولعلهم لا يطمعون في شيء؛ لأن أمهاتهم من الحريم، وجلالة الملكة لم تلد سوى ولي العهد وشقيقته مري سي عنخ؛ فالعرش من حق هذين الاثنين قبل أي إنسان، ولكن الذي يقلق له الأمير هو ... قوة بنية جلالته! - إن فرعون معبود مصر جميعا.

فنظر الضابط إليه وقال: بلا جدال ... إني يخيل إلي أني أستشف أماني النفوس التي تعيش في الأعماق دون أن يسمح لها الضمير الحي بأن تطفو، معاذ الرب أن يوجد خائن في مصر ... كلا أيها الأخ، والآن قل ما رأيك في خمر مريوط؟ ... إني طيبي ولكني غير متعصب.

فقال ددف: هي خير ما قدمت يا سنفر.

واكتفى سنفر بهذا المقدار من الحديث وقام للنوم، أما ددف فلم يذق جفنه المنام؛ لأن ذكر مري سي عنخ على لسان صاحبه أثار شجونه ولواعجه، كما يثير الطعم الملقى على سطح الماء خافي السمك، فاهتاجت نفسه وتبلبل فكره وقضى سواد الليل يناجي قلبه المحزون.

20

وكان في قصر ولي العهد يحس من الأعماق بأنه قريب من ذاك السر الغامض، وأنه يعيش في الأفق الذي يشرق فيه، وأن لا بد أن يشع عليه شعاع من أشعته الوهاجة، وكان ينتظر على أمل وخوف ولذة. وإنه ليتجول في مروج القصر المطلة على النيل، والوقت يسير بين العصر والأصيل، وشمس هاتور تنسكب أنوارا بهيجة ترد الزمان الهرم إلى عنفوان الشباب وبهاء الفتوة، وإذا به يرى سفينة ملكية ترسو إلى سلم الحديقة، ولم يكن في استقبالها أحد من الحجاب، فأسرع - كما يقضي واجبه - إلى استقبال الرسول الكريم، ووقف تلقاء السفينة كالتمثال الجميل.

ورأى صورة إلهية تتخفى في ثياب الأميرات، تنزل من السفينة، وتصعد أدراج السلم في عظمة فرعونية ورشاقة خيالية، كأن ثقلها ينجذب إلى أعلى لا إلى أسفل، رأى صاحبة السمو الأميرة مري سي عنخ!

واستل سيفه الطويل وأدى عليه التحية العسكرية، ومرت به الأميرة كالحلم الجميل، وسرعان ما غيبتها متعرجات الحديقة.

كيف لا تكون هي هي؟

إن البصر يخدع، والسمع يخدع، أما القلب فلا يخدع أبدا. ولو لم تكن هي ذاتها ما خفق هذه الخفقة الشديدة التي كاد لها ينخلع، ولما تركه من النشوة كالسكران المترنح، ولكن ما بالها لا تحس به ولا تذكره، وقد جرى بينهما من الأمر ما يستحق التذكر؟ هل يمكن أن تنسى هكذا سريعا تلك المقابلة الغريبة؟ أم أنها تتناساها ترفعا عن ذكرها؟

وما الفائدة من أن تذكره أو لا تذكره؟ وما الفرق بين أن تكون الأميرة هي صاحبة الصورة أو تكون أخرى تشابهها؟ فالقلب ما خفق بالحب إلا لهذه الصورة البهية، وسيظل يخفق لها سواء أحلت بجسم أميرة من البيت الفرعوني أم بجسم فلاحة من قرى منف، وسيظل على يأس منها في الحالتين، فما من الحب بد، وما من اليأس بد.

وألقى بنظرة إلى الأشجار المتفرعة، وشاهد الأطيار تتجاذبها أغصانها، وهي لا تكف عن التغريد وينبئ مظهرها الفرح عن الهيام والوداد، فأحس نحوها بعاطفة لم تزر قلبه من قبل. أحس نحوها بالحسد أن تلهو بغير حساب، وأن تعشق بلا عذاب، وأن تسمو بفطرتها عن الأوهام والشكوك، ثم نظر إلى حسامه وإلى بذلته ذات الألوان، وإلى قلنسوته ذات الكبرياء، فأحس بصغار ووجد رغبة إلى الضحك المرير والهزء الأليم.

لقد أتقن الرماية وبرع في ركوب الخيل، وتفوق في المبارزة، ونال كل ما يتمناه شاب طموح، ولكن ما أعجزه عن إسعاد قلبه! وقد كان نافا أسعد حظا فتزوج من مانا ذات الجيد الطويل والعينين العسليتين، وسوف يتزوج خنى في هدوء وبساطة لأنه يرى الزواج واجبا دينيا، أما هو فيلبث حاملا بين أضلعه حبا يائسا مكتوما، يذوي به قلبه، كما تذوي الشجرة الفارعة إذا منعت نور الشمس وماء النيل.

وظل ملازما لموقفه يعلل النفس برؤيتها مرة أخرى، ولم يكن يشك في أن الزيارة غير رسمية وإلا لعلم بها كل من في القصر، ولاستقبلت الأميرة استقبالا يليق بمكانها في الأسرة الملكية، وعلى هذا لا يبعد مطلقا أن تعود إلى السفينة بمفردها. وصدق بعض ظنه، فعادت الأميرة بعد أن ودعها صاحب السمو الملكي عند مدخل القصر.

وكان ددف بمكانه عند سلم الحديقة فوقف مستعدا، حتى إذا صارت بإزائه سل سيفه وأدى التحية، وعلى حين فجأة توقفت الأميرة، والتفتت إليه في نبل وكبرياء، وقالت بلهجة ساخرة: هل تعرف واجباتك أيها الضابط؟

فقال ددف وقد زلزلت نفسه: نعم يا صاحبة السمو.

فسألته بلهجة مرة: هل من الواجب أن تخطف الفتيات في غير زمن الحرب؟

فاستولى الارتباك عليه، وتلبثت لحظة تحدجه بنظرة قاسية ثم قالت: وهل من واجب الجندي أن يغدر؟

فلم تحتمل نفسه الألم وقال: يا مولاتي ... إن الجندي الشجاع لا يغدر!

فسألته بسخرية: فما قولك فيمن يتربص بالآمنات خلف الشجر، ويصورهن خلسة؟

وغيرت لهجتها فقالت بصلف: يجدر بك أن تعلم أني أريد تلك الصورة.

وأطاع ددف كما تعود أن يطيع، فدس يده في صدره، وأخرج الصورة من مخبئها الدفين وقدمها إلى الأميرة.

ولم تكن تتوقع هذا؛ فبدت على وجهها - بالرغم من كبريائها - الدهشة، ولكنها سرعان ما تمالكت نفسها، ومدت يدها البضة وأخذت الصورة.

ثم سارت في طريقها إلى السفينة يحوطها الجلال والعظمة.

21

وظلت حياة ددف في قصر الأمير، لا يشرق في أفقها جديد، حتى كان يوم عرف فيه قلبه مشربا للألم جديدا.

في ذلك اليوم خرج صاحب السمو الأمير رعخعوف في بدلة التشريفة الكبرى، تتقدمه كوكبة من الحرس، كان بين ضباطها صديقه سنفر، وعاد الأمير لدى المساء، ورجع سنفر إلى مخدعه في الوقت الذي رجع فيه ددف إليه بعد قيامه بواجب الحراسة وتفقد الحراس، وكان من الطبيعي أن يسأل صاحبه عن دواعي خروج الأمير بتلك الحال التي لا تأتي إلا في الأعياد، ولكنه كان يعلم بطبعه الذي لا يستطيع السكوت على سر، وفي الواقع ما استراح سنفر قليلا حتى قال وهو يرتدي منامته: أتعلم إلى أين ذهبنا اليوم؟

فقال ددف بهدوء: كلا.

فقال سنفر باهتمام: حضر اليوم إلى منف صاحب السمو الأمير أبوور حاكم مقاطعة أرسينة، وكان ولي العهد في استقباله!

فسأله ددف: أليس سموه ابن خال جلالة الملك؟ - بلى، ويقال إن سموه جاء يحمل تقريرا عن قبائل سيناء التي تعددت حوادثها في ربوع الدلتا الشرقية. - إذن فسموه رسول حرب؟ - نعم يا ددف، والذي علمته يدل على أن ولي العهد كان يميل منذ زمن طويل إلى تأديب قبائل سيناء، وأن القائد أربو كان يؤيده في رأيه، ولكن الملك كان يفضل التريث ريثما تستعيد البلاد قواها بعد الجهد الجهيد الذي بذله في أوجه العمران وأخصها بناء هرم الملك. ولما مضت فترة الاستجمام استنجز الأمير فرعون ما وعد، ولكن يقال إن جلالة الملك منهمك هذه الأيام في تأليف كتاب عظيم يرجو أن يجعل منه للمصريين أكبر مرشد للدين والدنيا، فلم يبد جلالته استعدادا للتفكير جديا في مسألة الحرب، فاستعان الأمير رعخعوف بقريبه الأمير أبوور، واتفق معه على أن يحضر بنفسه ليطلع الملك على حقيقة عبث القبائل واستهتارها بهيبة الحكومة، وما يخشى من تماديها إذا طال السكوت عليها، فلا يبعد وقد أتى الأمير أن تسير فرقة من الجيش إلى الشمال الشرقي في القريب العاجل.

وساد الصمت فترة وجيزة، ثم قال سنفر بدافع من حب الكلام: وقد أولم جلالة الملك وليمة عشاء للأمير حضرها جميع أعضاء البيت الفرعوني، وعلى رأسهم جلالة الملكة والأميرات.

فخفق قلب ددف لدى ذكر الأميرات، وذكر الأميرة الفاتنة ذات البهاء والكبرياء، فتنهد وهو لا يدري تنهدا جذب إليه سمع سنفر، فنظر الشاب إليه منكرا وصاح: وحق بتاح إنك لا تصغي لما أقول!

فانزعج ددف وقال: كيف تقسم على هذا؟! - لأنك تتنهد تنهد من أعجزه فكره وفر إلى حبيبه.

فاشتد خفقان قلبه وحاول أن يقول شيئا، ولكن سنفر لم يمكنه من غايته فضحك عاليا، وقال باهتمام: من هي؟ ... من هي يا ددف؟ ... آه ... إنك تنظر إلي نظرة إنكار؟! لن ألح عليك الآن فسأعرفها يوما وهي أم أبنائك، يا للذكرى! أتدري يا ددف؟ لقد تنهدت في هذا المخدع منذ عامين كتنهدك هذا، وبت ليلي أناجي أطياف الأحلام، وفي العام الثاني صارت زوجي المحبوبة، وهي الآن أم ابني فانا. فيا لها من حجرة موبوءة بالغرام! ... ولكن ألا تقول لي من هي؟

فقال ددف بحدة أملتها عليه أحزان قلبه: أنت واهم يا سنفر! - أواهم أنا! أشباب وجمال وقوة وجفاف؟! مستحيل! - هو الحق يا سنفر! - كما تشاء يا ددف فلن ألحف عليك بالسؤال، وبمناسبة حديث الغرام هذا أقول إني سمعت همسا في أروقة القصر الفرعوني، يدور حول ذكر أسباب أخرى لمجيء الأمير أبوور غير سبب الحرب الذي حدثتك عنه. - ماذا تعني؟ - يقولون إنه ستتاح للأمير فرصة مشاهدة صغرى الأميرات عن كثب، وهي ممن يضرب بجمالهن المثل، فربما زف إلى الشعب المصري قريبا بشرى خطبة الأمير أبوور للأميرة مري سي عنخ.

وكان هذه المرة شديد الخور، فتماسك وكتم عواطفه، وتلقى الضربة بصبر عجيب، ولم يعلن وجهه عن شيء مما يعترك في قلبه، وأمن خطر عيني صاحبه النافذتين ولسانه الثرثار الأليم، وحاذر أن يعلق على كلام صاحبه بكلمة أو أن يستزيده من الإيضاح خشية أن تفضحه نبرات صوته، فصمت صمتا ثقيلا رهيبا كأنه جبل شامخ أقيم على فوهة بركان.

ولم يكن يدري سنفر ما بصاحبه، فاستلقى على فراشه وقال وهو يتثاءب: إن الأميرة مري سي عنخ على جمال عظيم، ألم ترها؟ إنها أجمل الأميرات، وهي كشقيقها ولي العهد شديدة الكبرياء، ذات إرادة من حديد، يقولون إنها تتمتع بحب لا نظير له في قلب فرعون، فثمن جمالها سيكون عاليا بلا ريب ... حقا إن الجمال يذل أعناق الرجال.

وتثاءب سنفر مرة أخرى وأغمض عينيه، وكان ددف يرمقه على ضوء المصباح الخافت بعينين كدرهما الحزن والأسى، فلما أن اطمأن إلى استسلامه للنوم أطلق لنفسه عنان التألم والحزن، ونبا به الفراش وأحس بضيق شديد يزهق النفوس، فترك الفراش على أطراف أصابعه، وانسل إلى خارج الحجرة، وكان الجو رطبا والنسيم باردا، والليل حالك الجلباب، تلوح أشجار النخيل في ظلمته كأشباح نائمة أو أرواح تعسة أضناها الخلود.

22

وبعد انقضاء بضعة أيام علم كل من في القصر أن سمو ولي العهد دعا الأمير أبوور، وصاحبة السمو الأميرة مري سي عنخ، وشتيتا من الأمراء والأصدقاء، إلى رحلة صيد بالصحراء الشرقية.

وفي صباح اليوم الموعود جاءت الأميرة مري سي عنخ، وكان وجهها كهالة من بهاء ونور يشرق سناء على القلوب فيغمرها بحياة الأفراح، وجاء على أثرها سمو الأمير أبوور مصحوبا بالحاشية، وكان في الخامسة والثلاثين قوي البنيان مهيب الطلعة يدل مظهره على النبل والشرف والبسالة.

وكان كبير حجاب القصر يشرف بنفسه على إعداد قافلة الصيد، وتزويدها بما يلزمها من الماء والزاد والسلاح والشباك، واختار رئيس الحرس لمرافقتها مائة جندي من جنود الحرس جعل على قيادتها عشرة ضباط من بينهم ددف، وهؤلاء غير الخدم ومساعدي الصائدين. ولدى نزول ولي العهد إلى حديقة القصر تحركت القافلة العظيمة، وكانت تتقدمها كوكبة من الفرسان الخبيرين بطريق الصيد، وسار خلفهم صاحب السمو الفرعوني الأمير رعخعوف، وإلى يمينه الأميرة الفاتنة مري سي عنخ، وإلى يساره الأمير أبوور، تحيط بهم هالة من الأمراء والنبلاء، وتبعت ذاك الموكب الجليل عربة تحمل قرب المياه، وأخرى تحمل الزاد وأدوات الطهي والخيام، تليهما ثالثة ورابعة وخامسة تحمل أدوات الصيد والقسي والسهام، تسير جميعا بين صفين من الفرسان، وتتبع العربات القوة الباقية من فرسان الحرس المرافق للرحلة، يتقدمها ضباطها الذين كان منهم ددف. وسارت القافلة صوب الشرق تاركة خلفها المدينة العامرة، والنيل المعبود، تولي وجهها شطر الصحراء، لا ترى حيثما تلقي الطرف إلا فضاء وأفقا رحيبا يعز بلوغه على الإنسان مهما طال به المسير، كأنه ظله الممدود أمامه يتقدمه كلما تقدم.

وكان صباحا نديا، وكانت الشمس طالعة يفرش سناها أرض الصحراء ببساط من الأنوار، ولكن جعلها النسيم البارد الساري في تضاعيف الهواء بردا وسلاما عليهم، فكانوا تحت أشعتها كالأشبال بين أنياب اللبؤة ...

وتقدمت القافلة في طريقها تتبع المرشدين ...

وكان ددف إذا أرسل الطرف يرى عن بعد الأميرة الصغيرة، التي استبدت بقلبه وأصلته جوى أليما، تمتطي صهوة جوادها المطهم وتتمايل على متنه كالغصن الرطيب، وكان يبدو على سيماها الجلال والكبرياء، إلا أنها كانت تنظر إلى شقيقها أحيانا تحادثه أو تستمع إليه، فيلوح نصف رأسها الأيسر كصورة الأم إيزيس على جدران المعابد، وشاهد الشاب الأمير أبوور يميل بقامته المتينة البنيان، ويحادثها ويبتسم، وشاهدها تحادثه وتبتسم، وكانت المرة الأولى التي يرى فيها ذاك الكبرياء والبهاء يجود بابتسامة كأنها سماء مصر صفاء وحسنا وجمالا وندرة غيث.

ودبت الغيرة السامة في قلبه الطاهر النبيل، وأرسل إلى الأمير السعيد نظرة ملتهبة، ذلك الأمير المجدود الذي جاء رسولا للحرب فالتقى في طريقه برسول السلام والحب ... وعانى قلبه انفعالات مريرة لم تعهدها نفسه الصافية من قبل، ومضى يحادث نفسه حديثا ثائرا غاضبا ...

أيجوز أن يهوى قلبه ويذوب بهواه في برودة القنوط ويخسر الدنيا جميعا؟ ... أيعقل أن يصلى نار الحب وعذابه، ومن يهوى يسير على بعد قفزة جواد منه؟ فما قيمة الحياة؟ وما قيمة الآمال التي تمد نفسه بالقوة والجلاد؟ بل ما أشبه حياته بحياة وردة غضة لم تنشق عنها أكمامها، عاجلتها ريح صيف عاصفة فاقتلعتها من غصنها الحنون، ودفنتها في رمال الصحراء الملتهبة ...

من ذاك العبد الذي يسمونه بالطاعة؟ ومن ذلك الظالم العاتي الذي يدعونه بالواجب؟ ما الإمارة وما العبودية: كيف تهصر هذه الأسماء قلبه، وترمي به في هوة اليأس الأليم؟ لماذا لا يسل حسامه ويهجم بجواده البرق على تلك المتعالية القاسية، ويحملها قوة واقتدارا، ويغيب بها في بطن الصحراء، ويقول لها بصوت جهير: انظري إلي، ها أنا رجل جبار وأنت امرأة ضعيفة، ابسطي هذه التقطيبة التي رسمتها على جبينك تقاليد القصر الفرعوني، ونكسي هذا الذقن الذي رفعته عادات الإمارة والسيادة، وتطهري من هذه النظرة العالية التي تعودت أن تلقيها من عل على الركع السجود، وتعالي جاثية بين يدي، فإن شئت حبا رويتك بالحب، وإن أبيت إلا استكبارا ...

يا له من هذيان كغليان المرجل المكتوم! ويا لها من غضبة مختنقة عديمة الأثر! وها هي القافلة تسير، وها هو الهوى يلعب بالقلوب فتتمايل لسحره القدود وتفتر الشفاه، وها هي الصحراء الواسعة تشهد في صمتها الأبدي ... يا لها من صحراء! وقد تأمل الخلاء مليا فانتشلته الرهبة من لجة أحلامه وآلامه، وأفرغت في قلبه الإعجاب والإجلال ، وكأن القافلة في ذلك المحيط الجليل قبضة من مياه في بحر خضم لا ترى له شطآن، وما أحرى الحدأة المحلقة أن تراها كتلة من الكتاكيت ... واها ما حبه؟ ما آلامه! من يحس بها في ذلك الفضاء الفسيح؟ كم شهد من محبين وغير محبين منذ عهد مينا؟ وقد ضاعت ذكراهم كما يضيع النداء في ذلك الكون اللانهائي ... فما ددف وما حبه؟!

وانتبه بغتة على صهيل جواده إلى ما حوله، وكانت القافلة تتقدم تقدما مطردا، حتى بلغت مقدمتها بقعة الريان، وأناخت عندها، وكانت بقعة الريان من أصلح نواحي الصحراء للصيد، وكان يمتد بها جبل ست من الشمال إلى الجنوب، وهي مأوى للحيوانات المختلفة التي يغرم الهاوون بصيدها، ويمتد من سفح جبلها إلى ما يليه شرقا تلان عظيمان يحصران بينهما رقعة واسعة من الصحراء، ثم يضيقان كلما امتدا شرقا حتى لا يفصل بينهما إلا عشرون ذراعا في مكان نادر المثال، أعدته الطبيعة للصيد والقنص والطرد.

وكان السادة يحسون ببعض التعب، فسارع الخدم والجنود إلى نصب الخيام، وعني آخرون بتهيئة أدوات الطهي وأوقدوا النيران، وكان العمل يسير بهمة ونشاط، فما هي إلا دقائق حتى تهيأ معسكر كامل من خيام ومرابط للخيل ومطبخ ميدان، وأخذ الحرس أماكنهم، وآوى الأمراء إلى الخيمة الكبرى المرفوعة على عمد من الخشب المكفت بالذهب الخالص ... واستراح الأمراء ساعة فاستعادوا نشاطهم وقوتهم، ثم قاموا للصيد.

ونصب الخدم شبكة صيد عظيمة عند مقترب التلين، وتفرق الجند على أضلاع المثلث الذي يرسمه جبل ست والتلان الملتقيان بالشبكة العظيمة، وعدا آخرون إلى سفح الجبل ليثيروا الحيوانات المطمئنة، في حين امتطى الأمراء جيادهم، وتفقدوا أسلحتهم، وتوزعوا في الميدان الفسيح، وكل على أهبة الاستعداد.

وامتطت الأميرة مري سي عنخ جوادها الكريم، ووقفت به أمام الخيمة الكبرى تشاهد الصراع المرتقب حينا بعد حين بين الإنسان والحيوان ... وكانت ترقب حركات الأمراء بعينين عظيمتي الاهتمام، والظاهر أنها استبطأت الصيد والطرد، فسألت بصوت مسموع الضباط الذين يقفون وراءها دون أن تلتفت إليهم: ما لي لا أرى صيدا؟

فأجابها صوت تعرفه حق المعرفة: ذهب الجنود ينفرونها، وعما قليل ترينها يا صاحبة السمو إذ تهبط من سفح الجبل وهي تعوي وتخور وتزأر.

وامتد نظرها إلى سفح جبل ست، وصدق الضابط في قوله فما لبثت أن رأت فصائل من الغزلان والأرانب والأيل تنحدر في مشياتها المختلفة جاهلة بما تخبئه لها المقادير. وتحفز الأمراء على ظهور الجياد، ثم انطلق كل إلى هدفه وابتدأت المعركة، وكانت همة الصائدين موجهة إلى مطاردة الوحوش وتوجيهها إلى مضيق التلين، حيث تنتظرها الشبكة فاغرة فاها.

وكان الأمير رعخعوف أمهر الصائدين قاطبة. وقد تبدت للعيان خفته ورشاقته، وكامل تسلطه على جواده، وحسن توجيهه له، وبراعته في محاورة الوحش وحصاره وسوقه أمامه إلى غايته المنشودة ... فلم يكن يفشل طراده ولا يخيب تصويبه، فأنهك كلابه تعبا في طلاب ضحاياه العديدة.

وأظهر الأمير أبوور كذلك مهارة نادرة المثال، فأثار الإعجاب بسرعة انقضاضه، ودقة إصابته الأهداف، وخفة حركاته، وكان فارسا لا يشق له غبار.

ومضى الأمراء في لهوهم العنيف، والوقت ينطوي خلسة ساعة بعد ساعة، وكاد الصيد ينتهي في سرور لا مزيد عليه، لولا وقوع حادث كدر الصفو وأفزع القلوب ... إذ كان الأمير رعخعوف يطارد غزالا نافرا تحت سفح الجبل، وإنه ليمر - في عدوه - بربوة عالية، إذ اعترض سبيله وراءها أسد هائل الهيكل كاشر الأنياب، فصرخ جند كثيرون يحذرون مولاهم، ولم يكن الأمير متأهبا لمثل هذا اللقاء الخطر المفاجئ، ولكنه كان ثابت القلب صلب العزيمة، فوضع يده على رمحه يريد أن يستله من قرابه، ولكن الأسد لم يمهله فوثب وثبة عظيمة، وضرب الجواد بيده الجبارة على وجهه، وكان يريد فارس الجواد بنفسه فلم يبلغ إليه، وسرعان ما ثقلت أقدام الجواد، وخارت قواه وترنح كالثمل، وأوشك على السقوط. وكان الأسد ينكمش استعدادا لوثبة أشد من الأولى ... وتتابعت الحوادث سراعا فتمكن الأمير من إشهار رمحه وصوبه نحو الأسد المتوثب وقذفه بقوة، وفي تلك اللحظة سقط الجواد فاقدا الحياة من أثر ضربة الأسد، فأخطأ الرمح مرماه ونجا منه الأسد، ووقع الأمير الجليل على ظهره فغدا تحت رحمة الأسد الكاسر، أعزل من كل سلاح.

وفي تلك الأثناء كان الأمراء والجند والضباط يطلقون لجيادهم العنان نحو الأمير المهدد، كل يود لو يفتديه بروحه، وكان ددف يطير بجواده في الهواء طيرا، فكان يطوي المسافة التي تفصله عن الأمير طيا سريعا، وقد سبق الجميع إليه، وصادف وصوله وثوب الأسد وثبته القاضية، فلم يضع لبه، وسل رمحه الطويل وأمسكه بيديه، ووثب من ظهر جواده المنطلق كالسهم شاهرا رمحه، فسقط كشهاب ناري على الأسد الغاضب، وانغرس رمحه في فم الوحش، ونفذ منه إلى الأرض الرملية، وصاحبه معلق به لا تدعه يداه. ولحق به الأمراء والجند فأحاطوا بالأمير، وأطلقوا سهامهم على الأسد المحتضر فقضوا عليه. وحضرت الأميرة مري سي عنخ على ظهر جوادها، وكانت مرتاعة مذعورة يكسو وجهها الجميل لباس الخوف والرعب، فلما رأت شقيقها واقفا معافى سليما ترجلت عن جوادها، وهرعت إليه وعانقته، وهي تقول بامتنان صادر من أعماق قلبها: حمدا للرب الرحيم بتاح.

وأقبل الأمراء على ولي العهد يهنئونه بالنجاة، وصلوا جميعا للرب بتاح شكرا وامتنانا.

وكان الأمير رعخعوف ينظر إلى جواده القتيل بأسف ظاهر، وسار إلى جثة الأسد الذي كاد يورده حتفه فرآها والسهام تغشاها كشعر القنفذ، ثم نظر إلى الفارس الواقف إلى جانبها كالتمثال الجميل، وسرعان ما تذكره وعرف فيه البطل الذي اختاره بنفسه ليكون بين ضباط حرسه الخاص. فكأن الآلهة اختارته بيده لهذه الساعة العصيبة. وأحس الأمير نحوه بإعجاب وامتنان، فاقترب منه ووضع يده على كتفه وقال: أيها الضابط الباسل، لقد أنقذت حياتي من الموت المحقق، وسأجزيك عن بطولتك العديمة المثال بما أنت أهله من الخير.

وتقدم الأمير أبوور من ددف، وكانت تهز نفسه النبيلة أعمال البسالة، فشد على يده بحرارة وقال: أيها الجندي الشجاع، لقد أديت للوطن والملك خدمة فوق منال التقدير.

ثم عادوا جميعا إلى المعسكر، يخيم عليهم صمت ثقيل، ويشتت نفوسهم الذهول الذي يعقب النجاة من خطر داهم، وفي أثناء الطريق قال أحد رجال حاشية الأمير أبوور له: لم ترض الآلهة أن تفجع قلب الملك الكبير الذي يحبس ذاته العالية في حجرة التابوت الموحشة، يكتب للشعب الذي يحبه رسالة النجاة من الشر والأمراض. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!

واستراح السادة الأجلاء. ثم قدمت لهم مائدة الطعام ودارت عليهم كئوس مترعة بخمر مريوط. وأمر الأمير الخدم أن يوزعوا على الجند كئوسا من خمر مريوط ابتهاجا بنجاته، فشرب الجند وصلوا للرب صلاة الشكر، ثم أنشدوا جميعا نشيد فرعون بأصوات كهزيم الرعد دوت في فضاء الصحراء، ولبثوا ما لبثوا ثم تأهبوا للرحيل، فرفعت الخيام والأثقال وغنائم الصيد، وسارت القافلة على نفس الترتيب الذي أتت به، إلا أن الأمير أمر الضابط ددف أن يسير في معيته، فأعلن بذلك عن نيته في جعله من الخاصة المقربين.

فخفق قلب الشاب الشجاع بنشوة المجد والفرح؛ لأنه لا يحظى بهذا الشرف العظيم إلا الأمراء ورجال الدولة المبرزون، وأحس بسعادة لا توصف إذ يسير في جناح هالة تتوسطها الأميرة مري سي عنخ، وخالها تسمع دقات قلبه العنيفة الخافقة بالحب والهيام ... وما كان يستطيع أن يعطف رأسه إليها، ولكنه كان يرى وجهها الجميل رؤية العين، يراه في الفضاء الممتد أمامه، ويشاهد سناه بالرغم من السمرة التي شابت الأفق إيذانا بالمغيب.

لو أنها جادت عليه بكلمة شكر مع الشاكرين، لكانت حسبه من المجد ومن الدنيا جميعا!

23

وكان ولي العهد جادا فيما نوى من مكافأة ددف بما هو أهله، كأنما الأقدار اختارته من بين الخلق ليمهد للشاب السعيد طريق المجد، فلم تمض أيام قلائل على حادث الصيد حتى استقبل فرعون مصر ولي عهده، وفي معيته الضابط ددف بن بشارو، وكانت مفاجأة سارة للشاب أكثر مما تهدف له أحلامه وآماله، ولكنه سار خلف الأمير رعخعوف بقلب تثبته شجاعة فائقة. واجتازا معا الردهات الطويلة ذات الأعمدة الشاهقة والحراس الجبابرة، إلى أن مثلا بين يدي من يحجب جلاله وجهه عن الأبصار.

وكان الملك رابضا على العرش، لا يدل على السنين التي بلغها سوى شعيرات بيضاء تتلألأ تحت تاج مصر المزدوج، وذبول خفيف في خديه، وتغير في نظرة عينيه صرفها عن حدة الفتوة والجبروت إلى تأمل الحكمة والعرفان.

وقبل الأمير يد والده العظيم وقال: هو ذا يا مولاي الضابط الشجاع ددف بن بشارو الذي أنقذ بشجاعته الفائقة حياتي من بين براثن الموت المحقق، يمثل بين يدي جلالتكم كما اقتضت مشيئتكم المقدسة.

فتعطف الملك ومد إليه يده، فقبلها الشاب جاثيا باحترام ديني عميق، وقال له الملك: لقد استأهلت أيها الضابط بشجاعتك رضائي عنك.

فقال ددف بصوت متهدج: مولاي صاحب الجلالة، إني كجندي من جنود الملك لا أعرف لنفسي غاية أسمى من أن أبذل حياتي في سبيل العرش والوطن.

وهنا قال الأمير رعخعوف: إني ألتمس من مولاي الملك الموافقة على تعيين هذا الضابط رئيسا لحرسي.

واتسعت عينا الشاب الذي لم يكن يتوقع هذه المفاجأة، وكان جواب الملك أن سأله: ما عمرك أيها الضابط؟

فقال ددف: عشرون عاما يا صاحب الجلالة.

ففطن الأمير إلى مغزى سؤال الملك وقال: إن العمر الطويل والحكمة والعرفان فضائل تؤهل للكهنوت يا مولاي، أما الجندي الباسل فتتخطى به شجاعته عوائق السن.

فابتسم فرعون وقال: لك ما تشاء يا رعخعوف ... أنت ولي عهدي ورغبتك عندي لا ترد.

فسجد ددف عند أقدام العرش وقبل الصولجان، فقال له الملك: إني أهنئك بثقة صاحب السمو الفرعوني الأمير رعخعوف أيها القائد ددف بن بشارو.

وأقسم ددف يمين الإخلاص للملك، وانتهت عند ذاك المقابلة، وغادر ددف القصر الفرعوني قائدا من قواد الجيش المصري.

وكان يوم فرح عظيم في بيت بشارو لا نظير له في الأيام، وقد قال نافا للقائد الشاب: إن نبوءتي تتحقق أيها القائد. دعني أصورك في رداء القيادة.

ولكن بشارو صاح بصوته الأجش الذي زاده غرابة ضياع أربع أسنان من فمه: ليست نبوءتك التي خلقت ددف أيها المصور، ولكنه حزم والده؛ إذ قضت الآلهة أن يكون الابن كأبيه من المقربين إلى فرعون.

ولم تعرف زايا يوما من الأيام ضحكت فيه وبكت مثل ذاك اليوم السعيد، وقد كر بها الفكر إلى غياهب الماضي البعيد المنطوي منذ عشرين عاما، وذكرت الطفل الصغير الذي أحدث مولده تنبؤات خطيرة، وأثار حربا صغيرة ذهب والده طعمة لها ... فيا للذكرى! ...

ولما خلا ددف إلى نفسه ذاك المساء ارتد إلى حالة غريبة من الحزن والوجوم، كأنها رد فعل للفرح العظيم الذي غمره طوال يومه، ولكن كانت لها أسباب أخرى ما تفتأ تأكل قلبه كما تأكل النار الهشيم. وقد رنا إلى نجوم السماء من خلل نافذته وقال وهو يتنهد: أنت وحدك أيتها النجوم التي تعلمين أن قلب ددف القائد السعيد أشد حلكة من الظلام الذي تعيشين في لجته الخالدة.

24

وفي اليوم الثاني تقلد ددف بن بشارو منصبه الجليل رئيسا لحرس ولي العهد، وقد أحسن الأمير صنعا، فنقل كبار ضباط حرسه إلى فرق الجيش المختلفة، وأحل محلهم غيرهم، واستقبل الضباط الرئيس الجديد بالترحيب والاحترام والإعجاب، ولم يكد يطمئن به كرسي القيادة بحجرته الجديدة حتى استأذن الضابط سنفر في الدخول فأذن له، ودخل الضابط يطفح وجهه بشرا فأدى التحية العسكرية وقال: أيها القائد الرئيس، لم يقنع قلبي بالتهنئة الرسمية فسعيت إليك لأصرح لك على انفراد بما يكنه لك قلبي من الإعجاب والمحبة.

فابتسم ددف ابتسامة مودة وقال بلطف: إني أقدر هذا الشعور النبيل حق قدره يا سنفر، ولا أجد نفسي في حاجة إلى شكرك عليك.

فقال سنفر بتأثر: لعل هذا ما يعزيني عن خسارتي في زوال صحبتك الجميلة.

فقال له القائد الشاب مبتسما: لن تزول صحبتنا يا سنفر؛ لأني انتويت من اللحظة الأولى اختيارك أمينا لي.

ففرح سنفر وقال: لن أبرح جانبك أيها القائد في السراء والضراء.

وبعد بضعة أيام دعي ددف إلى مقابلة ولي العهد - لأول مرة - كقائد حرسه، وكانت المرة الأولى كذلك التي ينفرد به فيها الأمير، فطالع عن قرب جدة أساريره وقسوة ملامحه، وكان من عادة الأمير أن يخلص إلى غرضه رأسا فقال باهتمام: أعلنك أيها القائد بأنك مدعو مع قواد الجيش وحكام الأقاليم إلى الاجتماع بصاحب الجلالة الملك للتشاور في مسألة طور سيناء، وتلقي الأمر بقتال القبائل. إذ توطد العزم على خوض غمار الحرب بعد طول التردد، وستشهدن مصر مرة أخرى أبناءها يحشدون لا لبناء هرم آخر، ولكن للانقضاض على بدو الصحراء الذين يهددون أمن الوادي السعيد.

وقال ددف بحماس: اسمح لي يا صاحب السمو أن أرفع إلى مقامكم العالي التهنئة لنجاح سياستكم.

فابتسمت الأسارير الحديدية وقال: إني أثق في بسالتك يا ددف ثقة كبرى، وإني أدخر لك مفاجأة سارة أبشرك بها بعد إعلان الحرب.

وعاد ددف من مقابلة الأمير سعيدا مغتبطا، وكان يسائل نفسه عما عسى أن تكون المفاجأة السارة التي يعده بها الأمير. والحق لقد رفعه الأمير في غمضة عين من ضابط صغير إلى قائد عظيم، فما الذي يخبئه له من بشريات المجد والسعادة؟ فهل يدخر له حظه السعيد أسبابا جديدة للعلا والأفراح؟

وجاء يوم الاجتماع العظيم، وأتى القواد والحكام من مصر العليا والسفلى، وشهد البهو الفرعوني رءوس مصر مجتمعة في صعيد واحد كحبات العقد الفريد، عن يمين العرش المكين وعن يساره، فجلس الحكام صفا وجلس القواد صفا، واتخذ الأمراء والوزراء أماكنهم خلف العرش، وكان ولي العهد يتوسط الأمراء، وكان الكاهن خوميني يتوسط الوزراء، وجلس على رأس الحكام سمو الأمير أبوور، وجلس في مقابله على رءوس القواد القائد العام أربو الذي كلل المشيب هامته.

وأعلن كبير حجاب القصر قدوم صاحب الجلالة الملك، فقام الجمع المحتشد واقفا، وأدى القواد التحية العسكرية، وأحنى الحكام والوزراء الهامات إجلالا، وجلس الملك وأذن لملئه فجلسوا، وكان الملك واضعا على منكبيه وشاحا من جلد الأسد، فعلم من لم يكن يعلم أن فرعون دعاهم من أجل الحرب.

واستغرق الاجتماع زمنا يسيرا، ولكنه كان على قصره رهيبا حاسما، وبدا الملك فيه قويا نشيطا، واستعادت عيناه بريقهما المعروف، وقد قال لكبراء مملكته بصوته العظيم الذي يملأ القلوب إجلالا وإكبارا: أيها الحكام والقواد، لقد دعوتكم لأمر جلل تتعلق به سلامة الوطن وطمأنينة شعبنا الأمين؛ فقد أبلغني صاحب السمو الأمير أبوور حاكم أرسينة أن قبائل طور سيناء لا تنفك عن السطو على القرى النائية، وتهديد قوافل التجارة، وقد دلت التجارب على أن قوات الشرطة لا تستطيع القضاء عليها قضاء يكفي البلاد شرها، وأنها لا تملك الوسيلة لغزو الحصون التي يمتنع بها رجالها، وقد آن الأوان لدك هذه الحصون وتأديب المتمردين؛ لدفع شرهم عن الشعب الآمن، وإعلاء كلمة الحكومة الفرعونية.

وكان القوم ينصتون إلى مولاهم في صمت رهيب وانتباه شديد، فوضح الاهتمام على وجوههم، وتبدى التحفز على انضمام شفاههم وبريق أعينهم، والتفت الملك إلى القائد أربو وسأله: أيها القائد، هل الجيش على استعداد للقيام بواجبه؟

فقام القائد الخطير واقفا وقال: صاحب الجلالة ملك مصر العليا والسفلى ومنبع القوة والحياة، إن مائة ألف جندي بين الجنوب والشمال على كامل الأهبة للقتال، تشد أزرهم عدد حربية لا تعد ولا تحصى، ويسدد خطاهم قواد مدربون، ومن الميسور تجنيد أضعاف هذا العدد في زمن قصير.

فاعتدل فرعون على عرشه وقال: نحن فرعون مصر العليا والسفلى؛ خوفو بن الرب خنوم، حامي النيل وسيد بلاد النوبة، نعلن الحرب على قبائل طور سيناء، ونأمر بهدم حصونها وتأديب رجالها وسبي نسائها، وإني آمركم أيها الحكام أن تعودوا إلى مقاطعاتكم، وأن يرسل كل حاكم فرقة من حامية إقليمه.

وأشار فرعون إلى القائد أربو فاقترب القائد من مولاه، وقال له الملك: اعلم أني لا أريد أن يزيد عدد الجيش المقاتل على عشرين ألفا.

وقام فرعون على الأثر، فقام الجمع واقفين وهتفوا باسمه بحماس عظيم، وانتهى بذلك الاجتماع الخطير.

وعاد ددف في ركاب ولي العهد، وكان الأمير مسرورا مبتهجا على غير عادته، فلم يشك الشاب في أنه يفرح لنجاح سياسته، ويفوز بالغاية التي طال تربصه بها، وتذكر ما وعده فخفق قلبه خفقان الحيرة والفرح وود لو يستطيع استنجازه وعده، على أن الأمير لم يمد له حبل القلق والحيرة، فقال له وهو يدخل إلى القصر: وعدتك بمفاجأة سارة، فاعلم أني نلت موافقة والدي الملك على اختيارك قائدا للحملة الموجهة إلى سيناء.

25

وشملت مصر من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال حركة نشاط عظيم واسعة النطاق، وكان الجند يحشدون في كل مكان، وكانت السفن الكبيرة تمخر عباب النيل آتية من الشمال والجنوب، محملة بالجند والأسلحة والمؤن قاصدة إلى منف العظيمة ذات الأسوار البيضاء، فازدحمت بهم ثكنات العاصمة وأسواقها، وضج جوها بصلصلة أسلحتهم الثقيلة وأنغام أناشيدهم الحماسية، فعلم القاصي والداني بأن حربا على الأبواب، وأن أبناء النيل ينشطون للذود عن سلامة وطنهم.

وفي فترة الاستعداد سافر الأمير أبوور إلى مقاطعته لأمور تتعلق بالحرب والاستعداد لها، وتلقى القائد ددف خبر سفره بقلب لم تنسه هموم الواجب أشجانه وهواجسه، فساءل نفسه ترى هل فاز الأمير السعيد بأمانيه الخاصة، فوزه في مهمته السياسية العامة، وهل عاد إلى مقاطعته سعيدا بإعلان الحرب، وإبرام ميثاق الهوى؟ ترى ما الذي حدث بينه وبين الأميرة الجميلة ذات الدل والكبرياء؟ ماذا شهدت خمائل حديقة القصر الفرعوني من مناظر الهوى؟ وماذا سمعت أطياره من مناجاة الحب وهمساته؟ هل رأت الأميرة المتكبرة إذ تذل للناموس الذي لا يعرف الرحمة ولا يترفق بالكبرياء؟ وهل سمعتها إذ تبوح بأنات الجوى باللسان الذي تعود الأمر والنهي؟

ولكن صبرا فغدا يذهب للقتال، وإنه ليذهب بقلب لا يهاب الموت، ونفس تهوى المخاطر، وروح تتوق إلى المغامرات والأهوال، ليته يحقق النصر لوطنه ويدفع حياته ثمنا للنصر والمجد، فيقوم بواجبه كجندي ويخلد إلى الراحة التي ينشدها قلبه المعذب. يا له من خاطر جميل حري بأن تنزع إليه النفس الباسلة إذ غررت بها أماني الحب الغرور! ولكن كيف يودع الوطن وداعا لا رجعة منه، دون أن يحظى منها بنظرة أخيرة؟ وهل كان حبه لهوا ولعبا؟ إن قلبه ليشتاق إلى رؤية قلبها اشتياقا أليما، وإن نظرة من وجهها لأعز عنده من نور البصر، ونعمة السمع، وطيب الحياة، وهل أحس بأفراح الدنيا وبهجة الحياة إلا على ضوء وجهها الحبيب؟ فلا بد من رؤيتها ومحادثتها، وهو طلب يعز على الأحياء جميعا، ولكن ما أيسره على طالب الموت ...

ولم يدر القائد الشاب كيف يحقق أمنيته المنشودة، ومرت أيام الاستعداد القلائل سراعا حتى جاء اليوم الذي تقرر أن يسير الجيش غداة غده، وأرادت الآلهة أن تهبه بعد عسره يسرا، وأن تدني إليه ما أرهقه طلبه يأسا، فجاءت الأميرة تزور شقيقها زيارة من زيارات المفاجأة، وكان الأمير قد ذهب لتفتيش الثكنات الحربية. وعلم رئيس الحرس بمقدم الأميرة فخف طائرا إلى انتظارها، ولم تغب الأميرة طويلا داخل القصر فظهرت بوجهها الفتان، وكان في توديعها كبير الحجاب، وأقبل عليها الشاب بجسارة لم تؤاته في محضرها إلا مرة واحدة على شاطئ النيل، وأدى لها التحية العسكرية، ثم سار في معيتها بمفرده بعد أن تخلف كبير الحجاب عند مدخل القصر، وكان يتأخر عنها مقدار خطوتين، فاستطاع أن يملي عينيه من حسن قامتها ورشاقة قدها وفتنة حركاتها، والتهب صدره عطفا ووجدا، وتمنى لو يفرش لها قلبه تطؤه بقدميها، ليحس في سويدائه بوقع خطاها ولمس أناملها وتردد أنفاسها. يا عجبا! إن حكمة الطبيعة لا تخلو من فكاهة ممتعة، انظر إليها كيف توطئ الفوز لهذا الفارس على جميع القوى الجبارة، وانظر إليها كيف تذل عنقه لهذا المخلوق الدقيق البديع الذي لم يخلق لطعان!

وكانا يقطعان الممشى الطويل - المزدان جانباه بالورود والرياحين والتماثيل والمسلات - بخطى وئيدة، وكانت السفينة الفرعونية ترى عن بعد راسية إلى أدراج الحديقة، فتولى الجزع قلب الشاب، وكبر عليه أن تذهب من بين يديه دون كلمة وداع، وكان قلبه يضيق بكلمة يود أن يلقيها إلى مسمعيها المحبوبين، ولكن جمودها لم يدع له فرصة للكلام، ورأى المسافة تقصر والسفينة تقترب، فاشتد به الجزع وطغت عليه موجة من الاستهتار حلت عقدة لسانه، فقال لها بصوت متهدج: كم أنا سعيد يا صاحبة السمو لأني رأيتك قبل الرحيل غدا.

فبدا عليها كأنها بوغتت بقوله، وحدجته بنظرة استغراب قاسية وقالت: لقد بلغت أيها القائد مكانة رفيعة ... فما لي أراك تقامر بمجدك ومستقبلك!

فقال باستهانة: المجد والمستقبل يا صاحبة السمو؟! إن الموت يردهما إلى الهوان.

فقالت باحتقار: أرى أن والدي جعل على رأس جيشه قائدا يستحوذ على روحه قنوط الموت لا النصر والظفر!

فاندفع الدم إلى وجهه الجميل وقال بإباء: إني أعرف واجبي يا صاحبة السمو، وسأقوم به كما ينبغي لقائد مصري شرفته الآلهة بنيل ثقة مولاه، وسأبذل حياتي ثمنا له.

فهزت منكبيها وقالت: إن الرجل الشجاع لا ينسى ماضيه ولا يخرق تقاليده لواذا بالموت.

وكانت روح الاستهتار تستأثر به في تلك اللحظة فقال: هذا حق يا صاحبة السمو، ولكن ما حيلتي إذا كانت هذه التقاليد تعقل لساني عن البوح بما يضطرم في فؤادي؟ أنا ذاهب غدا، وقد تمنيت على الآلهة أن أراك قبل ذهابي ... فأدنت إلي أمنيتي، وما كان ينبغي لي أن أجحد العطف الإلهي بالصمت والجبن. - يحسن بك أن تتعلم فضيلة الصمت! - بعد أن أقول كلمة واحدة. - ماذا تريد أن تقول؟

فتبدى على وجهه الجميل الهيام وقال: إني أحبك يا مولاتي. قد أحببتك حين وقع نظري عليك، وهي حقيقة رهيبة ما كانت تؤاتيني الشجاعة على البوح بها لسموك لولا قوتها الخارقة في نفسي ... عفوا يا صاحبة السمو. - أهذا ما تسميه كلمة واحدة؟ ومع هذا فما كان أغناك عن قولها؛ لأني سمعتها يوما قهرا على شاطئ النيل.

فاهتاجته الذكرى وهزته قولتها «شاطئ النيل» فقال: لا أمل قولها دقيقة من حياتي يا مولاتي؛ فهي أجل ما نطق به لساني، وأجمل ما سمعت أذناي.

وكانا قد بلغا الأدراج الرخامية فتولاه الجزع وقال بتوسل: أما من كلمة وداع؟

فالتفتت إليه وقالت: أستودعك الآلهة أيها القائد، سأدعو بتاح العظيم أن يحقق على يديك النصر لوطننا المحبوب ...

ثم هبطت أدراج السلم إلى السفينة في تؤدة ومهابة.

وتركت ددف يرنو إليها بعينين حزينتين، ويشهد بقلب خفاق السفينة إذ تبتعد عن الشاطئ رويدا رويدا ... ولبثت الأميرة على سطحها لا تدخل مقصورتها فعلقت بها عيناه، وما زال يرسل ناظريه حتى غيبها عنه منعطف الماء ...

وسار بخطى ثقيلة مهيض الجناح تتجمع في صدره ثورة جامحة وغضبة كاسرة، على أنه كان لددف فضيلة لا تخونه في الملمات، وهي أنه لا يخضع لانفعال خضوعا يضل به الصواب، ويتنكب به عن السداد، وعلمه أخوه خنى كيف يراجع نفسه ويلزمها الحق والإنصاف، فانتحل للأميرة العذر عن قسوتها وجمودها، قائلا إنها إذا لم تصغ جوارحها إلى شكاته، فما ذلك إلا لأنها لا تحبه ، ليست هي ملزمة بحبه، ولا تقع على عاتقها خيبته المريرة، بل ما أحراه أن يقر لها باللطف والرحمة، ألم يقل لها ما لا يقال لأميرة من البيت الفرعوني؟ فماذا صنعت هي؟ لا شيء إلا أن أصغت إليه وعفت العفو الجميل، ولو شاءت لقضت عليه بالهوان وردته أسفل سافلين! فصرفت مراجعته لنفسه الثورة عن قلبه، ولكنها لم تعزه عن خيبته شيئا، فانطوى على ألم حزين صامت ... •••

وأمضى مساء ذلك اليوم في بيت بشارو ليودع أهله، وحاول ما استطاع أن يظهر بمظهر الفرح والمرح، الذي عهدوه فيه، واجتمعوا جميعا حول مائدة العشاء: بشارو وزايا وخنى ونافا وزوجه مانا، وتوسط المائدة القائد الشاب، وتناولوا طعاما شهيا وشربوا الجعة، ومضى بشارو يتحدث في أثناء الأكل بلا انقطاع، غير مبال بالفتات الذي يتطاير من فمه الأهتم، وقص عليهم كثيرا من قصص الحروب وخاصة الحروب التي خاض غمارها في شبابه، وكأنما أراد أن يطمئن زايا التي دل شحوب لونها على ما يعتلج في صدرها من المخاوف، فقال: إن أوزار الحرب تلقى في الأغلب على عاتق الجنود، وأما القواد فيحتلون مكانا آمنا يفكرون ويرسمون الخطط.

وفطن ددف إلى مرماه، فقال: صدقت يا والدي، ولكن ترى هل أبليت بلاءك الحسن في حرب النوبة ضابطا صغيرا أم قائدا كبيرا؟

فاستقام جسم الشيخ فخارا وقال: كنت حينذاك ضابطا صغيرا في فرقة الرماح ... وكانت سيرتي في الحرب إحدى المزايا التي رشحتني فيما بعد لمنصب مفتش عام الهرم الفرعوني.

ولم تنقطع ثرثرة بشارو، وكان ددف ينصت إليه حينا ويشرد أحيانا، وربما غلبه الألم فتبدو في عينيه نظرة حزينة، وكأن زايا كانت تلهم أحزانه إلهاما لأنها كانت صامتة ثقيلة القلب، فلم تتناول طعاما وقنعت من الوليمة بكوب من الجعة.

وأحب نافا أن تختم تلك الليلة ختاما سعيدا، فدعا زوجه مانا إلى العزف على القيثارة وإنشاد الأغنية الجميلة: «ظفرت في الحب والحرب» وكانت مانا ذات صوت رخيم، وكانت عازفة ماهرة، فملأت جو الغرفة نغما فاتنا وصوتا عذبا ...

واضطرمت في قلب الشاب نار موقدة لم يصل لظاها في الحاضرين سواه، وكان نافا أمعنهم في الجهل والسذاجة؛ فقد دنا من ددف وهمس في أذنه: أبشر خيرا أيها القائد، بالأمس ظفرت في الحب وستظفر غدا في الحرب.

فاستولى الذهول على ددف وقال: ما معنى قولك هذا؟

فابتسم المصور ابتسامة ماكرة وقال: أتظن أني نسيت صورة الفلاحة الجميلة؟ ... آه ما أجمل فلاحات النيل! ... إن الواحدة منهن لتتمنى أن ترقد بين يدي ضابط جميل على الحشائش الخضراء التي تكسو شاطئ النيل ... فما بالك لو كان هذا الضابط ددف الجميل الفاتن؟!

فقال له باستياء: صه يا نافا ... أنت لا تدري شيئا.

واهتاجه حديث نافا كما اهتاجه غناء مانا وأحس برغبة في الفرار، وهم بتنفيذ رغبته لولا تذكر أمه، ولاحت منه التفاتة إليها فرآها تديم النظر إليه، فخشي أن تقرأ صفحة قلبه بعينيها الملهمتين فيصيبها من ذلك حزن كبير، فابتسم إليها، وأقبل نحوها يختال في حبور وفرح.

26

وانبثق نور فجر الغد.

وكان القائد ددف جالسا في خيمته وسط معسكر الجيش خارج أسوار مدينة منف، يطلع على خريطة لشبه جزيرة سيناء وسورها الكبير، والطرق الصحراوية المؤدية إليها، وكانت تشمل المعسكر حركة حياة صاخبة؛ فالخيل تصهل والعجلات تصلصل، والجند تذهب وتجيء، ويغشى الجميع نور الفجر الأزرق الهادي.

وقد دخل الضابط سنفر على القائد وحياه باحترام وقال: أتى رسول من لدن صاحب السمو الفرعوني الأمير رعخعوف، ويطلب الإذن بالدخول على سعادتكم.

فبدا الاهتمام على وجه ددف وقال: دعه يدخل.

فغاب سنفر لحظة ثم عاد يتقدم الرسول ثم غادر الخيمة، وكان الرسول يرتدي ثياب الكهنوت الفضفاضة التي تغطي الجسم من المنكبين إلى رسغي القدمين، ويضع على رأسه قلنسوة سوداء، ويرسل لحيته الكثة إلى ثغرة صدره، فعجب ددف لمرآه؛ لأنه كان يتوقع أن يلقى وجها مألوفا لديه من الوجوه التي يراها عادة في قصر ولي العهد، وسمع صوتا - خيل إليه رغم خفوته أنه لا يسمعه لأول مرة - يقول: جئت يا صاحب السعادة في أمر خطير، فأرجو أن تأمر بإسدال الستار على الباب، وبمنع الدخول إلى الخيمة بغير إذن.

فنظر ددف إلى الرسول نظرة فاحصة، وكاد يخالجه التردد، ولكنه هز منكبيه العريضين استخفافا واستهانة، ونادى سنفر وأمره بإسدال الستار على مدخل الخيمة، وبعدم السماح لإنسان بالدنو منها، وصدع سنفر بما أمر، وحين خلا المكان نظر ددف إلى الرسول وقال له: هات ما عندك.

ولما اطمأن الرسول إلى خلو الخيمة رفع عن رأسه قلنسوته السوداء، فبدا شعر أسود غزير هفت خصلاته فسقطت على المنكبين في ترنح ورسمت هالة حول رأس بديع، ثم امتدت يد الرسول إلى لحيته فأزالها برشاقة، وفتح عينيه اللتين كان يضيقهما بمشيئته، فسطع وجه مشرق تلألأ نورا في جو الخيمة مع أول شعاع أرسلته الشمس في فضاء الصحراء.

وطار قلب ددف في صدره، وهتف بصوت متهدج: مولاتي مري سي عنخ!

خف إليها كالطير المذعور، وجثا عند قدميها، ولثم أهداب ثوبها الفضفاض، وكانت الأميرة ترسل بناظريها إلى الأمام في خفر واستحياء، وينتفض جسمها اللدن كلما أحست بأنفاس الشاب الحارة تتسلل من نسج سروالها، وتهب على ساقها المعطرة ... ثم لمست رأسه بأناملها، وهمست بصوت خافت: «قم.» فقام الشاب تلمع عيناه بنور فرح بهيج، لم يسلس قط لبيان، وجعل يقول: أحقا هذا يا مولاتي؟ أحقا ما أسمع؟ وحقا ما أرى؟

فرنت إليه بنظرة استسلام كأنها تقول له: «غلبت على أمري فجئت إليك.» فقال الشاب: إن آلهة الأفراح جميعا تشدو في قلبي هذه الساعة، وقد أنساني شدوها عذاب الشهور وتسهيد الليالي، ورحضت أنغامها قلبي من مرارة القنوط وظلمات اليأس، رباه! من يقول إني أنا الذي هانت عليه الحياة بالأمس؟!

فبدا على وجهها التأثر، وقالت بصوت خافت كتغريد اليمام: أهانت عليك الحياة حقا؟

فقال وعيناه تلتهمان الشفتين اللتين تنثران الحديث: نعم هانت وتمنيت الموت صادقا، والموت تشتهيه النفس التي خسرت آمالها، ولم أك جبانا قط يا مولاتي، فلبثت أؤدي واجبي، ولكن كان يعذبني إحساس بتفاهة الغاية وعبث الجهد، وكانت تثقل علي وحشة تجثم على صدري وتغشى عيني بالظلمات.

فتنهدت وقالت: وكنت أنا أكافح كبريائي وأجاهد نفسي، وألقى منهما عذابا واصبا . - كم كنت قاسية علي! - وكنت على نفسي أشد قسوة، أتذكر ذلك اليوم على شاطئ النيل؟ لقد عدت يومها يدب في أعماق قلبي قلق غريب، وعلمت فيما بعد أنه قدر لقلبي أن يستيقظ على صوتك من سباته العميق، واكتشفت هذه الحقيقة تتقاسمني لذة المجازفة والخوف من المجهول، ثم ذكرت فخارك واعتدادك بنفسك فثرت وتمردت، وكنت كلما وقع نظري عليك قسوت على نفسي وقسوت عليك.

فتنهد وقال بلهفة أسيفة: كم عذبني غروري! أتذكرين ثاني لقاء لنا في قصر صاحب السمو؟ لقد انتهرتني في شدة وعنفتني تعنيفا قاسيا، وبالأمس لم تسمعي لشكاتي، وتركتني دون كلمة وداع، فهل تعلمين كم تعذبت وكم تألمت؟ هيهات ... فليتني اطلعت على الغيب! كانت أشد أوقاتي عبوسا أحقها بالسعادة، وكنت أشكو إلى الآلهة عذابي فتضحك من جهلي!

فابتسمت وقالت: وكانت تشهد الآلهة كبريائي فتضحك من هواني، فهل رأيت مثلنا ألعوبة من قبل؟ - ولما نزل ألعوبة تستحق الرثاء، فإني كلما أذكر ما أضعنا من وقت ثمين!

وتنهد آسفا حزينا، فقالت: على رأسي يقع وزر ذلك.

فنظر إليها بحنو وقال: فدتك نفسي من كل شر.

فابتسمت ابتسامة حلوة وقالت: أظن أن الوقت يقسو علينا هذه المرة.

فتنهد آسفا ونظر إليها بعينين مكتئبتين، فقالت تبث فيه روح الأمل: أمامنا مستقبل طويل مشرق بالأمل ... فتمن الحياة كما تمنيت الموت.

فقال بسعادة وابتهاج: لن يقدر الموت على قلبي ...

فوضعت إصبعها على فمه وقالت: لا تقل هذا.

ولكنه قال بحماس جنوني: ماذا يصنع الموت بقلب جعله الحب من الخالدين؟

فقالت: سألبث بالقصر، لا أبرحه، حتى أسمع الأبواق تزف بشرى النصر والعودة! - فلندع الأرباب أن تقصر فراقنا. - نعم سأصلي إلى بتاح، ولكن في القصر لا هنا لأنه ليس لدينا متسع من الوقت.

ووضعت القلنسوة على رأسها، فتألم لاختفاء الشعر الأسود الحالك عن عينيه وقال: أهون علي أن أفارق عضوا عزيزا من جسمي!

فنظرت إليه بعينين يلتمع فيهما نور الحب والأمل، ولكن خيل إليها أن وجهه يكفهر، وصدره ينقبض، وتظلل جبينه سحابة مظلمة، فساورها القلق وسألته: فيم تفكر؟

فقال باقتضاب: الأمير أبوور!

فضحكت قائلة: هل بلغك ما تناقلته الألسن حينا من الزمن؟ يا عجبا! لا يخفى شيء في مصر، وإن كان من أسرار القصر الفرعوني، ولكنك علمت شيئا وغابت عنك أشياء؛ فالأمير إنسان نبيل سامي الخلق، وقد حادثني يوما - ونحن منفردان - في الموضوع الذي أذيع، فاعتذرت وقلت له إني أوثر أن أبقى صديقته، ولا أشك في أنه أحس بخيبة، ولكنه ابتسم ابتسامته النبيلة، وقال لي: إني أمير أحب الصدق والحرية، وتكره نفسي أن تستذل نفسا نبيلة ...

فقال ددف بفرح: يا له من إنسان نبيل! - نعم، إنه كريم ... - ألا يوجد في أفقنا ما يدعو إلى التشاؤم؟ أعني ... أخشى فرعون!

فخفضت عينيها خفرا وقالت: لن يكون أبي أول فرعون يصاهر أحد أفراد شعبه المقربين!

فأطربه جوابها وأسكره خفرها، وحنت ضلوعه إليها حنينا موجعا، وامتدت يده إلى يدها - وكانت تهم بلصق اللحية بوجهها - إشفاقا من مغيب هذا الوجه الحسن المشرق، فأسلمت يدها إلى يده، وكان استسلامها عذبا ساحرا، فجثا الشاب أمامها ولثم يدها هيمان مفتونا، وقالت له: أستودعك الآلهة جميعا.

ثم ألصقت اللحية المستعارة بوجهها، وضغطت على القلنسوة حتى مست حافتها حاجبيها، فردت إلى هيئة رسول الأمير ولي العهد، وقبل أن توليه ظهرها وضعت يدها في صدرها، وأخرجت الصورة الصغيرة العزيزة التي اتخذتها الطبيعة علة لهذا الغرام الجميل، وأعطته إياها بغير كلام، فأخذها بحنو وهيام ولثمها بفمه، ثم دفنها في صدره في مكانها الأول المعهود، وألقت عليه ابتسامة وداع، وكأنما أرادت أن تضاحكه، فأدت له التحية العسكرية، وسارت في مشية الجنود إلى الخارج.

ولم يكن الفتى الذي تركته ذاهلا من الفرح مشرق الوجه بنور الأمل هو الذي رأته حين مقدمها كاسف البال شارد الخاطر متهافت النفس؛ فقد بعث الحب نفسه بعثا جديدا وأحياها بعد موات، وزارت مخيلته - في تلك اللحظة السعيدة - أطياف من ماضي قلبه، من معرض نافا الجميل، وشاطئ النيل الأخضر الفسيح، وقطيع الفتيات الحسان، ثم ذكر حزنه ويأسه وتلف نفسه الجلدة الصبور، ثم ذكر الأمل المشرق الذي أدركه في غمرات القنوط والأحزان، فتمثلت له حقيقة الحب والحياة كنهر يسقي بستانا ناضرا تتألق أزهاره وتغرد أطياره ما جرى ماؤها عذبا، فإذا نضب معينه خوى البستان على عروشه وذوى حسنه وتجرد كفلاة مهجورة.

وأعاده إلى اليقظة دخول سنفر، وأخبره الضابط بأن كل شيء على قدم الاستعداد، فأمره بالنفخ في الصور إيذانا بالرحيل، فانبثت على الأثر في المعسكر حركة هائلة، وعزفت الموسيقى، وتحركت طليعة الجيش. وركب ددف عربة القيادة التي يتولى قيادتها سنفر، وركب كبار الضباط وسارت جماعتهم إلى قلب فرقة العجلات، ثم نفخ في الصور مرة أخرى، فتحركت عربة ددف في الطليعة بين جناحين من عربات الضباط العظام، وتبعتهم في صفوف متوازية فرقة العربات المكونة من ثلاثة آلاف عربة حربية مثقلة بالسلاح، وسارت خلفها فرق المشاة، تحمل كل علمها، تتقدمها فرقة القسي وتليها فرقة الرماح ثم فرقة السيوف، وتبع الجيش عربات المهمات الكبيرة محملة بالأسلحة والمؤن والعقاقير الطبية، تحيط بها قوة من الفرسان.

اخترق ذلك الجيش الصحراء، يهدف إلى السور المنيع الذي اتخذته القبائل وكرا آمنا.

وقد طلعت عليهم شمس الضحى، ولفحهم وهج الظهيرة، وهب عليهم نسيم المغيب، وهم يضربون في الأرض كالمردة، تكاد الأرض تشكو من حمل أثقالهم ولا يشكون من شيء.

27

ورئيت عربة استكشاف تنهب الأرض صوبهم، فتطلعوا إليها باهتمام شديد، وتقدم قائدها من القائد وأخبره بأن عيونهم عثرت على جماعات من البدو منتشرين حول تل الدوما، وكان من رأي الضباط أن يسيروا إليها فرقة من الجيش لقتالهم، وبسط ددف خريطة الصحراء أمامه، وبحث باهتمام عن تل الدوما، ثم قال: إن تل الدوما يقع جنوب طريقنا، والمعروف عن أولئك البدو أنهم يسيرون جماعات صغيرة للنهب والفرار، وأنهم لا يخطر لهم على بال مهاجمة جيش جرار كجيشنا، فلا خوف علينا من مواجهة حركة التفاف. فقال له أحد الضباط: أظن يا صاحب السعادة أنه ليس من الحكمة تركهم ...

ولكن الشاب قال: لا شك أننا سنصادف في طريقنا كثيرا من أمثال هذه الجماعات، فلو أننا سيرنا إلى كل جماعة منها كوكبة من جنودنا لتشتتت قوتنا، فلنضع نصب أعيننا الهدف الأول، وهو اختراق سورهم الحصين، وضربهم في عقر دارهم والقبض على زعيمهم خانو ...

ولكنه رأى عن حكمة أن يعزز القوة التي تحرس عربات المؤن والأسلحة.

وتقدم الجيش في طريقه، ولم يروا في أثناء سيرهم أثرا لرجال القبائل، وأتتهم الأخبار بأن من كان يضرب في الصحراء منهم ولى الأدبار، حين سمع بأخبار الجيش الزاحف صوب شبه الجزيرة، فشقوا طريقا آمنا خاليا حتى بلغوا مقاطعة أرسينة، فألقوا عصا الترحال ليأخذوا قسطهم من الراحة وحاجتهم من المؤن، وبادر الأمير أبوور إلى زيارتهم، واستقبل استقبالا رسميا يليق بمكانته السامية، وتفقد الأمير وحدات الجيش، ومكث مع القائد وكبار معاونيه يتحدث إليهم في شئون الحملة، وقد اقترح عليهم أن يوجدوا حلقة اتصال بينهم وبين أرسينة ليطلع على أخبارهم، وليمدهم أولا بأول بما يحتاجون إليه، وقال لهم في ذلك: واعلموا أن جميع قوات أرسينة مشمرة للقتال، وأن قوات عظيمة من سرابيوم وذقعة ومندس في طريقها إلى أرسينة.

فقال ددف: ندعو الآلهة يا صاحب السمو ألا نحتاج إلى قوات جديدة؛ احتراما لرغبة صاحب الجلالة الذي يحرص على أرواح العباد.

ونام الجيش تلك الليلة نوما عميقا هادئا، ثم استيقظ على نفخ الأبواق عند صراخ الديكة.

واستأنف مسيره شرق أرسينة في جلبة وعظمة، وما زالوا في حل وترحال حتى لاح لهم عن بعد السور الكبير الذي يبتدئ جنوبا من خليج هيروبوليس وينعطف شرقا راسما قوسا عظيما، فانعطف الجيش ناحية الشمال، ومال قليلا نحو الشرق، ثم ألقى أثقاله وعسكر في موضع لا تصل إليه سهام المحاصرين.

واستطاعوا - من معسكرهم - أن يشاهدوا متانة بنيان السور، وأن يروا الحراس الذين يعتلونه والقسي في أيديهم، استعدادا للذود عن حياضهم ضد الجيش المغير.

واتفق رأي ددف والضباط على أن الانتظار لا يجدي في حالتهم، كما قد يجدي في حصار مدينة بتجويع سكانها، واجتمعت كلمتهم على وجوب البدء بمناوشات خفيفة ليختبروا بها قوة عدوهم.

وكان من الخطر أن تهجم العربات في أول المعركة خشية أن يخسروا جيادهم المطهمة ، فتقدم بضع مئات من الجنود المدرعين حاملي القسي في شبه نصف دائرة، يفرق بين الواحد ورفيقه عشرات الأذرع من الخلاء، حتى إذا بلغوا موضعا ظن العدو أنه صائبهم فيه أطلق عليهم سهامه فقابلوه بمثلها، وابتدأت أول معركة بين الفريقين، وكانت السهام تنطلق جماعات كثيفة كسحب الجراد، ولكن كان أكثرها يضيع هباء لبعد المسافة.

وكان ددف يرقب المعركة باهتمام شديد، ويشاهد بإكبار مهارة الجنود المصرية في الرماية التي أكسبتهم شهرة تقليدية لا مثيل لها، ورأى فيما رأى باب السور الكبير، فقال لسنفر: يا له من باب عظيم كأنه باب معبد بتاح!

فقال له الضابط المتحمس: عسى أن يتسع لعرباتنا التي ستخترقه بعد حين!

ولم تذهب المناوشة سدى؛ فقد لاحظ ددف أن رجال القبائل لم يبنوا على السور أبراجا تقي رماتهم سهام المهاجمين، فلا يستطيعون أن يرموا عن قسيهم إلا إذا تعرضوا لخطر القتال، فوضحت له فائدة الهجوم بالدروع الكبيرة المعروفة بالقباب ... وكان الدرع من هذه الدروع أشبه ما يكون بالمحراب المجوف في حيطان المعابد، وهو لكبر حجمه يمكن أن يخفي الجندي من الرأس إلى القدم، ولسمك جسمه يستطيع أن يرد السهام، فلا تنفذ منه إلا إذا أصابت منافذ صغيرة في أعلاه يصوب منها حامله.

وقد أصدر ددف أمره بأن يتقدم بضع مئات بهذه الدروع لقتال حرس السور، فاصطفوا جميعا خلف دروعهم في شبه نصف دائرة واسعة، ثم تقدموا نحو السور لا يبالون وابل السهام المتساقط عليهم، ثم وضعوا القباب على الأرض وراشوا سهامهم، وبدأت بينهم وبين عدوهم معركة عنيفة دموية، تطايرت فيها رسل الموت من الجانبين، وكان رجال القبائل يتساقطون بكثرة، ولكنهم أبدوا جلدا غريبا وشجاعة نادرة المثال، فكانوا كلما سقطت منهم طائفة حلت محلها أخرى، وكانوا رغم امتناع المصريين بدروعهم الغريبة يصيبونهم خلل المنافذ الصغيرة، فسقط من المصريين قتلى وجرحى كثيرون.

وما زالوا في قتال عنيف حتى تخضب الأفق الغربي بدم الشفق، وصدرت الأوامر إلى المصريين بالتقهقر فرجعوا القهقرى، وقد نال منهم التعب كل منال.

28

وكانت منف تنتظر أنباء القتال في هدوء المطمئن، للثقة العظيمة التي توليها جيشها، والاستهانة البالغة التي تشعر بها نحو قبائل البدو الناهبة، ولكن قلوبا كبيرة كانت تخفق خفقان المشفق، ويخلق لها الحنان الأوهام ويصور لها المخاوف، منها قلب عاهل النيل العظيم الذي تحول على الكبر إلى الحكمة، ومضى يكتب بمداد قلبه رسالته الخالدة إلى شعبه الحبيب، ومنها قلب زايا الذي أضناه الألم وعذبه الخوف وأرقه السهاد، وقلب آخر لم يعرف من قبل معنى الألم ولا ذاق طعم الخوف، وهو قلب الأميرة مري سي عنخ التي وهبتها الآلهة أبهى ما لديها من حسن وهيأت على الأرض لها أمتع ما فيها من الترف والنعيم، وسخرت لحبها أعظم قلوب البشر طرا، وأزلت لها قوى الطبيعة فلا يقرصها برد الشتاء، ولا يلفحها حر الصيف، ولا تهب عليها ريح الجنوب، ولا ينفذ إليها مطر الشمال، فما زالت تمرح وتلعب حتى مس قلبها الحب كما تمس أنامل الطفل الطليق ألسنة اللهيب، فاكتوت بناره وفتحت صدرها لعذابه وهوانه ...

ولم تخف حالها على وصيفاتها، وعلى وصيفتها ناي على وجه الخصوص، وقد قالت لها يوما وهي ترقبها بعين الريبة والإشفاق: أتتنهد مولاتي؟ فما يفعل من لا تحنو عليه الآلهة والفراعين؟ أتجثين ضارعة متوسلة؟ فمن الذي نتوسل به ونضرع إليه؟ أتخفضين عينيك يا مولاتي؟ فلمن خلقت الكبرياء؟

ولكن حلم الأميرة لم يتسع لمداعبات وصيفتها، فكانت تؤثر في تلك الأيام الشديدة الخلوة إلى نفسها، وكانت تود لو تستطيع أن تحافظ على قولها لحبيبها: إنها لن تغادر القصر حتى تسمع أبواق العودة الظافرة، ولكنها وجدت حنينا إلى زيارة قصر شقيقها ولي العهد؛ لتلقي تحية قلبية على المكان الذي كان يلقاها ددف فيه كلما ذهبت لزيارة أخيها.

وكان ولي العهد يستقبلها ويتحدث إليها، ولم يخف عنها عاطفة كانت تجهلها فيه وهي تململه من سياسة الملك، حتى قال لها مرة بلهجة الغضب: إن والدنا يهرم سريعا.

فنظرت إليه نظرة إنكار، فاستطرد يقول: حقا إنه ما يزال يحافظ على سلامة بنيته وحدة ذهنه، ولكن قلبه يشيخ ويهرم، ألا ترين أنه يولي ظهره سياسة الحكم، ويميل بقلبه وعقله إلى التأمل والرحمة، ويصرف وقته الثمين في الكتابة؟

أين هذا من واجب الحاكم القوي؟

فقالت له الأميرة بامتعاض: الرحمة كالقوة من فضائل الحاكم الكامل.

فقال بسخرية: لم يلهمني والدي هذه الحكمة يا مري سي عنخ، ولكنه ضرب لي الأمثال الخالدة بآثار القوة الخلاقة لجلائل الأعمال، فسخر أمة لبناء الهرم وزحزحة الجبال وترويض الصخور العاتية، وكان يزأر كالأسد الهصور فتخر القلوب فرقا ورعبا وتأتيه النفوس طوعا أو كرها، فيقتل من يشاء ويغفر لمن يشاء، ذلك هو والدي الذي أفتقده ولا أجده، ولا أرى سوى ذلك الشيخ الذي يمضي الليل إلا قليله في حجرة التابوت يفكر ويملي، ذلك الشيخ الذي ينفر من الحرب، ويشفق على الجنود كأنهم خلقوا لغير القتال.

فقالت مري سي عنخ: لا تتكلم عن فرعون بهذه اللهجة أيها الأمير، لقد خدم والدنا الوطن يوما بقوته، وسيخدمه أضعافا بحكمته.

على أن زياراتها لقصر الأمير لم تكن تقطع جميعا بأمثال هذا الحديث المضني؛ ففي يوم من الأيام المعدودة في العمر - وكان قد مضى على رحيل الجيش المصري عشرون يوما - وجدت الأمير مغتبطا راضيا، ورأت وجهه الصلب يلين عن ابتسامة قليلا ما ترى عليه، فخفق قلبها وطار خاطرها إلى الحبيب البعيد، فسألت شقيقها: ما وراءك يا صاحب السمو؟

فقال: بلغتني أنباء سارة تقول إن جيشنا حاز انتصارات باهرة، وإنه عما قليل يقتحم حصن العدو.

فصاحت به: زدني من هذا النبأ السعيد! - يقول الرسول: إن جنودنا تتقدم مدرعة بالقباب حتى صارت على قيد أذرع من السور، واستحال على رجال القبائل الظهور على السور، ومن تحدثه نفسه منهم بالمجازفة ترديه نبالنا قتيلا.

وكان هذا النبأ أسعد ما سمعت من شقيقها في حياتها، وقد تركت قصر الأمير قاصدة إلى معبد بتاح، وصلت إلى الرب العظيم ودعت للجيش بالنصر ولحبيبها بالسلامة، واستغرقت في صلاتها استغراقا عميقا، لا يعرفه إلا المحبون، وعادت إلى القصر الفرعوني يدب في قلبها الجزع، الذي يقل صبره كلما دنا من غايته.

29

وكانت الجنود المصرية قد دنت من السور الحصين، واستطاعت أن تمسه بأسنة رماحها، وأحاط به الرماة من كل جانب مسددين قسيهم كلما ظهر رجل أردوه قتيلا، ولم يجد العدو من حيلة إلا أن يلقي عليهم الأحجار، وأن يسدد نباله ليصيد بها من يعتلي السور منهم، وظلوا على تلك الحال زمنا يسيرا، وكل فريق يتربص لغريمه، وفي فجر اليوم الخامس والعشرين للحصار أصدر ددف أمره للرماة بالهجوم العام، فانقسموا طائفتين؛ واحدة لمراقبة السور وأخرى تقدمت مستظلة بحماها يحمل رجالها السلالم الخشبية والدروع الطويلة والقسي والسهام، وأسندوا السلالم إلى السور وصعدوا أدراجها ناشرين أمامهم الدروع كأنها الأعلام، ثم أثبتوا الدروع على السور فبدا كحائط الحصون المصرية المدرع بالقباب، وتلقوا بها آلاف السهام التي ترامت عليهم من كل حدب وصوب، وتساقط منهم عدد غير يسير، وأجابوا عدوهم بسهام لا تطيش ملأت الجو أزيزا مخيفا، وعلا الصياح يشق عنان السماء، واختلط هتاف الفوز بأنات الألم وصراخ الرعب، وفي أثناء القتال المستعر هجم فريق من المشاة يحملون جذوع النخل صوب الباب الكبير، وصكوه صكا شديدا دوى دويا مرعبا ...

وكان ددف يقف على ظهر عربته الحربية، يرقب القتال بعينين قلقتين وقلب متحفز للقتال، وكان يقلب وجهه بين الجنود المعتلية للسور، والمتوثبة لاعتلائه، وبين الهاجمين على الباب الضخم الذي بدأت تتزعزع أركانه ويضطرب بنيانه.

وبعد زمن ليس باليسير رأى الرماة يقفزون داخل السور، ورأى المشاة من حاملي الرماح يصعدون السلالم، ورماحهم مجردة ودروعهم مشهرة فعلم أن العدو أخذ يخلي مواقعه خلف السور ويتقهقر داخل شبه الجزيرة.

ومرت ساعة على قتال عنيف وانتظار جزوع، وكانت فرقة العربات - وعلى رأسها القائد الشاب - تنتظر صفوفا، ولم يلبث أن فتح الباب على مصراعيه بعد أن رفع الجنود المصريون بداخل السور مزلاجه، وأمر ددف سنفر بالهجوم، فترك للجوادين العنان، وانطلقت خلفه العربات تجلجل جلجلة الجبل المنهار، وتثير خلفها ريحا من النقع والرمال، واجتازت الباب عربة عربة، وكانت تنعطف واحدة إلى اليمين والأخرى إلى اليسار، فرسمت جناحين مديدين يلتقيان في عربة القائد، وهاجمت العدو كقبضة يد هائلة تهصر عصفورا هزيلا، وفي أثناء ذلك احتل الرماة الأماكن الحصينة والتلال العالية، وتقدمت فرقة الرماح لتحمي مؤخرة العربات، وتقاتل من يلتف للإحداق بها.

وكان سنفر يقود عربة القائد ببسالة وثبات، وكان ددف يطلق سهامه التي لا تخيب فتعرف مستقرها في الرقاب والقلوب، وقد ولى العدو الأدبار، ومن تخلف منهم انقض عليه الجنود الزاحفون برماحهم، فلم ينج من الموت إلا هارب أو أسير أو جريح.

وانتهت المعركة الفاصلة في ساعات قلائل، وباتت قرى القبائل تحت رحمة الجنود المحتلة، وامتلأ الميدان بجثث القتلى أو الجرحى من الفريقين، وانتشر الجند هنا وهناك بغير نظام، وأقبل الجنود المصريون يبحثون بين الجثث عن إخوانهم الأبطال الذين سقطوا في ميدان القتال، ومضوا يحملونهم إلى المعسكر خارج السور، وأخذ غيرهم يجمعون جثث العدو ليحصوها عدا، وجعل آخرون يقيدون الأسرى بالحبال، ويستولون على أسلحتهم، ويجمعونهم صفوفا صفوفا، ثم أخليت القرى الصغيرة من النساء والأطفال وأحضرن جماعات جماعات وهن يصرخن ويعولن إلى جانب الأسرى، وأحاط الحرس بالجميع من كل جانب، ثم عاد الجنود كل طائفة إلى حيث نشر علم فرقتها، ووقفوا صفوفا كل فرقة على رأسها ضباطها الذين نجوا من شر القتال.

وأتى القائد يتبعه قواد الفرق، فاستعرض الجيش المنتصر الذي أدى له التحية بحماس عظيم، وسلم على الضباط البواسل، وهنأهم بالفوز والنجاة، وحيا ذكرى من سقط منهم شهيدا، ثم سار مع أركان حربه إلى البقعة التي ألقيت فيها جثث الأعداء، وكانت الجثث ممددة بعضها إلى جانب البعض، وقد سالت دماؤها أنهارا، ووجد على حراستها ثلة من الجند على رأسها ضابط، فسأله ددف: كم عدد القتلى والجرحى؟

فأجاب الرجل: قتل من العدو ثلاثة آلاف رجل وجرح خمسة آلاف.

فسأله: وكم عدد ضحايانا؟

فقال: قتل منا ألف وجرح ثلاثة آلاف.

فاكفهر وجه الشاب وقال: كلفتنا قبائل البدو غاليا.

وسار القائد إلى حيث يوجد الأسرى، وكانوا جمعا غفيرا تنتظمه الحبال الطويلة جماعات، وتقيد أذرعهم إلى الخلف، وقد نكست رءوسهم حتى مست لحاهم صدورهم، وألقى ددف نظرة عليهم، وقال لمن حوله: سوف تهلل مناجم قفط - التي تشكو قحطا في عمالها - فرحا بهؤلاء الرجال الأشداء.

انتقل ومن معه إلى منطقة صاخبة مولولة هي منطقة السبايا اللاتي لم يستطعن هروبا، وكانت أطفالهن تصرخ وتعول، وكن يلطمن وجوههن ويندبن حظهن ورجالهن القتلى أو الجرحى أو الأسرى أو المشردين، ولم يكن ددف يعلم بلغتهن فألقى عليهن نظرة غريبة لم تخل من إشفاق، ووقع بصره على طائفة منهن تبدو عليها آي النعيم، فسأل الضابط الذي يشرف على حراستهن: من هؤلاء النسوة؟

فقال الضابط: هن حريم زعيم القبائل.

وتأملهن القائد وعلى فمه ابتسامة، وكن ينظرن إليه بأعين جامدة لا شك تخفي خلفها نارا مضطرمة يوددن لو يسلطنها على القائد الظافر الذي أسر سيدهن، واستذلهن وسامهن من بعد عزة هوانا.

شذت واحدة منهن عن نطاق أترابها، وأرادت أن تتقدم من القائد، فحال بينها وبين بغيتها جندي وأشار إليها مهددا منذرا، ولكنها صاحت بالقائد باللغة المصرية المبينة: أيها القائد دعني أقترب منك وليباركك الرب رع.

فدهش ددف ودهش من معه جميعا لطلاقة لسانها، وحسن نطقها المصري كأحد الناطقين بها، وأمر القائد الجندي أن يتركها تتقدم منه، فتقدمت بخطى وئيدة حتى دنت من الشاب، وانحنت أمامه في احترام وإجلال، وكانت امرأة في الخمسين من عمرها، وقور الطلعة في وجهها أثر لحسن قديم عفا عليه الزمان والشقاء، وفي قسماتها شبه عجيب من بنات النيل، فقال لها ددف: أراك تعرفين لغتنا أيتها السيدة.

فتأثرت السيدة تأثرا شديدا حتى اغرورقت عيناها بالدموع، وقالت: كيف لا أعرفها وقد نشأت لا أعرف لغة سواها؟ أنا مصرية يا مولاي!

فزاد العجب بالشاب وأحس نحوها بعطف شديد، وسألها: أحقا أنت مصرية يا سيدتي؟

فقالت له بيقين وحزن: نعم يا مولاي، مصرية بنت مصريين. - وما الذي جاء بك إلى هنا؟ - جاء بي حظي التعس إذ خطفني على أيام شبابي هؤلاء الرجال الغلاظ الأكباد، الذين نالوا جزاءهم على أيديكم الباسلة، وساموني سوء العذاب حتى أنقذني زعيمهم من شرهم ليبتليني بشره، فضمني إلى حريمه، حيث عانيت ذل الأسر وحسرته عشرين عاما ...

فاشتد تأثر ددف، وقال للمرأة البائسة: اليوم ينتهي أسرك أيتها السيدة التي تربطني بها أخوة الجنس والوطن، فقري عينا.

فتنهدت المرأة التي قسا عليها الدهر عشرين عاما طويلة، وأرادت أن تجثو عند قدمي القائد، ولكنه أمسك بيدها برقة وقال لها: هدئي روعك يا سيدتي ... من أي البلاد أنت؟ - من أون يا مولاي، مقر الرب رع. - لا تحزني، لقد ابتلاك الرب بشر عظيم لحكمة يعلمها هو، ولكنه لم ينسك. ولسوف أقص على مولاي الملك قصتك وأضرع إليه أن يفك رقبتك فتعودي إلى مسقط رأسك راضية سعيدة ...

فساور المرأة القلق، وقالت للقائد بتوسل: أضرع إليك يا مولاي أن ترسلني إلى بلدتي توا، عسى أن تمن علي الآلهة بالعثور على أهلي.

ولكن الشاب هز رأسه وقال: ليس قبل أن أرفع أمرك إلى فرعون؛ لأنك الآن - شأنك شأن جميع هؤلاء الأسرى - ملك للملك ولا بد من تسليم الوديعة إلى صاحبها، ولكن اطمئني ولا تخشي شيئا؛ ففرعون رب المصريين لا آسرهم ولا مذلهم.

وأراد أن يدخل الطمأنينة على نفسها المعذبة، فأرسلها إلى المعسكر المصري معززة مكرمة.

وعندما أتى مساء ذلك اليوم كان الجيش قد انتهى من دفن قتلاه، وتضميد جراح جرحاه، وآوت الجند إلى الخيام تأخذ قسطها من الراحة بعد نصب اليوم المرهق، وجلس ددف أمام مدخل خيمته يصطلي نارا ويتأمل ما حوله بعينين حالمتين، وكان أعظم ما يستولي على مشاعره على الأرض تلك الأعلام المصرية الخفاقة المنشورة على السور الحصين، وفي السماء هاتيك النجوم التي كأنها عيون تتألق أبدا إعجابا بقدرة الخالق وجمال المخلوق ... وكانت تحلق بسماء خياله أطياف جميلة - مثل النجوم - تمثل لقلبه ذكريات منف السعيدة وأحلامها وآمالها، ولم ينس في أحلامه تلك الساعة الرهيبة المقبل عليها حين يقف بين يدي فرعون، ويطلب إليه قلب أعز مخلوق إلى نفسه في مصر. يا لها من ساعة رهيبة! ولكن ما أجمل الحياة إذا اطردت من نصر إلى نصر، وتنقلت من سعادة إلى سعادة! ليتها تسير كذلك أبدا، وليت الأقدار ترحم الإنسان! ولكن الظاهر أن السعادة نادرة الوجود في هذه الدنيا، وهل يستطيع أن ينسى صورة تلك المرأة البائسة التي اختطفها البدو من بين يدي سعادتها، واهتصروا شبابها، وساموها الذل عشرين عاما! يا للمسكينة!

نعم لم يستطع ددف أن ينسى في سعادته وفوزه بؤس تلك المرأة ...

30

وأشرقت الشمس على منف ذات الأسوار البيضاء، وكأنها تستقبل عيدا من أعياد الرب بتاح؛ فالأعلام ترفرف على أسطح البيوت والقصور، والطرق والميادين تموج بجموع الشعب كأنها عباب النيل إبان الفيضان، والجو يضج بالأناشيد الوطنية تحية لفرعون والجيش الظافر والجنود البواسل.

وسعف النخل وأغصان الزيتون تلوح في الفضاء كأنها أجنحة طير أليف تداعب هامات كللها الظفر وأطربها الفرح، وبين تلك النفوس السعيدة المغتبطة شقت مواكب الأمراء والوزراء والكهنة طريقها إلى باب المدينة الشمالي، لاستقبال الجيش المظفر وقائده الباسل.

وفي الموعد الموعود حمل النسيم أنغام موسيقى الجيش الظافر، وبدت طلائعه في الأفق ترفرف عليها الأعلام، فتعالى الهتاف ودوى التصفيق ولوحت الأيدي بالأغصان، وغمر القوم موجة من الحماس الدافق جعلتها كالبحر الخضم المتعارك الأمواج.

وتقدم الجيش بنظامه المعهود تتقدمه جموع الأسرى مكتوفة الأذرع منكسة الذقون، تتبعها عربات كبيرة تحمل السبي من النساء والأطفال والمغانم، ثم بدت فرقة العربات يتقدمها القائد الشاب يحيط به السادة المستقبلون من كبار رجال المملكة، وتتبعه صفوف العربات الحربية المهيبة يشملها نظام دقيق رائع، وتأتي على الأثر فرق الجيش من الرماة وحاملي الرماح إلى حاملي الأسلحة الخفيفة، تتقدم صفوفا تسير كل على أنغام موسيقاها، وقد تركت أماكن من سقطوا في المعركة الظافرة شاغرة تحية لذكراهم وذكرى لاستشهادهم النبيل في سبيل الوطن وفرعون.

وكان ددف سعيدا فخورا ينظر إلى جموع الشعب المتحمس بعينين لامعتين، ويرد التحيات الحارة بالتلويح بسيفه العظيم، وقد فتشت عيناه في الجموع عن الوجوه الحبيبة التي لم يداخله ارتياب في أنها تراه وتهتف باسمه، حتى خال هنيهة أنه يسمع صوت أمه زايا وخوار والده بشارو المختال الفخور، ثم خفق قلبه خفقة شديدة اهتزت لها حناياه، وتساءل ترى هل تشاهده الآن هاتان العينان السوداوان اللتان ألهمتاه الحب كما ألهمت الشمس البازغة قلوب المصريين عبادة الله؟ هل تراه في مجده؟ وتسمع اسمه تهتف به الألوف المحتشدة؟ هل ترى وجهه الذي أضناه الشوق والبعاد؟

وتقدم الجيش في مسيره إلى القصر الفرعوني، وبرز الملك والملكة إلى الشرفة المطلة على الفناء الواسع المعروف بساحة الشعب، ومرت أمامهما جموع الأسرى وأثقال المغانم والسبايا وفصائل الجيش، ولدى اقتراب ددف من الشرفة الملكية جرد سيفه ومد يده تحية، ولفت وجهه إلى الملكين، وكانت الأميرات حنوتس ونفر حتيس وحتب حرس ومري سي عنخ واقفات خلف الملك والملكة، فانجذبت عيناه إلى عينين فاتنتين لهما عليه سلطان ليس لشيء في الوجود، وتبادلت الأعين رسالة نارية خفق لها القلبان، حملت شوقا مضنى وجوى، فلو أنها مست في سبيلها حاشية علم من الأعلام لأشعلت نارا موقدة. •••

ودعي القائد ددف للمثول بين يدي فرعون، فذهب بقلب ثابت ونفس مطمئنة، ومثل في الحضرة الجليلة مرة أخرى، وقد تعطف الملك وقدم له الصولجان، فلثمه ساجدا، ثم وضع على أعتاب العرش مزلاج باب السور الحصين الذي اقتحمه جيشه ظافرا، ثم قال: مولاي صاحب الجلالة فرعون مصر العليا والسفلى، سيد الصحراء الشرقية والصحراء الغربية، وصاحب بلاد النوبة، مولاي! لقد أيدتنا الآلهة على عمل عظيم وفتح مبين، فضمت إلى ملككم السعيد ملكا جديدا، وأدخلت في طاعتكم أفواجا كانوا إلى أمس عصاة طاغين، وطوت تحت جناحي ربوبيتكم قلوبا خاشعة أقسمت في ذل الأسر يمين الإخلاص لعرشكم العتيد.

فقال له فرعون الذي كلل هامته المشيب: إن فرعون يهنئك أيها القائد الظافر على إخلاصك وبسالتك، ويرجو أن تمد الآلهة في عمرك لينتفع الوطن بمواهبك.

وتعطف فرعون ومد يده إلى القائد الشاب الذي لثمها باحترام عميق، وقلبه يدق دقا عنيفا، وسأله الملك: ما عدد جنودي الذين استشهدوا في سبيل الوطن وفرعون؟

فقال ددف بصوت خافت: استشهد من الأبطال ألف يا مولاي. - وما عدد الجرحى؟ - ثلاثة آلاف يا مولاي.

فصمت قليلا ثم قال: إن الحياة العظيمة توجب تضحيات عظيمة، فسبحان الرب الذي يخلق الحياة من الموت.

ونظر الملك إلى ددف طويلا ثم قال: لقد أديت لي خدمتين جليلتين، فأنقذت بالأولى حياة ولي عهدي، وأنقذت بالثانية طمأنينة شعبي، فماذا تطلب؟

رباه! جاءت الساعة الرهيبة التي طالما منى نفسه بها، وطالما صورت لقلبه في الأحلام السعيدة، وكان ددف شجاعا لا يفقد جنانه في المواقف العظيمة فقال: مولاي، ما فعلت في الاثنتين إلا ما يفرضه الواجب على الجندي فلا أطلب لقاءهما ثمنا، ولكن لي أمنية أتقدم بها تقدم الطامع في رحمة مولاه.

فقال الملك: وما هي أمنيتك أيها القائد؟

فقال ددف: إن الآلهة يا مولاي لحكمة تعلمها سمت بقلبي البشري إلى سموات مولاي الملك، فتعلق بأقدام مولاتي الأميرة مري سي عنخ.

فنظر إليه فرعون نظرة غريبة وسأله: لكن ماذا صنعت الآلهة بقلب الأميرة؟

فارتبك ددف وخيم عليه صمت ثقيل، فابتسم فرعون وقال: يقولون إنه لا يدخل إلى قدس الرب عبد إلا كان مطمئنا إلى رضاه، وسنرى ما إذا كان هذا حقا!

وكان فرعون راضيا، وكأنما أراد أن يلهو قليلا، فأرسل في طلب الأميرة مري سي عنخ، ولبت الأميرة نداء والدها وجاءت تسعى في جلال الحسن، ولما رأت الماثل بين يديه خفق قلبها وتولاها الحياء والارتباك، وترددت كغزال رأى رجلا ... فنظر إليها فرعون بحنان وقال بلهجة رقيقة لم تخل من سخرية: أيتها الأميرة! يزعم هذا القائد الظافر أنه غزا حصنين؛ سور سيناء وقلبك!

فقال ددف بتوسل: مولاي ...!

وأعياه الكلام فسكت مقهورا مرتبكا، ورأى فرعون قائده وقد خانته شجاعته، ورأى ابنته وقد تولى عنها الكبرياء، وأضناها الحياء والارتباك، فهوى قلبه إليها، وناداها إلى جانبه، ثم نادى ددف، فاقترب الشاب في تهيب شديد، ووضع الملك يد الأميرة على يده في تؤدة، وقال بصوته الجليل الذي تقشعر له القلوب: إني أبارككما باسم الآلهة جميعا.

31

واستقبل ددف على أثر انتهاء المقابلة الفرعونية السعيدة فترة من الزمن مقدارها اثنتا عشرة ساعة. توالت فيها الحوادث الجسام الغريبة التي تزلزل النفوس وتحطم العقول، فكانت في عمره السعيد الهادئ مثل مسقط الشلال في مجرى النيل الرزين الجليل ...

ماذا فعل ددف في تلك الفترة القصيرة الحافلة بالعجائب؟

خرج من الحضرة الفرعونية فطلب مقابلة الوزير خوميني، وعرض عليه موضوع مظلمة المرأة المصرية الأسيرة التي لا تكاد تغيب عن خاطره، وأخلى الوزير سبيلها وأحضرها إلى القائد.

وقال لها ددف: أهنئك يا سيدتي باستردادك لحريتك بعد طول الأسر، ولما كان الوقت متأخرا فستنزلين ضيفة علي إلى الغد، ثم تولين وجهك شطر أون مصحوبة برعاية الآلهة.

فكان جوابها أن أمسكت بيده ولثمتها بامتنان عظيم، ولما رفعت وجهها، انحدر دمعها على خديها وعنقها، واصطحب السيدة معه إلى عربته ورأى سنفر ينتظره على مقربة منها فأدى التحية له وقال: كلفني صاحب السمو الفرعوني الأمير رعخعوف أن أبلغ القائد بأنه يرغب في محادثته في الحال.

فسأله ددف: أين يوجد سموه الآن؟ - في قصره.

فاستقل العربة وركب معه الضابط والسيدة، وحملهم إلى قصر ولي العهد، وطلب إلى السيدة أن تنتظر في مكانها، ودخل القصر يتبعه الضابط. وطلب مقابلة الأمير، فدعي إلى حجرته، ووجده الشاب على غير عادته مضطربا وإن حاول أن يمسك زمام نفسه، ولم يعن هذه المرة برد تحيته وابتدره قائلا: أيها القائد ددف، إني أذكر دائما إخلاصك الذي أنقذ حياتي من موت محقق، وأرجو أن تذكر نعمتي عليك إذ كنت جنديا صغيرا فجعلتك قائدا كبيرا، وكللت هامتك بالمجد والخلود.

فقال ددف بحماس: إني أذكر هذا ولا أنساه، وهيهات أن أنسى آلاء مولاي الأمير.

فقال الأمير: إني أحتاج إلى إخلاصك هذه الساعة، فاصدع بما تؤمر واتبع وصاياي بعناية لا تدع للتردد سبيلا إلى قلبك. أيها القائد، لا تسرح جيشك، بل استبقه حيث هو معسكرا خارج أسوار منف، وانتظر أوامري التي تأتيك عند مطلع الفجر، وإياك أن تتردد عن تنفيذها مهما كانت غريبة، واذكر دائما أن الجندي الباسل ينطلق كالسهم إلى هدفه دون أن يسأل مطلقه.

فقال ددف: سمعا وطاعة يا صاحب السمو. - انتظر رسلي في المعسكر عند الفجر ولا تغفل عن ذكر وصاياي.

قال الأمير ذاك، ثم وقف معلنا انتهاء المقابلة، فانحنى ددف لسموه وغادر الحجرة متعجبا شارد الخاطر متحيرا من أمره، يقول لنفسه: ترى ما هي الأسباب التي دعت الأمير إلى أمره بإبقاء الجيش في معسكره؟ وما عسى أن تكون الأوامر الغريبة التي ستأتيه بها الرسل عند الفجر؟ ما من عدو يهدد الوطن، وما من عصيان يهدد الأمن، وكل مصري يتخذ وجهته الطبيعية تحت رعاية فرعون وحكومته، فما وجه الحاجة إلى الجيش؟

وعاد قلقا إلى العربة التي انطلقت به والسيدة التي تصحبه، وكان كلما اقتربت به العربة من بيت بشارو تخف حيرته، وتذهب وساوسه ويتحول عقله إلى أهله الذين ينتظرونه على الجوى بعد أن طال الشوق به وبهم، ووصلت العربة إلى البيت فأدخل الشاب السيدة حجرة الضيوف، وصعد إلى الأعزة المشوقين، فتلقته أمه زايا بذراعين مفتوحتين، وانهالت عليه بالقبل وضمته إلى صدرها بشدة، ولم تتركه إلا حين انتزعه من يديها بشارو وهو يقول: أهلا بالابن الظافر، والقائد الباسل!

وقبله في خده وجبهته، ثم عانق ددف أخويه خنى ونافا، وسلم على زوج الأخير، وكانت تحمل على ذراعها طفلا رضيعا، فقدمته إليه وهي تقول: انظر إلى سميك ددف الصغير! ... سميته باسمك عسى أن توفقه الآلهة للمجد كعمه العظيم.

فنظر ددف إلى نافا وحمل الصغير بين ذراعيه وقبل شفتيه الرقيقتين، وقال لأخيه: يا له من صورة جميلة!

فابتسم نافا الذي كان سعيدا بابنه سعادته بفنه، وأخذ الطفل بين يديه.

ووجد ددف الفرصة سانحة لإعلان خطبته السعيدة، فقال لنافا: لن تكون أبا وحدك يا نافا.

فانتبه الجميع إلى قوله، وصاح نافا بفرح: هل اخترت شريكتك أيها القائد؟

فأحنى ددف رأسه قائلا: نعم.

فنظرت أمه إليه بعينين يتألق فيهما الفرح وقالت: أحقا يا بني ما تقول؟

فقال بهدوء: نعم يا أماه.

فصاحت به: من هي؟

وسألت مانا باهتمام شديد: من هي؟

وقال نافا ضاحكا: أنت قادم من ميدان القتال، فهل عشقت إحدى السبايا؟

فقال الشاب بهدوء وفخار: هي صاحبة السمو مري سي عنخ.

فصاح الجميع: مري سي عنخ! ... ابنة فرعون!

فقال: هي دون غيرها.

وملكت الجميع دهشة عظيمة، واهتزت قلوبهم بسعادة طاغية جعلت الكلام عسيرا ، وقص عليهم ددف قصته، وذكر نعمة فرعون عليه، ودموع الفرح تشرق بعينيه الجميلتين، ولم تتمالك زايا نفسها فبكت، وكانت تصلي للرب بتاح الواهب المنان، واهتز بشارو طربا فجعل يروح ويجيء بجسمه المنتفخ المتهدل، أما نافا فقد قبل الشاب السعيد واسترسل يضحك ضحك الفرح والابتهاج، وباركه خنى وأكد له أن الآلهة لا تقضي بهذه الأمور الجليلة إلا وهي ترسم له غاية مجيدة لم يفز بها إنسان من قبل! ومضى كل منهم يعبر عما يختلج في ضميره من الفرح والسعادة.

وذكر ددف السيدة التي تركها في حجرة الضيوف، فقام من فوره وذكر لهم بسرعة قصتها، وقال لأمه: أرجو أن تكرمي مثواها يا أماه حتى تترك بيتنا.

فقالت أمه: سأنزل يا بني للترحيب بها.

وصحب ددف أمه ودخلا إلى حجرة الضيوف معا، وهي تقول: أهلا بك يا سيدتي ... لقد حللت في بيتك ...

ونهضت السيدة من جلستها وأحنت قامتها المثقلة بهوان السنين وذل الأيام، ثم مدت يدها إلى مضيفتها الكريمة، فالتقت عينا المرأتين لأول مرة، وبسرعة البرق نسيتا ما كانتا فيه من تبادل التحايا، ونظرتا كل منهما إلى الأخرى بغرابة، وكأنما تجهد نفسها لاختراق الحجب الكثيفة التي وضعها الزمان على وجه الماضي البعيد، واتسعت عينا المرأة الغريبة، وصاحت في دهشة جنونية: زايا!

فتولى الذعر زايا وجعلت تنظر إليها بذهول شديد، وجعل ددف يقلب وجهه بينهما في حيرة، وهو يعجب للمرأة التي عرفت أمه مع أنها قضت عشرين عاما من حياتها في منفاها، وسألها دهشا: كيف عرفت أمي يا سيدتي؟

ولكن المرأة لم تأبه لقوله، ولعلها لم تسمع قط؛ لأنها كانت منتبهة إلى زايا بكل وجدانها، وقد ضاقت بخرسها فصاحت بها: زايا ...! زايا ...! ألست زايا؟ ... ما لك لا تتكلمين؟ ... تكلمي ... أيتها الخادمة الخائنة ... تكلمي ... وقولي لي ماذا فعلت بابني! ... أين ابني أيتها المرأة؟ ...

ولم تتكلم زايا ولا تحولت عيناها عن المرأة الغاضبة، ولكن أعياها الاضطراب، ومزقها الخوف، فجعلت ترتجف، وحاكى وجهها وجوه الموتى، فأمسك ددف بيدها الباردة وأجلسها إلى أقرب مقعد، ثم تحول إلى المرأة في غضب وقال بجفاء: كيف تؤاتيك الجرأة على توجيه مثل هذا الكلام إلى أمي أيتها المرأة التي أكرمتها وأنقذتها من عذاب الأسر؟

وكانت المرأة تلهث بشدة كالمحتضر، فتأثرت لكلام القائد الذي أنقذها، وأرادت أن تتكلم، فأعياها الحصر، فما استطاعت إلا أن تشير إلى أمه كأنما تقول له: سلها هي.

فانحنى الشاب إلى أمه بحنو وسألها برقة: أماه ... هل تعرفين هذه المرأة؟

فلم تقل زايا شيئا، ولم تطق المرأة سكوتها، فقالت وقد عاودها غضبها: سلها: هل تعرفين رده ديديت زوج رع؟ سلها: هل تذكر المرأة التي هربت معها حاملة طفلها الصغير منذ عشرين عاما فرارا من الطغاة؟ ... تكلمي يا زايا، قولي له كيف فررت تحت جنح الظلام، وكيف خطفت ابني الرضيع، وكيف تركتني في مجاهل الصحراء نفساء يائسة، لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا، حتى عثر بي الوحوش وأخذوني أسيرة وساموني سوء العذاب وذل الأسر عشرين عاما ... تكلمي يا زايا ... وقولي ماذا فعلت بطفلي؟ ... تكلمي ...

فاشتدت الحيرة بددف وهمس في أذن أمه متألما: أماه ... سامحيني، أنا الذي أحدثت لك هذا العذاب، أنا الذي جئت بهذه المرأة التي أفقدها الحزن رشادها، سامحيني يا أماه ... سأطرد هذه المرأة.

ولكنها أمسكت بيده تمنعه، فسألها بتوسل: لماذا لا تتكلمين يا أماه؟ ... هل تعرفين هذه المرأة؟

فأنت زايا أنينا مؤلما، وقالت لأول مرة بعد أن غشيها الذهول: لا فائدة ... تحطمت حياتي ...

فصاح الشاب بصوت كزئير الآساد: أماه لا تقولي هذا. فدتك نفسي يا أماه!

فتنهدت بحرقة وقالت: أوه يا ددف العزيز، بالله لم أقترف سوءا ولم أتعمد شرا، ولكن كان القدر يقضي بما ليس في مقدور إنسان دفعه. رباه! كيف تنهار حياتي دفعة واحدة!

فكاد الشاب يجن من الألم وقال: أماه! لا تنسي أني إلى جانبك أدفع عنك كل سوء، ما الذي يؤلمك؟ ما الذي يحزنك؟ سواء لدي ما يطويه ماضيك من خير أو شر، وما يهمني أن أعلم شيئا إلا أنك أمي وأني ابنك الذي ينصرك ظالمة ومظلومة، شريرة وخيرة. أتوسل إليك ألا تبكي وأنا إلى جانبك. - هيهات أن تستطيع معونتي! - محض أوهام يا أماه! ... أي خطب جسيم هذا؟ - لن تستطيع معونتي يا ددف العزيز ... رباه! كم بنيت من الآمال ولكني أقمتها على شفا جرف هار، فما كادت تستوي حتى انهارت إلى الحضيض مخلفة قلبي خرابا تنعق فيه الغربان.

واشتد التأثر بالشاب وتحول غاضبا إلى المرأة، ولكن هذه لم تلن، وما انفكت تسأل زايا قائلة: قولي لي أين ابني؟ أين ابني؟

وبهتت زايا هنيهة، ثم وقفت بحالة عصبية وصاحت بالمرأة: أتظنين أنني غادرة يا رده ديديت؟ كلا لم أك غادرة قط، لقد سهرت عليك ذاك اليوم العصيب، ولكن هاجمنا البدو فلم أر مناصا من الهرب، وأشفقت على طفلك من أذاهم فحملته على ذراعي، وعدوت به كالمجنونة، فكان فراري ضرورة طبيعية، وكان وقوعك بين أيديهم قضاء محتوما. ثم عنيت بطفلك ووهبته حياتي، ونفعه حبي فنشأ رجلا تفخر به الأمم، وها هو ذا يقف أمامك؛ فهل رأيت مثله إنسانا من قبل؟

وتحولت رده ديديت إلى ابنها وأرادت أن تتكلم، فلم يطاوعها لسانها، ولم تستطع إلا أن فتحت ذراعيها، وهرعت إليه وشبكتهما حول عنقه وشفتاها ترتعشان بهذه الكلمة: «ابني ... ابني.» وكان الشاب ذاهلا كأنه يرى حلما عجيبا، فبقي ساكنا ينظر تارة إلى زايا التي غدا وجهها يحاكي وجوه الموتى، وأخرى إلى المرأة المتعلقة به التي تعاطيه قبل الأمومة، وتحتويه بصدرها الخفاق، ورأت زايا استسلامه، وشاهدت في عينيه نظرة حنو وعطف، فأنت يائسة وولتهما ظهرها، ثم فرت من الحجرة كالدجاجة المذبوحة.

وأتى ددف حركة، ولكن ازداد تعلق المرأة به وتوسلت إليه قائلة: ابني ... ابني ... هل تترك أمك؟

فجمد الشاب في مكانه، وألقى على وجهها نظرة طويلة، فرأى الوجه الذي حرك قلبه من النظرة الأولى، ورآه هذه المرة أعظم طهرا وجمالا وبؤسا، فخفق قلبه وفاضت نفسه حنانا، ومال رأسه نحوها بغير شعور، حتى ضغطت شفتاه على خدها، وتنهدت المرأة بارتياح واغرورقت عيناها بالدموع، ثم انتحبت باكية، فأخذ يهدئ من روعها، وأجلسها على ديوان وجلس إلى جانبها، وكفكف دموعها، وكان لا يزال موزعا بين الذهول وبين هذا الحب الجديد.

ونظرت إليه المرأة وقالت: قل لي: يا أماه.

فقال لها بصوت خافت: أماه ...

ثم قال بحيرة: ولكني لا أكاد أفهم شيئا ...

فقالت له: ستعلم كل شيء يا بني ...

قالت ذلك ثم سردت عليه قصتها الطويلة، وحدثته عن ولادته وما أحاطه بها من التنبؤات الخطيرة، وما أعقبها من الحوادث الجسام، حتى الساعة السعيدة التي ردت روحها إلى صدرها، برؤيته حيا سعيدا جليلا.

32

وساقت الأقدار بشارو إلى سماع قصة رده ديديت عن غير قصد؛ فإنه أراد أن يبالغ في إكرام ضيفة ددف فنزل لاستقبالها بنفسه، وصادف وصوله خروج زوجه زايا جريا كالمجنونة، فأخذه العجب واستولت عليه الحيرة، ودنا من باب الحجرة في حذر فوصل إلى مسمعيه صوت رده ديديت التي كانت تفيض بالحديث في حالة عصبية أنستها أن تخفت من صوتها، فاسترق السمع، وأنصت مع ددف إلى قصة المرأة من مبتداها إلى منتهاها!

ثم انسحب من مكانه في خفة وحذر وقصد إلى حجرته لا يلوي على شيء، وقد اكتسى وجهه بهيئة جد ورزانة واهتمام ندر أن عرفها وجهه إلا في الملمات، ونبا به مقعده فجعل يروح ويجيء مضطرب النفس، مشتت البال مهتاج الخاطر، وكان يفكر فيما سمع ويديره في عقله المبلبل ويقلبه على وجوهه المختلفة، حتى أضنى التفكير المحموم رأسه، وجعله كقطعة الحديد المنصهرة، وقال لنفسه بصوت مسموع كأنه يحدث شخصا غريبا: بشارو! أيها الشيخ البائس. إن الآلهة تبتليك بمحنة شديدة.

وأي محنة!

ددف الجميل العزيز الذي احتضنه طفلا رضيعا، فأنقذه من الجوع والفقر، ورعاه بعين الأبوة الرحيمة حابيا وصبيا، وغلاما يافعا، ورباه تربية أبناء النبلاء ومهد له سبيل النجاح، فكان رجلا يزن أمة من الرجال، ومنحه عطف الأب وقلبه. وتقبل منه محبة الابن وبره، ددف العزيز الجميل تظهره الأقدار على حقيقته فإذا به عدو لفرعون! إذا به الوسيلة التي ادخرها الرب رع لقلقلة العرش المكين وطعن ربه الجليل، وسلب حق ولي عهده النبيل، وتأبى الأقدار إلا أن تطلعه - وهو خادم فرعون الأمين - على هذه الحقائق الهائلة في ساعة من ساعات القضاء التي يدبرها من وراء الغيب، ويلبسها هيئة المصادفات. فأي محنة، وأي ابتلاء!

وصاح بشارو مرة أخرى يحدث نفسه قائلا: بشارو! أيها الشيخ البائس ... إن الآلهة تبتليك بمحنة شديدة.

واشتد الكرب بالرجل، وثقل على صدره القلق، فمضى يحدث نفسه بحزن وألم قائلا: ددف أيها العزيز، لتكن ابن العامل الشهيد أو وريث كاهن رع الأعظم، فلحقا أني أحبك حبي خنى ونافا، وأنك لم تعرف أبا سواي ...

ولهذا منحتك اسمي رحمة ومحبة. والله إنك لشاب يفيض الإخلاص من طبعه فيض الشعاع من الشمس، ولكن يا أسفا لقد ادخرتك الآلهة، وأنت الأمين لأكبر خيانة عرفها التاريخ، خيانة رب العرش المكين، خيانة عهد خوفو مولانا العظيم، خوفو الذي نعلم أبناءنا التسبيح باسمه قبل أن نلقنهم حروف الهجاء. واها أيتها الأقدار! لماذا تلتذين بتعذيبنا؟ لماذا ترمينا بالمحن والويلات في أوقات سعودنا؟ وماذا كان يضيرك لو ختمت حياتي كما بدأت هنية سعيدة راضية؟!

وازدادت حالته سوءا وأحس بدنو أجله، فدلف إلى المرآة وألقى نظرة على وجهه الحزين الأسيف، وقال يخاطب صورته: بشارو! ... أيها الرجل الذي لم يؤذ إنسانا في حياته، هل يكون ددف العزيز أول ضحية تمتد لها يدك بالأذى؟ ... يا للعجب! ولماذا كل هذا العذاب؟ لماذا لا تطبق شفتيك وكأنك لم تسمع شيئا؟ لماذا؟ رباه. إن الجواب حاضر. إن قلبك لا يستريح لأنه قلب بشارو مفتش الأهرام وخادم الملك، بشارو الذي يعبد واجبه عبادة. هنا الداء. أنت تؤمن بالواجب. حقا أنت لم تؤذ إنسانا، ولكنك لم تحد عن الواجب قط ... والآن أيهما أولى بالاتباع؟ ... الواجب أم تجنب الأذى؟ يستطيع أي تلميذ في مدرسة منف الأولية أن يبتده الجواب ابتداها، ولكن من منهم يشعر بمحنته؟ فبعدا للضعف والخور. إن بشارو لن يختم حياته بالخيانة، كلا لن يبيع مولاه ... فرعون أولا ... وددف ثانيا ... وتنهد من قلب محزون أليم، ونفس طعنتها الحسرة بخنجر مسموم ... وأبعد عن مخيلته أطياف ددف وزايا وأخذ يرتدي ثيابه الرسمية بعزم ثابت.

ثم غادر حجرته بخطوات ثقيلة وهبط إلى حديقة البيت، ومر في طريقه بحجرة الضيوف، ورأى ددف واقفا ببابها يدل مظهره على التأمل العميق والاهتمام، فخفق قلبه لرؤياه خفقانا غريبا، واضطرب كل شيء فيه، اضطربت نفسه وصدره وجفناه، وتحاشى النظر إلى عينيه، وأشفق من أن يحادثه فتنم لهجته على ثورة قلبه، ونظر الشاب إلى ثياب أبيه الرسمية نظرة غريبة، وسأله بصوت ضعيف: إلى أين أنت ذاهب الآن يا ... أبتي؟

فقال بشارو وهو يسرع في خطاه: إلى واجب لا يؤجل يا بني.

ثم ركب عربته وقال للسائق: إلى القصر الفرعوني.

وانطلقت العربة في طريقها، وكانت جيوش الليل تتجمع في الآفاق للانقضاض على النهار المحتضر الذي غاب عنه حارسه، فتأمل بشارو الجو بعينين حزينتين، ونفس منقبضة، وقلب مظلم كالليل الزاحف، وقال لنفسه وهو يتنهد آسفا محزونا: عرفت الواجب ذا مشقة ولذة، وها أنا أتجرعه مرا لا لذة فيه كالسم الزعاف.

33

قصت رده ديديت قصتها الحزينة وعيناها لا تكفان عن البكاء، وكان ددف يجلس إلى جانبها يستمع إلى صوتها المتهدج ويحس بأنفاسها الحارة تتردد على وجهه، ويديم النظر إلى عينيها الدامعتين الحبيبتين، وقلبه آخذ في الخفقان يكاد يتمزق من الألم والحنان والإشفاق.

وحين انتهت من سرد مأساتها سألت ابنها: من كاهن رع يا بني؟

فأجابها بحزن: «شودا رع»!

فقالت: يا أسفا قضى أبوك ضحية لا ريب في هذا.

فقال ددف بصوت الداهش الذاهل: إن الدهشة تذهلني عن نفسي يا أماه ... بالأمس القريب كنت ددف بن بشارو وأنا اليوم شخص جديد يحفل ماضيه بالفواجع، ولد الساعة من أب قتيل وأم بائسة عانت ذل الأسر عشرين عاما! يا للعجب ... كان مولدي شؤما، فمعذرة يا أماه! - لا تقل هذا يا بني الحبيب، ولا تحمل نفسك الطاهرة وزر الشيطان الرجيم. - يا للتعاسة! أيقتل أبي وتلاقين العذاب عشرين عاما؟ - فلترحمنا الآلهة يا بني ... انس أحزانك وفكر في الخلاص ... إن قلبي لا يطمئن. - ماذا تعنين يا أماه؟ - الخطر ما يزال محدقا بنا يا بني، ويهددك اليوم من أنعم عليك بالأمس. - يا للعجب! أيكون ددف عدوا لفرعون؟ أيكون فرعون الذي يهبني كل يوم من نعمائه ويضفي علي من أفضاله قاتل أبي ومعذب أمي؟ - هيهات أن يسكت العجب عمن يراقب الناس والدنيا ... فهيا يا بني إلى الخلاص؛ لأني لا أريد أن أفقدك اليوم وما وجدتك إلا بعد عذاب السنين. - إلى أين أماه؟ - بلاد الرب واسعة. - كيف أفر فرار الجناة وما اقترفت ذنبا؟ - وهل كان اقترف والدك ذنبا؟ - إن طبعي يأبى علي الفرار. - أشفق على قلبي الذي يمزقه الخوف. - لا تخافي يا أماه، إن إخلاصي وخدماتي للعرش يشفعان لي عند مولاي الملك. - لن يشفع لك شيء إذا علم أنك غريمه القديم الذي خلقته الآلهة ليرث عرشه.

فاتسعت عينا الشاب دهشة وقال: أرث عرشه؟! ... يا لها من نبوءة ضالة. - أضرع إليك يا بني أن تطيعني ليطمئن قلبي.

فأخذها بين يديه وضغط عليها بحنو وقال: عشت عشرين عاما لا يعلم أحد بسري، ولا أنا نفسي، قد طواه النسيان ولن يبعث مرة أخرى. - لا أدري يا بني لماذا أفرق وأتطير ... لربما زايا. - زايا! لقد دعوتها أمي عشرين عاما طويلة، وإذا كانت الأمومة رحمة ومحبة وبذل نفس، فهي أمي أيضا يا أماه، لن تشي بنا زايا أبدا ... إنها امرأة بائسة كملكة مخلصة فقدت عرشها على حين فجأة ...

وقبل أن تفتح فاها دخل خادم مسرعا وأخبر القائد بأن أمينه سنفر يرجو لقاءه في الحال وبدون أدنى إبطاء، فعجب الشاب لأن سنفر كان معه منذ زمن قصير، وهدأ روع أمه واستأذن منها وخرج لمقابلة سنفر في الحديقة، ووجد الضابط قلقا نافد الصبر مضطربا، وحين رآه سنفر أقبل عليه مسرعا وقال له بسرعة دون تحية أو سلام: سيدي القائد ... لقد أطلعتني المصادفات على حقائق خطيرة الشأن تنذر بشر مستطير!

فخفق قلب ددف والتفت دون إرادة إلى حجرة الضيوف، وهو يسائل نفسه: ترى ما الذي تخبئه الأقدار من الحدثان الجديدة؟

ثم التفت إلى أمينه وسأله: ماذا وراءك يا سنفر؟

فقال الضابط بلهجة مضطربة: دخلت أصيل اليوم إلى مخزن الخمور لأنتقي زجاجة نبيذ جيد، وفيما أنا أفتش عن ضالتي - وكنت واقفا إلى جانب الكوة المطلة على الحديقة - إذ وصل إلى مسمعي صوت رئيس حجاب ولي العهد، يحادث شخصا غريبا هامسا، فلم أتبين حديثه، ولكني سمعت جيدا ما ختمه به من الدعاء للأمير رعخعوف الذي سيصبح فرعون مصر عند الفجر! فانتفض جسمي هولا ورعبا، وأيقنت أن جلالة الملك انتقل إلى جوار أوزوريس، ونسيت ما أنا فيه من التفتيش، وهرعت خارجا إلى ثكنات الجند، فوجدت الضباط يقصفون ويتسامرون كعادتهم حين الراحة، فظننت أن الخبر المشئوم لم يبلغهم بعد، ولم أحب لنفسي أن أكون نذير الشر فانسللت إلى الخارج، واستقللت عربتي وتوجهت بها إلى القصر الفرعوني؛ لعلي أقف على حقيقة الخبر، فوجدت القصر هادئا، وأنواره تتلألأ كالكواكب الزاهرة، والحراس يروحون ويجيئون في طمأنينة ودعة، فلم أرتب في أن رب القصر يتمتع بالحياة والصحة. فعجبت لما سمعت بأذني في مخزن الخمور، وفكرت فيه طويلا فساورتني المخاوف وتوزعتني الهواجس، ولاح لخاطري شخصك مصادفة، فكان لي ما تكون المنارة لسفينة ضالة تكالبت عليها الأمواج الهوج والرياح العاصفة والظلمات المحيطة، فوليت وجهي نحوك وجئتك على عجل أروم عندك حسن التدبير.

فسأله ددف باضطراب وقد نسي همومه الشخصية، وما صادفه في يومه من العجائب: أواثق أنت من أن أذنك لم تخدعك؟ - ثقتي بوجودي أمامك الآن. - أكنت ثملا؟ - لم أذقها في يومي هذا.

فنظر إليه الشاب نظرة جامدة، وسأله بصوت خيل إليه أنه صوت غريب: وما الذي فهمته من هذا؟

فصمت الضابط صمتا رهيبا كأنه يتحامى بصمته الجواب ويدعه للقائد نفسه، وفهم ددف صمته على حقيقته فخفق قلبه وسها إليه، وذكر في تلك اللحظة وصايا الأمير رعخعوف الغريبة وأمره إياه بعدم تسريح الجيش وانتظار أوامره عند الفجر، واتباعها مهما كانت غريبة، ورجعت به الذاكرة القهقرى؛ فذكر ما حدثه به سنفر هذا الواقف أمامه يوم التقائهما الأول في حرس الأمير عن أخلاق ولي العهد ونفاد صبره وتبرمه، ذكر هذا كله بسرعة وارتياع. رباه! ماذا وراءك أيها الغيب؟ هل فرعون في خطر؟ هل هنالك خيانة؟!

وسمع سنفر يقول بحماسة: نحن جنود رعخعوف ولكننا أقسمنا يمين الإخلاص للملك، والجنود جميعا جنود فرعون إلا خائنا.

فعلم أن وساوس سنفر تلتقي بوساوسه، فقال: أخشى أن يكون الملك في خطر! - أنا لا أرتاب في ذلك، وينبغي أن نفعل شيئا أيها القائد. - إن الملك يلبث عادة أغلب ليله في جوف الهرم مع وزيره خوميني يملي عليه كتابه العظيم، فينبغي أن يوجه انتباهنا إلى الهرم. أخشى أن يغدروا به في حجرة التابوت. - دون هذا والمستحيل، ففتح باب الهرم سر لا يعلمه إلا ثلاثة: الملك وخوميني وميرابو، والهضبة المحيطة بالهرم عامرة ليل نهار بالحراس وكهنة المعبود أوزوريس. - هل يسير في ركاب الملك أحد من حرسه؟ - كلا، إن العاهل الكبير الذي وهب حياته مصر لا يشعر بحاجة إلى حرس في وطنه وبين رعاياه، واعتقادي يا سنفر - إذا صدقت شكوكنا - أن الخطر يجثم في وادي الموت؛ فهو طريق طويل خال من الآدميين، تغري وحشته الغادر بالتربص لفريسته.

فسأل سنفر وهو يلهث: وما الذي ينبغي عمله؟ - إن مهمتنا مزدوجة يا سنفر؛ أن ندرأ الخطر عن الملك، ونقبض على الخائنين. - ولو كانوا من الأمراء؟ - ولو كان بينهم ولي العهد نفسه! - سيدي القائد، ينبغي ألا نعتمد على حرس ولي العهد. - نطقت بالحكمة يا سنفر، ولا حاجة بنا إليه، فلدي جيش باسل لا يتردد جندي من جنوده عن بذل حياته في سبيل مولاه.

فأضاء وجه الضابط وقال: فلندع الجيش بلا إبطاء.

ولكن القائد الشاب وضع يده على كتف أمينه المتحمس، وقال: الجيش لا يدعى إلا لقتال جيش مثله، وعدونا - إذا صدقت ظنوننا - نفر قليل يلوذ بالظلام ويدبر غدره بليل، فينبغي أن نتربص له ونضربه الضربة القاضية قبل أن يسدد إلينا ضربته. - ألا يرى سيدي القائد أنه يحسن بنا أن نحذر فرعون؟ - بئس الرأي يا سنفر، إننا لا نملك دليلا على هذه الخيانة المروعة سوى شكوكنا، وقد تكون محض أوهام فلا نستطيع أن نقيم العذر لفرعون عن اتهامنا الخطير لولي عهده. - فما العمل يا سيدي القائد؟ - العمل الحكيم أن أختار بضع عشرات من الضباط الذين أثق في شجاعتهم، وستكون من بينهم يا سنفر، ثم نقصد فرادى خفية إلى وادي الموت، ونوزع أنفسنا على جانبيه في حذر وعناية وننتظر. ينبغي ألا نضيع الوقت سدى إذ يجب أن نسبق عدونا إلى كمينه فنراه ولا يرانا.

ولم يضع الشاب وقتا، ولكنه لم يستطع بالرغم مما هو بسببه من أمر خطير أن ينسى أمه، فذهب بها إلى جناح نافا وعهد بها إلى زوجه مانا، وعاد إلى سنفر وركب معه عربته، وانطلقا بها إلى معسكر الجند خارج أسوار منف، وكان يحادث نفسه قائلا: فهمت الآن لماذا أمرني الأمير أن أنتظر أوامره عند الفجر؛ فهو يدبر حيلة لقتل والده، وفي نيته إذا تحققت غايته أن يأمرني بالزحف بالجيش على العاصمة للقضاء على قوة الحرس الفرعوني، ورجال الملك المخلصين أمثال خوميني وميرابو وأربو وغيرهم من بطانة الملك، فيخلو له الجو ويعلن نفسه الجزوع ملكا على مصر ... يا للخيانة السافلة!

لا شك أن صبر الأمير نفد، ولكن طمعه سيقضي على آماله، وهي قاب قوسين أو أدنى ... فهل تصدق شكوكنا يا ترى أم أننا نتخبط في ضلال الأوهام!

34

وطلع الفجر فدبت الحياة مرة أخرى في هضبة الهرم المقدسة، وتجاوبت في السماء نداءات الحراس، ونفخ الأبواق وترتيلات الكهنة، وعند ذاك فتح باب الهرم وخرج منه شبحان ثم أغلق مرة أخرى، وكان كل منهما يتلفح بدثار سميك أشبه بعباءة الكهنة التي يرتدونها في حفلات القربان، قال أقصر الرجلين قامة: إنك يا مولاي تجهد ذاتك العلية إجهادا قاسيا.

فقال الملك: الظاهر يا خوميني أننا كلما تقدم بنا العمر نرد إلى الطفولة مرة أخرى، فما أشبه ولعي بهذا العمل المجيد، بانكبابي في زمن مضى على القنص وركوب الخيل. ينبغي أن أضاعف مجهودي يا خوميني؛ فما بقي من العمر إلا أقصره ...

فقال الوزير الأمين ويداه مبسوطتان: أطالت الأرباب بقاء الملك. - فلتستجب الآلهة دعاءك حتى أتم رسالتي. - لست مناعا للخير، ولكن أتمنى أن يخلد مولاي إلى الراحة والدعة. - كلا يا خوميني. لقد شيدت لي مصر مثوى روحي الخالدة وما أهبها إلا حياتي الفانية!

وكف الرجلان عن الحديث، وصعد الملك إلى العربة الملكية، وركب بعده الوزير وقبض على اللجام وسارت الجياد خببا، وكانت العربة كلما مرت بجماعة من الكهنة أو الجنود سجدوا تحية واحتراما، وما برحت الجياد تجد في السير حتى قطعت أرض الهضبة، واجتازت حدودها إلى وادي الموت الذي يؤدي إلى أبواب منف، وكانت الظلمة ما تزال حالكة والسماء ملأى بالنجوم، يخالها المتأمل لشدة توهجها هابطة إلى فلك أدنى، وقد شملها جلال ساحر تخبت له القلوب وتفتتن الأفئدة.

وتوسطت العربة وادي الأبدية، وكان الملك ووزيره يجلسان هادئين متأملين، وسمعا بغتة أحد الجوادين يصهل بشدة ويقفز عاليا ثم يسقط على الأرض، وأعاق سقوطه العربة عن المسير فتوقف الجواد الثاني، وعجب الرجلان وهم الوزير بالنزول ليرى ما أصاب الجواد، ولكنه قبل أن يتحرك صرخ بألم وصاح: الحذار يا مولاي ... لقد أصبت.

فأدرك فرعون أن مخلوقا أصاب الجواد وأردف بوزيره، وظنه من قطاع الطرق فصاح بصوت شديد: إلى الوراء أيها الجبان، من يريد أن يغتال فرعون؟

ولكنه سمع صوتا كالرعد يصيح: «إلي يا سنفر.» فنظر إلى مصدره - وهو يسند خوميني إلى صدره - فرأى شبحا قادما من جانب الوادي الأيمن كالسهم المنطلق، وسمعه يصيح مرة أخرى: اختبئ يا مولاي خلف سور العربة.

ثم رآه يقف في طريق شبح آخر آت من الجهة اليسرى، واشتبك الاثنان في قتال عنيف، وتبادلا طعنات قاتلة بسيفيهما، ثم صاح أحدهما وسقط على الأرض قتيلا بغير شك ... ترى من الذي سقط: الصديق أم العدو؟ ولم تطل الحيرة بالملك لأنه سمع صوت المنقذ يقول: هل مولاي بخير؟

فأجابه: نعم أيها الشجاع، ولكن أصيب وزيري.

سمع الملك مرة أخرى صلصلة سلاح وراء العربة، فالتفت بسرعة فرأى ثلة من الجنود تلتحم في قتال عنيف، ورأى الرجل الشجاع الذي قتل عدوه ينضم إليهم، وينصر فريقا على فريق، فوقف الملك الأعزل يشاهد المعركة وهو كظيم.

ورجحت كفة رجال الملك، وتساقط أعداؤهم واحدا فواحدا، وألقى الرعب في قلوبهم أن شاهدوا عن بعد كوكبة من الفرسان قادمة تعدو من ناحية الهضبة المقدسة حاملة المشاعل هاتفة باسم الملك الجليل، فزلزلوا زلزالا شديدا وركنوا إلى الفرار، ولكن كان الذين يقاتلونهم أشداء جبابرة فأمعنوا فيهم قتلا، ولم يبقوا منهم على أحد.

وأحاط الفرسان بعربة الملك، وألقت مشاعلهم ضوءا على الوادي، فظهرت جثث القتلى، وبدت وجوه الرجال الذين دافعوا عن الملك، وقد سالت الدماء الزكية من جباههم وأعناقهم.

وتقدم رئيس الفرسان من عربة الملك، ولما شاهد مولاه واقفا حمد الرب، وقال وهو يجثو راكعا: كيف حال مولانا الملك؟

فترجل فرعون وهو يسند وزيره وقال: فرعون بخير بفضل الأرباب، وشجاعة هؤلاء الرجال ... ولكن كيف أنت يا خوميني؟

فقال الرجل بصوت ضعيف: بخير يا مولاي ... إصابتي في ساعدي، وليست بذات خطر ... فلنصل جميعا شكرا لبتاح الذي أنقذ حياة الملك ...

ونظر الملك فيما حوله فرأى القائد ددف، فقال له: أهنا أنت أيها القائد ددف؟ ... كأنك تأبى إلا أن تدين الأسرة الفرعونية جميعا؟

فانحنى الشاب في احترام عظيم وقال: حياتنا جميعا فداء لمولاي.

فسأل الملك: ولكن كيف حدث هذا؟ ... يبدو لي أن ما وقع لم يكن حادثا تافها وليد المصادفات، وأكاد ألمح في الظلام خيانة أحبطت بإخلاصكم وشجاعتكم ... ولكن دعونا نرى وجوه القتلى أولا. ولنبدأ بهذا الذي سدد إلينا سهما طائشا.

وسار في اتجاه العربة وددف وسنفر ورئيس الفرسان يسيرون بين يديه بالمشاعل وخوميني يتبعه في خطوات بطيئة، فعثروا بالجثة على بعد قريب، وكان صاحبها منبطحا على وجهه والسهم القاتل نافذ في جنبه الأيسر، ويئن أنينا أليما، فاضطرب الملك لسماع أنينه، وسارع إليه، وأماله على ظهره، وألقى نظرة قلقة، ولما تبين وجهه صرخ بقوة: رعخعوف ... ابني ...!

ونسي فرعون جلاله ونظر فيمن حوله كأنه يستغيث بهم على دفع بلاء لا مرد له، وأمعن النظر ثانية في وجهه الملقى تحت قدميه، وقال بحزن وفزع: أأنت الذي حاولت الفتك بي؟

ولكن الأمير كان يعاني ألم النزع الأخير، ويتيه في غيبوبة الاحتضار، فلم ينتبه إلى العيون المرتاعة المحدقة به، وجعل يئن أنينا موجعا، وصدره يعلو وينخفض بشدة، فتملك ددف الرعب والألم، وكأن تلك الفاجعة تبغته بغير نذير، وساد الجميع وجوم ثقيل نسي فيه خوميني آلام ذراعه، وجعل يختلس نظرات الإشفاق من وجه الملك، وهو يدعو الرب أن يكفيه شر تلك الساعة، وكان فرعون ينحني على ابنه المحتضر، وينظر إليه بعينين جامدتين جعلهما الحزن كبحيرتين راكدتين ... وكانت نفسه جياشة مضطربة، تعترك فيها العواطف المتناقضة والأفكار المتنافرة، وهو بين هذه وتلك مستسلم للجمود، ولبث يديم النظر إلى وجه ابنه المعذب الذي ذهب عنه الجلال والقسوة، ولبس لباس الذل والهوان، حتى فاضت روحه وسكنت حركة جسمه إلى الأبد.

وظل الملك ملازما لجموده الغريب زمنا ليس بالقصير، ثم استعاد جلاله وثباته، فاعتدلت قامته، والتفت إلى ددف وسأله بصوت غريب: أخبرني أيها القائد بما تعلم من تفاصيل هذه المأساة.

وأخبر ددف مولاه بصوت حزين متهدج بما قصه عليه الضابط سنفر، وصارحه بالشكوك التي وسوست في صدريهما، وما دبرا من حيلة لإنقاذ حياة مولاهما ...

يا للآلهة!

كان يروح ويجيء مطمئنا، ففاجأه الغدر من حيث لم يحتسب، من ولده الأعز وولي عهده، وأنقذته الآلهة من الشر العظيم، ولكن اقتضت مشيئتها لذلك ثمنا غاليا هو الروح التي صعدت الآن ملوثة بأشنع إثم حمل وزره إنسان ... فنجا من الهلاك ولكنه لم يهنأ بالفرح، وقتل ولي عهده ولم يدر كيف يحزن ... وطالعته الدنيا بأنكد وجوهها وهو في نهاية الطريق ...!

35

وعاد الملك وصحبه إلى القصر الفرعوني، وكان الصباح قد زان الكون بشمس مشرقة، وأحس العاهل الكبير بتعب وخور فآوى إلى مخدعه سريعا واستلقى على فراشه، وانتشر الخبر الأسيف في رحاب القصر؛ فخفقت له القلوب خفقان الأسى والحزن والهلع، وزلزل له فؤاد الملكة ميرتيتفس واضطرمت فيه نار موقدة لا تقوى مياه النيل بأسرها على إطفاء جذوة منها. ولحقت المرأة بزوجها العظيم تستغيث بقربه من ويل هذا الشر، وتطلب في محضره العزاء والطمأنينة، فوجدته نائما أو كالنائم، فلمست بأناملها الباردة جبينه، ووجدته ساخنا كأنه كتلة من النار يتصاعد منها حمم، فهمست بصوت خافت: مولاي!

وانتبه الملك إلى صوتها وفتح عينيه بحالة هياج مستعر، وجلس في فراشه بعنف غريب، ونظر إليها بعينين يتطاير منهما الشرر، وقال بصوت جنوني لم تعهد سماعه من قبل: أتبكين أيتها الملكة القاتل الأثيم؟!

فقالت بذلة ودموعها ذوارف: إني أبكي حظي التعس يا مولاي.

فصاح بها بغضب جنوني: لقد ولدت لي مجرما أيتها المرأة. - مولاي. - واقتضت الحكمة الإلهية أن تورده حتفه؛ لأن العرش لم يخلق ليجلس عليه المجرمون!

فصاحت المرأة مولولة: الرحمة يا مولاي! رحمة بقلبي وقلبك! لا تحدثني بهذه اللهجة التي ترعبني. إني بحاجة إلى العزاء، فهلا تناسيت تلك الذكرى الأليمة؟ كان ابننا وما أحقه بالرثاء الآن!

فهز رأسه هزات عنيفة جنونية وقال: أراك تترحمين عليه! - يحق لنا أن نبكيه يا مولاي، ألم يخسر الدنيا والأبدية؟

فأمسك الملك رأسه وقال بذهول: رباه ... ما هذا الجنون الذي يدور في رأسي؟ ما هذه الضربات التي تتوالى على رأس فرعون؟ كيف لهذا الرأس بحمل تاج المصريين بعد الآن، وهو ينوء بالشعيرات البيضاء التي أبقاها الدهر له. أيتها الملكة، إن فرعون يعاني عهدا جديدا بالحياة ولن ينفعه توجعك، فإلي بأبنائي وبناتي ... إلي بأصدقائي جميعا. نادي خوميني وميرابو وأربو وددف. هيا ...

وغادرت الملكة التعسة مخدع فرعون وأرسلت في طلب الأمراء، والأميرات، والأصدقاء، ودعت من نفسها طبيب الملك الخاص كاري.

ولبى الجميع النداء، وحضروا سراعا واجمين، ينوءون بصمت مرهق كأنهم يقصدون إلى مأتم رهيب، ودخلوا مخدع الملك، فلم يلبث فراشه أن صار بين صفين من آل بيته، وأصدقائه المقربين، وكان الملك ما يزال مهتاجا عنيفا زائغ البصر، فنظر إلى طبيبه كاري وقال بعنف: لماذا أتيت أيها الطبيب ولما أدعك؟ لقد لازمتني أربعين عاما طوالا لم أشك إليك في أثنائها مرة، وأحر بمن يستغني عن الطبيب في حياته أن يستغني عنه في مماته.

فاضطربت النفوس لذكرى الموت، وهالها ما ترى من هياج الملك واختلاط أعصابه. أما الطبيب كاري فقد ابتسم برقة وقال: مولاي يحتاج لجرعة ...

وقاطعه الملك صائحا: دع مولاك واغرب عن وجهي.

فبان الحزن على وجه الطبيب، وقال بصوت خافت: مولاي ، قد لا يمتثل الطبيب لأمر مولاه أحيانا.

فاشتد الغضب بالملك وقلب عينيه الزائغتين في وجوه الواقفين الواجمين، وصاح بهم: ألا تسمعون ما يقول هذا الرجل؟ ألا تحركون ساكنا؟ يا للعجب! هل لوثت الخيانة القلوب جميعا؟! هل هان فرعون على جميع أبنائه وأصدقائه؟ أيها الوزير خوميني قل ما جزاء من يعصي فرعون؟

فتقدم خوميني في إعياء ظاهر من الطبيب، وهمس في أذنه، فانحنى الرجل لمولاه وتقهقر إلى الوراء حتى غادر المخدع، ودنا خوميني من فراش مولاه وقال: هدئ روعك يا مولاي، فما يريد الرجل إلا الخير، أيريد مولاي أن أحضر له كأسا من الماء؟

وخرج الوزير من الحجرة قبل أن يؤذن له، وأعطاه الطبيب كاري كأسا ذهبية من الماء المذاب فيه دواء مسكن، فحمله الوزير إلى مولاه، وتقبله الملك من يد وزيره وشربه حتى الثمالة، وجاء أثره سريعا فهدأت حركات الملك العنيفة، وعاودت عينيه نظراتهما المألوفة، ورد إلى وجهه المحتقن لونه الطبيعي، ولكن بدا عليه هزال وخور بالغان.

وتنهد الملك تنهدا عميقا وقال: ويل للإنسان من الشيخوخة والضعف! ... إنهما يهزآن بأشد الجبابرة!

ونظر إلى الجمع الملتف بفراشه وقال: أيها السادة ... لقد كنت حاكما جبارا، أشهر في يمناي الفاصل بين الحياة والموت، وأنطق بالقوانين والشرائع، وألهم الطاعة والعبادة، ولم أغفل في حياتي لحظة عن توخي الخير والإصلاح، وأردت ألا ينتهي انتفاع العباد بي بانتهاء حياتي على الأرض؛ فكتبت رسالة مطولة في الطب والحكمة سيدوم الانتفاع بها ما دامت الأمراض لا ترحم الإنسان، وما دام الإنسان لا يرحم نفسه ... وامتد بي العمر كما ترون، وأرادت الآلهة أن تبتليني ببلاء شديد لحكمة أجهلها، واختارت ابني آلة لها وجردت جيوش الشر في قلبه، فانقلب عدوا لي وتربص بي في الظلام يريد اغتيالي، ولكن كتبت لي النجاة ودفع الابن التعس حياته ثمنا لبضع ساعات يمتدها عمري ...

فقال الجميع برجاء: أطال الله بقاء الملك.

فرفع الملك يده فساد سكوت وعاد يقول: أيها السادة لقد حمت النهاية، وقد دعوتكم لتسمعوا كلمتي الأخيرة، فهل أنتم مستعدون؟

فأشرق خوميني بالدمع وقال: مولاي ... لا تذكر الموت ... ستنكشف هذه الغمة وتعيش طويلا لمصر ولنا.

فابتسم فرعون وقال: لا تحزن أيها الصديق خوميني؛ فلو كان الموت شرا يدفع لخلد مينا على عرش مصر؛ ولذلك فخوفو لا يحزن للموت ولا يخشاه، وإن الموت لأهون من شرور كثيرة تشوه وجه الحياة، ولكن أريد أن أطمئن على تركتي العظيمة ...

ثم التفت إلى أبنائه ينظر إليهم واحدا فواحدا كأنه يحاول أن يقرأ ما يظهرون وما يبطون، ثم قال: أراكم تكاتمون قلقا خفيا ولهفة مستترة، ويرمق الواحد منكم أخاه بعين الريبة والحنق. كيف لا وقد مات ولي العهد، واحتضر الملك وكلكم طامع في العرش راغب فيه، وما أنكر أنكم فتية نبلاء وعلى خلق عظيم، ولكن أريد أن أطمئن على تركتي وعلى إخوتكم ...

فقال الأمير رعباوف وكان أكبر الأمراء سنا: أبتي ومولاي، مهما فرقت قلوبنا الأهواء فهي تأتلف على طاعتك، وإن مشيئتك لدينا لهي الشريعة المقدسة التي تلزمنا طاعتها بغير قسم.

فابتسم الملك ابتسامة حزينة، وسها إليهم بعينيه اللتين جرى بمحجريهما الذبول وقال: أحسنت القول يا رعباوف، والحق أقول لكم إني في هذه الساعة الرهيبة أجد من نفسي قوة عظيمة على السمو على العواطف البشرية، وأحس بأبوتي للعباد تغلب في أبوتي للأبناء، فأعينوني على قول الحق وفعله.

وعاد إلى تفرس وجوههم ثم استطرد: يظهر لي أن كلامي لا يقع منكم موقع الإعجاب، والحق أني لا أجحد أبوتي لكم، ولكني أجد بين يدي من هو أحق بالعرش منكم، ومن توليه للملك حري بأن يصون لكم أخوتكم الطاهرة؛ هو شاب علت به همته إلى القيادة قبل الأوان، وحققت له شجاعته نصرا عزيزا للوطن، وأنقذت بطولته حياة الملك من الخيانة، وإياكم أن تقولوا كيف يتولى العرش من ليس يجري في عروقه دم الفراعين؛ فهو زوج الأميرة مري سي عنخ التي يجري في عروقها دم الملك والملكة معا.

فبدت الدهشة على وجه ددف وتبادل ومري سي عنخ نظرات الذهول، وبوغت الأمراء ورجال الدولة مباغتة ألجمت ألسنتهم وحيرت أعينهم، واتجهوا جميعا بأنظارهم إلى ددف .

وكان الأمير رعباوف أول من خاطر بتمزيق هذا السكون فقال: مولاي إن إنقاذ حياة الملك واجب على كل إنسان، وليس هو بالعمل الذي يتردد عنه مخلوق، فكيف يكون جزاؤه العرش؟

فقال الملك بلهجة صارمة: أراك تقدح شرر العصيان بعد أن تغنيت بأناشيد الطاعة منذ حين. أيها الأبناء إنكم أمراء المملكة وسادتها، وسيكون لكم الجاه والنفوذ والثراء، وسيكون العرش لددف. هذه وصية فرعون يلقيها على أبنائه بحق ما له عليهم من واجب الطاعة، فليستمع إليها الوزير ليتعهدها بسلطانه وكلمته، وليستمع إليها القائد ليسهر على تنفيذها بقوة جيشه، هذه وصية خوفو الأخيرة يتركها بين يدي من أحبهم وأحبوه، وعاشرهم بالحسنى فعاشروه بالمحبة والإخلاص.

وساد صمت رهيب لم يجرؤ أحد على تعكيره، وخلا كل إلى أفكاره، حتى دخل رئيس الحجاب وسجد للملك ثم قال: مولاي، إن مفتش الأهرام بشارو يضرع إلى جلالتكم أن تسمحوا له بالمثول بين يديكم. فقال الملك: دعه يدخل فهو منذ الساعة من آل بيتي.

ودخل بشارو بقامته القصيرة وجسمه المتهدل، وسجد بين يدي فرعون، وأمره الملك بالقيام وأذن له بالكلام.

فقال الرجل بصوت خافت: مولاي، أردت المثول بين يدي جلالتكم ليلة أمس لأمر هام، ولكن أتى مجيئي بعد ذهاب مولاي إلى الهرم، فاضطررت إلى الانتظار على جزع حتى الصباح.

فسأل فرعون: وماذا وراءك يا أبا ددف الباسل؟

فقال الرجل بصوت أشد خفوتا، وهو ينظر إلى الأرض: مولاي لست أبا لددف ولا ددف ابنا لي.

فعجب فرعون لإنكار بشارو، وقال بتهكم: بالأمس أنكر ابن أباه، واليوم ينكر أب ابنه!

فقال بشارو بتألم وحزن: مولاي! تعلم الآلهة جميعا أني أحب هذا الشاب محبة الأب لابنه، وما كنت أقول هذه الكلمة لولا أن إخلاصي للعرش أكبر في نفسي من شتى العواطف الإنسانية.

فزاد عجب الملك وبدا الاهتمام على وجوه الحاضرين جميعا، وخاصة الأمراء الذين تمنوا للشاب شرا ينقذهم من قضاء الملك، وردد الجمع أنظاره بين المفتش بشارو وبين ددف الذي امتقع لونه وجمد بصره.

وسأل الملك مفتش أهرامه: ماذا تعني أيها المفتش ؟

فقال بشارو وعيناه إلى أرض الحجرة: مولاي ... إن ددف هذا ابن كاهن رع السابق من رع.

فنظر إليه فرعون نظرة غريبة تلوح فيها الأحلام، وازداد اهتمام الجمع المنصت، وقلقت أعين خوميني وميرابو وأربو، أما فرعون فتمتم بذهول وروحه تسبح في ظلمات الماضي البعيد، وكأنه يحدث نفسه: رع! ... من رع كاهن رع ...!

وكان المعمار ميرابو أشد ذكرا لذاك اليوم الهائل الذي حضرت حوادثه في وجدانه، فقال بغرابة: ابن من رع! ... هذا بعيد عن التصديق يا مولاي، لقد مات من رع وقتل طفله في ساعة واحدة.

وأتت الذكرى فرعون في هالة من النيران، فارتجف قلبه الضعيف المتهالك وقال: نعم، لقد ذبح ابن من رع على فراش ولادته، فما هذا الذي تقوله أيها الرجل؟

فقال بشارو: مولاي، لا علم لي بالطفل الذي ذبح، كل ما أعلمه تاريخ قديم ... أتاني خبره مصادفة أو عن حكمة يعلمها الرب، فكان ابتلاء لقلبي الذي يتعلق بهذا الشاب أيما تعلق، ولكن إخلاصي للعرش يهيب بي إلى روايته ...

ثم قص بشارو على مولاه - وعيناه تذرفان الدمع الغزير - قصته مع زايا وطفلها الرضيع من مبتداها إلى الساعة الرهيبة التي وقف يسترق السمع فيها إلى قصة رده ديديت الغريبة ... ولما انتهى الرجل الحزين أحنى رأسه على صدره ولازم الصمت.

واستولت الدهشة على الحاضرين، ولمعت أعين الأمراء ببريق أمل خاطف، أما الأميرة مري سي عنخ فقد اتسعت عيناها هلعا ورعبا، واصطرع في قلبها الخوف والأمل والألم ... وركزت بصرها على وجه أبيها ... أو على فمه كأنها تريد أن تمنع بروحها كلمة قد يكون فيها القضاء على سعادتها وآمالها.

والتفت الملك بوجهه الشاحب إلى ددف وسأله: أصحيح ما يقول هذا الرجل أيها القائد؟

فقال ددف بشجاعته المعهودة: مولاي! إن ما قاله السيد بشارو حق لا ريب فيه.

فنظر فرعون إلى خوميني ثم إلى أربو ثم إلى ميرابو يستغيث بهم من هول هذه العجائب، ثم قال: ما أعجب هذا!

وألقى الأمير رعباوف على ددف نظرة نارية وقال بتشف: الآن حصحص الحق!

ولكن فرعون لم ينتبه إلى قول ابنه، واستطرد يقول بصوت حالم خافت: حدث منذ نيف وعشرين عاما أن أعلنت على الأقدار حربا شعواء تحديت بها إرادة الآلهة، فجردت جيشا صغيرا سرت على رأسه بنفسي لقتال طفل رضيع، وكان كل شيء يبدو لي كأنه يسير وفق مشيئتي، فلم يزعجني داع من دواعي الشك قط، وظننت أني نفذت إرادتي وأعليت كلمتي، وإذا بالحقيقة اليوم تهزأ بطمأنينتي، وإذا بالرب يصفع كبريائي، وها أنتم أولاء ترون كيف أني أجزي طفل رع على قتله ولي عهدي باختياره خلفا لي على عرش مصر. فما أعجب هذا أيها الناس!

وأحنى فرعون رأسه حتى استند ذقنه على أعلى صدره وراح في تأمل عميق، وعلم الجميع أن الملك يبرم قضاء لن يرد فساد صمت رهيب، وانتظر الأمراء على جزع، والخوف والأمل يصطرعان في قلوبهم اصطراعا عنيفا، ورنت الأميرة مري سي عنخ إلى والدها بعينين محملقتين أطل منهما ملاك حسن يتضرع ويتوسل، وترددت الأعين اللامعة ببريق الاهتمام بين رأس الملك المنكس، وبين الشاب الباسل، الذي وقف في ثبات عظيم مستسلما للأقدار. ونفد صبر الأمير رعباوف فقال لوالده بقلق: مولاي، إنك تستطيع بكلمة واحدة أن تحقق قضاءك وتنصر إرادتك!

فرفع فرعون رأسه كمن يستيقظ من نوم ثقيل، ونظر إلى ابنه طويلا، وأدار عينيه في وجوه الحاضرين ثم قال بهدوء: أيها السادة، إن فرعون تربة صالحة كأرض مملكته يزدهر فيها العلم النافع، ولولا جهل الفتوة وعماية الشباب، ما قتلت نفوسا بريئة بغير ذنب!

وساد الصمت مرة أخرى، ومنيت نفوس بالخيبة المريرة، وطعنت بخنجر اليأس المسموم. أما الأميرة الجميلة مري سي عنخ فتنهدت، تنهدت من أعماق صدرها بصوت مسموع، وصل إلى أذن الملك فعرف مصدره، ونظر إليها بعطف وحنان، وأشار لها بيده فهرعت إليه كحمامة تتعلم الطيران، وانكبت على يده.

ونظر الملك إلى وزيره خوميني وقال: إلي أيها الوزير بأوراق البردي لأختم حكمتي بأبلغ عظة تعلمتها في حياتي، أسرع فما بقي من العمر إلا لحظات ...

وأحضر الوزير ملفات البردي فوضعها فرعون على حجره، وأمسك بالقلم ومضى يكتب حكمته الأخيرة، وكانت مري سي عنخ جاثية إلى جانب فراشه وإلى جانبها الملكة الحزينة، وكتمت الأنفاس، فما كان يسمع إلا صرير القلم.

وانتهى فرعون فرمى القلم في إعياء شديد، وقال وهو يسلم رأسه إلى الوسادة: تمت رسالة خوفو إلى شعبه الحبيب.

ومضى فرعون يتنهد تنهدا عميقا ثقيلا، ولكنه قبل أن يستسلم إلى الراحة نظر إلى ددف وأشار إليه، فاقترب الشاب من فراش الملك ووقف كالتمثال، فأخذ فرعون يده ووضعها على يد مري سي عنخ ووضع يده النحيلة على يديهما ونظر إلى القوم وقال: أيها الأمراء والوزراء والأصدقاء، حيوا جميعا ملكي الغد.

فلم يتردد إنسان، واتجهوا جميعا بأنظارهم إلى مري سي عنخ وددف وأحنوا الهامات.

ونظر فرعون إلى سماء الحجرة وسها إليها لا يحرك ساكنا، فقلقت الملكة ومالت عليه قليلا فرأت وجهه وقد اكتسى بنور سماوي، كأنما يرى بعين بصيرته وجه أوزوريس العظيم يرنو إليه من العلا.

Unknown page