AUTO بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ الإمام العالم إمام المسلمين موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي -رحمه الله تعالى ورضي عنه:- الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى وآله أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل.

مذهب أهل السنة والجماعة، والذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه التابعون لهم بإحسان، ومن بعدهم من أمة الإسلام: أن القرآن كلام الله القديم، وحبله المتين، وكتابه المبين، نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين بلسان عربي مبين؛ وهو سور، وآيات، وحروف، وكلمات. منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات لمن قرأه فأعربه، فله بكل حرف عشر حسنات نزله الله تنزيلا، ورتله ترتيلا، وسماه قولا ثقيلا وعد على تلاوته أجرا عظيما، فقال عز من قائل {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا}، وشهد الله وملائكته بإنزاله على رسوله، وحض على تدبره وترتيله، وأخبرنا بأحكامه، وتفصيله، ونص على تشريفه، وتفضيله، وعجز الخلق عن الإتيان بمثله، أو تبديله. وقال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}، وقال: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.

وهو هذا الكتاب العربي الذي هو مائة وأربع عشرة سورة، أولها الفاتحة، وآخرها المعوذتان، مكتوب في المصاحف، متلو في المحاريب، مسموع بالآذان، متلو بالألسن له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض.

والدليل:

أن هذا هو القرآن الكتاب، والسنة، والإجماع.

Page 127

أما الكتاب: فمن وجوه:

أحدها: أن الله سبحانه تحدى الخلق بالإتيان بمثله، فقال سبحانه: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}.

وقال تعالى: {أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون. فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} وقال سبحانه: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين} وقال تعالى: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله} وقوله: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله}، وقال: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}.

والتحدي إنما وقع بالإتيان بمثل هذا الكتاب بغير إشكال؛ لأن ما في النفس لا يدري ما هو، ولا يسمى سورا، ولا حديثا، فلا يجوز أن يقول: فأتوا بحديث مثل ما في نفس الباري، ولأن المشركين إنما زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم افترى هذا القرآن، وتقوله فرد الله عليهم دعواهم بتحديهم بالإتيان بمثل ما زعموا أنه مفترى ومتقول دون غيره، وهذا واضح لا شك فيه.

الثاني: أنهم سموه شعرا، فقال الله تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين}.

Page 128

ومن المعلوم إنما عنوا هذا النظم؛ لأن الشعر كلام موزون، فلا يسمى به معنى، ولا ما ليس بكلام، فسماه الله تبارك وتعالى ذكرا، وقرآنا مبينا، فلم يبق شك لذي لب في أن القرآن هو هذا النظم دون غيره، وكذلك سموه مفترى. فقال الله تعالى: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله} {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا. وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا}. فرد الله عليهم قولهم فقال: {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض}، وقالوا: {إنما يعلمه بشر}. فقال الله تعالى: {قلن نزله روح القدس من ربك بالحق} وهذا لا يتعلق إلا بهذا النظم، وقد رد الله عليهم وأخبر بكونه قرآنا.

الثالث: أن بعض الكفار زعم أنه يقول مثله، قال الله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا}. ومنهم من طلب تبديله، قال الله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله} ونهى بعضهم بعضا عن سماعه وأمروا باللغو فيه فقال تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} وقال: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} وقال: {وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه}.

ومن المعلوم البين: أن هذا كله لا يتعلق إلا بهذا الكتاب دون ما في النفس، فإن الكفار ما اعتقدوا في نفس الباري شيئا يريدون تبديله، أو يزعمون أنهم يقولون مثله، ولا ينهون عن سماعه، ولا التمسوا تبديله على غير النبي صلى الله عليه وسلم مع إشارتهم إلى حاضر.

الرابع: أن الله سمى القرآن عربيا. فقال: {قرآنا عربيا غير ذي عوج}، أي غير مخلوق، وقال: {إنا جعلناه قرآنا عربيا}، وقال: {بلسان عربي مبين}. وقال: {ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته}. وسماه حديثا بقوله: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث} وقال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث}، وقال: {فليأتوا بحديث مثله}.

Page 129

وإنما يتعلق هذا الوصف باللفظ دون المعنى.

الخامس: أن الله تعالى أشار إليه إشارات الحاضر بقوله: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}. وقال: {إن هذا القرآن يقص}. وقال: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل}. وقال: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن}. والحاضر عندنا هو هذا الكتاب العربي.

السادس: أن الله تعالى أخبر بتنزيله، وشهد بإنزاله على رسوله، فقال تعالى: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا}. وقال سبحانه: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا}.

وقال سبحانه: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا} والمنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو هذا الكتاب دون ما في النفس.

السابع: أن الله تعالى أمر بتنزيله، ونهى عن العجلة وتحريك اللسان به مستعجلا، فقال سبحانه: {ورتل القرآن ترتيلا} وقال: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه}.

وقال: {لا تحرك به لسانك لتعجل به}. ولا يتعلق هذا بما في النفس البتة، وإنما يتعلق بهذا الكتاب.

الثامن: أن الله تعالى أمر بقراءته، والاستماع له، والإنصات إليه، وأخبر أنه يسمع ويتلى، فقال: (حتى يسمع كلام الله) وقال تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن}. وقال: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}. وهذا من صفات الوجود عندنا، لا من صفة ما في النفس الذي لا يظهر [للحس] ولا يدري ما هو.

التاسع: أن الله تعالى أخبر أن منه سورا وآيات وكلمات، فقال تعالى:

Page 130

{سورة أنزلناها} وقال: {وإذا ما أنزلت سورة}.

وقال: {قل فأتوا بسورة مثله} وقال: {تلك آيات القرآن}. وقال: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر مشابهات} وقال {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون}. وقال: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله} وقال: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}. وقال: {ومن الأحزاب من ينكر بعضه} وقال: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن}، وقال: {فاقرءوا ما تيسر منه}.

العاشر: أن القرآن كتاب الله العربي الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم وكتاب الله سور، وآيات، وحروف، وكلمات بغير خلاف.

والدليل: على أن كتاب الله هو القرآن، قول الله تعالى: {تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآنا عربيا}.

وقال تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين. قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى}. فسموا القرآن الكتاب. وقال في موضع آخر: {إنا سمعنا قرآنا عجبا}.

وأجمع المسلمون على أن كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن.

فهذه عشرة أوجه دالة على ما ذكرنا، ولولا كراهة التطويل لزدت عليها، لكن من لا يكتفي بهذه وينتفع بها، لم ينتفع بالزيادة عليها.

وأما السنة: فمن وجهين.

Page 131