بسم الله ارحمن الرحيم

الحمد لله الذي وفق للنطق الفصيح من أراد ، ووقف عن الحق الصريح من لزم العناد ، والصلاة على سيدنا محمد أفصح من نطق بالضاد ، وعلى آله وأصحابه المنقادين للصواب خير انقياد ، ورضي الله تعالى عن العلماء الأمجاد ، خصوصا الذين اجتهدوا لنفع العباد ، ودونوا لهم ما أن نظروه بعين التأمل والانتقاد ، بلغهم غاية البغية والمراد ، وبعد..

فيقول المفتقر إلى الغني الجواد ، علي بن قاسم المقدسي الحنفي الاعتقاد : لما رأيت بمحروسة القاهرة التي هي زين البلاد كثيرا من أفاضل الناس فضلا عن الأوغاد ، يخرجون عن مقتضى العقل والنقل في النطق بالضاد ، وينكرون على من وافقهما ؛ لأن مخالفتهما بينهم أمر معتاد ، ويرمون أن نتبعهم من غير أصل لهم إليه استناد ، سوى التوارث عن الآباء والأجداد ، من غير رعاية لتمهيد الأصول ، ولا هداية لتسديد الفصول ، ولا تبصرة لما فيه إرشاد ، ثم شاع الإنكار منهم علينا في كل ناد ، بين كل حاضر وباد ، فأردت مع طلب جمع من الإخوان ، وإشارة من / بعض الأعيان ، أن أزيل الغبن من 2ب عين الرشاد ، وأفيض من الدلائل العقلية والنقلية ما يروي كل صاد ، فشرعت فيه معترفا بقصر الباع وقلة الزاد ، مع التوكل على الله والاعتماد ، سائلا من فضله النفع به في المعاد ، وسميته بغية المرتاد لتصحيح الضاد .

Page 1

وقبل الخوض في المرام من تمهيد الكلام ، وتحرير المقام ، فليعلم أن أصل هذه المسألة أنهم ينطقون بالضاد ممزوجة بالذال المعجمة ، والطاء المهملة ، وينكرون على من ينطق بها قريبة من الظاء المعجمة ، بحيث يتوهم بعضهم أنها هي ، وليس كما توهمه ، فنقول : الكلام في إثبات ما أنكروه منحصر في مقدمة فيما يجب أن نقدمه ، وفصلين محيطين من الدلائل بنوعين ، وخاتمة لتنبيهات ، ودفع تمويهات .

أما المقدمة ففي بيان مخرجها ، وما لها من الصفات التي نص عليها العلماء الأثبات في الكتب المعتبرات ؛ ليكون الناظر على بصيرة من الدلائل الآتيات ، فإن كل حرف له لفظ باعتبار مخرجه وصفته يحفظانه عن زيادته ونقصانه ، وعند عرضه عليها يتحقق صحته وسقمه ، كما يتحقق / صراف الدينار من ضربه عند إلقائه على صليل ، كما قال 3أ

الإمام الشاطبي في حرز الأمان :

وهاك موازين الحروف وما ... ... حكى جهابذة النقاد فيها محصلا

ولا ريبة في عينهن ولا ريا ... ... وعند صليل الزيف يصدق الابتلا

وقد قيل إن المخرج يبين كمية الحرف كالميزان ، وإن الصفة تبين كيفيته كالناقد .

أما مخرجها فقد قال العلامة ابن الحاجب في الشافية : وللضاد إحدى حافتيه ، وما يليها من الأضراس ، قال الجاربردي في شرحها : وللضاد إحدى حافتي اللسان ، وما يليها من الأضراس التي في الجانب الأيسر ، أو الأيمن ، والحافة الجانب ، وينبغي أن يعلم أن ليس المراد بأول إحدى حافتيه ما هو في مقابلة أقصى اللسان وما يليه ؛ لتأخر ذكر الضاد عن القاف والكاف ، فإنه دل على تأخر مخرجه عن مخرجيهما ، وإذا أخر ذكره عن الجيم والشين والياء أيضا علم أن مقابل مخرجها من حافة اللسان ، لكنه أقرب إلى مقدم الفم بقليل ، هو مخرج الضاد ، ثم إن إخراجها من الجانب الأيسر أيسر عند الأكثر ، وقد يستوي الجانبان عند البعض ، انتهى .

Page 2

وهو يدل على أن/ معنى قولهم : وبعضهم يخرجها من الجانبين أنه يخرجه من3 ب أحدهما تارة ، ومن الآخر أخرى ، وقال بعض شراح ألفية ابن معطي : وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينطق بها من الأيمن ومن الأيسر ، وهو أيضا فيما ذكرناه أظهر .

وأما صفاتها فمنها الجهر ، وهو اصطلاحا حبس النفس عند التلفظ بالحرف ؛ لقوة الاعتماد عليه ، ولغة هو الإعلان ، وضده الهمس ، وهو اصطلاحا جري النفس عند التلفظ بالحرف ؛ لضعف الاعتماد على مخرجه ، ولغة الخفاء ، وقال ابن الحاجب في شرح المفصل : إنما سميت المجهورة مجهورة من قولهم جهرت بالشيء إذا أعلنته ، وذلك لأنه لما امتنع النفس أن يجري معها انحصر الصوت بها ، فقوي التصويت بها ، وسمي قسيمها مهموسا ، أخذا من الهمس ، الذي هو الإخفاء ؛ لأنه لما جرى النفس معها ، لم يقو التصويت بها قوته في المجهورة ، فصار بالتصويت بها نوع خفاء ؛ لانقسام النفس عند النطق بها ، انتهى .

وقد عدها بعض المتأخرين في المهموسة في حروف أخر ، قال ابن الحاجب : ولو قال/ هذا البعض : إنها بين المهموسة والمجهورة لكان أقرب . ... ... ... ... 4أ

ومن صفاتها : الرخاوة ، وهي جري الصوت مع لفظها ؛ لضعف الاعتماد ، وهي لغة اللين ، وضدها الشدة ، وهي حبس الصوت عند لفظها ؛ لقوة الاعتماد ، وهي لغة القوة والبينية أيضا ، وهي كون الحرف يجري معه بعض الصوت ، ويحبس بعضه ، أو يجري جريا ضعيفا ، منسوب إلى بين ، وهو التوسط بين الشيئين ، كذا في كنز المعاني ، وفي شرح الشافية للجاربردي ، الحروف الشديدة حروف ينحصر جري صوتها عند إسكانها في مخرجها ، والرخوة بخلافها ، فهي حروف لا ينحصر جري صوتها ، وسميت الشديدة شديدة ، مأخوذة من الشدة ، التي هي القوة ، لأن الصوت لما انحصر في مخرجه ، ولم يجر ، اشتد ، أي امتنع قبوله للتليين ؛ لأن الصوت إذا جرى في مخرجه أشبه حرف اللين ، لقبوله التطويل ، يجري الصوت في مخرجه عند النطق .

Page 3

... ومنها : الاستعلاء ، وهو ارتفاع اللسان إلى الحنك الأعلى عند اللفظ ، وهو لغة العلو ، فسميت به تجوزا ، كما في ليل نائم ، قيل : ويجوز أن يكون / تسميتها به 4 ب لخروج صوتها من جهة العلو ، وكل ما جاء من عال فهو مستعل ، وضده الاستفال ، وهو انحطاط اللسان على الحنك عند اللفظ ، وهو لغة الانخفاض .

... ومنها : الإطباق وهو تلاقي طابقي اللسان والحنك الأعلى عند اللفظ ، وهو أبلغ من العلو ، ولغة التلاصق والتساوي ، وفيه أيضا تجوز ؛ لأن المطبق إنما هو اللسان والحنك ، وأما الحرف فهو مطبق عنده ، واختصر ، فقيل مطبق ، كما قيل للمشترك فيه مشترك ، ومثله كثير ، وضده الانفتاح ، وهو تجافي كل واحد منها عن الآخر ، ولغة الافتراق .

... ومنها : الإصمات ، والمصمتة حروف لا تنفرد في كلمة رباعية أو خماسية ، كأنهم لما لم يجعلوها منطوقا بها أصمتوها ، أي جعلوها صامتة ، أو أصمت المتكلمون أن يجعلوا منها رباعيا أو خماسيا ، وضدها المذلقة ، وهي ستة حروف ، جمعت في قولك ( مر بنفل ) سميت به لخروجها من ذلق اللسان والشفة ، أي طرفها ، والذلاقة السرعة في النطق ، ولخفتها لا تخلو منها كلمة رباعية أو خماسية إلا شاذة ، أو دخيلة / في العربية 5 أكعسجد ، وعسطوس .

... هذه الصفات المتضادة التي لا يخلو حرف عنها ، وبقي صفات تختص ببعض الحروف ، ومنها : الصتم ، والصتم ما عدا حروف الحلق ، سميت بها لتمكنها في خروجها من الفم ، واستحكامها فيه ، ولم تسم الحلقية به ؛ لعدم تمكنها ببعد حيزها .

... ومنها : التفخيم ، وهو تسمين الحرف ، وضده الترقيق لنحافته .

... ومنها : الأصالة ، وهو كون الحرف جزء الكلمة ، ويقابل بفعل ، وتتكرر لام المنيف ولمعرفتها طرق في التصريف ، وضدها الزيادة ، وهي بخلافها ، وبسط الكلام عليها في غير هذا المحل .

... ومنها : الشجرية ، وهي كونها تخرج من شجر الفم ، أي مفرجه ومفتحه .

Page 4

... ومنها : الاستطالة ، وهي كما قال الجعبري : الامتداد من أول حافة اللسان إلى آخرها ، لا كما قال مكي : لتمكنها بالصفات ، والفرق بين المستطيل والممدود أن الأول جرى في مخرجه ، والثاني جرى في نفسه .

... ومنها : النفخ ، وهو صوت يلحقها عند الوقف ، يشبه النفخ ، ذكر هذه الصفة الجعبري في كتبه ، والأستاذ / أبو حيان في شرح التسهيل . ... ... ... ... 5ب

... ومنها : التفشي ، حكي عن بعضهم ، وهو انتشار الصوت عند اللفظ حتى يتصل بحرف الطرف ، وهو للشين بالاتفاق ، قال الجعبري : والتحقيق أن الضاد انتشر بمخرجه ، وذلك بصوته .

... وإنما ذكرنا هذه الصفات مع أضدادها ؛ لأن بعضهم وصفها بصفة ، وبعضهم وصفها بضدها ، فذكرنا الضدين ، لتعلم الصفة على القولين ، وللتكميل والتعويل على ما قيل : بضدها تتبين الأشياء ، والله تعالى أعلم .

الفصل الأول : فيما يدل بالمعقول على أن اللفظ بالضاد كالظاء المعجمة هو المقبول ، وهي أدلة متعددة لاحت لنا بالنظر في المنقول :

الأول : أن علماء هذا الفن وغيرهم تعرضوا للفرق بينهما ، وبينوا الألفاظ التي تقرأ بالضاد في مؤلفات لهم مستقلة ، وغير مستقلة ، نظما ونثرا ، فمنهم العلامة ابن الجزري في مقدمته المشهورة في التجويد ، ذكر الكلمات التي بالظاء الواقعة في القرآن ، ليعلم أن / ما عداها بالضاد ، ومنهم الإمام الشاطبي في أبياته التي أولها : 6 أ... رب حظ كهظم غيظ عظيم ... ... أظفر الظفر بالغيظ الكظوم

ومنهم الشيخ عز الدين الرسعي في أبياته التي أولها :

... حفظت لفظا عظيم الوعظ ... ... يوقظ من ظمأ لظى

وشواظ الحظر والوسن

ومنهم الحافظ أبو عمرو الداني في أبياته التي أولها :

... ظفرت شواظ بحظها من ظلمنا ... ... فكظمت غيظ غليظ ما ظنت بنا

ومنهم الحريري في مقاماته ، نظم الكلمات التي هي بالظاء مطلقا ، في أبيات أولها

... أيها السائلي عن الضاد والظاء ... لكيلا تضله الألفاظ

Page 5