بسم الله الرحمن الرحيم الباب الأول في بدائع بدائه الأجوبة فمن ذلك ما أخبرني به الشيخ الفقيه الأجل أبو محمد عبد الخالق ابن زيدان المسكي وكتب لي بخطه قال: أملى على الشيخ العلامة أبو محمد بن برى ﵀ قال: لقي عبيد بن الأبرص امرأ القيس، فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال: ألق ما أحببت؛ فقال عبيد: ما حبة ميتة أحيت بميتها ... درداء ما أنبتت سنا وأضراسا فقال امرؤ القيس: تلك الشعيرة تسقى في سنابلها ... فأخرجت بعد طول المكث أكداسا فقال عبيد: ما السود والبيض والأسماء واحدة ... لا يستطيع لهن الناس تساسا فقال امرؤ القيس: تلك السحاب إذا الرحمن أرسلها ... روى بها من محول الأرض أيباسا فقال عبيد: ما مرتجاة على هول مراكبها ... يقطعن طول المدى سيرًا وإمراسا فقال امرؤ القيس: تلك النجوم إذا حانت مطالعها ... شبهتها في سواد الليل أقباسًا فقال عبيد:

1 / 6

ما القاطعات لأرضٍ لا أنيس بها ... تأتي سراعًا وما ترجعن أنكاسًا فقال امرؤ القيس: تلك الرياح إذا هبت عواصفها ... كفى بأذيالها للترب كناسًا فقال عبيد: ما الفاجعات جهارًا في علانيةٍ ... أشد من فيلقٍ مملوءة باسًا فقال امرؤ القيس: تلك المنايا فما يبقين من أحدٍ ... يكفتن حمقى وما يبقين أكياسًا فقال عبيد: ما السابقات سراع الطير في مهلٍ ... لا تستكين ولو ألجمتها فاسًا فقال امرؤ القيس: تلك الجياد عليها القوم قد سبحوا ... كانوا لهن غداة الروع أحلاسًا فقال عبيد: ما القاطعات لأرض الجو في طلقٍ ... قبل الصباح وما يسرين قرطاسًا فقال امرؤ القيس: تلك الأماني تتركن الفتى ملكًا ... دون السماء ولم ترفع به راسًا فقال عبيد: ما الحاكمون بلا سمعٍ ولا بصرٍ ... ولا لسانٍ فصيح يعجب الناسا فقال امرؤ القيس: تلك الموازين والرحمن أنزلها ... رب البرية بين الناس مقياسًا ومثل هذا وإن تفاوت ما بين الأعصار ولم يكن من باب الألغاز ما ذكر أن الشريف أبا جعفر مسعود بن الحسن العباسي - وهو من ولد العباس - بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ويعرف بالبياضى - كان يتعشق قينةً ببغداد اسمها بدور، وتعرف بجارية بنت الملك، وفيها يقول: شكا القلب ظلمته في الحشى ... إلي فأسكنت فيه بدورا وكانت تنزل ببغداد في القطيعة، فاجتمع يومًا هو وأبو تراب هبة الله بن السريجي - وكان شاعرًا - فقال بديهًا يخاطب الشريف: أسلوت حب بدور أم تتجلد ... وسهرت ليلك أم جفونك ترقد؟

1 / 7

فقال الشريف بديهًا: لا، بل هم ألفوا القطيعة مثلما ... ألفوا نزولهم بها فتبعدوا فقال أبو تراب: فإلام تصبر والفؤاد متيم ... ولظى اشتياقك في الحشى يتوقد! فقال الشريف: ما دام لي جلد فلست بجازعٍ ... إذ كان صبري في العواقب يحمد فقال أبو تراب: أحسنت، كتمان الهوى مستحسن ... لو كان ماء العين مما يجمد فقال الشريف: إن كان جفني فاضحي بدموعه ... أظهرت للجلساء أني أرمد فقال أبو تراب: فهب الدموع إذا جرت موهتها ... فيقال: لم أنفاسه تتصعد؟ فقال الشريف: أمشي وأسرع كي يظنوا أنها ... من ذلك المشي السريع تولد فقال أبو تراب: هذا يجوز ومثله مستعمل ... لكن وجهك بالمحبة يشهد فقال الشريف: إن كان وجهي شاهدًا بهوىً فما ... يدرى إلى من بالمحبة أقصد فقال أبو تراب: قد رجم الناس الظنون وأجمعوا ... أن التي ذكرت إليها المقصد فقال الشريف: لو يجمعون كما زعمت لما رووا ... لي في سواها ما نظمت وأنشدوا فقال أبو تراب: قد كان حبك غيرها متحققًا ... والأمر يحدث الهوى يتجدد فقال الشريف: حقت حبي غيرها وجعلتها ... مظنونةً، ذا كله لى جيد فقال أبو التراب:

1 / 8

لو لم تقل ألفوا القطيعة جاز أن ... تنفى به بدر التمام وتجحد فقال الشريف: ما قلت لى جلد نفيت به الهوى ... عنى ولكن قلت: في تجلد فقال أبو التراب: فإلى متى هذا وطرف رقيبها ... مغضٍ وطيف خيالها متردد فقال الشريف: أنا دائبًا أبغي الوصال فإن أبت ... منه على عاداتها فسأجهد فقال أبو التراب: اخضع وذل لمن تحب فليس في ... حكم الهوى أنف يشال ويعقد فقال الشريف: ذا لا يكون مع الحبيب وإنما ... مع ساقطٍ متحيلٍ يتعمد أنبأني الشيخان الأجل العلامة تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي والشيخ جمال الدين أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري المعروف بابن الحرستاني قاضي دمشق الآن - أيدهما الله تعالى - إجازة، قالا: أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عساكر الدمشقي قراءة عليه - ونحن نسمع - قال: أخبرنا أبو السعادات أحمد بن أحمد بن عبد الواحد المتوكلي، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو عبد الله بن أبي الفتح الفارسي، حدثنا محمد بن حميد الخراز، أخبرنا الصولي، حدثني أبو الفضل بل مخلد بن أبان، حدثنا إسحاق الموصلي، قال: حدثنا الأصمعي قال: أول ما تكلم به النابغة - يعني الذبياني - من الشعر، أنه حضر مع عمه عند رجل، وكان عمه يحب أن يحاضر به الناس، ويخاف أن يكون عييًا، فوضع الرجل كأسًا في يده، وقال: تطيب نفوسنا لولا قذاها ... ونحتمل الجليس على أذاها فقال النابغة: قذاها أن صاحبها بخيل ... يحاسب نفسه بكم اشتراها ومن ذلك ما روى أن جريرًا دخل على الوليد بن عبد الملك وعنده عدي بن الرقاع العاملي - ولم يكن جرير رآه من قبل ذلك - فقال الوليد: أتعرف هذا يا جرير؟ فقال: لا يا أمير المؤمنين، فقال: هو ابن الرقاع، فقال جرير: شر الثياب الرقاع، فمن هو؟ قال:

1 / 9

هو رجل من عاملة، فقال جرير: هو من الذين قال الله فيهم: " عاملة ناصبة تصلى نارًا حامية ". قال: ويلك يا ملعون! فأنشأ جرير يقول: يقصر باع العاملي عن الندى ... ولكن أير العاملي طويل فابتدر عدي فقال: أأمك يا ذا أخبرتك بطوله ... أم أنت امرؤ لم تدر كيف تقول! فقال جرير: امرؤ لم أدر كيف أقول. فوثب عدي فأكب على رجل الوليد يقبلها ويقول: أجرني منه يا أمير المؤمنين. فالتفت الوليد إلى جرير وقال: وتربة عبد الملك لئن هجوته لألجمنك ولأسرحن عليك ولأطيفنك بدمشق. فيعيرك الشعراء بذلك، فخرج جرير فصنع قصيدته التي أولها: حي الهدملة من ذات المواعيس ... فالحنو أصبح قفرًا غير مأنوس افتخر فيها بنزار وعدد أيامهم، وهجا قحطان، وعرض بعدي ولم يسمه، فقال: أقصر فإن نزارًا لا يفاخرهم ... فرع لئيم وأصل غير مغروس وابن اللبون إذا مالز في قرنٍ ... لم يستطع صولة البزل القناعيس ومن ذلك ما رواه عوانة بن الحكم ويحيى بن عنبسة القرشي قالا: اجتمع جرير والفرزدق عند بشر بن مروان، فقال لهما: إنكما قد تقارضتما الأشعار، وتطالبتما الآثار، وتقاولتما الفخار، وتهاجيتما؛ فأما الهجاء فلا حاجة لي فيه، ولكن جددا بين يدي فخرًا، ودعا ما مضى، فقال الفرزدق: نحن السنام والمناسم غيرنا ... ومن ذا يسوى بالسنام المناسما! فقال جرير: على مقعد الأستاه أنتم زعمتم ... وكل سنام تابع للغلاصم فقال الفرزدق: على محرثٍ للفرث أنتم زعمتم ... ألا إن فوق الغلصمات الجماجما فقال جرير: وأنبأتمونا أنكم هام قومكم ... ولا هام إلا تابع للخراطم فقال الفرزدق: فنحن الزمام القائد المقتدى به ... من الناس، ما زلنا فلسنا لهازما فقال جرير:

1 / 10